السقوط في نهر السين!
لفت نظر «أحمد» أن «كنعان» كان هادئًا، يتحدَّث في نبرة الواثق … وهو أمر مريب! فكيف وهو رجلُ مالٍ، لم يشعر بقلق تجاه ما يحدث؟ وكأنما لم يؤثِّر عليه مقتل «رولا»، والمفروض أنه المقصود من هذا الحادث … فليس ﻟ «رولا» علاقات خاصة أو علاقات عمل داخل «فرنسا»!
ومن المعاينة المبدئية للشقة … اتضح أن القتل لم يكُن بغرض السرقة … وفي نفس الوقت … شعر «كنعان» بشكِّ «أحمد» فيه، وقد لاحظ «عثمان»، ذلك في نظراته إليه … لكنه لم يُبدِ له شيئًا … وقد كان أول الموافقين على اقتراحه بقضاء الليلة معه … إلَّا أن «ريما» اعترضت على ذلك فيما بينها وبين «أحمد»، فهي في حاجة للعودة إلى «كومرسيه»، فطلب منه «أحمد» تأجيل هذه الدعوة إلى الغد، فعرض عليهم — بل وألحَّ — في أن يأخذهم في نزهة قصيرة بسيارته على ضفاف نهر «السين»، وبعدها يوصلهم إلى حيث يشاءون، وقد رضخوا لمطالبه بادين الشكر له … حتى رأوا سيارته … فاستحسنوا هذا الاقتراح بشدة … فقد كان يختًا وليست سيارة … وقد علَّقت «ريما» قائلة: إنها أطول سيارة في التاريخ.
فقال «عثمان»: بل إنها أطول من التاريخ!
ضحك الشياطين لهذه القفشة ومعهم «كنعان» الذي شعر أنهم بدءوا يلينون له … فطاف بهم شوارع الحي اللاتيني، وخرج منه إلى ساحة «الكونكورد» و«المسلة المصرية»، حتى بلغوا نهر «السين»، فعبروه إلى جزيرةٍ فيه تنتصب فوقها كنيسة. عرفوا منه أنها كنيسة «نوتر دام» العتيقة ذات الأبراج «القوطية»، ولاحظوا أن أجراسها لا تكفُّ عن الرنين.
وتوقفت السيارة وخرج سائقها يفتح لهم الأبواب … وكان «كنعان» أول مَن غادرها طالبًا منهم اللحاق به … فسيُريهم الكنيسة التي جرَت فيها أحداث رواية «فيكتور هوجو» الشهيرة.
فقالت «ريما»: «أحدب نوتر دام» أليس كذلك؟
كنعان: نعم.
ريما: ولكني متعبة الآن!
كنعان: إنها فرصتنا.
ومن أمام بوابة الكنيسة سمعوا صوتًا أجشَّ يقول: مساء الخير سيد «ليشع».
فتلفَّت الشياطين حولهم … فلم يكُن أحد غيرهم بالمكان … لكنهم لاحظوا أنه بدا على «كنعان» الضِّيق … فنظروا لبعضهم في دهشة وتساؤُل، أيكون هو السيد «ليشع»؟ لو كان هذا صحيح … فليس غيره قاتِل «رولا».
ورغم إلحاحه … فإنه لم ينجح في إقناع «ريما» بالصعود إلى هذه الأبراج، التي لا تكلُّ أجراسها عن الرنين … فصعد ومعه الشياطين الثلاثة إلى أحد الأبراج، وكاد رنين الأجراس يُصِم آذانهم … رغم وَضْع أيديهم عليها … ولم يجد «أحمد» ضرورةً لتحمُّل كل ذلك، فما المتعة في هذا؟ فآثَرَ النزول ومن خلفه «عثمان» و«مصباح»، إلَّا أن مسدسًا قطع عليهم الطريق … وأمْرًا ممَّن يحمله بالصعود مرَّة أخرى … ولم يكُن الصوت للسيد «كنعان»، فلمَن يكون إذَن؟!
