المقدمة
ما زلتُ أُومِن، بل ربما أكثر من أي وقتٍ مضى، بأن التفكير العلمي هو كما قال
أستاذنا الدكتور فؤاد زكريا ليس هو تفكير العلماء بالضرورة؛ فالعالم يفكِّر في
مشكلةٍ متخصصة، هي في أغلب الأحيان منتمية إلى ميدانٍ لا يستطيع غير المتخصِّص أن
يخوضَه، بل قد لا يعرف في بعض الحالات أنه موجود أصلًا، وهو يستخدم في تفكيره
وفي التعبير عنه لغةً متخصِّصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، هي لغة
اصطلاحاتٍ ورموزٍ متعارف عليها بينهم، وإن تكن مختلفةً كل الاختلاف عن تلك اللغة
التي يستخدمها الناس في حديثهم ومعاملاتهم المألوفة. وتفكير العالم يرتكز على
حصيلةٍ ضخمة من المعلومات، بل إنه يفترض مقدَّمًا كلَّ ما توصَّلَت إليه البشرية طوال
تاريخها الماضي في ذلك الميدان المعيَّن من ميادين العلم.
١
أما التفكير العلمي الذي نقصده فلا ينصَبُّ على مشكلةٍ متخصِّصة بعينها، أو حتى
على مجموعة المشكلات المحدَّدة التي يعالجها العلماء، ولا يفترض معرفةً بلغةٍ
علمية أو رموزٍ رياضية خاصة، ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشدًا بالمعلومات
العلمية أو مُدرَّبًا على البحث المؤدِّي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو
الإنساني، بل إن ما نودُّ أن نتحدَّث عنه إنما هو ذلك النوع من التفكير المنظَّم،
الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين
نمارسُ أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط
بنا. وكل ما يُشترط في هذا التفكير هو أن يكون منظَّمًا، وأن يُبنى على مجموعةٍ من
المبادئ التي نُطبِّقها في كل لحظة دون أن نشعر بها شعورًا واعيًا، مثل مبدأ
استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آنٍ واحد، والمبدأ القائل إن لكل حادثٍ سببًا
وإن من المُحال أن يحدُث شيءٌ من لا شيء.
٢
والتفكير العلمي يعتمد على منهجيةٍ أساسُها الموضوعية التي تعني تجرُّد
الباحث عن أهوائه وميوله الذاتية وأغراضه الشخصية، والإذعانَ للحق والحقيقة،
وإسلامنا الحنيف يدعو صراحةً إلى هذا البُعد الأساسي المنهجي، من حيث ينهى عن
اتباع الأهواء والميول والظنون التي لا تُغني من الحق شيئًا، بل إنه ينعَى على
من يخضع لهذه المؤثِّرات جميعًا، ويتبدَّى لنا ذلك في قوله تعالى:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ
تَكُونُ عليهِ وَكِيلًا (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ
أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلًا (الفرقان: ٤٣، ٤٤)، ويقول سبحانه:
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ
(النجم: ٢٣)، ويقول عز وجل:
وَمَا يَتَّبِعُ
أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ
شَيْئًا (يونس: ٣٦)، فهذه الآياتُ وغيرها كثير، صريحةُ الدلالة على
دعوة الإسلام إلى ضرورة الالتزام بالحق والتثبت باليقين، والتجرد من الميول
والأهواء والنزعات الشخصية سواء في مجال الاعتقاد أو الفكر أو السلوك الفردي.
٣
وإذ يضع القرآن هذه القواعد والضوابط، فإنه يحُثُّ ويؤكِّد على طلب العلم
والمعرفة والسعي الجادِّ في تحصيلها بكل ما أُوتي الإنسان من وسائل وقدرات.
ويظهر ذلك في قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ
ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ
يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (يونس: ٥٠)، وأظهر من
ذلك قوله:
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ
لَا تَعْلَمُونَ (النحل: ٣). والمقصود بأهل الذكر كل متخصِّص في مجاله
أيًّا ما كان هذا المجال، بل إن أوَّل آيةٍ نزلَت في القرآن تتضمَّن أمرًا بالتعلُّم،
وهي قوله تعالى:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
(١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
(٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ (العلق: ١–٤). ويدعو إلى الاستزادة، لا من المال أو الجاه أو
إشباع الشهوات والغرائز، وإنما الاستزادة من العلم، في قوله تعالى:
وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (طه: ١١٤).
٤
وعلاوةً على ذلك فإن القرآن يُصرِّح بأن العالِم أرفعُ درجةً وأعلى منزلةً من
الجاهل الذي يصفُه بالعمى، وهو يُثير القضية في استفهامٍ إنكاري له مَغْزاه؛ حيث
يقول تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (الزمر: ٩)، طبعًا لا يستويان. ثم
يُعلن حقيقة الأمر في قوله تعالى: يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
دَرَجَاتٍ (المجادلة: ١١). ويظهر الفرق بين العالِم والجاهل؛ حيث
يقول سبحانه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ
أُولُو الْأَلْبَابِ (الرعد: ١٩)، وكذلك في قوله تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ (آل
عمران: ١٨)، وفي هذه الآية قَرنَ الله تعالى العلماء به وبملائكته في شهادة
التوحيد، فوضَعَهم في أسمى مكانةٍ إيمانية.
هذا وقد قد بلغَت عنايةُ القرآن بالعلم إلى حدِّ أنْ قرَّر أنَّ الإنسان المؤمن
الحق، الذي يخشى الله حَقَّ الخشية، ويُقدِّر جلال الألوهية حَقَّ قدرها، إنما هو
العالِم الحق، وذلك في قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر: ٢٨)، وقوله: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ (العنكبوت: ٤٣). وإلى جانب ذلك، هناك آياتٌ كثيرة
تُشير إلى العلماء. وإن الآيات القرآنية، والآيات الكونية التي يمتلئ بها
الكون في آفاقه وظواهره، إنما يفهمُها أو يُطالب العلماء والباحثين بفهمها
والعلم بحقائقها ودلالاتها.
موضوعنا إذن هو التفكير العلمي وهو يمثِّل موضوع الساعة في العالم العربي؛
ولذلك فقد انتقَينا بعض القضايا والإشكاليات، والتي تدخُل في صميم إطار التفكير
العلمي، وتدُور الدراسة الأولى حول «الدراسة الأولى: التفكير العلمي عند العرب
في ضوء الرؤية الاستشراقية». في حين جاءت الدراسة الثانية بعنوان «التفكير
وإشكالية التجارب الحاسمة بين التأييد والتفنيد (دراسة تحليلية–نقدية في
فلسفة العلم المعاصرة)». أما الدراسة الثالثة فتدور حول «التفكير العلمي في
ضوء إشكالية الفروض المساعدة ومكانتها في ميثودولوجيا برامج الأبحاث عند إمري
لاكاتوش». وأما الدراسة الرابعة «التفكير العلمي وإشكالية حروب العلم في ضوء
خدعة آلان سوكال». وأخيرًا جاءت الدراسة الخامسة بعنوان «التفكير العلمي
وميكانيكا الكوانتم في ضوء مبدأ اللايقين عند هيزنبرج».
والله ولي التوفيق.
أ. د. محمود محمد علي محمد
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة
كلية الآداب، جامعة أسيوط