البحث العلمي وتنظيمه
لقد رأينا ما للعلم من أثر وخطر في المجتمع … فما أوجب أن نعمل على نموه وتقدمه … فكيف السبيل إلى هذا؟
يروى عن السِّير إيزاك نيوتون أنه سُئل كيف اهتدى إلى الكشف عن قوانين الجاذبية، فكان جوابه بإعمال الفكر؛ فالسير إيزاك نيوتن الذي وصل إلى معرفة قواميس حركات الكواكب ووحد قوانين الحركة بين الأجرام الأرضية والأجرام السماوية يعزو عمله إلى الفكر …
فبالتفكير والبحث نما العلم وتقدم … وإن هذا التفكير وهذا البحث وإن كان يُنسب كل منهما في العادة إلى الأفراد، كأن ينسب القول بالتطور إلى داروين أو أن ينسب الكشف عن عنصر الراديوم إلى كوري، أقول وإن كان ينسب كلٌّ إلى الأفراد إلا أنه في الواقع نتيجة لتفكير الجماعة، فلولا الكشوف التي سبقت عصر داروين في علم الحيوان وفي علم النبات لَمَا قال داروين بالتطور، بل لولا ما كان يحيط بداروين من تفكير منظم في عصره لَمَا استطاع أن يعمل ما عمله وأن يضيف ما أضاف إلى التفكير البشري. كذلك لولا بحوث بكرل ومن سبقه من علماء بل وعلماء الكيمياء، ولولا التعاون الفكري الذي كان يحيط بمدام كوري وزوجها لَمَا استطاعا أن يفسرا اسوداد ألواحهما الحساسة بنسبته إلى شعاع خفي من عنصر جديد، فتنظيم البحث والتفكير إذن شرط من شروط تقدم العلم، ولعل هذا الشرط هو العامل الأول في ازدياد الإنتاج العلمي في العصر الحديث.
كيف يكون إذا هذا التنظيم؟! قبل أن أجيب على هذا السؤال سأستعرض حالة البحث العلمي في البلاد المتمدينة ثم أحاول أن أطبق ذلك على مجتمعنا المصري وأن أسترشد به فيما يجب علينا أن نصنعه في مصر مع مراعاة ما لنا من ظروف خاصة وما بيننا وبين غيرنا من فروق ومخالفات.
لننظر إذًا إلى بلد من البلاد المتمدينة التي تقوم بنصيبها في البحوث العلمية نجد أنه في كل حالة تنقسم البحوث إلى نوعين رئيسيين: بحوث في العلم وبحوث في العلوم التطبيقية، ويجدر بي أن أسجل هنا الفرق أيضًا بين هذين النوعين من البحوث؛ إذ كثيرًا ما يختلط أمرهما حتى على المتعلمين منا.
فالبحث العلمي البحت غرضه الوصول إلى المعرفة أو الإضافة إلى علم البشر، هو بحث يراد به الكشف عن أسرار الطبيعة على حد التعبير العادي، فنحن نعلم أشياء ونجهل أشياء، فمن بحث عن المجهول وأدخله في دائرة المعلوم كان بحثه بحثًا علميًّا بحتًا، وأظن هذا المعنى قد صار واضحًا في غير حاجة إلى إسهاب.
أما البحوث التطبيقية فلها غرض آخر ليس هو الوصول إلى المعرفة وإنما هو الوصول إلى القدرة، فنحن نقدر على أشياء ولا نقدر على غيرها، فمن مَكَّننا من عمل ما لم نكن نقدر عليه من قبل فقد بحث بحثًا تطبيقيًّا ناجحًا.
