العلم في خدمة المجتمع
يجدر بنا أن نتبين أولًا الصلة بين العلم والمجتمع، ما الذي يطلبه العلم من المجتمع؟ وما الذي يطلبه المجتمع من العلم؟ أما عن السؤال الأول … فإلى أن أتناوله بالتفصيل في فصل تام، أُجيب باختصار أن العلم إنما يطلب المعرفة، وأن رجال العلم إنما هم طلاب حقيقة، وأن الموقف التقليدي للعلم إزاء المجتمع ينحصر في أن العلم يعيش في صوامعه، وأن العلماء يبنون لأنفسهم بروجًا عاجية ينصرفون وراءها إلى عملهم وينكبون على أبحاثهم لا يطلبون من المجتمع إلا أن يتركهم وشأنهم؛ هذا هو الموقف التقليدي للعلم إزاء المجتمع، وهو موقف الجامعات والهيئات العلمية في القرون الوسطى وما بعدها إلى أوائل القرن الحالي. وقد كان العلماء قانعين ببروجهم العاجية معتمدين على المساعدات المالية التي كان يقدمها لهم أولو الفضل من الملوك والأمراء والمحسنين الذين كان يدفعهم حبُّهم للعلم وشغفهم للحق إلى وَقْفِ أموالهم على العلم والعلماء.
هذا في الماضي، أما اليوم فقد تغير الموقف تغييرًا تامًّا؛ فالدولة الحديثة قد صارت تعتمد على العلم في كل مرافقها، بل إنها لتعتمد عليه في الدفاع عن كيانها ووجودها، ولم يعد يكفي أن يبقى العلم معزولًا عن المجتمع كما أنه لم يعد من المعقول أن تدبر الجامعات والهيئات العلمية أموالها من الهِبات والصدقات. وبعبارة أخرى قد شعر المجتمع الحديث بحاجته المُلحة إلى العلم فصار لزامًا عليه أن يتعهد العلم وأن يحميه وأن ينفق عليه، فالجامعات يجب أن يُرصد لها في ميزانية الدولة ما يسمح لها بالنهوض بمهمتها والمضي في تحقيق رسالتها، والمجامع والهيئات العلمية الأخرى يجب أيضًا أن تُمكَّن من مواصلة أبحاثها والقيام بواجبها.
وأهم من المعونة المادية يوجد شيء آخر فوق المال وفوق المادة، ألا وهو استقلال الفكر؛ فالعلم لا يخضع لأي اعتبار من الاعتبارات مهما عَظُم خطرُه إلا اعتبار واحد هو طلب الحقيقة. والجامعات والهيئات العلمية يجب أن تُترك حرةً مستقلة لا تخضع لسلطان السياسة ولا لسلطان الجاه ولا لسلطان المال، فهي تحقق أغراضها بنفسها رائدُها طلب الحقيقة لذاتها.
فالإجابة على السؤال ما الذي يطلبه العلم من المجتمع؟ هي أن العلم يطلب أن تُوفَّر له وسائل البحث وأن يُترك حرًّا مستقلًّا في عمله — وليس استقلالُ العلم ناشئًا عن أنانية في نفوس العلماء أو حب لذاتهم، فالعلماء أبعد الناس عن الأنانية وحب الذات، وقد كانوا ولا يزالون مَضرِب الأمثال في الوداعة والتواضع والإيثار — ولكن استقلال العلم يمتُّ إلى شيء آخر ويرتبط بسبب جوهري، ألا وهو تقدُّم العلم ذاته، فالعلم الذي يخضع لمؤثرات سياسية أو أخرى خارجية علمٌ باطل مآله الركود، بل شرٌّ من الركود، وكلُّ تقدُّم في العلم أساسُه استقلالُ الفكر وابتعادُ الباحث عن كل مؤثِّر خارجي وحَصْرُه الجهدَ في طلب الحقيقة، وبعبارة أخرى: إن الاستقلال جزء من طبيعة العلم يقتضيه ناموس تطوره، به يحيا وبغيره يضمحل ويموت.
