الشمس
الشمس تلسع وجهي، لهيبها يحرق عيني وصهدها، يكتم نفَسي، الطريق ما زال طويلًا على أن أسير ساعةً أخرى، ربما ساعتين على الأرض المحمية كالجمر، في التراب الذي يخنق الصدر تحت الشمس التي لا ترحم، أضع حقيبة كتبي على رأسي، بعد لحظات تصبح هي الأخرى كأنها خارجة من فرن! أبحث عن شجرة أقف تحتها، لكن المزارع بعيدة، وعمال الطرق نسوا أن يزرعوا الأشجار، أشير للعربات أن تقف وتأخذني معها، لكنها تمرق من جانبي وتغمرني بعاصفةٍ من التراب؟ لو كنت سمعت نصيحة أبي وأخذت معي الشمسية؟ لكن ماذا كان العيال يقولون؟ ماذا كنت أفعل لو ضاعت مني؟ وماذا كان يفعل أبي؟ هو اليوم راقدٌ في البيت، أمي قالت لي أبوك جسمه نار، سمعته يتأوَّه وأنا خارجٌ في الصباح، ألقيت عليه نظرةً من وراء الباب، فوجدته عصب عينيه، بالليل كان يصرخ: ابعدوا عني! ابعدوا عني! أمي قالت: أبوك عنده حمى، الشمس لطشت دماغه، ربنا يلطف بنا.
الشمس تحرق رأسي، قرصها الملتهب يطبق عليَّ، جسدي يرتعش، لو توقفت عن السير لحظةً فسأقع على الأرض، والأرض أيضًا ستشوي لحمي، وأمي لن تراني لتقول: يا رب الطف بنا، إنها لا تعرف شيئًا، لم تكن هناك لترى ما رأيت، لم تدرِ ماذا حدث؟
أمس وأنا راجعٌ من المدرسة مررت على أبي، في كل يوم كنت أراه في وسط الأنفار، الشمسية فوق رأسه والمنديل الأبيض معصوب على دماغه، كان الأنفار يحملون الطوب على ظهورهم، أو يخلطون المونة أو يرشون الماء على البناية، أو ينزلون الزلط من العربات، كنت أجلس معه قليلًا، ثم أتابع سيري إلى البيت، وأمس عندما اقتربت من البناية كان هناك حشدٌ كبير لم أرَه من قبل: صياح وزعيق، أصوات تلعن وأصوات تستعطف، أفندية ومشايخ، نساء وأطفال، باعة وشحاذون، اندسست من بين الصفوف لأرى أبي في وسطهم، كان هناك رجل سمين أبيض الوجه يشخط فيه، ويصرخ بأعلى صوته، هل كان هو الباشمهندس أو صاحب البيت؟ كان الرجل يصيح: أنت لا تسمع الكلام، قلت لك ألف مرة، هذا الشغل لا ينفع. أبي يرد عليه: يا سعادة البيه، أنا أنفذ الأوامر. الرجل يزعق: أنا هنا صاحب الأمر، الأوامر تأخذها مني. أبي يستطعف: أمرك على العين والرأس، الأوامر نفذناها. الرجل يصرخ: ولك عين ترد عليَّ يا بهيم يا حمار! ذراع الرجل تمتد، يده غليظة وبيضاء وسمينة، وخد أبي يحمر، يصبح كالجمرة المحترقة، ووجهه يسود، يصبح كالفحم.
الناس تقول: معلهش يا سعادة البيك. الأنفار تقف مذهولة، تريد أن تنقض على الرجل السمين، أبي يمسك بخناقه، يريد أن يطرحه من على السقالة، الناس تفك يده عنه.
تقول له: اصبر على أكل العيش.
تقول للرجل السمين: هو خادمك على كل حال.
والشمس تلسع وجهي، تشعل بركان الغضب في صدري.
أريد أن أهجم على الرجل السمين، أن أصفعه على وجهه كما صفع أبي، أن أجعله عبرة أمام الناس، أن أعلِّمه درسًا لن ينساه، لكنني أبكي، تخونني دموعي، أبتعد عن المكان لكيلا تقع عيني على عين أبي، أنهنه طول الطريق، وأغرق في دموعي وعرقي.
عندما خرجت اليوم من البيت كان أبي ما يزال راقدًا على السرير، أمي اشترت لوح ثلج ووضعته على رأسه، عندما سألتها قالت: أبوك عنده حمى، جسمه نار. قلت لها: أبقى معه اليوم. قالت: اذهب أنت للمدرسة وخذ بالك من لطشة الشمس. وعندما رقدت في العام الماضي كنت مصابًا بالحمى، أبي أحضر لي الطبيب، والطبيب قال: عنده حمى، وضعوا الثلج على رأسي، سهرت أمي إلى جانبي وبكت، لكن الرجل السمين لم يكن قد ضربني، الرجل السمين لم يصفعني على وجهي، وخدي لم يحمر كالنار، ووجهي لم يسود كالفحم، هي لا تعلم أنهم ضربوا أبي.
صفعوه على وجهه في وسط الأنفار.
الشمس تحرق وجهي، تعمي عيني، الطريق ما يزال طويلًا، قدمي تعبت، وساقي ترتعش، والشمس تضيء كل شيء، أين أختفي منها؟ وأين يخفي أبي وجهه؟
الآن لا أستطيع أن أذهب إلى البيت.
لا أستطيع أن أنظر في وجه أبي.