ولأضرب لذلك مثلًا: في النصف الثاني من القرن الماضي قام هانتزث هيرتز ببحوث في علم الطبيعة برهن بها على وجود أشعة كهربائية تنتقل في الفضاء، فاهتم العالم بكشفه العلمي هذا، وكان أهم ما يعنى به العالم العلمي في هذا الوقت من أمر هذه الأشعة أن جاءت محققة لآراء كلارك مكسويل فيما يجب أن تكون عليه المعادلات الرياضية التي تربط بين الكهرباء والمغناطيسية، كانت معادلات كلارك مكسويل متفقة مع علم البشر عن خواص الكهرباء وارتباطها بالقوى المغناطيسية، فلما جاء كشف هيرتز عن أشعته الكهربائية تم تحقيق معادلات مكسويل، وصار من الممكن لعلماء الطبيعة أن يخبرونا بقوانين الكهرباء وارتباطها بالقوى المغناطيسية، لذلك اعتبرت أبحاث هيرتز هامة في تقدم العلوم ومنح الألقاب الفخرية والجوائز والمداليات على عمله. ويجب أن نلاحظ أن هؤلاء العلماء الذين أعجبوا بعمل هيرتز وقدروه حق قدره إنما دفعهم إلى ذلك شغفهم بالمعرفة وتعلقهم بالكشف عن أسرار الطبيعة، كما نلاحظ أن قيمة العمل الذي قام به هيرتز في نظر هؤلاء العلماء إنما كانت بالنسبة إلى ما لهذا العمل من أثر في تقدم العلم، ثم حدث بعد ذلك أن تنبه المشتغلون بالبحوث التطبيقية إلى ما لعمل هيرتز من أهمية وجهة نظرهم إذا رأوا فيه وسيلة تمكنهم من شيء لم يكونوا يقدرون عليه، ألا وهو التراسل اللاسلكي، فإذا كان هيرتز قد كشف عن وجود أشعة كهربائية تنتقل في الفضاء ولا تحتاج إلى سلك أو وسيلة مادية لنقلها، فلماذا لا تستخدم هذه الأشعة في التراسل فيتمكن بذلك البشر من إرسال تلغرافاتهم دون الحاجة إلى مد أسلاك فوق الأرض أو تحت الماء.
وإننا لنرى أن هذا التفكير يختلف تمام الاختلاف في غرضه عن تفكير علماء الطبيعة الذين شغفوا بعمل هيرتز حبًّا في العلم ورغبة في المعرفة، وقد حدث أن قام مهندسون ومخترعون بالبحث التطبيقي في التراسل اللاسلكي اشتهر من بينهم ماركوني بمثابرته واتساع حيلته، ولعل في هذا المثال ما يكفي لتوضيح الفرق بين البحوث العلمية البحتة والبحوث العلمية التطبيقية.
إذن فنحن أمام نوعين من البحث العلمي يختلفان في الغرض، ومع ذلك فبينها اتصال وثيق، والعلاقة بينهما بصفة عامة هي العلاقة بين الأصل والفرع؛ فالبحوث العلمية البحتة هي الأساس والبحوث التطبيقية مبنية عليها، ولا يمكن تصوير البحث التطبيقي إلا على أساس من العلم الأكاديمي، على أن العلاقة بين النوعين من البحث ليست بسيطة إلى هذا الحد، فتقدُّم البحث التطبيقي يؤدي إلى تقدم الصناعات المختلفة، وتقدم الصناعات يضع في يد العالم الباحث أجهزة أدق وأحكم تساعده في الكشف عن أسرار الطبيعة، وبذلك يرد العلم التطبيقي للعلم البحت شيئًا من حسن صنيعه.
- أولًا: كيف يُنظَّم البحث العلمي البحت؟
- ثانيًا: كيف ينظم البحث العلمي التطبيقي أو الصناعي؟
- ثالثًا: كيف تنظم العلاقة بين هذين النوعين من البحوث؟
ففي المسألة الأولى نجد أن البحوث العلمية البحتة في البلاد المتمدينة يقوم بها في العادة رجال الجامعات والمعاهد العلمية المختلفة، فالأساتذة والمدرسون وغيرهم من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات والمعاهد العلمية العالية يقوم كل منهم ببحوثه الخاصة متعاونًا في ذلك مع غيره من المشتغلين في فرعه، والأستاذ في الجامعة يشعر أن أول واجب عليه متابعة البحث العلمي ويضع هذا الواجب فوق واجباته الأخرى كإلقاء الدروس وتنظيم الدراسات وما إليها، وجميع أساتذة الجامعات أعضاء في المجامع والجمعيات العلمية المختلفة كلٌّ في دائرة تخصصه، ولا يقتصر الأستاذ على متابعة أبحاثه الخاصة، بل عليه أن يكون ملهمًا لغيره ممن هم دونه في المرتبة العلمية ومشرفًا على بحوثهم ومرشدًا لهم، ولذلك لا يصل الأستاذ إلى كرسي الأستاذية إلا بعد أن يثبت قدرته على البحث العلمي المبتكَر وعلى إرشاد غيره فيه، فأعضاء هيئة التدريس في كل فرع من فروع العلم يؤلفون أسرة رئيسها الأستاذ صاحب الكرسي، تعمل كوحدة متماسكة في ميدان البحث العلمي، يسترشد صغيرها بكبيرها ويتعاون الجميع على البحث والابتكار.
