الزلزال١
كان من الضروري، بل من الحتمي، أن يكتب غريب محمد غريب هذا الخطاب إلى صديقه العزيز شفيق السيد، الذي لم يرَه منذ وقت طويل، الغريب في أمر غريب أنه لم يكتفِ بأن يوقع عليه باسمه، بل أضاف إليه أسماء أخرى كان صديقه أو بعض أصحابه ومعارفه يطلقونها عليه في ليالي السمر الطويلة، بينما تطل من عيني صديقه ومن عيون الأصحاب نظرات تلمع وتخبو، وتمتزج فيها السخرية بالحب والإشفاق: الحكيم والمسيح والظل الباهت والصوت الخافت، والبومة والعنكبوت والفقمة وأسماء وصفات أخرى لم يجد داعيًا لذكرها، ووجه الضرورة التي دفعته لكتابة الخطاب أنه رأى صديقه الحبيب في الحلم، وأخذ يعاتبه ويجادله جدالًا أشد مما فعل في لقائهما الأخير، الذي لا يذكر إن كان قد تم قبل أسابيع أو شهور أو سنين، وسنصرف النظر الآن عن هذا اللقاء الأخير وموعده البعيد أو القريب، ونقتصر على الإشارة الموجودة للجدل الذي اشتبكا فيه بالأفكار والكلمات، بأعنف مما يشتبك اليوم أبطال أفلام العنف والكاراتيه وغيره من فنون الصراع، أكد غريب لصديقه أن الزلزال قادمٌ لا شك عنده في ذلك، وشرح الأسباب والمبررات شرحًا مستفيضًا سنجده يكرره في خطابه؛ لذلك ينبغي علينا أن نبدأ بقراءة الخطاب نفسه، قبل أن نعرف شيئًا عن مصيره:
لا أملك إلا أن أكتب إليك يا شفيق بعد أن تعذر عليَّ لقاؤك والاتصال بك، أصبح هذا أمرًا حتميًّا بعد أن صور لي الوهم الذي ظللت أجتره حتى كاد أن يبلغ مبلغ اليقين — أنك غاضب عليَّ أو في نفسك شيء مني — أجل أجل، منذ تلك الليلة التي تحدثنا فيها عن الزلزال والكوارث والبراكين، قلت إن الموت قادم لا مفر منه، وكل الدلائل تؤكد أننا سنلقى مصير الفيران التي تهرب من السفينة الغارقة لتغرق في قاع البحر، أو سنموت ميتة النائمين الذين يدخل عليهم اللصوص في الليل ويذبحونهم بالسكاكين، صرخت بأن الزلزال قادم، وأنني أحس بعلاماته ونذره وإشاراته، وإذا كان الموت هو المصير المحتوم فلنمت مفتوحي الأعين بشرف وكبرياء، ضحكت طويلًا واتهمتني بالرومانسية المريضة والتمسح بالمتنبي وعداوة البشر، وكأن الزلزال الذي روَّع مدينتنا الكبرى وبعض المدن الصغيرة والقرى البائسة لم يكفني، فراح خيالي السقيم يتوهم أفظع ألوان الدمار، أكدت لك، وأنت تنظر إليَّ مذهولًا لأنني رفعت صوتي عاليًا، وضربت مائدة العشاء الذي دعوتني إليه بكفي ضربة مدوية، كيف أصدق أن صديقي لا يفهمني؟ أنا أقصد الزلزال الآخر، الزلزال الذي يرج العقول لا الأجسام، يهز الوعي النائم لا البيوت الآيلة للسقوط، يخرج المخلصين والصادقين من تحت رماد الجحود والإهمال والتجاهل، حتى الكذابين والأدعياء والأبطال الجوف وسائر المعذبين في الأرض — كما تعودت أن تسميهم — لا أتمنى أن تسقط على رءوسهم ذرة تراب ولا غبار واحدة — إنه زلزال آخر يا صديقي — قلت وأنت تلوي فمك بامتعاض وتنفث دخان سيجارتك في وجهي: نريد النور والأمل ونريد البناء والعمل، بينما تتكلم أنت وغيرك عن الزلزال؟ وضعت وجهي بين كفي لأكتم صوتي الذي ارتفع فجأة: ومن منَّا لا يريد النور والأمل والإنسان الجديد؟ من منا لا يعمل له؟ هل عشنا وشقينا إلا من أجله؟ وكيف تنتظر أن يأتي بغير زلزال؟ لنختلف حول طبيعته، لكن كيف نختلف حول ضرورته؟ سكت وأدرت وجهك للحائط ورحت تحدق في لوحة راهب بوذي مستغرق في التأمل والصمت.
