تاجر الطوابع النادرة
كرَّر السيد مايرست وهو يرمق الرجلَين بنظرات متفحصة: «كانت مدفونة على عُمقٍ كبير لسنوات عديدة.» وواصَل: «أعتبر هذه العبارة عبارة مميزة جدًّا، وعميقة المغزى، أيها السيدان!»
دسَّ راثبري إبهامَيه في فتحتَي الذراعين بالصديري مرةً أخرى، وأخذ يتأرجح إلى الأمام والخلف في كرسيِّه. ثم نظر إلى سبارجو. وأدرك بخبرته في الرجال أن كلَّ ما لدى سبارجو من غرائز صحفية كانت قد استُثيرت، وأنه الآن لا يُطيق صبرًا لتقفِّي أثر الخيط الجديد إلى منتهاه.
قال راثبري: «مميزة! مميزة يا سيد مايرست! ما رأيك يا سيد سبارجو؟»
التفت سبارجو ببطء، وتفحَّص مايرست بعناية للمرة الأولى منذ دخوله عليهما. استمر الفحص عدةَ ثوانٍ؛ ثم تحدث سبارجو.
سأل بهدوء: «وماذا كان ردُّك على ذلك؟»
نقل مايرست نظره من سبارجو إلى راثبري. وقرَّر راثبري أن الوقت قد حان لإطلاع الزائر على ما لم يكن يعلم.
فقال مبتسمًا: «يجدر بي أن أخبرك يا سيد مايرست أن هذا هو السيد سبارجو من صحيفة «ووتشمان». هو مَن كتبَ المقالة التي تناولَت قضيةَ ماربري التي تحدَّثت عنها عندما دخلت. يُمكِنك أن تخمن أن السيد سبارجو شديدُ الاهتمام بالأمر، وأني أنا وهو — كلٌّ في اختصاصه — نعمل معًا. لذلك … هل تفهمني؟» فنظر مايرست إلى سبارجو بانطباع مختلف. وبينما كان ينظر إليه، كرَّر سبارجو عليه السؤال.
«سألتك: ماذا كان ردُّك على ذلك؟»
تردَّد مايرست.
ثم رد: «لا أظنني رددتُ عليه. لم أقل شيئًا مهمًّا.»
سأل سبارجو: «ألم تسأله عمَّا كان يعني؟»
رد مايرست: «كلا، لم أسأله على الإطلاق.»
قام سبارجو من كرسيه فجأةً.
وقال وعلى وجهه شبح ابتسامة تهكُّم: «إذن فقد فوَّتَّ إحدى أفضلِ الفرص التي سمعتُ عنها! ربما تكون قد سمعتَ تلك القصة …»
ثم توقَّف، كما لو كان لا طائلَ يُرتجى من المواصَلة، والتفتَ إلى راثبري الذي كان ينظر إليه في استمتاع.
وقال: «اسمع يا راثبري. هل من الممكن أن نُرتِّب لفتح تلك العُلْبة؟»
أجاب راثبري وهو ينهض: «يجب فتحها. لا بد من فتحها. فأغلب الظن أن الدليل الذي نبحث عنه موجودٌ بداخلها. سأطلب من السيد مايرست أن يأتيَ معي لنأخذ الخطوة الأولى لفتحها. سيكون عليَّ استصدارُ أمرٍ بذلك. ربما نتمكَّن من استصداره اليوم، وسيكون جاهزًا صباحَ الغد على أي حال.»
سأل سبارجو: «هل يمكنك أن تُرتِّب للسماح بحضوري عندما يَصدر الأمر؟ هل أنت متأكد من ذلك؟ حسنًا يا راثبري، سأنصرف الآن، اتصل بي أو مُرَّ بي إذا جدَّ جديد، سأخبرك أنا أيضًا بأي جديد.»
ودون أي كلمة أخرى انصرف سبارجو متعجلًا، وعاد إلى مكتب «ووتشمان» بسرعة. وهناك كان في انتظاره المساعدُ الذي كُلِّف بانتظار أوامره في هذه المهمة الجديدة، ولما تقابلا أعطاه المساعد بطاقةَ تعارفٍ رسمية.