كان الظلام يلفُّ منزل البرج، والسلم الحلزوني يُخفي صاحب المسدس، الذي تعجَّل تنفيذ ما يقول … فصرخ فيهم قائلًا: عودوا من حيث أتيتم … فعرفه الشياطين من صوته … إنه «ليفي» … فهل سلمهم «كنعان» إلى ذلك القاتل؟ ليس هناك تفسير آخَر لِمَا يحدث … ويبدو أنه لم يكُن وحده … لأنهم سمعوه يُصدر أمرًا بتقييدهم في جرس البرج … وأثناء ذلك … كان عقل «عثمان» يعمل في سرعة، وحضرته مشاهد من فيلم «أحدب نوتر دام»، جعلته يفكِّر مازجًا الواقع بالخيال، وفي لحظة، قرَّر أن يُسقط الحائط الفاصل بينهما، فواصلَ صعود البرج في خفة ورشاقة، ثم تسلَّق الجرس … إلى أن تعلَّق بالمطرقة، فمنع دوي صوت الجرس، ممَّا أثار دهشة «ليفي»، فأمر أحد رجاله بالصعود ليخبره بما يحدث.
وبخشونة بالغة دفع الرجل الشياطين … ليُفسح لنفسه الطريق للصعود … ولم يشأ «أحمد» إفساد خطة «عثمان»، فترك الرجل وشأنه، ومثله فعل «مصباح» … وشعر «عثمان» بقدومه … فاستعد له … حتى رآه يرفع وجهه له، فأطلق كُرَته الجهنمية، صاروخًا … اصطدم برأسه، فأفقده توازنه وسقط من أعلى البرج … فعَلَا صوت ارتطامه بالأرض … وتجمَّع حوله العاملون بالكنيسة … في اللحظة التي أطلق فيها «ليفي» رصاصة أودت بحياته إن كان لم يمُت بعد … وابتعد العاملون في الكنيسة في فزع، وهم يجرُّون جثته.
وشعر «أحمد» أن «ليفي» سيتصرَّف بعصبية، فصحب «مصباح» وصعد إلى أعلى البرج، ولزما السكون … ممَّا أخرج «ليفي» من سكونه … فجرى صاعدًا السلم خلفهم ليستطلع ما يحدث … وما كاد «عثمان» يرى رأسه حتى أرسل إليه الكُرة في تحية مروعة … قذفت به من أعلى البرج … ليرتطم هو الآخَر بأرض الكنيسة … وسمعا في هذه اللحظة صوت محرِّك السيارة يدور … وكالصاعقة هبطا السلم الحلزوني، وقبل أن تتحرَّك، كانوا قد تعلَّقوا بها من الخلف ﻓ «ريما» وحدها معهم، وليس لديهم معلومات عن مقر «كنعان» في «باريس» وكيف يصلون إليه.
وقبل أن تغادر السيارة الجزيرة … وقفت بجوار جسر عالٍ … ونزلت منها «ريما» في صحبة رجلين مسلَّحين، يقودانها مُكمَّمة إلى لوح خشبي عريض … يصل ما بين الجسر … ويخت يقف بجوار الجزيرة … وما إنْ عبروه حتى انطلقت السيارة وبها «كنعان»، وآثَر الشياطين البقاء بجوار «ريما» على مطاردته … وتحت أيديهم هذان المُسلَّحان … وهو أقصر الطرق للوصول له وباقي عصابته.
وقبل أن يغادر اليخت الجزيرة … كان الشياطين يختبئون في غرفة الماكينات … يبحثون بينها عن وسيلة اتصال سريعة آمنة ﺑ «ريما».
وقد رأى «عثمان» أنه يجب استدعاء أفراد العصابة إلى غرفة الماكينات … والقبض عليهم إن أمكن … أو التخلُّص منهم.