ونحن لا نزال في مصر بعيدين عن تقديرِ العلم تقديرًا صحيحًا وإحلالِه المكان الذي تحلُّه فيه الأمم المتحضرة؛ فالعلم في مصر ليس له مقام معلوم في ذاته، بل إنه يكتسب قيمته في المجتمع بطريق عرضي وغير مباشر، وبذلك تشبه الحالُ في مصر من هذه الناحية ما كانت عليه في أوربا في القرون الوسطى، وتقدير العلم لذاته يحتاج إلى درجة عالية من التقدم بين الأمم، وقديمًا قيل: «لا يَعرف الفضلَ إلا ذَوُوه.» ولذلك فإن درجة التقدم العلمي للأمة تكون هي ذاتُها مقياسًا لتقدير العلم في الأمة، ففي بلدٍ كالنرويج مثلًا حيث وصل تقدُّم العلوم إلى درجة عالية، نجد الأمةَ صحافتَها وكُتابها ومفكريها ورجال السياسة فيها، نجد هؤلاء جميعًا يعنون بالعلم ويقدرونه لذاته كما نجدهم يحترمون العلماء ويُجِلُّونهم ويضعونهم في الصف الأول من رجال الدولة. أما في مصر فإن الحال بعيدة كل البعد عن أن تكون كذلك؛ فرجال العلم ليس لهم مقام في الدولة بحكم أنهم رجال علم، وإنما يكتسبون مقامهم بطريق غير مباشر، فيُرَتَّبون حسب الدرجات المالية لوظائفهم إذا كانوا موظفين في الدولة، أو حسب جاههم وسلطانهم إذا كانوا من ذوي الجاه والسلطان. وتقديرُ العلم لذاته وإن كان موجودًا فعلًا عند بعض الطوائف الخاصة من المتعلمين إلا أنه لا يمكن اعتبارُه شاملًا لغيرهم من الطبقات. ولعلنا نذكر أن أحد وزراء المعارف السابقين جاهَرَ أمام برلمان الأمة بأنه يرى أن هناك إسرافًا في تعليم العلوم في مصر، وبنى رأيه على عملية حسابية هي غاية ما تكون في البساطة والسذاجة في آن واحد، ذلك أنه قَسَم عدد الجنيهات التي صُرفت على تعليم العلوم على عدد الشبان الذين مُنحوا الدرجات العلمية، ثم استكثر خارجَ القِسمة واعتبره دليلًا على الإسراف! فكأنما العلم سلعة مادية قوامها الكم والعدد، أو كأنما هو بضاعة تُباع وتشترى للناس في الأسواق. ومع أنني لا أعتبر وجهة نظر هذا الوزير السابق مُمثِّلة للرأي العام في مصر، إلا أنني أرى أن مجردَ وقوع مثلِ هذا الحادث في الوقت الذي تهتم فيه الأمم جميعًا بالعلم وترفع من شأنه دليلٌ على أننا لا نزال في حاجة إلى تنوير الرأي العام وإرشاده ورفعه إلى المستوى الذي يسمح له بتقدير العلم تقديرًا صحيحًا.
أما عن السؤال الثاني: وهو ماذا يطلب المجتمع من العلم؟ فإننا نعلم أن العلم يُطبَّق في سائر المرافق الاجتماعية والعمرانية بحيث لا يكاد يخلو مرفقٌ من المرافق من آثار العلم وثمراته. وقد كان المجتمع في الماضي يترك أمرَ تطبيق العلم للاجتهاد الفردي، فنشأت طائفة من المخترعين والمهندسين هَمُّهم الاستفادة من التقدم العلمي لخدمة أغراض معينة في المجتمع. ومن الأمثلة الظاهرة على هؤلاء: المخترعُ الأمريكي «إديسون» صاحب النور الكهربائي، والمخترع الإيطالي «ماركوني» صاحب الإذاعة اللاسلكية، ومئات بل ألوف غيرهم ممن قضَوْا حياتهم في العمل على تحسين جهازٍ أو تصميم آلة أو صنع أداة تُحقق غرضًا من الأغراض البشرية المختلفة. وقد كان الحافز لهؤلاء العلماء والمخترعين حافزًا مزدوجًا، فمن ناحيةٍ هناك الصيت والشهرة التي يكتسبها صاحب الاختراع، ومن ناحية أخرى يوجد الربح المادي، وفيما عدا هذين الحافزين يوجد ولا شك باعث آخر ألا وهو اللذة الفكرية، لذة الخلق والإنتاج.
