مولانا السلطان
طردوني من المسرح، لم يكتفوا بطردي، شتموني ولعنوا وجودي، لم يكتفوا بهذا أيضًا، صفعوني على وجهي وعيني وركلوني بالأقدام، قالوا لي: إياك أن تضع رجلك على عتبة المسرح، إياك وإلَّا قطعنا رأسك ورميناه للكلاب.
أنكروا العيش والملح الذي أكلناه معًا عشرين عامًا، في عز الليل والناس نيام كسروا عظامي وأغلقوا ورائي الباب، لم يشفع لي الجري والتعب وسهر الليالي والبهدلة في بلاد الله، حتى الجمهور الذي أفنيت عمري في خدمته لم يشعر بحالي، فقد كنَّا كما قلت في عز الليل، بعد أن انصرف الناس وأسدلت الستار.
هل أحكي لكم الحكاية من أولها؟
كان ذلك منذ عشرين عامًا أو يزيد، حين انضممت إلى فرقة «الفنون العالمية»، أقول انضممت وأعترف بما في هذا القول من مبالغة، فلم أكن أعرف شيئًا عن التمثيل، ولا جرَّبت الوقوف على المسرح، كنت أيامها أبحث عن عمل، أي عمل، فبعد أن سقطت في الابتدائية أربع مرات، يئس مني أبي وقال: يحرم عليك بيتي حتى تبحث لك عن عمل، جرَّبت ألف صنعة وصنعة، تسكعت في الشوارع، نمت في الحدائق والجوامع، اشتغلت صبي نجار وسمكريًّا وشيالًا في السكة الحديد، وعتَّالًا بالأجرة وملاحظ أنفار، وفشلت فيها جميعًا، عشت مع النشالين والبلطجية والقوَّادين، ولم أفلح في أن أكون نشَّالًا أو بطلجيًّا أو قوَّادًا، حاولت أن أنتحر ثلاث مرات — محاولات غير جادة بالطبع — بالزرنيخ والأسبرين وصبغة اليود، ولكنهم كانوا ينقذونني في كل مرة، وحين رأيت الزفة تسير في مولد سيدي إبراهيم، معلنة بالطبل والمزمار والصياح عن فرقة الفنون العالمية، قررت أن أكون ممثلًا، مشيت معهم في الزفة، زعقت بأعلى صوتي وتشقلبت كالقرود، وملأت وجهي بالدقيق كالبهلوانات فأحبوني، وذهبت معهم إلى مدير الفرقة وقلت له: أريد أن أمثل معكم، ابتسم حين رآني أمامه ثم مسح على وجهه وقال: الإرادة لا تهم، المهم أن تكون ممثلًا، لم أفهم فصحت من جديد: أريد أن أمثل معكم! قال بعد أن قطب جبينه: المهم هو الموهبة، ماذا تستطيع أن تمثل؟ قلت: أمثل دور رجل يموت (كنت قد رأيت الموت بعيني أكثر من مرة، وجرَّبت أثر السكاكين في بطني عندما كنت أحاول الانتحار)، قال ضاحكًا: طيب فرجنا على شطارتك. فارتميت على الأرض وبدأت أتأوه وأئن، وأمد ذراعي إلى الأمام والخلف، وأرسم على وجهي كل ما أستطيع من علامات الألم، ويظهر أنني كنت ساذجًا في التمثيل؛ إذ سمعت المدير يقول: هل تموت أم تتثاءب؟ قم رح لحالك! تشنجت وتأوهت في هذه المرة تأوهًا يقطع القلوب، وقلت وأنا أبكي: في عرضك يا سعادة المدير، جربوني ولو ليلة واحدة، قال غاضبًا: ليس في روايتنا أحدٌ يموت، إلا إذا وافقت على أن تقطع رأسك كل ليلة، صرخت: تقطعوها أو لا تقطعوها، أي دور يا سعادة المدير.