فقال له «مصباح» متهكمًا: فلتستدعهم أنت بأمر مباشر منك.
أحمد: ليس لدينا وقت للتهكم … وليشرح لنا «عثمان» كيف يمكننا استدعاؤهم.
عثمان: كما استدعيتهم في البرج.
أحمد: تقصد كما عطَّلت الجرس عن العمل؟
عثمان: نعطل المحركات؟
مصباح: فكرة عظيمة … وهو أمر سهل.
أحمد: على أن نعطِّل مولِّد التيار أيضًا … ليسهل التعامل معهم في الظلام.
وبسهولة وجد الشياطين الثلاثة المعدات اللازمة للعبث في محركات اليخت معلقة على جدار الغرفة … فقاموا بحل أجزاء حيوية في المحرك بمهارة شديدة … مما جعل اليخت يتوقف عن الحركة، وسمعوا صوت جلبة تقترب منهم … فاختبأ «أحمد» خلف الباب … ملتصقًا بالحائط المجاور له.
ولم تمُرَّ لحظات … إلَّا وانفتح الباب، وظهرَ خيال رجل ممسك بكشَّاف صغير في حجم القلم … يُدير ضوءه في الغرفة، مُلقيًا نظرة سريعة عليها … وما إنْ خطا بداخلها … حتى ضربه «أحمد» ضربة قوية … فطوَّحه إلى آخِر الغرفة فاصطدمت رأسه بحائطها … وسقط بلا حركة … في الوقت الذي علا فيه صوت زميله يسأله عمَّا يحدث عنده … وعندما لم يُجب … صاح فيه غاضبًا وهو يقول: «ألبرتو» … ليس هذا وقت تصفية حسابات «ألبرتو»، مسيو «ليشع» غاضب.
فعلَّق «مصباح» قائلًا: إذَن، «ليشع» هو «كنعان».
أحمد: وهو معنا على اليخت.
عثمان: لقد رأيته يرحل في السيارة!
في هذه اللحظة … اندفع الباب بقوة … وعلا من خارجه صُراخ زميل «ألبرتو» وكان يحمل بين يديه مدفعًا … يناديه بعصبية قائلًا: «ألبرتو»!
ماذا تفعل عندك؟ «ألبرتو» … ثم عاد يجري من حيث أتى … لحظات … وبدأت الأقدام تهدر على سطح اليخت … ولم يتوقَّع الشياطين وجود كل أولئك الرجال.
وفي عرض النهر … ومن نافذة الغرفة المستديرة … رأوا كشَّافات تغيِّر ظلام النهر … ويختًا يقف بجوار يختهم … ونما إلى أسماعهم خليطٌ من الأصوات لم يتبينوا فيما تتحدث!
ثم رأوا «ريما» تنتقل بين بعض الرجال إلى اليخت الآخَر … وقبل أن تصله فاجأتهم بضرب أحدهم بسرعة خاطفة … ونزع سلاحه منه … في الوقت الذي كانت تدفعه إلى الماء … وقبل أن يفيق مَن حولها … كانت تقفز إلى الماء … وطلقات المدافع تُلاحقها من كل اتجاه. فسكتت تحت الماء لفترة طويلة، حتى خاف عليها الشياطين أن تختنق وتموت غرقًا … وآثروا التدخُّل لإنقاذ حياتها.
وأوحت لهم بعض خزانات الوقود، التي كانوا يجلسون فوقها … باستخدامها كقنابل لإزعاجهم، ولَفْت أنظارهم عن «ريما» … حتى تستطيع السباحة إليهم … إلَّا أن فكرة طرأت على رأس «أحمد»، أدارت رأس الشياطين … فساعداه في البحث عن معدات للغوص … وجمعا له الكثير من أطواق النجاة … ففرَّغوها من الهواء … وأوصلوها ببعض الخراطيم، إلى أسطوانات الأكسجين … وفي هدوء وحذرٍ … غادروا اليخت من باب الطوارئ … وقطعوا المسافة حتى اليخت الآخَر … سباحة تحت الماء … حتى بلغوه فشرعوا في تثبيت أطواق النجاة بالألواح المعدنية البارزة من قاعدته … في الوقت الذي انهالت فيه طلقات مدافع رجال «كنعان» على اليخت الفارغ … فاندلعت فيه النيران … وأحالت ليل نهر «السين» إلى نهار.
