حرائق وأنَّات!
فجأة ارتفعت ألسنة اللهب في الصندل البحري الواقف في ميناء «رملة بولاق»، وملأ الدخان سماء المنطقة حتى حجَب ضوء الشمس، ورأى الناس الغروب في ساعة الظَّهيرة.
في تلك الأثناء كانت «ريما» تجلس في الطابق الرابع بمبنى «كايرو بلازا»، الواقع بالقرب من الميناء، ولفت نظرها سُحب الدخان، فخشيَتْ أن يكون ذلك بسبب حريق في المبنى ذاته، ولكن عندما عرفت أنه من الميناء، استأذنت من مُضيفتها السيدة «رولا»، وهرولت إلى المِصْعد هابطة إلى الدور الأرضي، وقطعت المسافة منه إلى الميناء في دقائق، وكانت سيارات المطافئ قد ازدحمت حوله، ونفرٌ غير قليل من عساكر الشرطة يُبعدون المارَّة الذين وقفوا يشاهدون الحريق، وحتى لا يعرقلوا جهود رجال الإنقاذ.
فانسلتت «ريما» من بينهم، حتى صارت في مواجهة الصندل المشتعل، فهالتها ألسِنةُ اللهب المرتفعة في السماء في مزيج من الألوان، وعشرات الخراطيم الضخمة تنطلق منها المياه … فتبدو كخيوط رفيعة رغم تدفُّقها بغزارة … فأخرجت بطاقتها الأمنية، وتوجَّهت إلى ضابط الإطفاء تسأله عن سبب الحريق، فطلب منها إمهاله بعض الوقت حتى يُحكِموا السيطرة على النيران، وبعد ذلك يصرِّح لها بما تشاء.
وتقديرًا للموقف، انسحبت من المكان، وفي نيَّتها مراقبة ما يحدث من مكان آخَر، لتُكوِّن صورة واضحة عن الحادث، تنطلق منها للبحث في أسبابه ومسبباته … فلكل حادث احتمال وجود فاعل، مما يعني أنه حدَث عن قصدٍ، ذلك إنْ لم يثبت أن هناك أسبابًا أخرى.
تركت «ريما» الزحام، ومن بعيد رأت لنشات شرطة المسطحات المائية تتجه في مجموعات إلى موقع الحادث، وأيضًا العديد من سيارات الشرطة، ودراجات المرور النارية، تُفسح الطريق لسيارة تبدو أنها لمسئول كبير، أتى ليتابع الأحداث عن قُرب … ومن خلفهما سيارة التصوير الخارجي للتليفزيون، وأصبح المكان لا يصلح لممارسة فضول الشياطين، فرأت أنه من الأجدى متابعة ما يجري … من مكتب السيدة «رولا» بمبنى «كايرو بلازا»، مستعينة في ذلك بنظارتها المعظمة … التي تحتفظ بها ضمن باقي معداتها في حقيبة السيارة، وكان ذلك مثار ترحيب بالسيدة «رولا»، والتي كانت تُكِنُّ ﻟ «ريما» حبًّا خالصًا، فقد كانت صديقة والدتها أثناء إقامتها في «الأردن»، فالسيدة «رولا» لبنانية الجنسية، تعمل مديرة مكتب للاستيراد والتصدير يملكه رجل أعمال لبناني.
من شرفة هذا المكتب وقفَت «ريما» تُتابع ما يحدث، ونظَّارتها المعظمة تُقرِّب لها الصورة، وكأنها تقف في موقع الأحداث، وقد لفت نظرها بعض الصنادل البحرية تتجه بعيدًا عن موقع الأحداث، وأمامها لنش يخصُّ قوات شرطة المسطحات المائية.
فأثار ذلك بداخلها تساؤلًا عمَّا إذا كانت هناك علاقة بين الصنادل … والصندل المحترق، وأيضًا شاهدت بعض ضباط الشرطة، يتحدَّثون إلى رجل يبدو من مظهره أنه رجلُ مالٍ غير مصري … وهناك آخر يبدو من مظهره أنه رجل النيابة، يحيط به بعض الرجال، يوحي مظهرهم بأنهم ملاحي الصندل المحترق.
ورغم مرور أكثر من ساعتين على الحريق … فإن جهود الإنقاذ لم تُسفِر عن تحسُّن واضح … أو قرب انطفاء النار … فثار تساؤل في نفس «ريما»، مما جعلها تتوجَّه بالسؤال للسيدة «رولا» قائلة: ما عمل هذا الصندل … وماذا يحمل؟
نهضت السيدة «رولا» من خلف مكتبها … وتوجَّهت إلى حيث تقف «ريما» التي ناولتها نظارتها المعظمة، فألقت بها نظرة على ما يحدث … ثم قالت لها: إن هذه الصنادل تحمل محاصيل زراعية … من أقاصي الصعيد.