ضحكوا عليَّ وضربوني على قفاي، وحين جلسوا للعشاء عزموا عليَّ واعتبروني واحدًا منهم، ورفع المدير صوته وقال: سنعملك حاجبًا على باب السلطان، كلَّما رأيته داخلًا المسرح هتفت بأعلى صوتك: مولانا السلطان. فهتفت بصوتي الجَهْوَرِي: حاضر يا مولانا السلطان! قال في غضبٍ وسط ضحك الممثلين الذين غرغرت عيونهم بالدموع: لا، من غير حاضر، مولانا السلطان فقط، تقولها كل ليلة عشر مرات، وبالنهار تمشي مع زفة الإعلانات وتجذب الجمهور للرواية، ولا مانع عندي أن تهتف بدورك ألف مرة، ليلتها اتفقنا وكان ما كان، عرفت أن الرواية اسمها «هارون الرشيد أو نكبة البرامكة»، رواية من ثلاثة فصول يمكن على حسب الأحوال أن تصبح اثنين أو أربعة أو حتى خمسة، ومنظر واحد لا يتغير، قاعة العرض يمثلها كرسي فخم، هو كل ما تملكه الفرقة، ووراءه منظر بيوت وقباب، المفروض أنها مدينة بغداد، وسجادة دابت ورقعت ألف مرة من كثرة ما مشى عليها الزمان، وسيف قديم لو دقق الجمهور النظر فيه لرأى الصدأ الذي يملؤه، يمسكه العبد مسرور ويخطر به على المسرح، ويقطع رقبة جعفر ويقدمها لهارون الرشيد في آخر منظر على صينيةٍ من النحاس، وصندوق من الخشب رُسم عليه سَبع يمسك بيده سيفًا، يمتلئ بعباءات الممثلين وطراطيرهم وبلغهم ولحاهم المستعارة أيضًا، ننقله معنا من بلدٍ إلى بلد، ومن مولدٍ إلى مولد يجلس عليه الوزراء والعظماء بين يدي السلطان، وينام عليه السلطان نفسه بعد أن يسدل الستار!
عشرين سنة قضيتها معهم، بالطبع ليس من الواجب أن أتحدَّث عنهم بضمير الغائب، فقد عرفنا بعضنا وأكلنا العيش والملح مع بعضنا، ودخنا من الصعيد الجواني لوجه بحري على رِجلٍ واحدة، في عز الحر وفي عز البرد، في عربات السبنسة وعلى العربات الكارو، في الموالد، وفي الأفراح، في الجوع، وفي العطش، بالليل وبالنهار. علي السبع هو مدير الفرقة وصاحبها ومؤلف الرواية، وموزع التذاكر ومؤدب الجمهور إذا لزم الأمر. كان جزَّارًا في شبابه وهَوِيَ التمثيل، من كثرة ما شاف في السيما وسمع في الراديو وحفظ من عنترة وأبو زيد، الفن حكم عليه أن يرمي السكين ويمسك صولجان الخلافة، يترك رقاب العجول والخرفان ويأمر بقطع رقاب البرامكة، ومسرور السيَّاف كان بوَّابًا من النوبة وتاب، زهق من القعدة طول النهار لا شغلة ولا مشغلة، قامت في مخه يمثل ويقف على المسرح، لا يوسف وهبي ولا علي الكسار في زمانه، جاره أبو السباع قال له تقعد في الشمس، ولا تقطع الرقاب؟ قال له: أقطع الرقاب، قال له: طيب شف لك سيف وتعالَ معي. وجعفر الزبَّال — واسمه الحقيقي جعفر — حكم عليه الزمان أن ينضم للفرقة، ويقدم رأسه في آخر كل ليلة لمسرور السيَّاف، إنه يصرخ طول الرواية ويسترحم، ويثبت بألف دليل ودليل أنه بريء، ولكنه يقدم رأسه في آخر الليل، لا يقدمها بنفسه بالطبع، بل يقدمها مسرور السيَّاف على صينية النحاس، وهو ينحني أمام كرسي العرش ويقول: رأس الخائن جعفر يا مولانا السلطان!
