إيكاروس١
رأيتك يا «إيكاروس» عندما سقطت في الماء، رأيت رأسك الصغير كحجر بلا ملامح أو وجه فأر عجوز يُحتضَر، وسمعت — نعم سمعت — شهقة الموجة التي جاشت على سطح البحر الإيجي، بعد أن ارتطم جسدك الشاب بسطح العنصر الأبدي السيال. سألت نفسي إن كنت قد شهقت أيضًا أو تأوهت، وتفحصت لوحة الفنان لعلي أتبين دموعًا تسقط من عينيك اللتين بللهما الرذاذ المتناثر حولك، أو ألمح النورس الأبيض الصغير الذي اختلَّ توازنه لحظة، وارتجف جناحاه المرتبكان في الهواء ثم استأنف الطيران. هل اقترب منك ولامس جبهتك؟ هل شعر بمغامرتك الجسورة فطاف حولك وربما هبط على رأسك لكي يقبلك على طريقته، أو يهمس في أذنك بأغنية تمجد معجزتك، وتقول لك بلغة الطير المحب الغيور: أنت يا أول إنسان يطير، أنت يا أشجع الشجعان! وسيد النسور والنوارس والصقور والعصافير والعقبان! مرحبًا بك في مملكة السماء يا ابن الأرض والإنسان، لكن مَنْ يدري؟ ربما أدرك على نحوٍ غامض أنك لا تتحرك ولا تصدر عنك إشارة، ولا تحرك يدًا ولا رجلًا. وربما أنتبه إلى أنك بدأت تَهْوِي إلى القاع.
– كل هذا رأيته وسمعته في لوحة الفنان، تكلم، تكلم!
– وأكثر منه بكثير، وسأحكي لك بعد قليل.
– وهل ستحكي قصتي أنا وأبي مع السجن والسجَّان؟ هل عرفت شيئًا عن الطاغية الجبار الذي افترسه الجحود والنكران؟
– الأسطورة معروفة يا إيكاروس، وأبوك المهندس والفنان معروف ومشهور.
– والجزاء الذي لقيه على فنه العظيم؟ وحقد الجبار على أبي لأنه بنى المتاهة العجيبة؛ ليقيم فيها الثور المقدس الذي عشقته زوجته باسيفاي وهامت به إلى حد الجنون؟
– والبقرة الخشبية التي صنعها أبوك أو صنعتها تحفة فريدة زادته جنونًا على جنون، وخيط أريادنه.
– حتى هذا الخيط أشعل نيران غضبه، لم يستطع أبي أن يرد طلبًا لابنة الملكة التي أحبت بطل الأبطال «ثيسيوس»، ولم يطاوعها قلبها أن تتركه للثور المقدس المخبول، كان ثيسيوس قد صمم على الهبوط إليه في المتاهة ومعه سيفه ودرعه وعدته، وأرادت حبيبته أن يخرج حبيبها وهو بطل الأبطال، وحبيب أثينا وشعبها وملكها المتوج الذي ستجلس على يمينه، فهل كان لأبي أن يتركه للتيه في المتاهة؟ هل يستحق العقاب مَنْ أراد الإحسان؟
– وأمر بوضعكما في السجن.
– قل السجن المخيف كأنه جب أو كهف للمجرمين والمنفيين، لا تدري كم تعذبنا أنا وأبي، وكم تحملنا شماتة الجلادين وهم يمرون على الأبواب، وينظرون من خلال القضبان مكشرين أنيابهم كالذئاب، ومن العذاب والسجن الخانق جاءت الفكرة.
– فكرة الجناحين الشمعيين، أليس كذلك؟!
– لنحلق فوق السجون والمنافي، فوق الطغاة والجلادين، فوق الأرض والبشر أجمعين.
– ووقف أبوك يتابع تحليقك في الهواء وصعودك إلى السماء، كان يضع يده على جبهته ليذود عنها ضوء الشمس ولهيبها، لكنك لم تفطن لمغزى الإشارة والتحذير. اندفعت.
– طار هو إلى صقلية ليعيش في رعاية ملكها الذي سمع عن معجزاته في البناء، واندفعت أنا كما تقول كنسر فتيٍّ متهور، حلقت وحلقت أريد أن أصل إلى منبع الدفء والضوء، إلى مصدر الطاقة المهلكة المميتة، تحديت الشمس وتحدتني، وها أنت تراني مُمددًا فوق سطح الماء، أغرق فيه وأنحدر إلى الأعماق بعد أن صهرت الشمس جناحي، نعم أراك، ويتمزق قلبي حزنًا عليك وعلى العالم والناس، ولماذا العالم والناس؟ ألم يشعروا بصدمة السقوط فيأسوا عليَّ؟ ألم يتعاطفوا مع أول طائر بشري يسقط من عليائه كنسر متعب عجوز، خذله جناحاه فسقط في البحر الهادر، بدلًا من أن يموت على مهل في عشه المنيع على قمة الجبل؟
– لا شيء من ذلك يا «إيكاروس»، فالعالم حولك لم يتحرك، لم يشعر بك والناس في البر وفي البحر؟ والصيادون والملاحون والفلاحون، ليتك تشهد معي اللوحة يا إيكاروس، ليتك تعرف ما حدث وما كان من الممكن أن يحدث.