ريما: المحاصيل الزراعية … لا تُحدث مثل هذا الحريق … ولا تُشعل نيرانًا كهذه يمرُّ عليها كل هذا الوقت … وهي كما هي لا تنطفئ ولا تهمد. فهل المحاصيل الزراعية تطلق كلَّ هذا اللهب … وينتج عنها كل هذا الدخان؟!
السيدة «رولا»: بالطبع لا … ولكن من الواضح أن الصندل المحترق، لم يكُن يحمل محاصيل زراعية، بل كان يحمل وقودًا بكمية كبيرة تكفي لهذه الرحلة الطويلة، لجر بقية الصنادل المحمَّلة بالمزروعات … إذا ما حدث بمحركاتها عطل.
ريما: أي إن هذا الصندل المحترق هو مخزن الوقود لبقية الصنادل؟
رولا: نعم.
ريما: ولماذا هذه الصنادل … وهناك قطارات وسيارات نقل؟
رولا: لأن النقل عبر هذه الصنادل … أقل تكلفة بكثير؛ ولأنها أيضًا تستوعب كميات كبيرة من المحاصيل.
ريما: إذَن، فمِن المُستبعَد أن يكون هناك شبهة جنائية حول الحادث؟
رولا: ليس هناك شيء مُستبعَد الحدوث … ولكن أخبريني … لماذا كل هذه الأسئلة … وماذا تعملين في «القاهرة»؟ وماذا تَدرُسين؟
ضحكَت «ريما» ضحكةً جَزْلى، ووعدتها أن تجيبها عن أسئلتها في زيارة قادمة لها، وانصرفت مُسرِعة لتلحق بوكيل النيابة الذي رأته يهمُّ بمغادرة موقع الحادث … إلَّا أنها لم تلحق به، فتابعته في سيارتها إلى أن وصل إلى مقرِّ النيابة … فأبرزت بطاقتها الأمنية للواقفين ببابه ولحقت به … إلَّا أنه كان قد أغلق باب غرفته … فطرقتها برفقٍ، وسمعَت مَن يأمرها بالدخول.
وحين رأى بطاقتها الأمنية، رحَّب بها كثيرًا وسألها عمَّا تريد … وعندما علم برغبتها في الوقوف على نتيجة التحرِّي في حادث احتراق الصندل، ابتسم قائلًا: هل ما تقومين به لخدمة إحدى شركات التأمين؟
ريما: لا … إن مهمتي أدق من ذلك بكثير … لذلك أرجو أن تكون المعلومات التي سأحصل عليها منكم وافية.
عادت «ريما» إلى المقر السري الصغير بالهرم … ومعها حصيلة المعلومات التي حصلت عليها من وكيل النيابة … ومن السيدة «رولا»، وبما شاهدته في الميناء … وبداخلها شعور بأنها بداية مهمة … وأنها تحتاج إلى عَقْد اجتماع عاجل مع الشياطين قبل اتخاذ قرار إبلاغ رقم «صفر»، لكنها لم تجِد «أحمد» في المقر … وقد أخبرها الكمبيوتر أنه في طريقه إلى المقر السري الكبير … في الصحراء الغربية … ومعه «إلهام» و«عثمان»، وعلى الباقين أن ينتظروا الأوامر … فشعرت أن في الأمر شيء … فقد كان معهم «أحمد» حتى صباح اليوم … ولم يكُن في نيته السفر، ممَّا يعني أن قرار السفر اتُّخِذ فجأة وهناك دافع له … فما هو؟
شعرت «ريما» أن ما يشغل رأسها كثير … وعليها ألَّا تترك نفسها لكل ذلك، وأن تدع النتائج حتى تأتي وحدها.
وقد أتت أول نتيجة قبل أن تغلق جهاز الكمبيوتر … وكانت «زبيدة» التي ظهر اسمها على الشاشة يومض ويختفي، فداعبتها في جهاز الاستدعاء قائلةً: آنسة «زبيدة» عليها التوجُّه إلى غرفة المعلومات.
فعرفت صوتها … وردًّا على المداعبة، قالت لها: غرفة المعلومات بها شوشرة، وأرجو معرفة سبب ذلك قبل توجُّهي إليها.
قالت ذلك … وبداخلها شعور أن في الأمر شيئًا مثيرًا … ففي الصباح يسافر «أحمد» و«إلهام» و«عثمان» فجأة، والآن ها هي «ريما» بغرفة المعلومات تطلب منها أن تلحق بها.