أما أنا فأقف على المسرح طول الرواية، ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، على حسب الأحوال كما قلت، وعلى حسب عدد الجمهور، ورواج الإيراد. يمكنكم أن تقولوا: إنني في الحقيقة لم أكن أصنع شيئًا سوى الوقوف على رجلي، والصياح بملء صوتي الذي يعرفه الناس من أقصى الصعيد إلى أقصى وجه بحري: مولانا السلطان! صحت بها وأنا شابٌّ في العشرين وصحتها وأنا في الأربعين، في المدينة وفي القرية، في الأفراح والموالد، عندما كنت صحيحًا وعندما بدأ المرض يدب إلى جسدي، كانت تخرج قويةً من حلقي، لا بل من صدري كله، تزلزل أرجاء المسرح الخشبي الصغير، وترج الصالة، وتهز القلوب، يظهر بعدها السلطان في أبهته وجلاله، فيجلس على كرسي العرش، ويستمع إلى الوزراء والعلماء، ويداعب زبيدة وقوت القلوب، ويفرح بغناء الجواري أو يغضب حين يسمع ما يرويه له الوزراء ورجال البلاط عن خيانة جعفر وفتنه، يظهر على المسرح فيستقبله صوتي الرنان: مولانا السلطان! كلمتان اثنتان، لم يكن لي أن أزيد عليهما كلمة واحدة، فما كان دوري — دور الحاجب — ليسمح بأكثر منهما، ومع أنني كنت أبذل كل ما أستطيع في القيام بدوري على خير وجه، فأتقنت مع الزمن تأدية الحركات التي تلازم هاتين الكلمتين، من مد الذراعين على آخرهما، وتطويح الرأس إلى الخلف، وحشر كل معاني الرهبة والإجلال في نبرات صوتي الجهوري، فلم يكن يزيد عن قولي: مولانا السلطان. ومع أنني كنت أساعد في تجهيز المسرح قبل بدء العرض، وأحمل الديكور الوحيد إلى مكانه في خلفية المسرح، في الواجهة وعلى اليمين، وأستعجل الممثلين بل أساعدهم في بعض الأحيان على ارتداء ملابسهم، وربما أيضًا على حفظ أدوارهم، ومع أنني كنت أنظم زفة الموكب الذي يقوم بالإعلان للرواية في الشوارع، وأشارك فيها بالرقص والغناء والهياج والشقلبة إن اقتضى الأمر، وأبتكر في ذلك كله ابتكارًا يشهد به العدو قبل الصديق، مع أنني كنت أفعل ذلك فلم يكن يسمح لي بأن أزيد على هاتين الكلمتين كلمة واحدة، وتستطيعون بالطبع أن تتصوروا مدى حزني وضيق صدري على مر الأيام، صحيح أنني كنت سعيدًا بذلك الدور متمتعًا بالوقوف على المسرح كل ليلة أطول مما يقف أي ممثل آخر، مغتبطًا بلقب «ممثل» الذي يطلقه عليَّ زملائي في العمل، بل أفراد الجمهور الذين كان يحدث أن ألتقي بهم في الشوارع أو على المقاهي ويتذكرونني، وصحيح أيضًا أن عظمة الدور لا تُقاس بعدد الكلمات التي يقولها الممثل على خشبة المسرح، كما أن أهميته لا تحسب بحساب الحركات التي يؤدِّيها عليه، إلا أنني مع ذلك كنت قد بدأت أستشعر شيئًا كالحزن أو خيبة الأمل يزحف على قلبي كل ليلة، بل أصارحكم بأنني كنت قد بدأت أسأل نفسي الأسئلة التي لا يجوز أن تخطر على بال ممثل حدد دوره من قبل: إلى متى أظل على هذا الحال؟ لماذا لا يتيح لي أبو السباع دورًا أكبر؟ وإذا كان من المستحيل أن أقوم بدور جعفر أو مسرور أو أحد الوزراء أو العلماء — بالطبع لم يكن يدور بخاطري أن أقوم بدور السلطان نفسه، فذلك هو رابع المستحيلات! — فلماذا لا يسمح لي ببضع عبارات أضيفها إلى الكلمتين اللتين عهد إليَّ بهما؟ لماذا لا يضاف مثلًا أحد المناظر — حتى ولو كانت ثانوية ولا تؤثر على مجرى الرواية أدنى تأثير — يتاح لي فيها أن أظهر براعتي وأثبت أنني أستطيع أن أضيف شيئًا إلى دوري الذي لا شك في أهميته، ولكن لا شك أيضًا في ضآلته؟