والأمم المتحضرة تتسابق في ميدان المعرفة وتتنافس تنافسًا شديدًا، فالجامعات والمجامع العلمية في أنحاء المعمورة في جِد متواصل تبحث وتنقب وتتبارى، والمجلات والنشرات التي تخصص لهذه البحوث تعد بالألوف في كل عام، هذه المجلات يطلع عليها العلماء والباحثون ويسجلون فيها نتائج تجاربهم وآرائهم العلمية، لا فرق في ذلك بين أمريكي وياباني أو بين إنجليزي وفرنسي، فهي بمثابة مؤتمر دائم للعلوم يوحِّد بين وجهات النظر ويمحص الآراء ويعمل على تقدم العلم. وتقاس الجهود العلمية لأمة بمقدار ما تنتجه في هذا الميدان، فهو عنوان حياتها العلمية ومعيار رقيها الفكري، هذه المجلات التي تحوي خلاصة التفكير العلمي لا يقرؤها الرجل العادي في الغالب ولا يعرف بوجودها، وإن هو قرأها فإنه لا يكاد يفقهها لاحتوائها على رموز ومصطلحات ليس لها مفهوم في ذهنه. ويحدث في بعض الأحايين أن تنشر الجرائد اليومية خبر منح جائزة نوبل إلى فلان من العلماء، فإذا قرأنا مثل هذا الخبر فإن معناه أن أعمال هذا العالم المنشور في هذه المجلات قد وصلت إلى الحد الذي يجعل صاحبها في مصاف المبرَّزين من العلماء. ويحدث كذلك أن نسمع باسم عالم أو باحث مقترنًا برأي يُنسب إليه كأن نسمع باسم أنشتين مثلًا مقترنًا بالنظرية النسبية، فإذا حدث ذلك فإن معناه أن الأبحاث التي نشرها هذا العالِم في هذه المجلات والآراء التي أدلى بها قد وصلت إلى الحد الذي يجعل صاحبها قائدًا من قواد التفكير العلمي، وأن الرأي المنسوب إليه قد صار رأيًا يُعتمد به بين العلماء. ولعل هذين المثالين هما مبلغ ما يصل إلى علم الرجل العادي عن حركة التقدم العلمي.
وليس معنى هذا أن نهر المعرفة يجري في الظلام أو أن العلم قد أصبح نوعًا من السحر أو الطلاسم الخفية مقصورًا على طائفة معينة من المجتمع كما كان في عصر المصريين القدماء، بل بالعكس: إن من أميز مميزات هذا النوع من البحث العلمي إباحتَه لكل قادر ونشرَ نتائجه نشرًا حرًّا بعيدًا عن كل رقابة وبغير أن يكون للناشر أو المؤلف أي حق من حقوق النشر أو التأليف، فهو عمل يقصد به وجه العلم ولا ترجى من ورائه أية فائدة إلا التنافس المشروع بين العلماء. ولما كان البحث العلمي البحت لا يُقصد به أية فائدة مادية مباشرة، كان من الواجب على كل أمة أن تشجع كل ذي موهبة على متابعة أبحاثه، وأن تهيئ للباحثين أسباب الاطمئنان وتيسر لهم عيشهم لكي يتفرغوا لبحوثهم. وكما أن العُرف قد جرى بيننا على أن يقوم الخيِّرون منا بوقف أموالهم على أعمال البر المختلفة كإنشاء الملاجئ والمدارس والمستشفيات، كذلك جرى العرف عند غيرنا من الأمم المتحضرة على أن يقف موسِروهم أموالَهم على البحث العلمي، فنجد في كل جامعة وفي كل جمعية أموالًا مخصصة للبحث العلمي وصلت إليها عن طريق الهبات والتبرعات. ولا يقتصر الأمر عند حد ما يجود به الأفراد من مال، بل إن الحكومات تخصص في ميزانيتها مبالغ ضخمة للصرف على البحوث العلمية البحتة؛ فتصرف المكافآت الدراسية التي هي نوع من المرتبات إلى النابغين من خريجي الجامعات لكي ينصرفوا إلى البحث العلمي، كما تُشترى الأجهزة العلمية وتبنى المعامل وتُجهز للبحث العلمي من هذه الأموال. ولأذكر هنا اسم كارنيجي الأمريكي المواطن الاسكتلندي الأصل صاحب ملايين الدولارات للبحث العلمي في سائر أنحاء العالم، كما أذكر اسم نوبل الاسكندي الذي أوصى بجوائزه المشهورة كمكافآت على البحث العلمي الممتاز، وغير هذين كثيرون. وتبلغ الأموال التي تخصصها الدولة في إنجلترا وحدها ملايين الجنيهات توضع تحت تصرف الجامعات والمجامع العلمية لتُصرف في تشجيع البحث العلمي.