لم يتغيَّر الحال كثيرًا بعد أن صَعِدت «زبيدة» إلى «ريما»، فلم تكُن عندها إجابة لتساؤلها عمَّا يحدث في المقر السري الكبير … وقرَّرتا عَقْد اجتماع عاجل … لبقية الشياطين الموجودين في «القاهرة»، للوقوف على ما يحدث أو انتظار الاستدعاء.
وعندما وصلت رسالة «ريما» إلى «فهد»، كان جالسًا بجوار «بو عمير»، الذي كان يقود لنشًا … يجمع باقي أفراد الشياطين، في طريقهم لمعاينة مكان الحادث، والوقوف على أسبابه، فأخبرها بذلك، وبأن هناك معلومات جديدة حول الموضوع سوف تعرفها عندما يعودون.
وقد لاحظ «فهد» طوال رحلة اللنش، أن هناك مَن يراقبهم من أحد الأبراج المُطِلة على النيل، مستخدمًا نظارة معظمة، وقد كان هو أيضًا يرتدي نظارة معظمة، ولكنها تبدو كالنظارة الطبية العادية ولكنها قوية جدًّا … وعندما عادوا إلى المقر، كان أول ما فعلوه هو الالتقاء ﺑ «ريما» و«زبيدة». وكانت لديهم الكثير من المعلومات أيضًا عن ذلك الحادث، ممَّا تطلَّب تعاونًا منهم لإعداد تقرير يُقدَّم إلى رقم «صفر».
وبينما هم يُعِدُّون التصوُّر المنطقي لأسباب شتَّى ترجِّح مَن يكون مدبِّر هذا الحادث، تلقَّوْا رسالة من المقر السري الكبير بأن «أحمد» و«إلهام» و«عثمان» موجودون هناك، وسيلتقون بهم على الشبكة الخاصة بالمنظمة بعد عشر دقائق.
وفي الميعاد المحدَّد، تلقَّى الجميع تحية المساء من الشياطين الثلاثة، وتمنيات العاملين بالمقر الكبير لهم بالتوفيق، ثم سألهم «أحمد» إن كانت هناك أحداث جديدة وقعت؟
فتبادل الجميع النظرات وهم يبتسمون، فأجابه «مصباح» قائلًا: أحداث مثل ماذا؟
ففهم قصده، واختصارًا للوقت قال له: حادث اختراق الصنادل البحرية ﺑ «رملة بولاق»!
مصباح: وحادث اختفاؤك؟
أحمد: ستعرفون أسبابه فورًا.
ريما: بالنسبة لحادث «رملة بولاق» فقد كنت هناك وقت اختراق الصندل، وتابعت الحادث من مكان وقوعه، ثم من أعلى مبنًى مجاور له.
فهد: وقمت أنا وبقية الشياطين باستئجار لنش من نادي اليخت، وطُفنا حول موقع الأحداث، والْتَقينا بملَّاحي بقية الصنادل التي كان يقطرها ذلك الصندل.
أحمد: وهل توصَّلتم إلى شيء؟
ريما: أهم ما توصلت إليه … هو أن هذه الصنادل كانت تحمل كميات كبيرة من «البطاطس»، التي كانت في طريقها للتصدير.
أحمد: وكان هذا أيضًا سبب سفري إلى المقر الكبير.
فهد: أكنتَ على علم بعملية إحراق الصندل؟
أحمد: بالطبع لا … ولكني أقصد البطاطس.
بو عمير: تقصد مزارع البطاطس المحيطة بالمقر؟
أحمد: نعم … فهناك آفات ظهرت لم تكُن موجودة من قبلُ، وقد شاهد بعضُ حرَّاس الموقع عددًا من الأعراب يسيرون بين زراعات البطاطس ليلًا، وقد طاردتهم كلاب الحراسة، ولولا سياراتهم التي كانوا قد تركوها دائرة، لَمَا أفلتوا من أنيابها.
مصباح: وما المقصود بهذه العمليات؟
أحمد: الاقتصاد المصري طبعًا.
ريما: كيف؟
أحمد: إن «مصر» وباقي الدول العربية تتجه الآن إلى التنمية بخطًى واسعة واثقة، ولم تعُد خطط الزراعة أو التصنيع من أجل الأسواق المحلية والاكتفاء الذاتي فقط … ولكن أيضًا من أجل التصدير.
قيس: نعم … ففي بلدي «السعودية» — ورغم ندرة الماء — فقد نجحت زراعة القمح نجاحًا كبيرًا، حتى إننا نصدِّر منه إلى الأسواق العالمية.
أحمد: والذي حدث في مصر … أننا نجحنا في زراعة أصناف من البطاطس ذات جودة عالية، وهي مطلوبة عالميًّا، بالذات من دول «الاتحاد الأوروبي»، أصبحنا نصدِّر أكثر من ٤٥٠ ألف طن سنويًّا.