رحت أؤكد لك أن الزلزال قادم لا محالة، وأخذت أتلو عليك الحجج والبراهين، كأي محامٍ يرفع صوته أمام قضاة مصابين بالصمم والخرس والعمى: عندما تتربع الذئاب على عروش الغابة، وتصبح الأسود طعامًا للنمل والذباب والضباع، فلا بد أن يحدث الزلزال.
– وعندما يعظ اللص بالأمانة، ويمتد الفاجر الفضيلة، ويدعو الخائن إلى الوفاء، ويمجد القاتل البراءة والشرف، ويثرثر الكذاب عن الصدق، والمزور عن النزاهة، ويصبح الكل عدوًّا للكل والجميع مسلطين على الجميع، والكلاب تتصارع على الغنيمة التعسة العاجزة، فكيف لا يأتي الزلزال؟!
– وحين يبشر الجراد بالخضرة والربيع.
ويرتدي المسخ زي البطل والقديس، ويخطب الأبكم ويغني الأخرس، وتسيل أنهار العلم والحكمة من أفواه الجهلاء والحمقى والبلهاء، فحتم أن يحدث الزلزال.
وكلما عمَّ الضجيج واستشرت الضوضاء حتى صمَّت الآذان وعطلت العقول، وجعلت الأعلى صوتًا هو السيد المسموع، ومن لا يظهر في الإعلان والإعلام فهو غير موجود، هل تتوقع نبوءة أصدق على اقتراب الزلزال؟
– وعندما تنعق الغربان وتنق الضفادع وتنهق الحمير، ويهلل السفهاء ويصفقون ويهتفون متشنجين للفن الجديد والنغم الجديد.
– وبعد أن أخذ المارد الأعمى يحطم مصابيح العقل، ويطفئ منارات الوعي، ويدمر ويُكفِّر ويُفجِّر، وهو يسوق الملايين إلى كهف الماضي الذي لن يعود، ويضع أقنعة الظلام على وجه المستقبل الموعود، ويهدد إرادة التغيير بالذبح والخنق والحرق والتصفية، فهل تنتظر ألا يسقط البيت وتنتفض الأرض والسماء بالزلزال؟
– وعندما تنكفئ البديهيات على وجوهها في الوحل، ويسحلها الشطار الأوغاد في الشوارع والحواري والأسواق، بينما تطل عيون الآخرين من النوافذ وتضحك في شماتة، وهي تجهز المقبرة الجماعية لأصحاب الكهف والرقيم، فهل يمكن أن يتأخر الزلزال؟
– وأخيرًا حين يغيب العصفور عن زيارة السجين الوحيد، فيفتقد وقفته على حافة الكوة الضيقة في زنزانته، ويأكله الجوع لحبات الأمل التي كان يلقيها إليه منقاره الذهبي، ألا ينبئ كل هذا بزحف الزلزال الذي يروع السجن بكل من فيه؟ ألا يدفعك للتأهب والاستعداد بدلًا من الضحك والسخرية والتشكك؟!
آه يا صديقي: اكتشفت أنني أكلم نفسي كالعادة ووجهي إلى الجدار، كأني محكومٌ عليه بنوع جديد من أحكام الإعدام، هو عدم التوقف عن الكلام والكلام والكلام، كنت قد غادرت الحجرة التي جلسنا فيها للسمر والعشاء، وكان الراهب البوذي لا يزال جالسًا القرفصاء، مسترخي الذراعين واليدين على ركبتيه، رافضًا النظر إليَّ لانشغاله بالتأمل في العدم الذي احتواه معه، ثم رجعت بعد لحظات طالت كأنها الدهور، وحاصرني فيها الحرج والغضب والندم والاختناق، نهضت واقفًا للانصراف، بينما كنت تضع صينية الشاي على المائدة، فقلت رافعًا حاجبيك من الدهشة: معذرة يا غريب.