– قل لي ماذا حدث؟ وماذا فعلوا حين رأوني؟
– وهل رآك أحد حتى يفعل شيئًا؟
– هل شعر بك أحد حتى يدخل حزن أو غضب في قلب واحد؟ آه يا إيكاروس! لم يحدث شيء، لم يحدث شيء. تكلم، كيف استقبلوا موت الطائر الأول؟ كيف أحسوا به؟ لم يحس أحد بشيءٍ والعالم بقي على حاله، لا ينقصه شيء، لا يزعجه شيء.
– تكلم، صف ما تراه، ماذا أصف؟ وماذا أدع؟ إن اللوحة تنطق يا إيكاروس، تفصح عن صمت العالم، عن نسيانه، دع الصمت يتكلم، دع النسيان يتذكر، اشرح لي ما تراه فلم يبقَ من الوقت إلا القليل، نعم ما زلت أراك في جانب اللوحة ورأسك الأسود الصغير يرتجف، وساقاك البيضاوان تثيران دوامة صغيرة سرعان ما تهدأ وتلتئم، وذراعاك الهامدتان مع جناحي الشمع الممتدين المصهورين، قد رقدا كريشتين كبيرتين على سطح الماء بلا حراك، كل شيء يقول: إن المغامر الجسور يُحتضَر.
– أسرع إذًا ولا تتردد.
– لا أدري بمن أبدأ يا إيكاروس، ولا أريد أن أزيد ألمك!
– لا يؤلمني إلا أن تسكت وتتركني أموت.
– دون أن تعرف أن الذين مت من أجلهم لم يحسوا بك؟ إنهم أداروا ظهورهم لك؟ إنهم واصلوا حياتهم الرتيبة ولم يلتفتوا إليك.
– لا أصدق ما تقول، كيف؟ كيف؟
– ها هو الفلاح البارز في اللوحة يسير خلف محراثه وحصانه. هادئ هو وعاكف على عمله وكدحه اليومي، يمشي متأنيًا في سترته البيضاء النظيفة ذات الثنيات المرتبة الدقيقة، لا شيء في حركته يدل على أنه سمع شيئًا أو لاحظ أي شيء، والأرض المحروثة تحته بخطوطها البارزة المتوازية، تبدو مستقرة لم تشعر بزلزال سقوطك في الماء، ولم تهتز فيها ذرة تراب واحدة، والفلاح المُجِدُّ يواصل عمله ويحلم بالحساء الدافئ مع العشاء، والفراش الدافئ بعد السهر مع الزوجة والأبناء.
– انظر أيضًا، أليس في البحر أو على الشاطئ صياد؟ ماذا فعل عندما رآني؟!
– بقي على الصخرة التي يجلس عليها ويمد سنارته في الماء، ربما ارتعشت السنارة قليلًا في يده، بعد أن غمرتها الأمواج المنداحة من موقع الصدمة والسقوط، وربما تأوَّه الطائر الصغير الواقف على غصن الشجرة القريبة، وهو يتربص بالسنارة والصياد وينتظر أن تفلت من الصيد الثمين سمكة ينقض عليها، لكن الصياد في مكانه لا يريم، لا يبدو عليه أنه يرى شيئًا أو يشعر بشيء.
– والسفن والمراكب العابرة، ألم يتوقف أحدها ليسأل أو ينظر أو يمد طوق النجاة للغريق؟
– هي سفينة واحدة تتجلَّى أشرعتها البيضاء التي تنفخها الريح، ربما أحسسنا من الجبال الممتدة والمتشابكة، أن هناك مَنْ يشدها ويحركها ليمتلئ الشراع بالهواء، وتنطلق في رحلتها البحرية إلى ميناء بعيد أو قريب، لكن الملاحين لا يظهرون على ظهر السفينة ولا في الزوايا والأركان.
– وماذا تنتظر من ملَّاحين تتشابك أحلامهم كما تتشابك الحبال في أيديهم؟ إنهم يحلمون بالميناء الذي سيصلون إليه، والحانات التي سيسرعون إليها ليعبوا النبيذ والبيرة والروم، والبنات الصغيرات اللاتي سيرقصون معهن، وربما يزفون إليهن في عرس الليلة الواحدة أو اليوم الواحد، وفي الزواج المؤجل للزيارة القادمة. أعرف شأن الملاحين وأعذرهم، لكن ماذا فعل الرعاة فوق التلال المشرفة على البحر؟ هل نظروا فتعجبوا وذهلوا؟ وهل ارتبك قطيع الأغنام وتوقف عن الثغاء والتهام العشب؟
– الراعي العجوز أو الشاب ظاهر في الصورة وسط قطيعه المتناثر من حوله. إنه يستند إلى عصاه ويتابع الشياه المنكبة على الكلأ أو الخراف اللاعبة والمتناطحة في سلام، وهو يرفع رأسه إلى أعلى، وربما يكون قد بلغ أذنيه صوت ارتطامك بالماء أو صوت انطفاء الجذوة المشتعلة عند سقوط الجناحين الشمعيين في لجة اليم المتدفق الجياش، لكنه لم يفعل أكثر من ذلك يا إيكاروس، ورأسه التي ارتفعت قليلًا سرعان ما أطرقت إلى الأرض، وراحت تتابع أفراد القطيع الطيب الأليف. والناس، الناس في القرية وفي الكنيسة المجاورة، في الشوارع وفي النوافذ المطلة على البحر، أمام الأبواب وفوق الأسطح وعلى متون الخيل والحمير.
