القبلة الأخيرة
١
كأني ما زلت أراكِ يا حبيبتي وأنتِ واقفة هناك وراء الباب الموارب، تنتظرين أن يرجع الابن الجاحد الذي خرج مسرعًا ليستقل العربة التي ستقله للعاصمة، وحرمك وحرم نفسه من قبلة لم يكن أحد منكما يدري أنها ستكون القبلة الأخيرة.
٢
في ضحى يوم شتوي بارد قبل ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمان قلت لنفسك: أزور بيتنا في البلد زيارة خاطفة قبل أن يُنفَّذ فيه حكم الإزالة الذي أصدره أخي الأكبر مع مجلس المدينة، كانت أصوات الهدم والردم والخبط وضربات المعاول والمطارق والفئوس قد تناهت إلى سمعي عند هبوط العربة من المزلقان، واستدارتها إلى اليسار لتقف أمام عتبة البيت مباشرة، خلصت نفسي من زحام العربة التي كنت قد انحشرت فيها وسط مجموعة كبيرة من الفلاحين الطيبين، الذين لا يملون الشكوى من الحكومة وإلقاء الذنب في كل المصائب على رءوس المسئولين، وضعت قدمي على الأرض بعد جهد جهيد، ووقفت أمام عتبة البيت وفي يدي حقيبة صغيرة بها بعض الأوراق، التي توهمت أنني سأستطيع النظر فيها أثناء السفر، ومعها الخطاب الذي أرسله إليَّ أخي ورجاني فيه أن أقف بجانبه وأتنازل عن حقي في البيت تقديرًا لظروفه، لم أشأ أن أكلمه في الهاتف أو أرد عليه بخطاب آخر، صممت على السفر والرجوع في نفس اليوم بعد رؤية البيت، وبعث الحياة في أجساد الذكريات الميتة.
لم أجد حاجةً لطرق الباب بالسقاطة الحديدية العتيقة المثبتة عليه منذ سنين طويلة كقبضة يد نحيلة، كان الباب مفتوحًا ورائحة الغبار الخانق تهب من الداخل، ومن أكوام الهديم والرديم المتراكمة على شكل مساطب أو أهرامات صغيرة، سواء في مدخل البيت أو خارجه. وقفت أنظر حولي وأتلفت في كل اتجاه، هذا هو نفس الباب الذي كانت تفتحه لي أمي عند عودتي في إجازة الصيف، وتقف وراءه لتطل عليَّ قبل ركوبي العربة التي تعيدني إلى الدراسة الثانوية أو الجامعية، أو إلى العمل الذي التحقت به قبل رحيلها بسنواتٍ قليلة. ما كان أطيبها وأحنها عليَّ أنا آخر العنقود، الوحيد الذي رفض حتى الآن أن يتخلى عن وحدته، هل أنسى كيف كانت تفتح ذراعيها بمجرد دخولي من الباب وتضمني إلى صدرها في حضن طويل، وتغمر وجهي بالقبلات وهي تنهنه قائلةً: يا نضري يا حبيبي، يعني كان لا بد من الغربة، وحرقة الدم في الكتب والعلوم؟ يا ليتك تقعد معنا يا ابني على طول، وربك هو الرزاق للعالم والجاهل الذي لا يعرف الألِف من كوز الذرة، وتأخذ يدها تربت على ظهري وتتحسس عظامي، وهي تقول بصوت كالأنين: يا عيني عليك يا ابني! كوم عظم يا ناس؟ هات الشنطة واسبقني على فوق، فيها هدوم للغسيل، طيب وما له، ياما جاب الغراب لأمه، في هذه الأثناء يكون صديقي بستان القط الأسود قد حضر على صوت كلامي وضحكاتي، وأخذ يشب ويتمسح في رجلي وثيابي وأمي ترمقه بغضب وهي تهدده بيدها المتوعدة: والله لولا معزتك عنده لكنا وضعناك من زمان في جوال، ورميناك في الترعة، غدار ابن غدار، يأكل الأرانب المولودة ويسطو على صواني السمك في الفرن، تقول بستان، غير اسمه يا حبيبي، سمه خرابة بدل بستان، نمر أو وحش صحيح!
