نفايات ذريَّة!
احتاجَ «أحمد» لكي يستطيع النوم إلى القيام ببعض تمرينات «اليوجا» التي تُساعد على الاسترخاء … وفي صباح اليوم التالي، وفي غرفة الطعام، شعرَت «ريما» أنه كان شاردًا … وأنه بالكاد يردُّ عليهم تحية الصباح … فاحترمَت صمته ورغبته في الانفراد بنفسه … غير أن موضوعًا هامًّا لا يحتمل التأجيل دفعها لاقتحام خلوته قائلة: ماذا تشرب يا «أحمد»؟ فلم يردَّ عليها … فنادَتْه لتُخرجه من شروده حتى استجاب لها.
فقالت له: ماذا تشرب؟
فنظر إلى الكوب الموضوع أمامه مليًّا … ثم الْتَفتَ إليها مبتسمًا.
فقالت له: أنت لستَ معنا منذ فترة!
أحمد: ماذا لديك؟
ريما: إنه بخصوص حرب «البطاطس»!
أحمد: أسمعُكِ.
ريما: أليس من المُستبعَد استخدام النفايات الذرية لتشويه سمعة إنتاجنا؟
فتوافقَ كلامها مع ما يفكِّر فيه … فاعتدلَ في جلسته ثم سألها: كيف؟
ريما: إن دفن نفايات ذريَّة في الأراضي المنزرعة «بالبطاطس»، أو خلطها بالتربة، يؤدي إلى إنتاج «بطاطس» ملوثة بالإشعاع.
فالْتفتَ إلى «إلهام» التي كانت تجلس مع «زبيدة» في ركن بعيد عنه وقال لها: أسمعتِ ما تقوله «ريما»؟!
إلهام: ماذا قالت؟
ريما: لقد نسينا أن النفايات الذريَّة أصبحت تجوب العالم بحثًا عن مدفن لها، والعالم كله يرفض دفنها في أرضه.
عثمان: طبعًا لآثارها المدمِّرة على البيئة وعلى التربة، والتي قد لا تصلح للزراعة مرة ثانية … إلَّا بعد مرور أكثر من مائة عام.
مصباح: وإن لم يكتشف أحد ما بها … وقام بزراعتها أنتجت محاصيلَ مُشِعَّة تؤدي إلى الموت البطيء، وأمراض كالسرطان، وتَشوُّه الأجِنَّة، وغيره الكثير من الأخطار.
إلهام: نحن لم ننسَ … ولكن ما أهميتها لنا الآن في حرب «البطاطس»؟
أحمد: «ريما» تقصد أن يخلط أحدهم تربة مزارع «البطاطس» بنفايات ذريَّة.
علَت همهمة بين الشياطين، فرفع «أحمد» يده قائلًا: لقد شغلني هذا الموضوع مساء أمس، ولولا الكثير من تمرينات الاسترخاء … ما استطعتُ النوم.
قيس: ولماذا لم تناقشنا فيه … وقد كنا معًا مساء الأمس؟
أحمد: لقد تذكَّرتُ قبل النوم فيلمًا صوَّرَته غرفة مراقبة المقر لمجموعة الرجال الذين تسللوا لزراعات «البطاطس».
عثمان: أذكر أن أحدهم كان ينحني ليلتقط شيئًا … أو ليضع شيئًا. وهنا صاح بصوت خفيض قائلًا: نعم يا «أحمد»، الأمرُ جِد خطير … فقد يكون ما وضعه نفايات ذريَّة!
أحمد: فلتستعد أنت و«مصباح»، فسنعود إلى المقر الكبير اليوم.
إلهام: لماذا لا تتصل بهم … ويقومون بمسح الزراعات كلها بما لديهم من إمكانات.
أحمد: لا … فسيظل الموضوع سرًّا بيننا لاعتبارات كثيرة.
ريما: أستحملون معكم كاشفًا للإشعاع؟
أحمد: نعم … ولكن يجب تثبيته في شاسيه السيارة … حتى نستطيع مسح الزراعات كلها بمجرد السير فوقها.
وهنا تركهم «خالد» متوجِّهًا إلى جراج المقر … وقبل انتهاء استعداد الشياطين للرحيل، عاد إليهم قائلًا: على فكرة … السيارة مُهيَّأة للكشف الإشعاعي … وقد سجَّلَت نسبة كبيرة من الإشعاعات في نفس ساعة مغادرتكم للمقر.