وقال: «جاء هذا الرجل لزيارتك منذ ساعة تقريبًا يا سيد سبارجو. يظن أن لديه ما قد يُفيدك في قضية ماربري، وقال إنه لا يستطيع الانتظار، ربما يمكنك الذَّهاب إليه عندما تأتي.»
وضع سبارجو البطاقة في جيب الصديري وخرج مجددًا، وتساءل عن سببِ عدمِ قدرة السيد جيمس كريديه على وصف نفسه بتاجر الطوابع النادرة، أو إحجامِه عن ذلك أو رفضِه له، فهذه الصياغة أبسط. ذهب إلى شارع فليت، وسرعان ما وجد المتجرَ في العنوان المكتوب على البطاقة، كان واضحًا من النظرة الأولى على المتجر من الخارج أن السيد كريديه قد اعتزل العمل الذي كان يُزاوِله في ذلك المتجر في الماضي، أيًّا كان ذلك العمل؛ إذ كانت على النافذة لافتاتٌ مطبوعة حديثًا تُعلِن أن المتجرَ معروضٌ للإيجار. ولما دخل سبارجو وجد رجلًا قصيرَ القامة ممتلئَ الجسد متقدمًا في السن، يُشرِف على حَزْم ما تبقَّى من بضاعته ونقلها. نظر الرجل إلى الصحفيِّ بعينَين لامعتَين متسائِلتَين.
قال سبارجو: «السيد كريديه؟»
أجاب تاجر التمغات: «نعم سيدي. وسيادتك؟»
قال سبارجو: «السيد سبارجو من صحيفة «ووتشمان». جئتَ لزيارتي.»
فتح السيد كريديه بابَ غرفة صغيرة خلف المتجر الصغير للغاية، وأشار بيده إلى زائره يدعوه للدخول. فتبعه سبارجو وأغلق الباب برِفق.
قال السيد كريديه بتَرْحاب: «سعدتُ بلقائك يا سيد سبارجو. تفضَّل بالجلوس سيدي … الوضع مُربِك هنا … أُصفِّي أعمالي كما ترى. نعم ذهبتُ لزيارتك، فبعد قراءتي خبرَ صحيفة «ووتشمان» عما حدث لماربري، ومشاهدتي صورةَ الرجل القتيل في أعمدتك، أظن أن بإمكاني تزويدَك ببعض المعلومات.»
سأل سبارجو باقتضاب: «معلومات مفيدة؟»
حدج السيد كريديه زائرَه بطرف عينه الثاقبة. ثم سعل.
وقال: «أنت مَن يُحدِّد ذلك عندما تسمع ما لدَيَّ. لكن رأيي، مع أخذِ كلِّ شيء في الاعتبار، أنها مفيدة. الأمر أني أبقيتُ متجري مفتوحًا حتى أمس، كان كل شيء يجري كالمعتاد، كما تعرف، والبضاعة في نافذة العرض وكل شيء، بحيث يعلم كلُّ مَن يمر بالمتجر أن العمل جارٍ، بالرغم من أني في حقيقة الأمر على وشك التوقُّف عن العمل، بل توقَّفت.» وأضاف ضاحكًا: «في الليلة الماضية، لكن، أَلَنْ تُدوِّن ما أقوله لك؟»
رد سبارجو: «أُدوِّنه. أدوِّن كلَّ كلمة فيه. في رأسي.»
ضحك السيد كريديه وفرَك يدَيه معًا.
وقال: «كان الصحفيون أيامَ شبابي يُخرِجون قلمَ رَصاصٍ ودفترَ ملاحظات حالما يتمكَّنون من ذلك. لكنكم، شباب اليوم …»
وافَقه سبارجو: «أنت مُحق. هلا أخبرتني بمعلوماتك!»