وأضحك على الذكرى وأنا أنظر إلى المنضرة على يميني، ويقطع عليَّ خيوط ذكرياتي صوت مجلجل أعرفه على الفور: الدكتور وصل يا أولاد، نادوا على الحاج يا جماعة.
– تفضل يا دكتور، تفضل في المنضرة وابعد عن التراب.
كان هو صوت جارنا عطية الحلاق الذي لا أدري كيف ولا متى لمحني فأسرع إليَّ وأخذني بالأحضان. دخلت المنضرة فوجدت كل شيء فيها كما كان، الكنب نظيف ومرتب، والحصيرة الملونة مفروشة على الأرض كأنها سجادة كبيرة للصلاة، هنا كم صلينا خلف أبي، وكم جلسنا نستمع إلى الدرس الديني الذي كان يتلوه علينا شقيقي الأزهري، بينما تتابعه عينا أبي من وراء النظارة السميكة بكل الفخر والاعتزاز، وهل أنسى الرعب الذي كان ينفضني ويرجف قلبي وأعضائي، وهو يحدثنا عن عذاب القبر أو عن أهوال يوم القيامة؟ (لا أذكر أبدًا أنه تطرق مرة للكلام عن الجنة ونعيم الفردوس!) في هذه المنضرة نفسها، كم كان يحلو السهر في رمضان، وكم كانت تعمر بالجيران والأحباب والأعيان والفلاحين والفقراء المجهولين، الذين يأتون للسمر ويستمتعون بفنجان القهوة أو القرفة أو طبق الخشاف، والكنبة المقابلة، كيف أنسى جلسة أمي عليها بجوار النافذة المواربة، ترى الدنيا وتطل على الناس أو تنتظر عودة شقيقي — الذي أنتظره الآن — من غربته في المدينة التي هرب إليها من وجه أبي، وبعث له ولشقيقه الأكبر بأكثر من خطاب يهدد فيه بالانتحار، إن لم تتحقق مطالبه بالاستقلال بنفسه بمحلٍّ تجاري خاص به وحده، والأم تنتظر بجانب الشباك وهي تجفف دموعها بين الحين والحين، وتتحسس الأساور والمباريم التي أعلنت للجميع أكثر من مرة بأنها مستعدة أن تعطيها له بمجرد رجوعه بالسلامة وتقبيل يد أبيه التقي المسامح بالرغم من غضبه الجبار، وفي داخل المنضرة من هذا الباب الصغير كانت الخزانة الصغيرة التي …
ويحضر شقيقي معفر الشعر والملابس كأنه خارجٌ من قلب عاصفة ترابية، مرحبًا مرحبًا وهلَّت الأنوار، أهلًا بالحكمة والعلم والأدب والناس الطيبين، العصفورة قالت لي إنك ستحضر بنفسك، أنت دائمًا لا تخيب عشمي فيك، سلامات سلامات، إن شاء الله تقعد معنا يومين، بالحضن يا رجل، بالأحضان.
قلت محاولًا أن أقطع السيل المتدفق: يومين؟ أنت متفائل جدًّا يا أخي، لا بد من الرجوع عصر اليوم، قال مستنكرًا: قبل ما الأولاد يشوفوك ويسلموا عليك؟
قبل ما تذوق أكل الحاجة وتسلم عليها؟ أنا أرسلت لها بالفعل لتجهز الغذاء، سنذهب إلى الشقة التي استأجرناها ووضعنا فيها العزال الضروري حتى ننتهي من البناء، أنا كنت على ثقة من حضورك، ومتأكد من وقوفك بجانبي أنا وأولادي.
قلت ساهمًا وأنا سارح على أجنحة الذكريات: أولادك هم أولادي يا حاج، هل هذا كلام؟ المهم ترضي أخواتك البنات وأولاد المرحوم أخيك الكبير.