هذا هو الحال إذن في الدول المتمدينة، جاءت تعمل، وجمعيات علمية تُنظم وتُشرِف، ومجلات وكتب ونشرات علمية تُطبَع وتُنشَر، وأموال تخصِّصها الدولة ويهبها الأفراد لِتُصرَف.
ولعله يكون من المفيد أن أشير إلى الطريقة التي تُتبع في تنظيم صرف هذه الأموال، ففي إنجلترا مثلًا يقوم مجلس إدارة الجمعية الملكية بالإشراف على هذا الصرف، فإذا أراد باحث تخصيص معونة مالية تمكنه من أداء بحثه، قدم طلبه إلى الجمعية الملكية، ويقوم مجلس الإدارة بفحص هذه الطلبات جميعها والبت فيها في ضوء التوصيات التي تصل إليه من العلماء المعروفين وفي ضوء الخبرة الشخصية لأعضاء المجلس. وفي أمريكا توجد هيئة عليا تسمى مجلس الأبحاث الوطني يُعهد إليها بتنظيم الصرف على البحوث العلمية، وجعلت لها ميزانية تصرف منها على تشجيع البحوث وإعانتها. وفي كل بلد من البلاد المتمدينة الأخرى توجد وسيلة قومية حكومية أو غير حكومية لتنظيم الصرف على البحوث العلمية، ويجب أن يلاحظ أن هذه المبالغ التي تخصَّص للبحث العلمي هي غير ما تخصصه الجامعات والمعاهد العلمية المختلفة، فالجامعات كانت ولا تزال المقر الرئيسي للبحوث العلمية، وهي تنفِق على هذه البحوث من أموالها الخاصة ومن الهبات والتبرعات والإعانات الحكومية.
هذا هو الحال إذن في الأمم المتمدينة، ولنا أن نستخلص منه دروسًا تُنتفع بها في تنظيم حياتنا العلمية. فمن ناحية يجب علينا أن نُعنى بالبحث العلمي في الجامعات التي أنشأناها، وفي كل جامعة أخرى نقوم بإنشائها يجب علينا أن نذكر أن مقام الجامعة بين جامعات العالم لا يكون بعظمة مبانيها ولا بكثرة طلبتها ولا بضخامة ميزانيتها، وإنما تقاس رفعة الجامعة وعلو شأنها بمقدار ما تنتجه من البحوث العلمية، فهذه هي التي تُنشر على الملأ بين العلماء، وهي التي تبقى على مر العصور. يجب إذن أن نحرص كل الحرص على انتقاء أساتذة الجامعة من بين الذين برهنوا على مقدرتهم على البحث العلمي وشغفهم به وإرشاد غيرهم فيه، ويجب أن نُسار إلى تشجيع الباحثين منا بكل ما تملك الدولة من وسائل مادية وأدبية، يجب أن يشعر كل مشتغل في ميدان البحث العلمي أن عمله مقدور مشكور وأن ميدان هذا العمل هو الميدان الوحيد للتنافس بينه وبين غيره من الباحثين، وعلى أولي الأمر منا أن يُعنوا أشد العناية بهذه الناحية من نواحي الحياة الجامعة وأن يضعوا هذا الاعتبار فوق كل اعتبار آخر وألا يُجاروا بعضَ قصيري النظر ممن يُقَيِّمون عمل الجامعة وحاجاتها بعدد الطلبة وعدد الدروس التي تلقى عليهم.