وقبيل الحرب الحالية نشأ شعورٌ في الدول المتقدمة في الحضارة بأنه لم يعد من الحسن أن يُترك أمر تطبيق العلم للجهود الفردية، فالدولة قد صارت مسئولةً عن المرافق العامة، مسئولةً عن الصحة وعن الزراعة وعن الصناعة، مسئولةً عن توفير الغذاء والكساء للشعب، والدولةُ لا تستطيع أن تقوم بأعباء هذه المسئوليات المتعددة إذا لم تَستعن بالعلم ونتائج تطبيق العلم. يضاف إلى ذلك أن مسئولية الدولة في هذه الأمور كلها تقتضي وَضْعَ سياسةٍ يلحظ فيها التطور من الحال إلى الاستقبال، فلا يكفي أن توفر الغذاء والكساء للأمة المصرية عام ١٩٤٥ فحسب، بل يجب أن نفكر في عام ١٩٤٦ بل في عام ١٩٥٠، وبعبارة أخرى يجب أن تكون للدولة سياسة إنشائية ثابتة في الإنتاج الزراعي والإنتاج الصناعي، وفي الصحة، وفي التعليم، وفي الاقتصاد، ولكي تفعل ذلك يجب أن تُحصى موارد الثروة في الدولة إحصاءً دقيقًا وأن تُستخدم هذه الموارد وأن تُنمى على أساس علمي. ولأضرب لذلك مثلًا: ففي إنجلترا كان الإنتاج الزراعي متروكًا أمرُه للمجهود الفردي، ولذلك لم يكن إنتاج بريطانيا العظمى من الحبوب وسائر الحاصلات الزراعية، لم يكن هذا الإنتاج يزيد على ثلاثة أسباع الاستهلاك، وفي سنة ١٩٤٢ صدر قانون بإنشاء مجلس أعلى للزراعة يهيمن على عملية الإنتاج الزراعي باستخدام الآلات الميكانيكية والأسمدة الكيميائية بعد دراسة علمية لطبيعة الأراضي، ففي سنتين اثنتين أي من سنة ١٩٤٢ إلى سنة ١٩٤٤ زاد الإنتاج الزراعي بنسبة ٦٧٪، وصار مقدار الإنتاج كافيًا لسد حاجة المستهلِكين في بريطانيا العظمى خمسةَ أيام في الأسبوع بدلًا من ثلاثة أيام في الأسبوع كما كان الحال في سنة ١٩٤٢، وأظن أن هذه نتيجة باهرة تشهد بفضل الطريقة العلمية واستخدامها لخير المجتمع. وحكم الزراعة في ذلك حكم غيرها من جهود الأمة، فقد قامت الحكومة البريطانية وقامت الحكومة الأمريكية بوضع خُطط إنشائية مبنية على دراسات علمية، فأُنشأت وزارات ومصالح مختلفة ترمي إلى تنسيق الجهود ودَرْسِ المشاكل على أساس علمي ووَضْعِ خطط لتنمية الموارد وتوفير الحاجات، ولا شك في أن القارئ قد سمع بمشاريع الإنشاء والتعمير في كل من إنجلترا وأمريكا، فأساس هذه المشاريع وجودُ مجالس فنية تعتمد على الدراسات العلمية فتبنى عليها سياسة ثابتة للحال والاستقبال. وليس الأمر قاصرًا على بريطانيا وأمريكا، فمنذ بضعة أسابيع التقيتُ في القاهرة بعالِم هندي جاء من الهند ومعه ثلاثة علماء آخرون، وقد قص عليَّ هذا العالِم الغرض من سفره، فقال: «إن حكومة الهند قد اعتزمتْ إنشاء وزارة تُعنى بالمشروعات العمرانية على أساس علمي تُخصَّص لها نسبة ثابتة من ميزانية الدولة تُقدَّر في الوقت الحالي بمبلغ أربعة ملايين من الجنيهات، على أن تَضمَّ هذه الوزارة الهيئاتِ والمصالح العلمية في الهند، فيتكون منها جميعًا مجلسُ أعلى للوزارة يدرس المشكلات ويضع الخطط وينظم التنفيذ.» والغرض من سفر صديقي العالِم الهندي وإخوانه هو زيارة إنجلترا وأمريكا لدراسة النظم التي وضعتها الحكومة في كل من هذين البلدين للاستفادة منها في تنفيذ النظام المقترَح في الهند.