قال مؤكدًا: الجميع راضون والحمد لله، ولمن أتعب وأبني إلا لكم؟ أليس هو بيت العائلة في البداية وفي النهاية؟ ألا يقدر الجميع أنني أمثلكم هنا في البلد وأنوب عنكم في المناسبات؟ ثم إنكم …
أشرت إليه قائلًا: لا تكمل، أنت بخير والحمد لله، أولادك سيعوضون كل شيء ويحصلون على أعلى الشهادات، ثم إن ربنا أراحك من العلم وتعبه، لقد اغتنمت فرصة خلو اليوم من المحاضرات وقلت أخطف رجلي على البلد، غدًا صباحًا عندي اجتماع للقسم، ومساء اليوم نفسه مناقشة رسالة علمية، لا يمكنك أن تقدر مدى التعب والمسئوليات و…
قال أخي مقاطعًا ومستدركًا: وجرَّنا الكلام في ذيوله فلا شربنا ولا أكلنا، زمانك على لحم بطنك من الصبح، يا ولد، يا ولد يا عدوي، الشاي يا ولد، اخطف رجلك على البيت وهات الكعك والقرص وبقية الإفطار، قل لهم يستعجلوا في تحضير الغذاء؛ لأن الدكتور مستعجل، قلت معترضًا: قلت لك وقتي محدود ولا داعي لغذاء ولا عشاء، وإلى أن يأتي الشاي سأصعد السلالم وألقي نظرة على المقاعد القديمة وعلى حجرة نومي أنا وصديقي بستان. ضحك أخي وقال: صديقك راح وراحت أيامه، المهم تأخذ بالك وأنت طالع السلم؛ لأنهم الآن يفكون السقف المسلح وربما … قلت: لا تخف، المهم عندي أن أطل على مرابع الطفولة والصبا والشباب، وأن أقبل ذا الجدار وذا الجدار كما يقول … هتف أخي ضاحكًا: المجنون! قيس المجنون!
٣
أصعد السلم الذي طالما طلعت ونزلت عليه وأنا طفل وصبي وشاب، ها أنا ذا ألتقط أنفاسي بصعوبة، بعد أن بدأ الشعر يشيب وامتلأت الرأس بالحكمة والحمق، بالجدل والدجل وملاحم الثرثرة في كل شيء، وأجلس على البسطة أمام الفجوة الكبيرة التي ثقبوها أثناء الهدم، لما كان من قبل سقفًا تقفين يا أمي وتتحركين عليه، في الصباح الباكر وقبل صلاة الفجر تقفين هناك وأنت ترفعين ذراعيك إلى السماء وتدعين: أصبحنا وأصبح الملك لله، يا رب يا علَّام الغيوب استرها مع أولادي، أصلح أحوالهم يا ربي وأوقف لهم أولاد الحلال في كل طريق، يا رب يا عالمًا بكل شيء ولا يخفى عليك شيء، أحسن يا رب ختامنا كما أحسنت بدايتنا، وارزقنا الحمد لك والشكر لك يا قادر يا كريم. وتبدئين رحلة العذاب والشقاء بعد أن تصلي الفجر وتتلي الآيات القليلة من قصار السور التي استطعنا — أخوتي وأنا — أن نحفظك إياها بالتكرار المستمر على مدار الشهور والسنين. تطلعين للاطمئنان على الدجاج والبط والحمام في السطوح، وترفعين يدك بالدعاء لله أن يحميها من العِرَس والقطط والثعابين، تجددين لها العلف والماء، ثم تنزلين إلى السطح مرة أخرى وتنهمكين في العجين والخبيز والغسيل وتحضير الفطور ثم الغداء، وتجرين يا حبيبتي من حجرة الخزين إلى حجرة الفرن والكانون، من تجهيز الشاي والجبن والفول والعسل، إلى تحضير صواني السمك أو البطاطس أو المكرونة مع السلاطة للغداء، وتظلين طوال اليوم تعملين وتعملين وتنبحين صوتك على النائم واليقظ وعلى القريب والبعيد، دون أن تفتر لك همة، أو يرتخي جفن أو تهمد يد أو قدم أو ذراع، وفي آخر المطاف يا حبيبتي لا تجدين غير الزمجرة والبرطمة والتبطر على نعم الله، ما أندر ما تلقيت كلمة شكر أو حمد من إنسان، حتى يخيم الليل ويأتي العشاء فتصلين، ورأسك تهتز وتميل على صدرك فترفعين صوتك بالتكبير؛ لكي لا تغفلي أو تنامي أمام مَنْ لا يغفل ولا ينام. ويذهب الجميع إلى أعمالهم باستثنائي أنا المدلل وثالث التوأمين اللذين