لا أستطيع أن أرفع عيني في عينه، لا أستطيع أن أتحسس وجهه حتى لا تلسعني الصفعة على خده، حتى لا تحرقني اللطمة التي لا يزال أثرها على خده، أين أذهب؟ إلى البناية أسأل عن الرجل الأبيض السمين؟ هل هو الآن هناك؟ أفلا يزال يشخط في الناس؟ هل تمتد ذراعه السمينة وتصفع الرجال الذين يبنون؟ هل أذهب إلى المركز وأشكوه؟ هل أقدم فيه بلاغًا للنيابة؟ هل أذهب إلى مقام سيدي المدبولي وأدعو عليه؟ مَنْ هو يا ترى؟ ما اسمه؟ ما عمله؟ ما الذي يعطيه القوة على صفع الناس؟ ساقي ترتعش، دماغي يلف ويدور، سحابة تراب تخنقني.
آه لو كانت الأرض ابتلعتني، فلم أرَه يضرب أبي أمامي!
أبي ملاحظ عمال البناء، هو الذي يجمع الأنفار، ويوزع عليهم العمل، في السنة الماضية كانوا يبنون سور السكة الحديدية، كنت أذهب إليه وأتفرج على الأنفار، وأشرب معهم الشاي، لم يقل لي أبي: ماذا يبنون في هذا العام؟ هل هو المركز الجديد؟ هل هو المستشفى، أو يا ترى فيلا للعمدة، أو بيت لمهندس التنظيم؟ بنى يبني بناءً، قدماء المصريين أيضًا بنوا الأهرام، مليونين وثلاثمائة ألف حجر، كل حجر يزن طنين ونصف الطن، مائة ألف نفر في كل عام، ومصر كلها حجر واحد حجر ضخم، مثلث مثل الهرم، قمته ترتفع إلى السماء، وعلى قمته يجلس فرعون وفرعون والسلطان والباشا والخفير سخروا الفلاحين، والرجل الأبيض السمين كان دائمًا هناك، كان دائمًا يضرب الأنفار على وجوههم، والشمس كانت دائمًا تلسع الوجوه وتشوي الأجسام، ونابليون نفسه وقف في الشمس أمام الأهرام، وقال: إن أربعين قرنًا تنظر إليكم!
أبي كان ينهنه عندما خرجت من البيت، طول الليل يتأوَّه ويهذي، أمي تدعو على الظالم، تطلب من الله أن ينتقم منه، والشمس كانت هي السبب، ولهيبها الآن يحرق وجهي، ينضح العرق من جبهتي فيسقط في عيني، يصهر أعصابي، ويشعل النار في جسدي، في حصة الجغرافيا قال لنا المدرس: إن الشمس جرم سماوي هائل متوهج، تدور حولها تسعة أجرام كروية معتمة بذاتها، مضيئة بانعكاس ضوء الشمس عليها تُعرَف بالكواكب، الأرض تدور حول الشمس مرة كل عام، هل تعرف الشمس أن الأرض تدور حولها؟ هل تعرف أن أبي على الأرض وأن الرجل السمين صفعه على وجهه؟ هل تعرف وهي تدور حول نفسها كل يوم كما يقول مدرس الجغرافيا أنني أنا أيضًا أدور عليها أبحث عن الرجل السمين الذي صفع أبي، أفكر في أن أصفعه على وجهه أمام الناس جميعًا، أن أسحبه من هدومه وأجعله يعتذر لأبي، يقبِّل رأسه، يستعطف أمي أن يصفح عنه، لكنني لا أملك سيف أبو زيد الهلالي، ولا مدافع هتلر! لا أقوى حتى على حمل ساقي، والشمس تحرق وجهي، تبدد أفكاري، تشعل الحمى في عروقي، آه لو لم تكن الشمس هناك! آه لو طمرتها السحب! لو غطتها سحابة واحدة، واحدة فحسب.
السكة ما تزال طويلة، الشمس تحيط بي من كل مكان، حتى ظلي أحرقته، من الصباح وأنا تائه في الشوارع، قلت لهم: إنني سأذهب إلى المدرسة، لكنني لم أذهب إلى المدرسة. مررت على البناية ورأيت الأنفار يعملون في الأرض، وعلى السقالات ويغنون، كأن أبي لم يصفعه الرجل السمين أمس، كأنهم لم يغضبوا أو يثوروا في وجهه، كأن صدى الصفعة اختفى من آذانهم، وعندما رأيت كل شيء كما كان، قررت ألا أذهب إلى المدرسة، ماذا أفعل إذا كانت الصفعة لا تزال تطن في أذني؟ ماذا يفيدني إن كانت الشمس تدور حول نفسها من الغرب إلى الشرق، أو من الشرق إلى الغرب، طالما أن أبي الذي لطمه الرجل الأبيض السمين يدور معها أيضًا كما تشاء؟ ماذا يفيدني أنَّ (كان) ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وأن بلادنا مهد الحضارة من آلاف السنين؟ آه يا رب! الرعشة تزداد، رأسي يتفتت، جبهتي شعلة نار.
الدنيا تغيم أمامي، العرق المبلل بالتراب يملأ عيني، سأجري الآن إلى الترعة وأبلل وجهي، لا، سأخلع هدومي وأسقط في الماء، أم أكتفي بغسل رأسي؟ لكن رأسي سينفجر، وأبي رأسه معصوب بمنديلٍ أبيض، وأمي وضعت الثلج على رأسه، من الذي ينقذه من الحمى؟ من الذي ينقذني من الشمس؟ الشمس تجري ورائي! تحمل سيخ نار في يدها، آه! إنها تصفعني على وجهي، تلقي بي على جانب الطريق، تصفعني كما صفع الرجل الأبيض السمين أبي.
هل سيعثرون عليَّ؟ من الذي سيضع الثلج على رأسي؟
مَنْ ينقذ أبي؟
مَنْ ينقذني؟