ومن ناحية أخرى يجب أن نسارع إلى إنشاء مجمع علمي يتصل اتصالًا وثيقًا بحياة علمائنا وباحثينا، ويكون له من المقام العلمي ما لغيره من مجامع الأمم المتحضرة، وفي رأيي أن إنشاء هذا المجمع أمر لا مفر منه إذا أردنا للبحث العلمي في مصر نموًّا واطرادًا، واختيار أعضاء هذا المجمع عمل من أهم الأعمال وأبعدها أثرًا في مستقبل حياتنا العلمية، فالجاه والمنصب والنفوذ الشخصي كلها أمور محلية يجب أن لا نقيم لها وزنًا في اختيار أعضاء المجمع، والشيء الوحيد الذي يجب أن يدخل في حسباننا هو المقام العلمي المبني على الإنتاج المبتكَر في ميدان البحث العلمي. ثالثًا: يجب علينا أن نُعنى بنشر البحوث العلمية التي يقوم بها أساتذة الجامعة وسائر المشتغلين بالبحث والابتكار، فالكثير منا يكتفي اليوم بنشر أبحاثه بالمجلات الأجنبية لما لهذه المجلات من مكانة معترف بها، ولو أن ما يُنشر في كل سنة من بحوث المصريين والمقيمين في مصر في هذه المجلات الأجنبية، لو أنه جُمع ووُضع بين دفتين لكفى لإخراج مجلة، بل لعله يكفي لإخراج مجلات متعددة. وفي رأيي أنه قد آن الأوان لتنظيم إصدار مجلة أو عدة مجلات علمية في مصر، وإذا أنشئ المجمع الذي أشرت إليه فإن البحوث التي تُلقى فيه ستنشر بطبيعة الحال في مجلة دورية أو نشرات متسلسلة تدون فيها بحوثه العلمية. وفي البلاد الأخرى تعرض البحوث عادة على محكمين مخصصين يقومون بفحصها وتقرير صلاحيتها أو رفضها، ولا يضير المجلة أو الهيئة العلمية أن يكون المحكِّمون خارجين عنها؛ فالبحث العلمي اليوم قد وصل إلى درجة عالية من التخصص الضيق بحيث لا يوجد في العالم كله إلا نفر قليل يستطيع كلٌّ منهم أن يحكم على مستوى بحث معين، ونحن إذا سلكنا هذا السبيل فلن يضيرنا الاتجاه إلى محكمين من غير المقيمين في مصر كلما وجدنا ضرورة لذلك لكي نحتفظ بمستوى عالٍ لمجلاتنا العلمية، وستكون اللغات التي تنشر بها الأبحاث هي اللغات العلمية الأربع المعترف بها في المؤتمرات الدولية، ولكن واجبنا نحو اللغة العربية ونحو أنفسنا يقضي علينا بنشر تراجم أو ملخصات عربية لكل ما يُنشر.
فإذا نحن قمنا بإنشاء مجمع علمي على النحو الذي ذكرته، ونظمنا نشر البحوث بالطريقة التي وصفتها، فإن على الدولة أن تقوم بتخصيص المال اللازم لتشجيع البحوث والإنفاق عليها، وعلى رجال العلم أن يطالبوا الدولة بذلك لأنهم أبصرُ من غيرهم بضرورته وفائدته.