آثرا العقل وذهبا إلى بارئهما بعد ولادتهما بشهور، وتركاني لحياة يقول عنها المغني المصري القديم مع المنشد في الكورس الإغريقي في «أنتيجونا»: ليتني ما ولدت أبدًا، أو ليتني رجعت بمجرد ولادتي إلى رحم العدم الذي خرجت منه. نعم أنا الوحش الثقافي الصغير الذي لم يعرف الراحة، ولا الاستقرار حتى كتابة هذه السطور، معتكف أنا كالعادة في غرفتي الصغيرة ذات السرير الصغير والمكتب الضئيل، الذي ثبتت فوقه على الحائط لمبة نمرة عشرة تسمح بأن أقرأ عليها وأكتب، وأقوم وأنظر في الحجرة التي كانت موضع سري وحياتي وعالمي الخاص، ما زالت على ما هي عليه، لولا أن التراب قد علا كل شيء: ملاءة السرير والجريدة والكتب والدوريات القليلة على المكتب، وحتى زجاج اللمبة كاد أن يصبح قطعة من الطين أو من سواد الليل، في هذه الحجرة كم ذاكرت وقرأت وحاولت أن أكتب تصاريف الأفعال الإنجليزية والفرنسية، كم حفظتها وسمعتها، أفلاطون ومحاوراته التي اطلعت عليها صدفة وبغير سابق إنذار، فصرت من محبي الحوار ومجربيه في محاوراتي الساذجة ومسرحياتي الرديئة. هل أذكر أيضًا كيف رحت، من الابتدائي والثانوي حتى الجامعة، أنظم الشعر السيئ حتى أقلعت عنه تمامًا، بعد أن تأكد لي فقري في الأصالة والخيال المجدد والتفرد الحقيقي في الأسلوب والرؤية والتعبير؟ في كل المناسبات تقريبًا كتبت قصائد خلصتني أمي منها — كما قلت بعد ذلك في مقدمة أحد كتبي الذي ارتبط اسمه باسمي — خلصتني منها وحمت بها الفرن أكثر من مرة بدلًا من عذاب الحطب والقش والجاز والكبريت، كنت أيام الثانوي أعشق مجلة الرسالة وأهيم بأسلوب صاحبها، تعلمت كذلك من زملاء شقيقي الأزهري كيف أصبر على قراءة الرافعي، وأفك طلاسم تركيباته المصطنعة بلا مضمون فكري وراءها، حتى أعارني بقال صغير وصديق لابن شقيقي كتابًا أو اثنين لصاحب «النبي» و«الأرواح المتمردة» و«الأجنحة المتكسرة» و«المواكب»، فزلزلني وأشعل الحرائق في كياني بصوره الثائرة اللاهبة، وبعد سنين في قراءة صاحب «الأيام» و«على هامش السيرة» و«قادة الفكر» وغيرها وغيرها، وقعت صدفة أيضًا على «أهل الكهف» و«زهرة العمر» و«شهر زاد» و«سليمان الحكيم»، الحكيم الذي فك أسري من سلاسل البلاغيين والإنشائيين، وعلمني أن أقلع للأبد عن معارضة شوقي والمعري أو التفكير أصلًا في نظم الشعر، وما أعظم هذا الدرس في الأدب والمسرح الفلسفي، وفي البناء الحواري والجدلي المدهش الذكي، وبدأت محاولات أخرى لم تزل مستمرة في الكتابة للمسرح الأدبي، الذي لم تكد تعبأ به الفرق والخشبات الرسمية والشعبية، وها أنا ذا الوحش الثقافي الذي لم يبرأ من توحشه ونهمه ولهفته على الحرف المكتوب في معظم حقول المعرفة، من هنا ومن تعدد الاهتمامات إلى حد التشتت والضياع لم يكد أحد يعترف بقصصي ومسرحياتي، ربما حازت بعض دراساتي ومقالاتي، لا سيما بعد أن سافرت في منحة للخارج وجنيت على نفسي ﺑ «الدكترة» التي صرت مع الزمن ضحيةً لها وحق عليَّ حتى اليوم الضلال في متاهاتها ودروبها المسدودة أو المفضية إلى صحارٍ، أتجول فيها وأتنقل من سراب إلى سراب، لكن حسرتي الحقيقية يا أمي، كانت منذ ذلك اليوم الذي أتذكره الآن، قبل أن يهدم هذا البيت وتردم فيه حتى الذكريات، ذلك اليوم الذي كان آخر يوم أراك فيه وحرمت نفسي وحرمتك، لكن لأبدأ ذلك اليوم من أوله؛ لأحرق قلبي مرة أخرى بالسهم القاتل الذي نفذ فيه بيدي لا بيد غيري.