بمرور الأيام رحت أُفكِّر في ذلك تفكيرًا جِديًّا، بدأت أعلن سخطي هنا وهناك، في صورة ملاحظات تافهة في أول الأمر، أخذت تتطور بعد ذلك إلى ما يشبه التمرد والعصيان، كنت أغتنم الفرص لأختلي بجعفر ومسرور، كلٍّ على حدة، بعد أن ينتهي التمثيل ونتهيأ للنوم، أو نتجول في الشوارع، أو نشرب الجوزة في أحد المقاهي، كنت أتوسط عندهما لكي يشفعا لي عند أبو السباع، وأزن عليهما بأن المسألة طالت أكثر مما ينبغي، وأن على السلطان أن يسمح لحاجبه ولو مرة واحدة في حياته، ولو في عرضٍ صغير في قريةٍ صغيرة منسية، بأن يُظهِر براعته في التمثيل، ويقول جملةً أو جملتين من نفسه، وقد استطعت مع الزمن أن أجذبهما إلى صفي، وأضمن عطفهما على قضيتي، التي أصارحكم بأنها كانت في ذلك الحين أشبه بما يسمونه في هذه الأيام بقضية حياة أو موت. كانت المشكلة الوحيدة عندهما هي ماذا عسى أن أضيف إلى ندائي المشهور، فأنا لست مؤلِّفًا ولا يمكن أن أدعي ذلك، ولا بد في مثل هذه المشكلة أن يتولاها بنفسه مدير الفرقة، وصاحب المسرح والمسئول الأول والأخير عن الرواية، فمن غير الجائز بالنسبة لفرقةٍ تحترم نفسها وتحترم جمهورها، أن يقف أحد الممثلين ويرتجل كلامًا أي كلام على خشبة المسرح؛ إذ ماذا يفعل أبو السباع يا ترى؟ وماذا يكون وقع هذه الكلمات عليه، وحتى إذا فرضنا أنه لم يغضب ولم يثر ثورته المألوفة، فماذا يكون موقفنا أمام الجمهور؟ وإذا حدث وتلجلجت أو اختلط الأمر على السلطان، ولم يعرف بماذا يرد عليَّ، فماذا تكون الحال يا ترى؟ مشاكل عويصة بالطبع، حاولت أن ألتمس لها الحلول من كل طريق، ويظهر أن الإنسان مخلوقٌ لا ييأس بطبعه — فمجرد أنه يتنفس دليل على أنه لم ييأس بعدُ تمامًا! — وأنه في بعض الأحيان يصل به الطيش إلى حد أن يخاطر بكل شيء في سبيل نزوة طارئة، يخيَّل إليه أنها الشعرة التي تفصل بين وجوده وعدمه، المهم أنني كنت قد يئست من أن أفاتح أبو السباع بنفسي في ذلك الأمر، كتمت في نفسي وقلت: أنتهز فرصة مناسبة وألقي بقنبلتي على المسرح، فإما أحرقتني ومن معي، وإما تطايرت معها في السماء وأصبحت أعظم ممثل في فرقة الفنون العالمية.
وقضيت السنوات الطويلة أفكر في مسألتي، كان لا بد أن أضيف شيئًا إلى مولانا السلطان، جملة أو جملتين أو عدة سطور، كانت المسألة في نظري قد انتهت وتقرر الأمر، لا بد من أن أقول شيئًا وليكن ما يكون! وجاءت مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان، ماذا ستكون هذه العبارة؟ وهل تناسب الجو الذي ستقال فيه أم ستكون شاذة عليه؟ هل تحوز قبولًا لدى السلطان هارون أم سينفر منها وبغضب، وربما يهجم عليَّ ويقبض على رقبتي؟ وإذا أغضبته فهل تحوز رضا الجمهور؟ إنها إن فعلت فلن يهمني بالطبع أن يسخط السلطان أو يرفض، فإسعاد الجمهور، كما يعلم كل ممثل على ظهر الأرض، هو هدفنا الأول والأخير، أم يا ترى سيتلجلج السلطان وينسى الدور الذي حفظه، ويرتبك ويشعر الجميع بارتباكه؟ ورأيت بعد طول تفكير أنه لا بد من استبعاد هذا الاحتمال الأخير، فالملقن سيبادر بغير شك إلى مساعدته، ومن حسن الحظ أن الملقن دائمًا ما يكون هناك، إذن فلأتوكل على الله وليكن ما يكون!
وجاءت مشكلةٌ أخرى: ماذا سأقول؟ لا يمكن بالطبع أن أرتِّب دورًا طويلًا يستلزم الأخذ والرد، كما يستلزم استعدادًا سابقًا ومرانًا طويلًا عليه، ثم إنني لا أستطيع أن أرتب هذا الدور من طرفٍ واحد، وإلا لزم أن يخرج السلطان على الفور من المسرح ويتركني لأحدث نفسي، إذن فلا بد أن تكون عبارة أو عدة عبارات أضيفها إلى كلمتيَّ القديمتين، ولكن أي عبارة؟ هل أقول مثلًا: م.
– مولاي السلطان (لاحظ أنني قلت مولاي لا مولانا واعتبرت المسألة بذلك شخصية إلى أبعد حد!) لماذا حكمت عليَّ بهذا؟ — عبارة سخيفة بغير شك، فهو أولًا لم يحكم عليَّ بشيء؛ لأنني أنا الذي سعيت إلى الالتحاق بالفرقة، وإن لم أكن بالطبع قد سعيت إلى هذا الدور بالذات، ثم بماذا يستطيع أن يرد عليَّ؟ وهل من المعقول — وليكن معلومًا أن كل جهودي ليس فيها أي اعتراض على هذا الدور — أن يتحدث الحاجب إلى سيده وسلطانه، ويوجه إليه مثل هذا السؤال؟ أم يخاطبه — وسيفاجأ بالطبع بذلك في كل الأحوال — قائلًا: مولاي السلطان، هل تسمحون لي بأن أقول لكم.