قال السيد كريديه: «حسنًا، لنواصِل إذن. بعد ظهر أمسِ جاء إلى متجري المدعو ماربري. و…»
سأله سبارجو: «في أي ساعةٍ تحديدًا؟»
أجاب السيد كريديه: «في تمام الثانية حسَب ساعة سانت كليمنت دينس. يمكنني أن أُقسِم على ذلك عشرين مرة. كان كما وصفتَه أنت بالضبط — في ملبسه وكل شيء — لقد عرَفتُ الصورة فورَ رؤيتها. وكان يحمل عُلْبة صغيرة …»
سأل سبارجو: «عُلْبة من أي نوع؟»
رد السيد كريديه: «عُلْبة جلدية غريبة، بالية وقديمة الطِّراز، صندوق صغير للغاية في الواقع، حجْمُه نحو قَدَمٍ مربعة؛ لا مثيلَ لها أبدًا هذه الأيام. وكانت مهترئة جدًّا؛ لذا جذبَت انتباهي. وضعها على المنضدة ونظر إليَّ. وقال: «أنت تاجر طوابع؟ طوابع نادرة؟» فردَدتُ عليه: «نعم.» فقال وهو يفتح قُفل العُلْبة: «لديَّ شيء هنا أريد أن أُريَك إياه، إنه …»»
قال سبارجو: «توقَّف لحظة! من أين أخرج المفتاحَ الذي فتح به العُلْبة؟»
رد السيد كريديه: «كان واحدًا من عدة مفاتيح كانت معه في سلسلة مفاتيحه، وأخرج السلسلةَ من جيب بنطاله الأيسر. أنا أنتبه لهذه الأمور أيها الشاب! على أي حال، فتح العُلْبة. فبدَتْ لي مليئة بالورق، لكنها كانت تحتوي في الأعلى على الكثير من الأوراق التي تبدو أوراقًا رسمية مربوطة بشريطٍ أحمر. ولأبرهن لك على قوة ملاحظتي؛ لاحظتُ على الأوراق بُقعًا من شِدَّة قِدَمها، وكان لون الشريط الأحمر قد استحال ورديًّا باهتًا.»
تمتم سبارجو: «جيد … جيد! ممتاز! واصِل الحديث، يا سيدي.»
واصَل السيد كريديه: «وضع يده تحت الورقة العليا وسحب مظروفًا. وأخرج من المظروف عددًا من الطوابع الاستعمارية الشديدة النُّدرة والباهظةِ القِيمة، أول ما صدر منها على الإطلاق. وقال: «جئت لتوِّي من أستراليا، وكنت قد وعدت صديقًا شابًّا لي من هناك أن أبيعَ له هذه الطوابع في لندن، وبينما كنت أمرُّ من هنا لمحتُ متجرك. أتريد شراءَها؟ وكم ستدفع ثمنًا لها؟»»
تمتم سبارجو: «واضح!»
وافَقه السيد كريديه: «بدا لي ممَّن لا يُهدِرون كلماتهم. على أي حال، لم يكن هناك شكٌّ في الطوابع ولا في قيمتها الباهظة. لكن كان عليَّ أن أوضِّح له أني كنتُ على وشك اعتزال المهنة في اليوم نفسِه، ولم أُرِد إبرام ولو صفقةً واحدة؛ لذا لم يكن بوسعي فعل شيء. فقال: «ومع ذلك لا بد أن هناك الكثيرين ممَّن يعملون في مهنتك نفسِها، ربما يمكنك أن تُرشِّح لي شركة جيدة، أليس كذلك؟» فأجبته: «يمكنني أن أرشِّح لك عشرًا على الأقل من الشركات الممتازة. لكني سأفيدك بأفضلَ من ذلك. سأعطيك اسمًا وعنوانًا لمشترٍ خاص لا شكَّ لديَّ أنه سيَسعد بشراء هذه المجموعة منك لقاءَ ثمنٍ باهظ». فقال لي: «اكتب الاسم والعنوان، أشكرك على تعاونك.» ونصحته بالسعر الذي ينبغي أن يتقاضاه، وكتبتُ اسمَ الرجل الذي قصدته وعُنوانه على ظهر بطاقة من بطاقاتي.»
سأل سبارجو: «وما اسمُ الرجل وعنوانُه؟»
قال السيد كريديه: «السيد نيكولاس كاردلستون، ٢ بنايات بيلكوكس، زقاق ميدل تمبل. السيد كاردلستون من أشدِّ المتحمِّسين لجمع الطوابع وأنجحهم في أوروبا. وكنت أعلم أن هذه المجموعة من الطوابع لم تكن في حوزته.»