- (١)
البحوث العلمية أيًّا كان نوعها التي تتولاها المصالح العامة والمؤسسات الصناعية أو العلماء أو المخترعون أو الباحثون، وعلى الأخص البحوث العلمية التي من شأنها أن تحقق تقدم الزراعة أو الصناعة أو الاقتصاد القومي أو البحوث التي تتصل بشئون الصحة العامة أو الدفاع الوطني، يقترحها وينشطها ويشجع عليها ويراقبها ويوجهها وينسقها.
- (٢)
الوصل بين مختلف المصالح الحكومية التي تقوم بالبحوث وبين تلك المصالح والهيئات الخاصة.
- (٣)
البحث في إنشاء المعامل العامة والخاصة للبحوث التطبيقية أو في توسيعها وعند الاقتصاد القيام بذلك الإنشاء أو التوسيع أو المساهمة فيه.
- (٤)
الاقتراح على المصالح العامة والهيئات الخاصة بتنظيم بعثات أو تقرير مكافآت مالية للقيام بالبحوث سواء في مصر أو في الخارج.
- (٥)
إبداء الرأي لمصالح الحكومة في كل ما يتعلق بوجوه النشاط العلمي والفني للدولة.
- (٦)
القيام بجميع البحوث والاختبارات العلمية أو الفنية التي تطلبها منه مصالح الحكومة أو المؤسسات الخاصة أو الأفراد.
- (٧)
إنشاء وتشجيع مكاتب جمع المراجع والوثائق.
- (٨)
العناية بكل ما من شأنه نشر المعلومات العلمية.
- (٩)
أن يذيع في الخارج ما تقوم به مصر من الجهود العلمية والفنية.
ونرى أن هذه الأغراض هي نفس الأغراض التي ترمي إليها الأمم المتحضرة اليوم من إنشاء وزارات للتعمير والاقتصاد العلمي، فنحن في مصر قد أظهرنا عناية أدت إلى صدور المرسوم المشار إليه إلا أن هذه العناية عناية على الورق، فقد صدر المرسوم منذ أكثر من خمس سنوات وهو لا يزال حبرًا على ورق، ومع أن المرسوم قد نُص فيه على أن المجلس يشكَّل من اثني عشر عضوًا يُعَيَّنون بمرسوم لأول مرة، كما نص على أن إيرادات المجلس تتكون من الاعتماد المخصص له في ميزانية الدولة ومن موارده الخاصة، فإنه لم يصدر إلى اليوم مرسوم بتعيين أعضاء المجلس ولم يخصص له — فيما أعلم — اعتماد في ميزانية الدولة، وإن كانت إحدى الهيئات الصناعية قد تبرعت فعلًا بمبلغ عشرة آلاف جنيه للأغراض التي من أجلها أنشئ المجلس. وأسائل نفسي وأسائل القارئ معي لو أن هذا المرسوم نُفذ منذ صدوره، ولو أن القائمين على هذا المجلس قد قاموا بواجبهم فدرسوا المشاكل المتعددة التي واجهتنا منذ ذلك الحين ولا تزال تواجهنا في الزراعة وفي الصناعة وفي شئون الصحة العامة وفي غيرها من مرافق البلاد، ثم وضعوا نتائج دراستهم وأبحاثهم تحت تصرف السلطة التنفيذية في الدولة … لو أن هذا حدث أيشك أحد منا في أنه كان يعود بالخير على الأمة وربما أراحها من كثير من الضنك الذي حل بها ومن الاضطراب في شئون الزراعة والتموين!