وبعد أن فرغ الشياطين من مهمتهم … أخرجوا رءوسهم فوق سطح الماء يتنفَّسون … فلاحظوا أنهم أصبحوا أربعة … ولم يكُن رابعهم سوى «ريما»، وقد كانت تعاونهم طول الوقت … دون أن يشعروا بها، وعلى ضوء النيران المشتعلة في اليخت، رأوا سيارات الشرطة على جانبَي النهر … فآثروا أن يخرج إليهم «أحمد» سباحةً ويخبرهم بما يحدث … إلَّا أن اللنش بدأ في الحركة مبتعدًا عن المكان … وشعروا أن خُطتهم في القبض على «كنعان» ستفشل، فقسَّموا العمل فيما بينهم، على أن يخرج «أحمد» لرجال الشرطة … ويسبح الباقون خلف اللنش … استعدادًا لإشارة التنفيذ.
ورأى رجال «كنعان» سيارات الشرطة تنصرف دون ملاحقتهم … فارتابوا في الأمر، فبدءوا يتسلَّلون من اليخت الواحد تلو الآخر سباحة إلى الشاطئ … وكانت أيسر طريقة للقبض عليهم … فقد كان رجال الشرطة في انتظارهم على طول مسار النهر … إلَّا أن «كنعان» أحسَّ بما يجري، فأمر رجاله بالبقاء في اليخت … وإعداد كل ما لديهم من أسلحة للمقاومة حتى الموت … فقد انكشف أمرهم … بالقبض على زملائهم … ولا بد أنهم سيعترفون بما قاموا به من جرائم. وبعلاقتهم به، ومن الاتجاه الآخَر … رأى الشياطين يختًا مماثلًا، يطلق إشارات ضوئية عن بُعد. فأطفأ يخت رجال العصابة كل أنواره، وبعد دقائق اقترب اليختان حتى تجاورا … وجرى حوار سريع بين بعض الرجال فيه، وقد لمَح «عثمان» وجود صاري صغير يحمل علمًا لدولة أجنبية، وعرف أن اليخت يتبع إحدى السفارات، وأن «كنعان» لو انتقل إليه، فلن تتمكَّن الشرطة من القبض عليه.
وانتظروا حتى رأوه يسلِّمهم بعض الحقائب … فرأوا أنه من الخطورة ضياع هذه الحقائب أيضًا على الشرطة … فقد تكون بها مستندات ووثائق تدينه … فاتفقوا سريعًا على تنفيذ الخطة، وفي لحظات … كانت كل صمامات خزانات الأكسجين قد فُتحت … وأطواق النجاة المعلَّقة بقاعدة اليخت تنفتح … وما بين رعب «كنعان» ورجاله وحيرتهم … وذهول ركاب اليخت الآخَر … ارتفع اليخت إلى أعلى فقد حملته أطواق النجاة كما تحمل الدرافيل الغرقى … ولم يجد ركاب اليخت الدبلوماسي وسيلة لإنقاذ الموقف … غير الهروب … تاركين «كنعان» يُلاقي مصيره … مع رجال الشرطة … الذين حضروا في أكثر من قارب … وكان بينهم «أحمد».
وفي صباح اليوم التالي … وفي مطار «شارل ديجول» … تلقَّى الشياطين الأربعة تحية رقم «صفر» وتهنئته على نجاح العملية … ودعوته لهم بمجرد وصولهم على وجبة بطاطس ساخنة … وضحك الشياطين في سعادة … وهم في طريقهم إلى الطائرة.