قال سبارجو: «أعرف السيد كاردلستون، فقد عُثِر على ماربري مقتولًا أسفلَ درَجِه.»
قال السيد كريديه: «صحيح. وهذا يجعلني أُخمِّن أن ماربري كان في طريقه للقاء السيد كاردلستون عندما هُوجِم وقُتِل وسُرِقت متعلقاته.»
علَّق سبارجو نظرَه بتاجر الطوابع.
وقال: «ماذا إذن؟ هل ذهب ماربري للقاء الرجل العجوز في مسكنه في زقاق ميدل تمبل ليعرض عليه أن يبيع له تمغاته النادرة … بعد منتصف الليل؟ لا أظن ذلك!»
رد السيد كريديه: «حسنًا، أنت تُفكِّر وتُجادِل بطريقةٍ عصرية لا شكَّ أنها أفضلُ بكثير. لكن كيف تفسِّر أني أعطيتُ ماربري عنوانَ كاردلستون، ثم عُثِر على الأول قتيلًا أسفل دَرَج الثاني بعد ذلك بساعات قليلة؟»
رد سبارجو: «لا أجد تفسيرًا لذلك. أنا أحاول التوصُّل إلى التفسير.»
لم يُعلِّق السيد كريديه على هذا الرد. ونظر إلى زائره من أعلى إلى أسفل للحظة، وكوَّن فكرةً عن قدراته، ثم قدَّم له سيجارةً فجأةً. فقبلها سبارجو وشكره في اقتضاب، ولم يستأنف الحديث إلا بعد أن أنهى نصفَها.
قال: «كما قلت، أحاول التوصُّل إلى التفسير. وسأتوصَّل إليه. وأنا ممتنٌّ لك للغاية يا سيد كريديه على ما أخبرتَني به. والآن هل لي أن أسألك سؤالًا أو اثنين؟»
أجاب السيد كريديه في تَرْحاب: «بل سَلْ ألفَ سؤال!»
قال سبارجو: «جيد جدًّا. هل قال ماربري إنه سيزور كاردلستون؟»
أجاب السيد كريديه: «نعم، قال إنه سيزوره في أقرب فرصة … ذلك اليوم.»
سأل سبارجو: «وهل أخبرت كاردلستون بما أخبرتَني به لتوِّك؟»
رد السيد كريديه: «نعم، منذ ساعة فقط، وأنا عائدٌ من مكتبك في الحقيقة. التقيتُ به في شارع فليت وأخبرته.»
قال سبارجو: «وهل كان قد تلقَّى مكالمة من ماربري؟»
رد السيد كريديه: «كلا، لم يسمع بالرجل ولا رآه قط. على الأقل لم يسمع به قبل أن يسمع بجريمة القتل. قال لي إنه هو والسيد إيلفيك صديقه — وهو جامعُ طوابعَ آخَرُ — ذهبا لمعايَنة الجثة، لعلهما يتعرَّفان على القتيل، لكنهما لم يتعرَّفا عليه.»
قال سبارجو: «أعرف ذلك. فقد قابَلتهما في المشرحة. إمممم! حسنًا، سؤال أخير: عندما تركك ماربري، هل وضَع الطوابعَ في العُلْبة كما كانت؟»
رد كريديه: «كلا، وضعها في جيب الصديري الأيمن، وأغلق قُفلَ عُلْبته القديمة، ومشى يُؤرجِحها في يده اليسرى.»
ذهب سبارجو إلى شارع فليت دون أن يرى أحدًا. ظل يُتمتم ويتمتم حتى وصل إلى غرفته في مقر الصحيفة. كان يتمتم بكلمتَين اثنتَين، ويُعيدهما مرارًا وتَكرارًا:
«ست ساعات … ست ساعات … ست ساعات! تلك الساعات الست!»
مَن شاهَدَ جون ماربري ما بين الساعةِ الثالثة وخمس عشرة دقيقة والساعةِ التاسعة وخمس عشرة دقيقة في الليلة السابقة لمقتله؟