– الناس هم الناس يا إيكاروس، يتابعون أيامهم الرتيبة المملة دون أن يحسوا بالرتابة والملل، إنهم يعملون، ويأكلون، وينظرون من النوافذ، ويتكلمون ويسكتون وينامون ويتكاثرون، دون أن يتوقفوا لحظة ليسألوا أنفسهم: إلى متى؟ وماذا بعد؟ ربة البيت تواصل عملها الذي لا ينتهي، ولم يبلغ إلى سمعها شيء.
– والقسيس في الكنيسة الصغيرة التي يظللها شجر السرو وأشجار الصفصاف، يواصل تراتيله من الكتاب بلا توقف.
– هل كان يؤدي مراسيم الزواج أو طقوس الدفن أو شعائر التعميد أو الميلاد؟ وحتى لو كان قد سمع شيئًا فهل كان سيوقف تلاوته، ويمشي إلى الباب ليطل على الخارج؟
لا يا إيكاروس، الكل مشغول ولا أحد لديه الوقت.
– وأنا الذي طرتُ في السماء ليَتعلَّموا مني الطيران، حلَّقتُ بجناحَيَّ فوق كل السجون لكي يَسخروا من كل السجون، أردتُ أن أثبت لهم أن الإنسان يُمكِن أن يَتحوَّل إلى نَسر أو صقر، أو حتى عصفور يعلو فوق الطُّغاة والمعذِّبين والجلَّادين، يُبدِّل أرضًا بأرض، وسماءً بسماء، ويُرفرِف فوق القرى والمدن والغابات، فوق الأنهار والبحيرات والسهول والوديان والجبال والهضاب والتلال؛ ليحط في المكان الذي لم تطأه من قبل قدمان، ويهبط على الأرض التي لم ترجها أقدام العتاة والمتجبرين.
– وها أنت تسقط كالجذوة المتفحمة في ماء البحر الذي سيُسمَّى باسمك يا إيكاروس، وسيعلو ذكرك في أمكنة أخرى وبين أناس آخرين، لا تبتئس لمصيرك ولا تكترث بمَنْ لم يكترثوا بك، إن كانت مغامرتي قد فشلت فلن تفشل من بعدي كل المغامرات.
– إذا كنت قد سقطت كورقة شجر منزوعة في مهب الريح والعواصف، فقد طرت فوق البشر والأشياء والكلمات، والمعارك الكبيرة والصغيرة، والبيوت والقرى والمدن والأبراج والحصون، تحديت الملك الطاغية وسخرت من سجونه، لكنني لم أقوَ على تحدي العقرب الأزلية، فنفثت السم في عروقي، وصهرت شمع جناحي وضحكت من غروري وجنوني، لكنني أموت غير نادم على شيء، سيأتي بعدي مَنْ يحلق أبعد مما حلقت، مَنْ يغامر ويخاطر أروع مما غامرت وخاطرت.
– لم أكن أتصور أن المغامر الأول حكيم أيضًا، ولم أكن أتوقع أن تتحول مرارة السقوط إلى شهد ورحيق للآتين، لكني أتجرأ وأسألك سؤالي الأخير.
– أسرع فالطائر يسلم أنفاسه ويستعد للتحليق في دوامة القاع السحيق.
– التبس عليَّ الأمر ولا أدري هل يجدي القول أو المكتوب، واحترت فلا أعرف هل أسميك أشجع الشجعان، أم أتذكر جفاء العالم والبشر، فأناديك يا أغبى الأغبياء يا إيكاروس!
إيكاروس، في الأسطورة الإغريقية، هو ابن ديدالوس الذي بنى المتاهة الشهيرة، التي كان يسكنها الثور الخرافي الشهير أيضًا مينو تاوروس، لمينوس ملك جزيرة كريت، ولما أحس الأب بأن الملك قد بيَّت النية على قتله؛ لكيلا يصنع متاهة أخرى في مثل روعتها لأخذ غيره، صنع جناحين من الشمع وطار مع ابنه هربًا من الملك الطاغية. حتى إذا اقتربا من الشمس صهرت حرارتها الشمع وسقط إيكاروس هاويًا في البحر الذي سُمي بعد ذلك على اسمه تخليدًا لذكرى أول إنسان يغامر بالطيران فوق الأرض وما عليها. وفي هذه القصة تنويعات على الأسطورة وعلى لوحة «بروجيل الكبير» عن سقطة إيكاروس.