إلهام: هل مرَرْنا فوق زراعات «البطاطس»؟
أحمد: لا أتذكَّر … ولكن الموضوع خطير جدًّا … المهم ألَّا تكون هناك مقبرة للنفايات بالقرب من المقر.
ريما: معنى ذلك أننا نكون قد تعرَّضنا كلنا لخطر الإشعاع؟
زبيدة: كذلك كل العاملين بالمقر الكبير.
وعندما خرجت سيارة الشياطين إلى ميدان الرماية، كان الميدان مكتظًّا بسيارات الشرطة … فآثرَ «أحمد» السير بسرعةٍ لا تثير الشبهات حول السيارة، إلى أن تعمق في طريق «الإسكندرية» الصحراوي، فربط حزام الأمان … وكذلك «عثمان» و«مصباح»، وترك لعداد السرعة العنان … لتجري أرقامه سريعًا … وتقفز سرعة السيارة إلى ٤٠٠ كيلومتر، ولم يشعروا بالطريق، لارتفاع السيارة في الهواء … وبالقرب من المقر الكبير في الصحراء الغربية، بدأ يراقب مؤشِّر كاشف الإشعاع … إلَّا أن «عثمان» طلب منه السير ببطء حتى يتمكَّنوا من مسح المنطقة جيدًا.
وإلى أن وصلوا إلى المقر، كانت إدارة المقر تُراقب تحركاتهم … فخرجت لهم سيارة مدير الأمن لتعاونهم في دخول السيارة … واندهش الشياطين لهذا الإجراء الذي لم يُتخذ معهم من قبل … وعرف بعد ذلك أن المقر يتخذ بعض الإجراءات الأمنية المشددة لحماية العاملين به وبالمنظمة، وقد اتصل رقم «صفر» به ليخبره بذلك قائلًا: لقد علمت الأجهزة الأمنية بالمقر أن هناك إشعاعات ضارة، تصدر من مصدر مجهول، وكان عليهم اتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع وقوع أضرار لأحد.
أحمد: ومتى علموا بذلك؟
رقم «صفر»: بالأمس فقط.
عثمان: عن طريق سيارتنا؟
رقم «صفر»: نعم.
أحمد: حدث ذلك دون أن نعلم أن لها اتصالًا بهم؟!
رقم «صفر»: لا تنسوا أنها كانت خاضعة للمراقبة بالأمس؛ لأنه كان آخِر يوم اختبار لها … وهو الاختبار العملي.
مصباح: وهل تحدَّدت المناطق الملوثة بالإشعاع؟!
رقم «صفر»: هناك بعض التعديلات سيقوم بها المقر في سيارتكم، حتى تُصبح بعدها هي الأنسب لهذه المهمة … وإلى أن ننتهي من هذه التعديلات، ستحملكم طائرة هليكوبتر … إلى مطار القاهرة وستقابلان هناك «ريما» … ومعها تعليمات جديدة … وفَّقكم الله!
تبادل الشياطين النظرات وعلى وجوههم ابتسامة سعادة … فها هي المفاجآت التي يحبونها … والتي تُشعل فيهم الإثارة … والتي تعوَّدوا عليها، وها هي الطائرة الهليكوبتر تحملهم إلى مطار القاهرة ليجيبوا على ما يدور بخلدهم من أسئلة. فتواجُد «ريما» بمطار القاهرة يعني أنهم مسافرون … إذَن، إلى أين؟ ولماذا «ريما» بالذات؟ هل لهذا علاقة بتواجُد «ريما» ومتابعتها لحادثة احتراق الصندل وقت وقوعها؟ أم لعلاقتها بالسيدة «رولا» مديرة مكتب «كنعان» رجل الأعمال اللبناني؟
ولم يجدوا لهذه الأسئلة إجابات إلى أن وصلوا إلى مكتب شركة «مصر للطيران»، حيث كانت تجلس «ريما» التي ما إن رأتهم حتى ابتسمت ابتسامة عريضة، فسألها «أحمد» مداعبًا: ماذا فعلتِ؟
ريما: علمتُ أن السيد «كنعان» سافر إلى «فرنسا»، في نفس الوقت الذي غادرَت فيه الميناءَ سفينةٌ تحمل شحنة «بطاطس» كبيرة.
مصباح: إلى أين؟
ريما: إلى «فرنسا».