هذا إذن ملخص ما يكون عليه تنظيم البحث العلمي في دائرته البحتة أو الأكاديمية، ولقد خَطَوْنا خطوات محسوسة في هذا الميدان، فالبحوث العلمية البحتة موجودة فعلًا يقوم بها علماؤنا في الجامعة وخارج الجامعة، وينشرون في مجلات أجنبية أو محلية، فإذا نحن نظرنا إلى البحوث التطبيقية رأينا صورة تختلف عن هذه الصورة؛ فكمية البحث التطبيقي في مصر ضئيلة لا تكاد تُذكر، والمجال أوسع للخلق والاستحداث، فالبحث الصناعي مثلًا يكاد يكون منعدمًا. حقيقة توجد بحوث في الناحية الزراعية تقوم عليها بعض أقسام وزارة الزراعة والجمعية الزراعية الملكية، وهذه لها قيمتها وأثرها في تقدم الزراعة في مصر، كما توجد بحوث تطبيقية يقوم بها بعض الأفراد والهيئات داخل الجامعة وخارجها، إلا أن هذه جميعًا لا تزال في حاجة إلى كثير من التوجيه والتنظيم، كما أنها في حاجة إلى أن تتصل بالبحوث العلمية البحتة. أما في الناحية الصناعية فإن مشكلاتنا الصناعية لا تكاد تلقى عناية تُذكر، فلنأخذ مثلًا صناعة التعدين نجد أن الشركات الأجنبية التي تقوم بالبحث عن المعادن بما في ذلك البترول في مصر تنفق أموالًا طائلة على البحث الصناعي المحلي، ولولا ذلك لما اهتدت هذه الشركات إلى أماكن استخراج البترول والمعادن الأخرى، إنما كان الأولى أن نقوم نحن بالبحث عن هذه المعادن في صحرائنا وأن نخصص الميزانية اللازمة لذلك. إن البحث عن المعادن يقوم على أساس علمي من التجارب وله طرائق خاصة ليست سرًّا على رجال العلم، ولا تتطلب عمليات البحث مؤهلات علمية عالية، وإنما شيئًا من بُعد النظر ومن التنظيم. وفي رأيي أنه يجب أن يكون لنا سياسة ثابتة في صناعة التعدين تقتضي تخصيص أموالٍ في ميزانية الدولة للبحث العلمي عن معادننا وما اختبأ في جوف الأرض من ثرواتنا الاقتصادية. وإذا كان صرف الأموال في هذا البحر يستحق أن يعمل في نظر شركات تأتينا من بعيد لهذا الغرض، فإنه يجب أن يكون أكثر استحقاقًا في نظرنا نحن أهل البلاد، ولا يمكن أن توصف سياسة ترك البحث عن معادننا لهيئات أجنبية إلا بأنها قصيرة النظر، فكل قرش يُصرف في هذا البحث يعود إلى صاحبه أضعافًا مضاعفة. كذلك لننظر إلى العمليات المختلفة التي تدخل في صناعتنا: إن كل عملية صناعية خاضعة لتطور مستمر كنتيجة للبحث الصناعي، فأين الباحثون؟ وأين الأموال المخصصة للبحث؟!
ذكرت أن أمامنا ثلاث مسائل؛ الأولى: مسألة البحث العلمي البحت، وقد فرغت منها. والثانية: مسألة البحث العلمي التطبيقي أو الصناعي. والثالثة: تنظيم العلاقة بين هذين النوعين من البحوث. والنظر في المسألة الثانية يقترن بالنظر في المسألة الثالثة، فالبحث العلمي التطبيقي أساسه البحث العلمي البحت كما قدمتُ، وإذن فلكي ننظم البحث التطبيقي وجب علينا أن نبني هذا التنظيم على البحوث العلمية البحتة.
ولكي نستنير في ذلك بما هو حادث عند غيرنا من الأمم سأصف بإيجاز كيفية تنظيم البحوث الصناعية في البلاد الأخرى.