٤
كان يومًا غريبًا وعجيبًا، أشعر كلَّما فكرت فيه منذ رحيلك أن كياني كله يرتجف من جذوره، هل أحسست لحظةً واحدة بأنه سيكون يوم الفراق الأبدي المحتوم؟ هل دبَّ في قلبي هاجس الخوف من أن أرجع في الزيارة التالية فلا أراك، بل أذهب إلى المدفن العتيق وأركع أمام قبرك، وأنا أتزلزل بالألم وأرتعش في قبضة الإحساس الموجع بالندم، وأبكي بكاءً مُرًّا لا أظن أنني جربته قبل ذلك أو بعده؟ حتى بستان، صديقي ورفيقي القط الأسود، كان أيضًا في ذلك اليوم في غاية الاضطراب، أخذ ينونو منذ فتحت عيني في الصباح وكأنه يريد أن يعاتبني: أحقًّا ستتركنا وتغادر وربما لا أراك بعد ذلك؟ وراح يتبعني في كل خطوة، يتعثر بين رجليَّ ويجعلني أتعثر في جريي من حجرة المكتب إلى حجرة البوفيه، مهمومًا بتجميع الكتب والأوراق والمسودات التي دوَّنتها أثناء وجودي في الإجازة القصيرة، التي كانت مشحونة بالاطلاع والكتابة والتحضير للندوة المنتظرة مع الأصدقاء، حاولت أن أهدئه وتصورت لحظات أنه ربما يكون مفجوعًا كعادته، وذهبت لأمي المشغولة هي الأخرى في غرفة الفرن وأعددت له طبقًا، وضعت فيه اللبن والجبن والخبز فشمه ممتعضًا، وانطلق في أنينه ونواحه، آه! كيف لم يلهمني الحدس المعتاد بأن اللحظات الباقية من ذلك اليوم هي اللحظات الفارقة والفاصلة، هل اعتقدت حينئذٍ — مُعتمدًا على الكسل العقلي الدائم — أن كل شيء سيبقى على ما هو عليه، أو أنني سأرجع يومًا — بعد شهورٍ أو حتى أسابيع قليلة — فأجد أمي وأبي وإخوتي وأخواتي وكأن التغير لم يعد هو قانون الطبيعة والحياة، أو كأن العبارة التي تقول إن دوام الحال من المحال قد فقدت مصداقيتها في بلدنا العَصِي على التغيير؟!
كنت قد صحوت من نومي مبكرًا وفكرة السفر والتبعات، التي تنتظرني في القاهرة تطاردني وتلاحقني، منذ أن نمت نومًا مضطربًا واستيقظت على الآلام المبرحة في الرأس والمعدة، نعم! كانت تبعات ثقيلة كلفني بها الأصدقاء في جمعيتنا الأدبية، ولكنها كانت خفيفة على قلبي وحبيبة، وكنا قد ألفنا هذه الجمعية ورحنا نجتمع كل مرة في مسكن أحد أساتذتنا أو في مسكن واحدٍ منا، نتناقش في الأحوال الثقافية والسياسية ونستمع لقراءات متنوعة: قصائد وقصص ومقالات ومشروعات كتب موعودة، كان كل واحد منا يُكلَّف من قبل الأعضاء أو من ذات نفسه بالمشاركة في هذه اللقاءات، التي كنا نعتبرها المظهر الوحيد لحريتنا بعد أن صادرت الثورة — التي قامت قبل ذلك بسنوات قليلة — جميع الحريات وحلت الأحزاب وأعلنت قوانين الطوارئ، وأحكمت قبضة الاستبداد العسكري على كل شيء وكل إنسان، لم نكن خلية سرية بأي معنًى، ولم نكن نعمل تحت الأرض أو نصدر المنشورات، وباستثناء بيان قصير في الصحف أعلنا فيه مطالبتنا بالحرية والديمقراطية، وعودة الأحزاب وحق التعبير الحر، لم يكن لنا أي نشاط سياسي محدد. قنعنا بإثبات حريتنا المحدودة في تجاربنا الشعرية والقصصية والمسرحية والبحثية والتزمنا — في وقت كان فيه الالتزام على كل لسان! — بأن الأدب حرية وأنه للحياة.