وفي «فرنسا» وفي مطار «شارل ديجول» بباريس، بحثت «ريما» عن السيدة «رولا» فلم تجدها، وطال بحثها، وشعر «أحمد» بالقلق … فهو لم يتعوَّد أن يكون القرار خارج يده … لذا فقد سأل «ريما» إن كانت تعرف لها عنوانًا في «باريس»، أو رقم تليفون؟
ريما: إنها ستصل اليوم أيضًا.
أحمد: ألم تكُن معنا على نفس الطائرة؟
ريما: لا … فقد حجزَت في شركة طيران أخرى.
مصباح: وهل تعرفين ميعاد وصولها؟
ريما: لا … ولكنها تعرف ميعاد وصولي.
ابتسم «أحمد» ممَّا أثار حنق «ريما»، فسبقتهما وخرجت من المطار وحدها … وسمعت مَن يناديها … فلم تعبأ في أول الأمر … ولكنها فطِنت لأن صوت مناديها هو صوت السيدة «رولا» … التي سعدت كثيرًا برؤيتها.
ومن بعيدٍ أشار لها «أحمد»، فعرفت أنه سيتتبعهما دون أن تلاحظ السيدة «رولا» ذلك.
ومن المطار إلى برج «إيفل»، كانت متابعة التاكسي الذي يُقِل «ريما» وصديقتها أمرًا يسيرًا … وإلى المطعم الذي يحمل اسم أول مَن كتب روايات الخيال العلمي «جول فيرن»، حملهما المصعد … وجلس الشياطين بالقرب من «ريما» وصديقتها … وتعمَّد «أحمد» أن يُظهر انبهاره بما يرى متحدثًا بصوت مرتفع إلى كلٍّ من «عثمان» و«مصباح».
فالبرج يتوسَّط أرقى أحياء «باريس» التي تبدو لهم من تحت أقدامهم، أحلى من الخيال العلمي … وقد زارها الشياطين أكثر من مرَّة للسياحة والعمل … ولكنه يقصد من إظهار انبهاره، لفت نظر السيدة «رولا» إلى أنه يتحدَّث اللغة العربية … وقد كان «مصباح» و«عثمان» يفهمان مقصده جيدًا … وتجاوبَا معه … سأله عثمان وهو يشير إلى قبَّة ذهبية تتوهَّج أمامهم: ما هذه القبَّة يا «أحمد»؟
أحمد: أعتقد أنها تخص متحف «اللوفر».
فاستدارت إليهم مدام «رولا» تُلقي عليهم تحية المساء … أنتم من «مصر»؟
مصباح: نعم … ندرس في جامعة القاهرة.
رولا: إن هذه القبَّة تُسمَّى «الأنفاليد»، وتحتها قبر «نابليون بونابرت».
عثمان: وما هذا البناء المحيط بها؟
رولا: إنه المتحف الحربي.
ثم أشارت لهم على الجانب الآخَر وقالت: وهذا متحف «الأورسيه» وقد كان محطة للسكك الحديدية منذ أوائل هذا القرن حتى عام ١٩٨٤ … وأصبح متحفًا للفن ومسرحًا.
ولكثرة معالم «باريس» السياحية، عرضت السيدة «رولا» على الشياطين الانتقال إلى مائدتهم … وقد وافقوا على الفور، وشعر «أحمد» بالارتياح لنجاح خُطته التي هنَّأته عليها «ريما» بابتسامة خفية … فشكرها عليه بحركة من جفنه.
وملأ الحماس السيدة «رولا» التي شعرَت بمتعة كبيرة وهي تصف لهم معالم «باريس»، بادئة بالحديث عن البرج قائلة: أتصدِّقون أن هذا البرج الشهير، كان مثار اعتراض ورَفْض الكثيرين من أهل «باريس» … وقد أطلقوا عليه الوحش المعدني الذي سيفترس جمال «باريس»؟!
أحمد: ومتى كان ذلك؟
رولا: كان ذلك في عام ١٨٨٩ … وقد صمَّمه المهندس «جوستاف إيفل» بمناسبة إقامة معرض باريس الدولي.
ريما: معرض دولي في عام ١٨٨٩!
رولا: نعم … وقد دخلَت به «باريس» وبالبرج القرن العشرين.
ريما: ألهذا الحدِّ تُحبِّين «باريس»؟
رولا: لقد أحببتُ عملي مع السيد «كنعان»؛ لأنه يعطيني الفرصة لزيارة «باريس» أكثر من مرة خلال العام.