فأول ما نشاهده وجود مؤسسات تُعنى بما يصح أن نسميه المعايير العلمية للصناعة، ففي كل صناعة توجد معايير متفق عليها لقياس الصفات والخواص الرئيسية للمصنوعات والعمليات الصناعية، وعلى الدولة أن تحدد المعايير التي تُقاس بها هذه الصفات وأن يكون لديها من الوسائل ما يُمَكِّنها من إجراء عمليات القياس والمقارنة التي تتطلبها القوانين الصناعية. ومن هذه المعايير ما هو أساسي وبسيط كمقاييس الطول ومكاييل الحجم، ومنها ما هو معقد كقياس قدرة آلة ذات محرك داخلي أو كتقدير قدرة إنارة مصباح. وفي العصور الماضية كان الأمر لا يقتضي أكثر من اختبار مقاييس الطول ومكاييل الحجم وصَنْج الوزن مع مراقبة الفلزات الغالية الثمن كالذهب والفضة وتمغها بخاتم خاص. هذا ما كان عليه في القرون الوسطى، وهذا هو تقريبًا الحال في مصر اليوم، فإذا صُنع ترمومتر في مصر وأُريد معرفة ما إذا كانت عملية تدريجية صحيحة لم نجد معهدًا معترَفًا به من الدولة يستطيع أن يفتينا في الأمر، وإذا أريد قياس قدرة محرك كهربائي والتعبير عن ذلك بالوحدات الدولية المصطلح عليها، عجزت نظمنا عن ذلك، واعتمدنا على تقدير غيرنا، فصرنا تحت رحمتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة.
وفي أمريكا يوجد معهد يسمى المعهد الأهلي للمعايير بمدينة واشنجتون، يقوم بضبط وقياس كل ما تحتاج إليه الصناعات من أقيسة وضوابط، وفي إنجلترا معمل الطبيعة الأهلي ببلدة قريبة من لندن، وفي هذا المعمل الحكومي يقوم علماء متخصصون بإجراء جميع العمليات المرتبطة بضوابط الصناعة، والقوانين الوضعية الصناعية في كل من إنجلترا وأمريكا دقيقة وصارمة، وأغلب الظن عندي أن وزارة التجارة والصناعة في مصر قد بدأت تشعر بالحاجة إلى معهد من النوع الذي أشرت إليه يقوم بمساعدتها وشدِّ أزرها في مهمتها، فالتقدم الصناعي أساسه الضبط والإحكام. وقبل أن يتيسر البحث فيما هو مجهول يجب أن نحدد ونضبط ما هو معلوم وإلا نشأت الفوضى واختلفت المعايير وضاع القسطاس المستقيم. فالعلم هو قبل كل شيء أمر كمي أساسه القياس والعدد، وقياس أبسط الأشياء يحتاج إلى معيار ثابت يقاس به، وتجد نتائج الفوضى في القياس بادية في حياتنا التجارية؛ فالأردب يجوز أن يكون ١٢ كيلة أو ١٣ كيلة، والذراع إما أن يكون بلديًّا أو معماريًّا، والطرناتة إما أن تكون ٢٠ قنطارًا أو ٢٢ قنطارًا وهي في الواقع ليست أيهما، أما في درجات الحرارة وقدرة المحركات وإنارة المصابيح فأمره بيد غيرنا!
ولا يقتصر عمل معهد المعايير على الصناعة وحدها، بل يقوم بخدمات جليلة في ميدان البحث العلمي البحت والتطبيقي، فالعالم في معمله كثيرًا ما يلجأ إلى معهد المعايير لضبط أجهزته وآلاته. وهكذا كل من البحث العلمي البحت والبحث العلمي التطبيقي في حاجة إلى معهد المعايير الذي يمكن اعتباره ضابطًا لا غنًى عنه.
قلت إن البحث الصناعي أساسه البحث العلمي البحت أو هما أمران مرتبطان. ولكي نوجِد الصلة ونحقق التعاون المنشود بينهما يجب أن تكون لدينا أداة صالحة لهذا الغرض، وفي إنشاء معهد فؤاد الأول للبحوث العلمية والصناعية الذي تكلمتُ عنه في الفصل السابق. أقول إن في إنشاء هذا المعهد — لو تم — تحقيقًا لهذا التعاون وهذه الصلة التي نرجو وننشد، فالفكرة الرئيسية في إنشاء هذا المعهد أن يكون همزة الوصل بين العلم والصناعة.
وشبابنا الذين يدرسون العلوم في تعليمهم العالي ويحصلون على الدبلومات والدرجات الجامعية يوجّه القادرون منهم نحو البحث الصناعي، وبذلك ننشئ جيلًا جديدًا من المتخصصين الأكفاء الذين يجمعون بين الإعداد العلمي الصحيح والخبرة الفنية العالية، فنستغنى بهم عن الخبراء الأجانب الذين نستدعيهم في كل أمر وفي كل ميدان.