ولكن ماذا أقول له؟ هنا تأتي المشكلة.
إن كل ما سمح لي بقوله هو: مولانا السلطان.
أقولها بصوتي الجهوري، وأمد فيها وأجوِّد كما أشاء، ولكنها تظل محايدة، بعيدة عن كل علاقةٍ شخصية، ثابتة ورزينة كحكمٍ يُتلى في المحكمة، ثم ماذا عندي لأقوله له ستقولون أشكو له حالي، ولكن لماذا أشكو الآن بعد هذا العمر الطويل؟
وهل يستطيع هو نفسه — وهو في نهاية الأمر ممثل يقف على خشبة المسرح كل ليلة كما أقف — أن يغير من الأمر شيئًا؟
قضيت السنين كما قلت أفكر فيما سأقوله لأبو السباع، لا بل فيما سأفاجئه به، في ليلةٍ رهيبة كنت أعلم تمامًا أنها ربما كانت آخر ليلة على المسرح، وربما كانت بداية مجد جديد يكتب لي فيها الحظ من السماء، كنت قد بدأت أشعر بدبيب الشيخوخة في جسدي، بالشعرات البيض تلمع واحدةً بعد الأخرى في رأسي، بالتعب يزحف على رُوحي، ويظهر أن هذا الشعور، إلى جانب النزوة الطائشة التي كانت قد تحكمت فيَّ، والتي حكيت لكم عنها من قبل، هما اللذان أوعزا إليَّ أن أنتهي إلى عبارتي التي فكرت فيها طويلًا، حتى كدت أنا نفسي أصبح حرفًا أو نقطةً فيها.
(ومن حسن الحظ أن مسرور السيَّاف وجعفر بل السلطان نفسه، لم يلاحظوا في السنوات الأخيرة أنني كنت أُكثِر من الحديث مع نفسي، وأنني كنت أقف على المسرح شبه غائب عن الوعي، وأن صيحتي المألوفة كانت تأتي قبل موعدها أو بعده، بل إنني نسيت عدة مرات أن أهتف بها بالمرة.)
المهم أنني وقفت أخيرًا على المسرح، وجاءت اللحظة التي أقول فيها كلمتي الخطيرة، كان ذلك ليلة الأمس كما قلت لكم، ولست في حاجةٍ إلى أن أقول إنني على الرغم من تعبي ودقات قلبي المتلاحقة، قد جمعت كل شجاعتي على طرف لساني، وقذفت بها مرةً واحدة في وجهه، بغير ضعفٍ ولا صراخ ولا رغبة ظاهرة أو خفية في البكاء أو العفو والاستغفار، لم يكد السلطان يجلس على كرسي العرش في أول الرواية، حتى تركت مكاني المعتاد على الباب الأيمن من المسرح ووقفت أمامه، قلت: مولاي السلطان!
ورفع أبو السباع رأسه الضخم الأصلع إليَّ، ولاحت على شفتَيه الجافتين شبه ابتسامة، وفي عينيه الراضيتين شبه استغراب، فتقدمت أكثر وألقيت بنفسي على ركبتي، وأنا أهتف: مولاي السلطان! هل تسمحون لي بأن أقبل قدميكم؟!
ونهض السلطان واقفًا، في جلالٍ يعرفه الجميع عنه انحنى ووضع يديه على كتفي (يظهر أنني كنت قد نسيت نفسي!) وقال: «قم يا بني، قم وخذ جزاءك من عبيدي.» وأشار بإصبعه الذي يلمع فيه خاتم ذهبي مرصع بفصٍّ من الفيروز إلى مسرور السيَّاف، فأسرع وجذبني معه إلى الخارج، لا أدري إن كان الجمهور قد هاج وثار أم ضحك وزاط، أم لبث هادئًا ولم يلاحظ شيئًا (فمن حسن الحظ أن الجمهور في كل ليلة غالبًا ما يكون غيره في الليلة السابقة). المهم أنني كنت أنتظر جزائي في الخارج.
بعد أن قلت كلمتي نلت جزءًا منه، والباقي بعد أن انتهت الرواية، ألم أقل لكم: إنهم تجمعوا حولي وصفعوني على وجهي وركلوني بالأقدام؟ ألم أقل لكم إنهم طردوني من المسرح؟!