على أن الظروف لا تزال تلح علينا في تنفيذ هذا المرسوم؛ فالمشاكل لا تزال تواجهنا وستستمر تواجهنا بعد الحرب، ولم يعد من الجائز عقلًا ولا منطقًا ولا ضميرًا أن نعتمد على الارتجال في حل مشكلاتنا القومية، فالارتجال اليوم معناه التخبط ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى الفوضى في التفكير وفي العمل على حد سواء، ولا يمكن أن يرتضي الفوضى عاقل أو مخلص.
وإنشاء مجلس للبحوث العلمية والصناعية إنما هو ناحية من نواحي تطبيق العلم في خدمة المجتمع وإصلاحه، فإلى جانب البحوث العلمية في الزراعة والصناعة والصحة وغيرها توجد أعمال إنشائية هي أساس تقدم العمران في كل بلد، وقد أدرك هذه الحقيقة ذلك الرجل العظيم محمد علي الكبير رأس الأسرة العلوية، فعرف أن الثروة القومية إنما تقوم على المشروعات العمرانية؛ إذ إن هذه المشروعات تزيد في مقدار الثروة الأهلية بما تُوجِده من منشآت مستحدثة، فيتضاعف بذلك الدخل القومي وتنتعش الحياة وتتولد الحركة في جسم الأمة فتصل إلى القوة والرفاهية والمجد، لذلك قام محمد علي باشا بشق الترع وإنشاء القناطر والعناية بشئون الري كما قام بإنشاء المصانع والمباني العامة وتعبيد الطرق فازدادت بذلك ثروة مصر أضعافًا مضاعفة، وقد كان الاتجاه في ذلك العصر بطبيعة الحال نحو الزراعة التي كانت أساس الثروة القومية فنشأ عن ذلك في عصر محمد علي وفي العصور التالية له اهتمام خاص بمشروعات الري وصارت أمور الري ومشروعاته تشغل الجزء الأكبر من جهود وزارة كاملة هي وزارة الأشغال العمومية. ويخيل إلي أننا من ناحية التنظيم الفكري لا نزال حيث تركنا عصر محمد علي، فإن كان الري والمباني العامة يحتاجان إلى وزارة كاملة، فإن أمامنا اليوم من المشروعات ما هو أعظم أثرًا في ازدياد الثروة القومية من الري والمباني العامة، وفي مقدمة هذه المشروعات استنباط القوى المحركة وتوليد الكهرباء، فنحن نعيش في عصر ديناميكي آلي قوامه القوة المحركة للآلة، والأمة التي تستطيع استنباط هذه القوة تزدهر صناعتها وينتشر العمران فيها، ومن أهم مصادر القوة المحركة في مصر حرارة الشمس ومساقط المياه، ومع أن استنباط القدرة من حرارة الشمس لا يزال من الناحية العلمية في مرحلة تجريبية إلا أنني أرى أن مصر في مقدمة الأمم التي يجب أن تُعنى بدارسة هذا الموضوع إذ تزيد كمية الطاقة التي تهبط في كل يوم في صورة الأشعة على الجزء المسكون من الأراضي المصرية ومقداره نحو ٩٠٠٠ ميل مربع، تزيد