ألا تجلس لنشرب الشاي ونكمل الحديث؟ قاطعتك وأنا أتكلف الضحك: لا أريد أن يزيد شعوري بالذنب ورغبتي التي تعرفها في تعذيب الذات. رنت ضحكتك المجلجلة ووضعت يدك على كتفي: صدقني يا غريب، أنت أحوج الناس إلى هذا الزلزال، سألتك في هدوءٍ وأنا أتجه في تصميم نحو باب الخروج: ماذا تعني يا شفيق؟ وأنت تشير إلى الراهب وتتوقف عنده: ألم أقل لك إنك اسمٌ على مسمًّى، ولما سكت دليلًا على عدم الفهم عدت تقول: غريب عن العالم والعالم غريب عنك، تمتمت وأنا أخطو نحو الباب دون أن أنظر إليك أو إلى الراهب الأصلع النحيل: ربما، ربما.
وذهبت يا صديقي دون أن تقول وداعًا أو تحدد موعد اللقاء الجديد، وانصرفت لكتاباتك ومقالاتك الصحفية ورعاية أرضك ومصالحك في الصعيد، وسافرت أنا إلى بلاد الصحارى والخيام والنفط، لأواصل الصياح والنباح في حجرات وقاعات التعليم العقيم، وحين رجع غريب الذي تضاعفت غربته لزم بيته القديم الكئيب الذي تعرفه، وانزوى في غرفة صغيرة بالبدروم تشبه جحور الأرانب والفيران، تاركًا بقية البيت للزوجة والأولاد ليتحركوا فيه معظم النهار والليل، فلا تؤذيهم أشواك الصبارة العجوز. كان يمضي سحابة نهاره وساعات ليله في مغارته الصغيرة كالحي الميت، محاطًا بالكتب التي ألفها أحبابه الأموات/الأحياء. يظل يحاورهم ويجادلهم ويوافقهم ويخالفهم، ويزين له الوهم أنه صار عضوًا في المجتمع الوحيد الذي ينتمي إليه، الأهل تخلَّوا عنه، والصديق طعنه طعنة الإهانة، والتلاميذ رجموه بالحجارة، والأقزام المتعملقون أهالوا على رأسه أكوام التراب، وكلما خرج من مغارته الصغيرة ليتمشَّى قليلًا، أو دفعه الضعف وحب الاستطلاع إلى أحد المجالس اتسعت حدقات الأعين، وهي ترى الشبح الخارج من مقبرته أو الخلد الذي غادر جحره. ولم تلبث البومة أن رجعت لصمتها واكتفت بحديثها الخافت النبرات مع أولئك الخالدين، الذين توهم أنهم قبلوه صاحبًا لهم أو خادمًا لمحرابهم أو صبيًّا يتعلم الألف باء من جديد على أيديهم، وأصبح الجحر الصغير ملاذه من ضجيج العالم ومكبرات الصوت التي ارتفعت ضوضاؤها، ودوَّت طبولها أكثر بكثير مما وصف لك في لقائكما الأخير، صار كهفه الذي يغلقه على نفسه ليحتمي من الذئاب والكلاب والغربان والضفادع والمسوخ والأقزام والعمالقة، والأدعياء والمتآمرين والمتكالبين وصناع الجحيم اليومي في الأرض البور، وكان على صديقك يا شفيق أن يراجع كل شيء فيه وحوله وأمامه ووراءه. أن يجتر أشواك ذكرياته كالجمل العجوز، أن ينظر في المرآة ويسأل نفسه: كيف صرت إلى ما صرت إليه؟ أن يستعيد اللغة والهوية ويحاكم الماضي والحاضر، ويسأل نفسه إن كان قد بقي له مستقبلٌ آخر غير الإلقاء في مزبلة الإهمال؟ آلاف الصفحات التي كتبها بدم القلب وكد العقل وسهر العين وعرق العمر صارت مدادًا أخرس، أكوام كلام لم ينفع أحدًا ولم يغير شيئًا ولم يحرك حجرًا ولم يقدم خطوة ولم يؤخر، ليت الشجاعة تواتيه فيحرقها كما فعل الكثيرون قبله، أليس هذا الحريق المجنون هو الشط الأخير للملَّاح الفاشل والرحَّالة الخائب؟ وعانى صديقك يا شفيق من قلة النوم، وثورات الأحشاء المتشنجة، وانطفاءات الوعي والذاكرة والفهم والإدراك، صرخ كل شيء ينتفض ويرتج في داخله بقرب أوان الزلزال، وكم اشتقت يا شفيق في تلك الأيام القلقة والليالي الأرقة إلى يد حنانك، التي طالما ربت بها على كتفي الذي انحنى ورأسي الذي كساه الثلج. كم تطلعت إلى عينيك الواسعتين المضيئتين، وإلى سلاسل ضحكتك الفضية، التي كان رنينها أعذب وأحلى ما تسمعه أذناي، وسط أمواج النشاز والخلط والتخليط والفوضى التي تلطمنا ليل نهار.
كانت زوجتي قد ذهبت مع الأولاد إلى المصيف فرارًا من الحر والرطوبة في المدينة والحي، والبيت الغربي الذي ازورت عنه كل الأنسام، ورحت أعالج الصداع والقلق والأرق بالأدوية المهدئة والأقراص المنومة التي وصفها الطبيب. كنت أنام كأهل الكهف لا أميز الليل من النهار، ولا أخرج من حلمٍ إلا لأدخل في كابوس، ومع التخبط في متاهة بعد متاهة، والغرق في بئر بعد بئر، والانحدار إلى هاوية تبتلعها هاوية، سلمت بأنني أصبت بنوع جديد من الشلل أو التحجر، أو ربما بنوع غير مسبوق من عدم الوجود، لم ينجُ من ذلك قلمي وأوراقي وكتبي، التي تصورت أنها حجارة ستسقط حتمًا على رأسي، عندما يرتج الزلزال القادم ويرج كل شيء، لعلي قد ارتجفت كثيرًا في نومي أو صحوي المختلطين، ولعلي انتفضت ونفضت من الظاهر والباطن أكثر من مرة، ولكن لطمة مروعة من قبضة مخيفة فاجأتني ذات لحظة، فتخيلت أن روحي وجسمي وبيتي ومدينتي والعالم القبيح القديم كله قد تحوَّل إلى أنقاض، وما أدري إلا والباب يدق دقات تدوي كالرعد، وأصوات حناجر وأيدٍ وأقدام تتداخل وتتدافع وتضطرب. قلت لعلها الشرطة أو المطافئ أو النجدة جاءت تفتش عن الأحياء الباقين تحت التراب، وفتحت الباب فإذا هم أمامي يشيرون إليَّ ضاحكين، أطفال كأنهم ملائكة بغير أجنحة، يتوسطهم شيخ وقور مضيء الوجه طويل اللحية، يرتدي ثوبًا فضفاضًا لم أتبين لونه يغطيه كمسوح الرهبان، اندفعوا داخلين وهم يتصايحون ويغنون كأنهم زفة عرس أو جوقة تمثيل وغناء وتهليل، ودخل الشيخ المضيء وراءهم وربت على كتفي كصديق قديم، شلني الذهول في مكاني وأنا أراهم يتحسسون الجدران والكراسي والأرائك والستائر المسدلة، ويتجهون برغم الظلام السائد إلى غرفتي المنزوية كالجحر في ركنٍ بعيد من البدروم، وقبل أن أتمكَّن من السؤال شعرت بيدٍ طرية تأخذ بيدي وصوت متهدج يقول: ألم تكن تنتظر الزلزال؟ سألت في غيظٍ وغضب: ومن أنتم؟ ما أدراكم؟ من أذن لكم بدخول بيتي بغير استئذان؟