كنت قد استطعت في تلك الإجازة القصيرة من عملي الممل بالقاهرة أن أكتب قصتين وأترجم قصتين أخريين عن الإيطالية، التي كنت قد بدأت في تعلمها مع الألمانية وقطعت فيها شوطًا معقولًا، وكان الأصدقاء — حين شعروا بميولي الاشتراكية المثالية التي يشاركني بعضهم فيها — قد كلفوني بأن أعرض عليهم نبذة عن تيارات الاشتراكية الطوباوية ومدنها الفاضلة ومشروعاتها الخيالية في أواخر القرن التاسع عشر، ثم كلفت نفسي فضلًا عن ذلك بأن أتحدث إليهم عن الوجه الإنساني الحر لماركس كما يتجلى في كتابات شبابه، لا سيما في مخطوطاته الاقتصادية الفلسفية التي كنت قد عكفت على الاطلاع عليها في إطار اهتمامي بمشكلة الاغتراب.
«كم كنا مغتربين في تلك السنين! كم حاولنا أن نؤكد انتماءنا للحرية وللإنسان العادي الذي كنا على يقين بأنه لا شعر بنا، وربما لن يحس أبدًا بوجودنا.»
بدأت على عجلٍ في ترتيب حقيبة ملابسي وكتبي، كل شيء في ذلك اليوم كان ملهوفًا ومتسرعًا، كأنما يتم مع آخر الأنفاس، رحت أجري بين حجرة مكتبي الصغيرة التي تكدست فيها الأوراق والمسودات وبين حجرة البوفيه بشمعدانها الأثري الجليل الجميل! التي كنا — شقيقي الأزهري وأنا — قد ملأنا رفوف الدولاب الثقيل فيها وأدراج البوفيه نفسه بكتبنا ومجلاتنا المتباينة المشارب والاتجاهات والاهتمامات، انهمكت في اختيار بعض الكتب وبعض أعداد الرسالة التي قدرت أنني ربما أحتاج للرجوع إليها سواء في كتابة مقالاتي أو ترسيخ ميولي القصصية والمسرحية والفلسفية أو لمجرد الرغبة في الاطلاع حبًّا في الاستمتاع بالقراءة لذاتها لا لأي غرض آخر. رحت أجري، و«بستان» دائم التعثر في رجليَّ، دائم الشكوى والاستغاثة والأنين بين الحجرتين، أحمل صفوفًا من الكتب وأقف لمراجعتها قبل وضعها في الحقيبة، وأستبقي منها أشياء وأستبعد أو أؤجل أشياء لوقت آخر أو فرصة أخرى، كنت لجهلي وغفلتي وغبائي، أعتقد بيقين أنهما حتمًا قادمان، نادتني أمي من على السطوح، وطلبت مني أن أحضر لأكل لقمة قبل سفري.
