توجيه الرأي العام توجيهًا علميًّا
إن توجيه الرأي العام نحو التفكير الصحيح المنظم — وهو ما يحققه التوجيه العلمي — أمر له صعوبته وطريق له وُعورته، والبلاد المتقدمة في الحضارة يُوجَّه فيها الرأي العام توجيهًا علميًّا بطرائق مختلفة، ففي هذه البلاد توجد صحافة علمية أي صحافة تتخصص في الناحية العلمية للتفكير الاجتماعي، وتوجد طبعًا صحافة علمية فنية تتخصص في العلم ذاته، وتوجد أيضًا إلى جانبها الصحافة العلمية التي تتصل بالشئون العامة للمجتمع. وفيما خلا الصحافة العلمية نجد في تلك البلاد أن الصحافة اليومية والأسبوعية العادية تُعنى عناية كبيرة بشئون العلم فتُخصص كلُّ جريدة وكل مجلة قسطًا من صفحاتها للشئون العلمية، والصحافةُ قوةٌ لا يُستهان بها في توجيه الرأي العام.
وفي البلاد المتحضرة يُوجَّه الرأي العام توجيهًا علميًّا عن طريق الإذاعة اللاسلكية؛ إذ تشمل برامج الإذاعة في كل يوم أحاديث تُقرب العلم إلى الجمهور وتُعوده على معالجة شئونه اليومية بالروح العلمية.
وفي البلاد المتحضرة توجد أيضًا اجتماعات ومؤتمرات تُعقد من آنٍ لآخر لغرض المذاكرة والمحادثة والمناظرة فيما يهتم له الناس من أمور العلم، فإذا انعقدت هذه الاجتماعات كان لانعقادها دويٌّ في المحافل والمجتمعات، وخرجت الصحف والجرائد بأخبارها، وتحدث المذيعون بالراديو فشرحوا للجمهور أغراضها ونتائجها.
وأخيرًا وليس آخرًا، توجد بالبلاد المتحضرة محاضرات تُتلى وتُذاع بالراديو وتُلخَّص وتُنشر في الصحف العلمية والصحف العامة، ففي إنجلترا توجد الجمعية البريطانية لتقدم العلوم، وقد تأسست هذه الجمعية منذ أكثر من قرن، وهي تجتمع كل مدة في مدينة من مدن إنجلترا أو إسكتلندا أو ويلز أو في مدينة من مدن الإمبراطورية البريطانية، فاجتمعت في كندا وفي الهند وفي جنوب إفريقيا وفي أستراليا، وكلما اجتمعت هذه الجمعية سواء أكان اجتماعها في لندن أو في كلكتا أو في ملبورن اهتمت الصحافة لا في البلد التي تجتمع فيها فحسب ولكن في الإمبراطورية البريطانية بأسرها، فخَصصت الجرائد الكبرى صفحاتٍ لهذا الاجتماع وروتْ ما قاله العلماء ولخصته وعلَّقت عليه، وكذلك اهتمت محطات الإذاعة فجعلت أخبار هذا الاجتماع العلمي في مقدمة ما تتحدث عنه وترويه وتعلق عليه من الأنباء، فاجتماع هذه الجمعية العلمية حَدَثٌ من الأحداث تتحرك له الجرائد ويهتز له الرأي العام.
ويشبه الجمعيةَ البريطانية لتقدُّم العلوم الجمعيةُ الأمريكية لتقدم العلوم، تشبهها في الاسم وفي الغرض وفي الوسائل، فتجتمع الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم كلَّ عام في بلد من البلاد الأمريكية حيث يلقي العلماء أبحاثهم وآرائهم، فتهتم الصحافة الأمريكية ويتحرك الرأي العام وتهتز أمواج الأثير بأخبار الاجتماع.
ومنذ نحو ١٥ سنة اتجه تفكير بعض المشتغلين والمهتمين بالعلوم في مصر، اتجه تفكيرنا إلى إنشاء جمعية تشبه الجمعية البريطانية والجمعية الأمريكية لتقدم العلوم، فقمنا بإنشاء هيئة سميناها المجتمع المصري للثقافة العلمية، وعقدت هذه اجتماعات سنوية ألقيت فيها محاضرات وآراء علمية باللغة العربية ونُشرت في كتاب سنوي. ولعلني لا أكون مغاليًا إذا قلتُ إن مجموعة هذه الكتب السنوية، وهي نحو خمسة عشر كتابًا، إن هذه المجموعة تكاد تكون فريدة في بابها باللغة العربية لِمَا احتوت عليه من المباحث والآراء العلمية ذات القيمة الحقيقية، ومع أن هذه الجمعية ثابرت على عقد اجتماعاتها السنوية فبقيت تؤدي رسالتها عامًا بعد عام، ومع أن المحاضرات والمباحث التي أُلقيت في هذه الاجتماعات السنوية كانت قيِّمة كما ذكرتُ بل وشائقة أيضًا لارتباطها بما يهتم له الناس في مصر من مشروعات عمرانية كالري والزراعة والصناعة وغيرها … مع هذا كله فإن الفارق كان عظيمًا وملموسًا بين اجتماعات جمعيتنا واجتماع الجمعية البريطانية أو الجمعية الأمريكية، فلا الصحافة خصصت أعمدتها لتلخيص المحاضرات، ولا الإذاعة أدخلتها في برامجها وأنبائها، مما أدى إلى قلة إقبال الناس على حضور الاجتماع والاستماع إلى المحاضرات.
وقد اتجه الرأي أخيرًا في هذه الجمعية إلى عقد اجتماعاتها في بعض عواصم البلاد العربية لتكون بمثابة مؤتمرات علمية تعمل على تنوير الرأي العام في العالم العربي وإيجاد روابط وثيقة بين العلم وبين المجتمعات العربية.
وخلاصةُ ما سبق أنه إذا كنا نريد لمجتمعنا قوة وتقدمًا، فإن أول واجب علينا هو توجيه الرأي العام توجيهًا علميًّا صحيحًا.
فاهتمام الرأي العام بالعلم وفهمه له فهمًا صحيحًا ورغبته الصادقة في تطبيق الطرق العلمية … كل هذه أمور ضرورية إذا شئنا لمجتمعنا قوةً وتقدمًا حقيقيين. أما إذا بقي الرأي العام منصرفًا إلى ما لا طائل تحته من المظاهر الكاذبة التي هي أبعد ما تكون عن الذوق السليم؛ معنيًّا بالترَّهات والأباطيل بعيدًا عن الاتصال بحقائق الحياة … إذا بقي الحال على هذه الشاكلة فإن كل إصلاح بفرض إمكان حدوثه يكون عرضة للزوال والانهيار …
فعلى الصحافة وعلى رجال القلم والعلم، عليهم جميعًا إزاء ذلك واجب مقدس، بل إن عليهم مسئولية كبرى أمام الضمير البشري وأمام المجتمع.