أحمد: وفيمَ يعمل السيد «كنعان»؟
رولا: السيد «كنعان» رجل عظيم، يفتح في أوروبا أسواقًا للمنتجات العربية.
عثمان: أيْ يعمل في الاستيراد والتصدير.
رولا: نعم.
أحمد: أهو لبناني من أسرة لبنانية، أم يحمل الجنسية اللبنانية؟
رولا: لا أعلم إلَّا أنه لبناني.
مصباح: أمِن الممكن أن نتعرَّف عليه؟
رولا: أعتقد أنه سيُسَر لذلك كثيرًا.
الشياطين: نشكركِ كثيرًا!
أحمد: أرجو أن تسمحي لنا بالعودة إلى مائدتنا.
رولا: تفضلوا.
عاد الشياطين مرة أخرى إلى مائدتهم، وأشاروا للموظف المختص فحضر إليهم … وقدَّم لهم قائمة طعام كبيرة … فالشعب الفرنسي ذوَّاق للطعام، وقد أعجَب ذلك الشياطين … حيث استمتعوا بأصنافه الشهيَّة … وكعادتنا في الشرق، طلب الشياطين بعد الغداء … الشاي الساخن … وكانت السيدة «رولا» قد انتهت هي و«ريما» من تناول طعام الغداء … وكانتا تحتسيان الشاي أيضًا، فانتقلوا إليهم، واقترح «أحمد» أن يصاحبوهم لرؤية معالم «باريس».
فاعتذرت لهم «رولا» وهي آسفة … فهي تريد أن تنال قسطًا من النوم، استعدادًا لسهرة عشاء عمل سيقيمها السيد «كنعان»، وطلبت منهم مصاحبة «ريما» في هذه النزهة … على أن تعود للمبيت معها … وتركت معها مفتاحًا للشقة التي تقيم فيها … والتي يمتلكها السيد «كنعان» … وأعطتها العنوان ورقم التليفون … وعرضت على الشياطين أن يتناولوا معها العشاء مساء اليوم التالي في مسكنها … وهرولت تغادر المكان فقد تأخَّر الوقت … وشعرَت أيضًا بالتعب، وتركت للشياطين فرصة عَقْد اجتماع عاجل وهام.
غير أن «مصباح» لاحظَ أن عيونًا تراقبهم … وآذانًا تسجِّل ما يقولونه، فغادروا معجزة «باريس»، وكانوا في شوق لزيارة حدائق «لافاييت»، وسألهم «أحمد» إنْ كانوا يعرفون تاريخها … ولم ينتظر إجابتهم … بل استطرد قائلًا: أتُصدِّقون أن هذه الحدائق كانت مذبحًا للأغنام والأبقار لمدة ١٠٠ عام؟!
بدت الدهشة على وجوه الشياطين، فقد زاروا من قبلُ معارضها، وحضروا عروض الأفلام في أندية السينما بها، وركبوا القوارب في بحيرتها، ولم يتبقَّ لهم إلَّا زيارة مدينة التكنولوجيا والصناعة، الواقعة فوق مرتفعات «شامون»، التي تحيطها حدائق «لافاييت».
واقترحت «ريما» أن يقوموا بزيارة المدينة، فلم يعُد في اليوم بقيَّة للعمل، فقال لها «أحمد»: لا … بل الآن بالذات، نحن في حاجة للعمل … فقد أتينا إلى «باريس» بأوامر مفاجئة ومباشرة … وقد علمنا أنكِ ملف العملية، فهل تُخبريننا بسبب السفر المفاجئ … وما أهمية «رولا» لنا؟
ريما: لقد علمتُ عند زيارتي للسيدة «رولا» ببرج «كايرو بلازا»، أنها ستسافر إلى «باريس» مصاحبة للسيد «كنعان» في رحلة عمل … وعلمتُ من «فهد» الذي كان يجمع أخبارًا ومعلومات عن مُصدِّري «البطاطس»، أن هناك شحنة كبيرة في طريقها إلى «فرنسا»، وبإبلاغ رقم «صفر» بهذه المعلومات، وجد أن هناك علاقة تربط بين الخبرين فقرَّر سفركم.
توقَّفَت «ريما» عن الكلام … فقد لاحظت أن هناك مَن يختلس النظر إليها، وهو واضع «هِدفون» — أي سماعة — على أذنيه.