هذه القدرة على قدرة المحركات الآلية في العالم كله سواء منها ما يدار بالفحم أو بالبترول أو بالريح أو بمساقط المياه، فلو أننا تمكنا من استخدام جزء صغير من هذه القدرة الهائلة لكان لذلك أكبر الأثر في تطورنا العمراني. وإذا كان موضوع استنباط القدرة من حرارة الشمس لا يزال يعوزه البحث والتجريب فإن استنباط القدرة من مساقط المياه قد وصل إلى درجة عالية من درجات الإتقان الفني، فحيثما وُجد اختلاف بين منسوبي مياه على جانبي سد، أو حيثما وجدت مياه ساقطة ضد شلال أو منخفض أمكن للمهندس أن يولِّد الكهرباء بأجهزة تجمع بين النظافة والإتقان، ويوجد في مصر مولدات للكهرباء من مساقط المياه في ثلاثة مواضع: أحدها مدينة الفيوم حيث لا تزيد القدرة المتولدة عن بضعة مئات من الكيلو واط، والمكان الثاني عند منطقة الغرق في مديرية الفيوم حيث يمكن توليد ٢٦٦٠ كيلو واط، والمكان الثالث قناطر نجع حمادي حيث تصل القدرة إلى ٢٧٠٠ كيلو واط. وقد أنشئت هذه المولدات لا كجزء من مشروع عام يشمل الأراضي المصرية، ولكن كمشروعات جزئية. ولا أريد أن أوجه أي لوم إلى أحد في هذا الصدد، بل بالعكس أرى أن الذين قاموا بإنشاء هذه المولدات يُشكرون على عملهم، وإنما الأمر الذي أريد أن أوجه النظر إليه هو أنه ليس لدينا نظام يُنسق بين هذه المشروعات في أنحاء البلاد المختلفة ويضع لها خطة ثابتة وسياسة تسير عليها في المستقبل على أساس علمي وبعد دراسة علمية وفنية.
- فأولًا: لا تمس المنشآت الخاصة بتوليد الكهرباء بناء السد ذاته؛ فهذه المنشآت يمكن تشييدها بحيث لا تتصل بالسد مطلقًا فتكون بعيدة عنه وغير مؤثرة فيه.
- ثانيًا: ليست هناك ضرورة توجب ربط عملية توليد الكهرباء بأية عملية صناعية بالذات، كصناعة السماد أو استخراج الحديد … إلخ، فالقدرة الكهربائية التي تولدت عند سد أسوان صالحة لأن تُسخَّر في أي عمل صناعي.
- ثالثًا: إن القدرة التي تستخرج عند أسوان يمكن نقلها إلى مسافات بعيدة لتغذي محركات وآلات في مناطق أخرى غير منطقة أسوان.
والواقع أن عملية توليد القدرة لا يمكن النظر إليها كعملية محلية مرتبطة ببقعة خاصة في البلاد، بل إنها بحكم طبيعتها لها صفة قومية ترتبط بالاقتصاد القومي من أساسه، ولذلك يجب أن توضع لها سياسة ثابتة على أساس قومي شامل، فتدرس المشروعات في جميع أنحاء البلاد في أسوان وفي منخفض القطارة وعند السدود والقناطر، ويوضع لذلك برنامج ينفذ تدريجيًّا ويكون ملائمًا للتطور الصناعي والعمراني.