فهد: إنه رقم كبير!
أحمد: طبعًا، ولكن الأعداء وأصحاب المصلحة المضادة دائمًا موجودون. وقد حدث أنهم الْتَفُّوا ذات عام على أصحاب القرار في الدول المستوردة، فرُفِضت كل صادراتنا من هذا المحصول بحجج واهية، مما أدَّى إلى خسارة فادحة للمنتجين، وأحدث ذلك أزمة ثقة بين المنتجين والسوق، لولا وقوف المسئولين إلى جانبهم، لتعود «مصر» لمكانتها في تصدير البطاطس دوليًّا.
ريما: وعندما فشلت مساعيهم في الخارج، اتجهوا لضرب الإنتاج في الداخل.
عثمان: نعم، بنشر الأمراض في الأرض الزراعية، وبإحراق وسائل نقل المحاصيل وإغراقها.
أحمد: ليس هذا فقط … بل تهديد المزارعين في الأرض الجديدة … وتهديد أمنهم بطرق كثيرة.
إلهام: وأعتقد أنه ستكون هناك محاولة لإغراق السفن التي ستحمل البطاطس للأسواق الأوروبية.
وافق «أحمد» على كلام «إلهام»، واتفق الجميع على إبلاغ رقم «صفر» بما تمَّ التوصُّل إليه، مع سرعة عقد اجتماع في المقرِّ السري الصغير بالهرم.
ورغم أن ذلك الاجتماع كان مساء اليوم التالي، والمسافة بين المقر الكبير بالصحراء الغربية والمقر الصغير بالهرم كبيرة … فإن الشياطين الثلاثة آثروا استخدام السيارة الجديدة التي صُمِّمَت خِصَّيصَى لهم، فقد كان شيئًا رائعًا قيادة سيارة تحمل ما لم يظهر في السوق بعدُ من تكنولوجيا متقدمة … فقد كان بها عجلتا قيادة، وعصا تحكُّم في السرعة تسمح بانتقال القيادة من السائق إلى مساعده والعكس، وجسمها الخارجي مُصمَّم بحيث يحمله الهواء في ارتفاعات منخفضة عند السرعة الكبيرة والتي تتجاوز المائتي كيلومتر … دون أن يلاحظ أحد ذلك، مما يجعلها آمنة في قيادتها، خاصة عند السرعات التي تصل إلى ٤٠٠ كيلومتر، بالإضافة إلى الرادار الأرضي المُركَّب بها، والذي يمسح الطريق أمامها حتى مسافة كيلومتر، فإذا ما اكتشف عائقًا لا يمكن تفاديه، أعطى أمرًا للسيارة، فترتفع في الهواء وتتخطَّاه؛ ولهذا كان قرارهم بالعودة إلى القاهرة في سيارة القرن الحادي والعشرين والتي أطلقوا عليها اسم «البراق».
وعند أول خيط من خيوط الفجر، كانت «البراق» قد احتوت بداخلها الشياطين الثلاثة … وقد ربطوا أحزمة الأمان … وأَجْروا الاختبارات اللازمة على جميع أجهزتها … عن طريق الكمبيوتر المُلحَق بها. وفي غرفة المتابعة جلس عدد من العلماء والمهندسين أمام شاشات المراقبة، يتابعون رحلة الشياطين «بالبراق»، عن طريق القناة الخاصة بهم في القمر الصناعي «نايل سات».
وعند إشارة الاستعداد هدَر موتور السيارة في صوت ناعم خفيض، ومع إشارة الانطلاق كانت قدم «أحمد» قد ضغطت على بدَّال السرعة، لتقفز الأرقام الزرقاء المضيئة في عداد السرعة الإلكتروني إلى مائتي كيلومتر في غضون عشر ثوانٍ، وشعرَ الشياطين أنهم يرتفعون في الهواء … وأن عجلات السيارة لا تلامس الأرض، فهم لا يشعرون بالاهتزازات التي يُحدِثها احتكاك العجَل بالطريق.
وتنفيذًا لأوامر مقر القيادة … زاد من سرعتها حتى بلغت ٤٠٠ كيلومتر. وبالتحكُّم في جزء خاص بالجسم، زاد ارتفاع السيارة عن أرض الطريق … إلى متر ونصف المتر، ثم عادت إلى الأرض مرَّة أخرى في منحنًى واسع.
وكانت هذه القفزات هي ما يريد علماء المقر أن يتأكَّدوا من نجاح الشياطين في استيعابها … ومعرفة متى وكيف يستفيدون منها … إلَّا أن الإرسال انقطع بينهم فجأة، فلم يعُد «أحمد» يسمع تعليماتهم، ولم يعودوا يرَوْن على شاشة المراقبة غير نقاط سوداء.