قال الصوت وصاحبه يشدد قبضته على يدي: جئنا لنهنئ أنفسنا بنجاتك. صحت وقد ازداد غضبي: تهنئني والمدينة تحت الأنقاض؟
رنت ضحكته مثل كرة نحاسية سقطت وتدحرجت على البلاط: المدينة بخير، الناس أيضًا بخير، والعالم على حاله كما كان وسوف يكون، قلت وقد بلغ بي الاستياء من عبث الأطفال مداه: لم تجب على سؤالي! مَنْ أنت؟ ومَنْ أنتم؟ كيف … قاطعني وهو ينقل يده من يدي إلى كتفي: وماذا تهم الأسماء؟ المهم أن زلزالك وقع وما زلت بخير. أصررت على تكرار السؤال بعد أن رأيت الصغار يتزاحمون على حجرتي الصغيرة، ويوشكون أن ينتهكوا حرمة أسرارها وأسراري، سبقني الشيخ خطوات ونفذ من صفوف الصغار، وجلس على الكنبة التي شهدت أحلامي وكوابيسي، وتابعت عينيه وهما تطوفان بالرفوف الخشبية والصور والأقلام والكتب والتماثيل الصغيرة، وتتفرسان في اللوحات الصغيرة المثبتة فوق مكتبي وعلى الجدار المواجه له، قال كأنه يألف المكان وما فيه: القديم جديد في نفس الوقت. والنهاية تحتضن البداية على الدوام، أما زلت تلح على السؤال؟ قلت بنبرة لم يزايلها الغضب والاندهاش، وأنا أقلب عيني بين وجهه ووجوه الأطفال المبتسمين، الذين وقفوا في نصف دائرة كباقة من الزهور: أليس هذا أبسط حقوقي؟
قال الشيخ وهو يبادل الأطفال الذين تشابكت أيديهم ابتسامًا بابتسام: جئنا نسجل البداية الجديدة، نضيف ريشة جديدة إلى كفة الميزان.
تلاحقت ضربات قلبي عندما رأيت الأطفال يرفع كلٌّ منهم في يسراه سجلًّا أسود مزخرف الحوافي بالذهب، وفي يمناه ميزانًا من النحاس البراق الذي استقرت ريشة زاهية الألوان على سطح كفته. قلت وقد استثار المشهد عجبي وضاعف من سخطي وغضبي: سجلات وموازين وأطفال وشيخ غريب؟
بيتي ولا أعرف.
قاطعني بصوته الهادئ الذي تبلله الدعابة الهادئة: هل نحن نقتحم كهفك أيها الراعي الوحيد؟
قلت وأنا أطرق برأسي إلى الأرض يأسًا وغيظًا: حتى الكلب الوفي حُرمت منه.
ضحك الشيخ على الفور وأشار إلى الأطفال: أرأيتم؟!
مع أن زميليه انطلقا في زحام المدينة وتمسكا بالحياة، ظل أحدهما يبحث عن زوجته وأولاده، والآخر يتشبث بالحب المستحيل.
قال محتدًّا لأنهي هذا الاستطراد السخيف: حتى أكلهما الزمن فأسرعا إلى الكهف يائسين.
ضحك الشيخ وردد الأطفال المبتسمون أصداء ضحكته: نحن كذلك …
قاطعته وأنا أشير للأطفال إشارة قاطعة بالسكوت: أنتم أنتم، من أنتم؟!
قال الشيخ بهدوء كأنما يشعر بالذنب عن الكتمان الطويل: قلت لك ما قيمة الأسماء؟ سمنا روح الأرض، قلب البشرية، ذاكرة التاريخ، وعي الحاضر منذ الأزل إلى أبد الدهر.
قلت لك: ما قيمة الأسماء؟!
سألت وأنا أحاول أن أجد منفذًا يخرجني من كفن يلتف حولي أو تابوت يغلق عليَّ: وهذه السجلات السوداء، هذه الموازين، هل مت في الزلزال وجئتم تقيمون الحساب؟
قلب عينيه قليلًا بين الصور واللوحات الصغيرة: يا للجاحد المتسرع، بل بعثت للبدء من جديد.