قلت لها: إنني مشغول وليس لي نفس، ألحَّت وكادت بحة صوتها أن تنقلب إلى البكاء، فجريت والتقطت كوب الشاي بالحليب مع ملعقتين من العسل وقطعة من القرص، التي كانت منهمكة منذ الفجر في إعدادها مع الكماج والفطير المشلتت، الذي كنت قد أوصيتها عليه قبل ذلك أكثر من مرة حبًّا وكرامة لأصدقائي وزملائي، لم أكن في حال تسمح لي بأن أنتبه للعناء الذي بذلته، من قبل أن أصحو أنا من النوم بساعات، في طلوع السلم إلى السطوح لاختيار بطة ودجاجة آخذهما معي مع الجبن والزبد والخبز الصابح والفطائر المتنوعة، بجانب كم لا بأس به من كعك العيد الذي كانت قد ادخرته لي، ذبحت ونظفت وحمرت، عجنت وخبزت وستفت كل شيء في العلب والأكياس، تصبب العرق على جبينها وسالت الدموع الكثيرة من عينيها، وهي تنفخ في نار الفرن والكانون وتعالج وابور الغاز، وتستحثه على التقاط الأنفاس، ولا بد أنها قد تحملت الألم الذي لا يطاق، وأرهقت القلب المرهق الذي أعلن عن احتجاجه قبل ذلك بشهور، عندما لاحظت ولاحظ الجميع تورم قدميها وساقيها، وضرورة الابتعاد عن الإجهاد والتزام الراحة بقدر الإمكان، لكن من أين تأتي الراحة في هذا البيت وهذا العالم، وهي وحدها ولا يسعفها أو يساعدها أحد سوى شغالة صغيرة وجارة عجوز، قد تود عليها من حين إلى حين لتساعدها في الخبيز أو الغسيل، وإن تكن على الدوام غير مضمونة وليس لها عهد ولا أمان، لم أفطن لشيء من هذا كله لأنني كنت مشغولًا عنها وعن كل شيء بأفكاري المتسلطة عليَّ والمحاصرة لي حصارًا أشد من ذلك الذي كان يضرب في العصور الوسيطة حول المدن التي يجتاحها الطاعون.
٥
واقتربت لحظة الفراق والرحيل، أتممت إعداد حقيبتي ووضعت فيها الملابس والكتب والأوراق الضرورية. ألقيت على حجرتي الصغيرة نظرة وداع وحملت الحقيبة، و«بستان» لا يزال يتعثر بين رجليَّ ولا يكف عن التساؤل والأنين، ووقفت قليلًا على بسطة السلم الخشبي المواجه للسطح المسلح، وأنا أنادي: أماه، أنا ماشي، سمعت صوتي وخرجت مزرودة الوجه منتفخة الوجنات من الحر والصهد، وهي تقول ضاحكة مستنكرة: ماشي؟ والسبت الذي أحضره، للعفاريت! أستغفر الله العظيم؟ قلت متعجبًا: سبت؟ أنا لم أطلب شيئًا يا أمي، هل تصورت أن مصر فيها مجاعة؟ قالت وهي تقترب والشغالة الصغيرة تسحب السبت على الأرض بعد أن تعذر عليها حمله: مجاعة إيه لا سمح الله؟ ربنا يعمر مصر دائمًا بأهلها، لكن أنت يا ابني وحداني، مَنْ يا ترى يغسل لك هدومك وينظف مطرحك ويسوي لقمتك؟ قلت مقهقهًا: لا تخافي على ابنك، أنا آكل وأشرب والمرتب كافٍ والحمد لله. سيدة بنت أختك ترسل لي شغالتها مرتين في الأسبوع، تنظف وتغسل وتطبخ وتضع الأكل في الثلاجة، المهم لا تقلقي أنت يا أمي. قالت بعد أن ثبتت نظرتها الصامتة الحزينة على وجهي: يا ترى يا ابني، هل سأعيش حتى أشيل ابنك أو بنتك على صدري؟ أغرقت في الضحك وأنا أقترب منها وأربت صدرها: وتشيلي أولادهم أيضًا، لكن بعد أن أنجح في الدكتوراه، صمتت قليلًا كأنها تحاول أن تفهم وسألت: وتصبح مثل الحكما؟ ألم تتخرج من الجامعة وتأخذ الشهادة الكبيرة؟! والدكتوراه لإيه يا ابني، قلت وأنا أربت ظهرها: دكتوراه في الآداب يا أمي، يعني دكتور في الجامعة لا في الطب، أنا وزملائي نعمل ليل مع نهار يا أمي، جيلنا والأجيال التي بعدنا لن تستريح حتى تتحقق الثورة الشاملة، فغرت فاها مندهشة وعقدت غضون وجهها وجبينها، كأنما تتذكر شيئًا تعرفه أو سمعت عنه، ثورة إيه يا ابني؟ والثورة التي حصلت من سنتين ثلاثة، قلت مؤكدًا كأنني أخطب في جمع غفير: ثورة العسكر منعت الثورة الحقيقية، الثورة الإنسانية الشاملة تبدأ من الجذور وتغير كل شيء، جيلنا والأجيال التي بعدنا لا بد أن نحقق هذه الثورة التي تخلصنا من الفقر والتخلف والمرض والتعاسة. قالت بعد أن هزت رأسها وتلفتت حولها في حيرة: ربنا يقدم ما فيه الخير يا ابني، ويصلح الأحوال ويوقف لك ولأصحابك أولاد الحلال يا قادر يا كريم، يالله يا بنتي ننزل السبت على تحت.