ومن أهم الموضوعات التي يُعنى بها العلم في خدمة المجتمع وإصلاحه، موضوع الثروة المعدنية، وهو الموضوع الذي له المكانة الأولى في اقتصاديات العالم حتى صار محورًا للسياسة الدولية، فالأمم تتنافس لتضع أيديها على الثروة المعدنية في بقاع العالم من بترول وحديد وذهب ونحاس وقصدير ونيكل وفضة ومنجنيز وفوسفات ونترات وكبريت وكروم وتنجستن وغيرها من المعادن التي هي أساس الصناعات في العالم بأسره. والأمة التي تستطيع أن تستخرج من أرضها هذه المعادن وأن تستخدمها في صناعتها تزداد ثروتها القومية عشرات المرات بل مئاتها. والأراضي المصرية لا سيما الصحراء الشرقية غنية بهذه المعادن، ولأضرب لذلك مثلًا: عنصر الحديد؛ ففي منطقة أسوان وحدها توجد مساحة تقدر بنحو ١٠٠٠ كيلو متر مربع تُحد غربًا بالنيل وشمالًا بوادي أبي صبيرة وشرقًا بوادي علوي وجنوبًا بوادي عجاج وبخط عرض ٢٤°، ويوجد في هذه المنطقة نوع جديد من خام الحديد يقدر نسبة الحديد الخالص فيه في المتوسط بمقدار ٥٠٪ من وزن الخام، وقد قُدرت كمية الحديد في هذه المنطقة بنحو ٣٠٠ مليون طن، فإذا راعينا أن مقدار الثروة الأهلية للقطر المصري عام ١٩٤٤ قُدرت بنحو ١١٠٠ مليون جنيه فإن ثمن هذا الكنز الحديدي في منطقة أسوان يمكن أن يقارَن بثروتنا الأهلية بأكملها. ومثال آخر: زيت البترول؛ فقد بلغت كمية المستخرج منه من الأراضي المصرية عام ١٩٤٠ ما يقرب من مليون طن، يقدر ثمنها بنحو ١٠ مليون جنيه أو ما يقرب من ربع ميزانية الدولة المصرية في تلك السنة. وقد وَضعت مصلحة المساحة تقريرًا وافيًا عن المعادن الموجودة في الصحراء الشرقية بين النيل والبحر الأحمر مع بيان تفصيلي عن منطقة أسوان وما يجاورها، ويوجد مع هذا التقرير خريطتان إحداهما خريطة جيولوجية لمنطقة أسوان، والأخرى خريطة للجزء الجنوبي الشرقي من القطر المصري بُينت فيها مواضع المعادن المختلفة، وإن الذي يطلع على هذه الخريطة لَيدهش لكثرة عدد المناطق التي توجد فيها المعادن وتعددها؛ إذ لا يكاد يوجد معدن ذو قيمة اقتصادية غير موجود في منطقة أو أكثر من المناطق المبينة على هذه الخريطة، وقد وُضع هذا التقرير بمناسبة تأليف لجنة ألفها مجلس الوزراء في ٤ يناير سنة ١٩٤٣ لوضع مشروع لتحسين أسوان بوصف كونها مشتًى وللنظر في إنشاء مدينة صناعية عند أسوان.
وإن هذا التقرير لما احتواه من بيانات وافية عن ثروتنا المعدنية هو أوسع وأعم من مجرد تحسين أسوان كمشتى. هذا وإن طريقة تأليف لجان تُقدَّم إليها تقارير ثم تذهب اللجان وتُطوى التقارير، إن هذه الطريقة لا يمكن أن تكون مقبولة أو مُنتِجة. وفي حديث ألقيته بالراديو منذ عشرة شهور تقدمتُ بالاقتراح الآتي: وهو إنشاء وزارة تسمى وزارة الاقتصاد العلمي، مهمتها استخراج الطرائق العلمية في تنمية الثروة الأهلية وإيجاد موارد جديدة لها، لا سيما الموارد المعدنية كاستنباط معدن الحديد والمعادن الأخرى في الصحاري المصرية، وكذلك الموارد الطبيعية الأخرى كاستنباط القوى الكهربائية من مساقط المياه، وتطبيق العلوم الحديثة في نشر العمران. وقد رأينا أن استنباط معدن واحد وهو البترول قد عاد بدخل قدره ١٠ مليون جنيه في السنة، وأن ثمن الحديد الموجود بمنطقة أسوان وحدها يقارَن بالثروة الأهلية للقطر المصري بأكمله، وأن في صحارينا العدد الوفير من المعادن الثمينة منها ما عُرف مكانه ومنها ما يهدينا البحث إليه كما هدانا إلى غيره. وإنني أكرر اليوم ما اقترحته بالأمس من إنشاء وزارة الاقتصاد العلمي راجيًا أن يكون اقتراحي هذا موضوعَ درس وتفكير.