ثم منطلقًا في ضحك صاخب وهو يتأمل الصور المعلقة على الحائط كأنه يكلم نفسه: على الرغم من الطفل الذي وقف أبوه وأمه بجانب فراش موته في ثياب الحداد، ومن العذراء الجميلة الناصعة الوجه التي أسندت رأسها على كفها اليسرى، وراحت تتأمل جمجمة بشرية موضوعة أمامها، وبالرغم أيضًا من وجوه الشعراء الأموات الذين أحطت نفسك بهم.
قلت محتجًّا: هم أكثر حياة مني ومنك ومن كل مَنْ تظن أنهم أحياء.
قال وهو يمد يده ويربت رأسي وكتفي، كأنما ينفض الغبار المتراكم من سنين: صدقت، كل هذا في السجل، كله في كفة الميزان.
رفعت وجهي إليه مستفهمًا وأنا أردد بصري بينه وبين الأطفال، قال في تؤدة كأنه يناجي الزمن نفسه: كل كلمة صدق في هذا السجل، كل كلمة حق.
سألت متهكمًا: والميزان؟ أتراكم تزنون القلوب والأرواح؟
استمر في مناجاته: هل تصورتم أننا لا نسجل ولا نزن شيئًا؟ النيات والأحلام والأعمال كلها هنا أو هناك، ما من شيء يضيع يا صديقي، ما من كلمة صادقة تنسى أو تذهب هباءً.
قلت وأنا أهز رأسي مستنكرًا: حتى المتواضعين المنكورين تذكرونهم؟ حتى الذين افترستهم ذئاب العصر وداستهم أقدامه؟
قال مؤكدًا على كل حرف كأنه يتلو نصًّا مقدسًا أو يرتل نشيدًا موروثًا: هؤلاء قبل غيرهم، ثم وهو ينهض على قدميه ويقلب طرفه في الوجوه الحزينة والسعيدة، والعيون المتحدية والعيون الكسيرة، وتماثيل الحكماء والمهرجين والقرود التي وضعت أكفها على الأفواه والآذان والأعين، والزهريات والشمعدانات الصغيرة التي طالما سهرت على شموعها: كل شيء يقول إن اللحظة بين يديك، وكل لحظة تدعوك للبدء من جديد.
كنت قد تابعت عينيه وشردت ببصري لأتأكد من وجود البيوت من حولي، وأعاين المآذن والقباب والنوافذ والشرفات والهوائيات المشرعة للسماء.
رحت أردد البصر بينه وبين الأطفال، وأسأل نفسي إن كنت قد رأيت هذا الوجه الطيب قبل ذلك، وبينما كنت على شرودي وحيرتي وتساؤلي المستمر، سحبت طرفي من النافذة وتلفت لأجيب عليه فلم أجد أحدًا حولي، كانت أصداء صوته ما تزال تتردد في فضاء الحجرة الضيقة الخافتة الضوء، وأنا أحاول أن أتذكر أين رأيت هذا الوجه الضاحك السمح، وسمعت هذا الصوت الخشن الوقور: كل شيء يدعوك للبدء من جديد.
أتراك يا صديقي شفيق قد زرتني في المنام أو الكابوس؟ أم تراك تصوفت ووصلت وأصبحت من أصحاب الكرامات؟
لتكن الإجابة ما تكون، ولتعلم أخيرًا أنني اشتقت إليك وإلى وجهك وعينيك وصوتك وضحكتك وشفقتك أيها الطفل الشفوق العجوز على صديقك المغترب الغريب، صديقك الذي رأى ما رأى وكتب إليك ليقول إنه يحاول أن يبدأ من جديد، هكذا ختم غريب خطابه الذي لا يقل عنه غرابة، والأغرب من ذلك أيضًا أنه فوجئ بعد أيام — أو على الأصح فوجئت زوجته التي رجعت من المصيف مع الأولاد — بأن الخطاب المسجل قد رجع به ساعي البريد، وعليه هذه التأشيرة بخطٍّ مضطرب، لا يفك أسراره إلا خبيرٌ في الخطوط.