تقدمت من السبت الجاثم كالوحش الثقيل على الأرض، قلَّبت فيه قليلًا وأنا أقول محتجًّا: كل هذا للجائع المحروم؟ ماذا فيه بالضبط؟ وكيف أحمله وأوصله إلى البيت؟
قالت وهي ترفع السبت وأساعدها على وضعه على رأس سنية الصغيرة: لقمة تقوتك يا ابني يومين ثلاثة، فرخة وبطة وقرص وفطير لك ولأصحابك، توكل على الله يا ابني وأي عربة أجرة توصلك للبيت بالسلامة.
نزلت وراء الشغالة وأنا أنفخ من الغيظ، حقيبتي في يدي والوحش الذي لا أستطيع أن أنقله بيدٍ واحدة على دماغ الصغيرة، وبينما نحن ننزل درجات السلم إذا بدقٍّ شديد على الباب، فتحت وإذا بجارنا عطية الحلاق يهتف مستنكرًا: العربة تنتظرك من مدة والناس ركبها القلق، اترك لي السبت وسأضعه في الدواسة وفي مصر يوصلك التاكسي إلى البيت، يالله يا دكتور توكل على الله. ضربت لخمة شديدة ووجدتني في ربكة وحيرة بين السبت والحقيبة والشغالة والحلاق. وكنت أنت قد سرت حتى الباب المفتوح على الشارع، ووقفت وراء ضلفته المغلقة حتى لا تراك العيون في الطريق.
وتحركت خلف الصغيرة والحلاق وأنا أهتف: على مهلكم، أشوفك بعافية يا أمه. ثم وأنا أنزل سلالم العتبة الثلاثة، وبغير أن ألتفت ورائي أو أنتبه إلى ذراعيك المفتوحتين: مع السلامة، مع السلامة يا أمه.
٦
وكنت أنت يا حبيبتي متوارية عن الأنظار وراء الباب الموارب، آه! كيف غاب عني أن أجري نحوك وأضمك وتضميني بين ذراعيك، وأقبلك القبلة التي لم أكن أعرف أو أشعر بأنها ستكون هي القبلة الأخيرة؟
٧
ومرَّت يا حبيبتي أكثر من أربعة عقود من الزمان على ذلك اليوم الغريب، رحلت أنت بعده بشهور قليلة وصرت في قبرك الفقير كومة عظم ورماد، وهدم البيت وبُني مكانه بيت كبير من ثلاثة طوابق ومحلات على الشارعين، وسافرت أنا إلى الخارج و«تدكترت»، ورجعت وفي رأسي آلاف خلايا النحل التي لا تكف عن لسعي لأقرأ وأعلم وأكتب وأكتب، آلاف الصفحات كما أعرف اليوم، ربما كانت — باستثناءات نادرة — هباءً وهشيمًا أو كانت غرسًا في غير أرضه، وأتلفت إلى الوراء وأسأل نفسي: هل كان كل ما فعلته في تلك الأيام وفي سنين طوال بعدها، هل كان يا حبيبتي يساوي أن أحرمك وأحرم نفسي من قبلة لم يدُرْ بخاطري أبدًا أنها ستكون هي القبلة الأخيرة؟!