وناهينا بما للعلم من أثر بليغ في الصحة العامة للمجتمع، بل إن الطب الوقائي والصحة العامة إنْ هما إلا ثمرة من ثمرات التقدم العلمي. وسأضرب للقارئ مثلًا لا يزل جاثيًا أمامنا، فكلنا يعلم أن مرض التيفوس من أفتك الأوبئة وأشدها وبالًا، فقد قُدر أن عدد ضحايا هذا المرض عقب الحرب الماضية بلغ خمسة ملايين من الأنفس، خمسة ملايين من الأنفس يفتك بها هذا الميكروب القتَّال دون أن يستطيع الطب العلاجي أن يفعل شيئًا من أجلهم، ثم تقدم العلم ونشط البحث العلمي فكان أن اهتدى العلماء إلى تحضير المصل الواقي من المرض، وفي الحرب الحالية جاءت الجيوش الأمريكية إلى مصر وجاءت معها الوحدات الطبية تستخدم العلم ونتائج البحث العلمي لوقاية أرواح الجنود، فماذا حدث؟ حدث أنه في الوقت الذي وصل فيه عدد حالات المرض بالتيفوس بين المصريين إلى ٥٠٠ حالة في الأسبوع كان عدد الحالات في الجيش الأمريكي حالتين اثنتين، كما أنه لم تحدث وفيات بالتيفوس في الجيش الأمريكي ولا في البحرية الأمريكية ولا في سلاح الطيران الأمريكي، لم تحدث وفيات البتة لأن العلم استُخدم في وقاية الأرواح والأبدان.
وإلى جانب الأمصال الواقية يضع العلم تحت تصرف المجتمع المواد الكيميائية التي تبيد الحشرات إبادة سريعة وفعالة مثل فلورور الميثيل واﻟ «دي-دي-تي»، ولما كانت الحشرات تنقل جراثيم الأوبئة فإن قتلها يقضي على انتشارها، وبذلك ينجو الناس من فتكها وآلامها وشرورها.
ومن الأمثلة التي استرعت نظر العالم المتمدين بأسره كشف العلم عن ذلك الترياق العجيب «البنيسيلين» الذي استخلصه العلماء من نوع من الفطر أو العفن الأخضر يُعرف باسم «بنيسيليوم نوتاتوم»، فصار هذا الدواء نوعًا من البلسم السحري يقضي على الميكروبات المسببة للأمراض الإنسانية، ولو خُفف بنسبة واحد إلى خمسين مليونًا.
ليس الطب إذن حرفة يتعلمها الصغير من الكبير ثم ينصرف إلى ممارستها، بل إن الطب أساسه العلم، وتقدُّم فن العلاج مبني على العلم والبحث العلمي، كما في البنيسيلين وكما هو الحال في غيره وغيره من وسائل العلاج الحديثة. والطب الذي لا يرتكز على أساس علمي متين إنما هو نوع من الدجل والشعوذة، هذه حقيقة يجمل بأطبائنا أن يذكروها لا سيما القائمون منهم على إعداد الأطباء وتعليمهم. أقول ذلك لأنه قد راعني نزعة إلى فصل الطب عن العلم في مصر في الوقت الذي تزداد فيه الصلة بينهما تمكنًا وقوة في بقية العالم، وإنني لأرجو أن تكون هذه النزعة الرجعية الضعيفة مقدمة لرد فعل قوي يربط الطب والعلم في مصر ربطًا متينًا فيتعاونان على خدمة المجتمع وإصلاحه.