تقديم
استطاعت الفيزياء الكلاسيكية أن تسيطر على الفكر العلمي ما يقرب من
ثلاثة قرون. وقد حقَّقَت ذلك عن طريق منهجٍ ثلاثي الخطوات، يُجسِّد منطق التفكير
في ذلك العصر، وهو الإيمان الشديد بالعقل، وقدرته على أن يُحيط بكل ما في
الكون علمًا. والأهم هو الاعتقاد بأن قوانين الطبيعة ليست اكتشافًا لما هو
موجودٌ من قبل، بل هي نتاجٌ لعبقرية العقل الذي يفرضُ مبادئه على الطبيعة؛
الخطوة الأولى هي تبسيط الطبيعة ذهنيًّا بحيث تكون قابلة للتصور. أما
الخطوة الثانية فهي استخلاص النتائج اللازمة عن النظام التصوُّري، ثم إجراء
التقريبات والتعديلات التي تكفل الاقتراب من الواقع التجريبي. أما الخطوة
الثالثة، فيتم التحقَّق من أن التعديلات السابقة قد أدت إلى توافُق النتائج مع
المشاهدات. ومما هو جدير بالملاحظة، أن المفاهيم الرياضية التي ابتدعَتْها
هذه الفيزياء لم يكن الهدف منها التعبير عن المعطيات التجريبية، بل إعطاء
النظرية العلمية قوةً تفسيرية أكبر. والنجاح الذي أصابَتْه أوهم الكثيرين أن
هذه النظريات تصوِّر الواقع تصويرًا حقيقيًّا وبطريقةٍ أولية سابقة على التجربة.
١
وحتى عام ١٨٨٠م، كان لدى العلماء طمأنينةٌ وقناعة بنجاحهم العلمي، خاصة بعد تَمَكنِهم
من
شرح معظم الظواهر الطبيعية في الكون بواسطة
قوانين «نيوتن» الميكانيكية مثل نظريات
«ماكسويل» الكهرومغناطيسية، وميكانيكا «بولتزمان» الإحصائية والديناميكا الحرارية … وغيرها.
إلا
أن بعض القضايا الهامة بقِيَت دون تفسير؛ من أهمها معرفة خواص «الأثير»، وشرح الطيف الإشعاعي
للغازات والأجسام الصلبة. وهذه الظواهر غير المشروحة كانت بمثابة بذور الثورة التي تأجَّجَت
بفعل سلسلة من الملاحظات والاكتشافات المثيرة التي حدثَت في الجزء الأخير من القرن التاسع
عشر.
٢
إلا أنه بحلول عام ١٩٠٠م، وبعد أن ظن العلماء أن كل القوانين
الفيزيائية الأساسية قد اكتُشفَت على ما يبدو، ظهر ما لم يكن في الحسبان
واضطُر العلماء إلى اقتحام عوالمَ جديدةٍ على مستوى الذرة ونَواتها، وعلى مستوى
الأجرام السماوية وحشودها، وانبثقَت فيزياء جديدة تتعامل مع عالم المتناهيات
في الصغر وعالم المتناهيات في الكِبَر، وواجه العلماء نتائجَ عمليةً جديدة
بحاجة إلى تفسيرٍ جديد غير المألوف عندهم سابقًا. واكتشف بلانك نظرية الكم
Quantum theory، كما استحدث «أينشتين»
نظرية النسبية
Relativity الخاصة والعامة.
وقد أدت هذه الفيزياء الجديدة التي ظهَرَت مع أوائل القرن العشرين، وعُرفَت
باسم «الفيزياء الحديثة
Modern Physics» إلى
زعزعة ما كان يُسمى ﺑ «الحتمية العلمية»
Scientific
Determinism (وبالذات الحتمية الميكانيكية عند لابلاس).
وبدأ الحديث عن الاحتمالية والنسبية وعدم اليقين والفوضى، وغير ذلك من
المصطلحات والمفاهيم التي تميَّزَت بها فيزياء القرن العشرين. وتوالت النظريات
الفيزيائية الكبرى التي دفعَت بمسيرة هذا العلم قُدمًا، وانعكسَت آثارها
المباشرة على حياة الناس وفهمهم لطبيعة الكون الذي يعيشون فيه.
٣
ومن هذا المنطلق يدور بحثُنا حول «مبدأ اللايقين»
Uncertainty Principle عند «فيرنر كارل
هيزنبرج Werner Karl Heisenberg»
(١٩٠١م–١٩٧٦م) بين ذاتية تفسير كوبنهاجن وموضوعية تفسير أينشتين.
وهيزنبرج هو واحد من أعلام الفيزياء الذرية الحديثة الذين ساهموا في
تطوير النظرة العلمية الدقيقة لتفسير ما يحدث خارج الذرة وداخل النواة.
ويُعتبر التعرُّف على أفكاره ومبادئه — ومن ثَم نظرته الشاملة إلى الظواهر
التكرارية في الكون — مدخلًا رئيسيًّا إلى الفلسفة الطبيعية المعاصرة؛ فهو
العالم الذي اكتشف مبدأ عدم الحتمية في الفيزياء الذرية، والذي اعتنقَه عدد
من الفلاسفة المعاصرين، وأصبح هذا المبدأ بالإضافة إلى مفاهيمَ فلسفيةٍ أخرى
نابعةٍ من علم الفيزياء الحديثة مثل «الاحتمالية» و«الإنتروبيا» وغيرها،
أصبحَت هذه المبادئ تمثِّل ركائز تقوم عليها الفلسفة الحديثة.
٤
كما كان هيزنبرج أحد العلماء القلائل الذين أرسَوْا أسس الفيزياء
الحديثة. ولقد لعب دورًا قائدًا في الصياغة الأولى لميكانيكا الكم، ثُم فيما
تلاها من تعريف بتضميناتها الثورية. وبالرغم من أن الكثير قد كتب مؤخرًا عن
الأسس العجيبة لمفاهيم ميكانيكا الكم فإن علينا أن نُولي اهتمامًا خاصًّا
لتأملات هيزنبرج — وحتى وفاته عام ١٩٧٦م — لشغفه العميق بعالَم الكم،
وبالتضمينات الفلسفية الهائلة التي تنثال منه.
٥ لقد رأَس إبان الحرب العالمية الثانية فريق العلماء الألمان
المشتغلين في مجال الانشطار النووي،
٦ ومُنِح جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٣٢م، عن حصيلة أبحاثه العلمية
على مدى عشر سنوات، وكان عمره في ذلك الوقت واحدًا وثلاثين سنة.
٧
وُلِد هيزنبرج في الخامس من ديسمبر عام ١٩٠١م، بمدينة دويزبرج
Duisberg قرب دسلدورف بألمانيا، وكان
والده حينئذ مدرسًا بالجامعة، ودرَس الطبيعة النظرية في جامعة ميونخ
Munich على الأستاذ أرنولد سومرفلد
Arnold Sommerfeld، ونال درجة الدكتوراه
عام ١٩٢٣م، ثم عمل مساعدًا لماكس بورن في جامعة جونتجن. ولقد قضى الفترة ما
بين ١٩٢٤م إلى ١٩٢٧م في جامعة كوبنهاجن
Copenhagen؛ حيث تتلمذ على يد الأستاذ
«نيلز بور
Niels Bohr»، ثم عُيِّن مُدرسًا بتلك
الجامعة. وبعودته لألمانيا في عام ١٩٢٧م عُيِّن أستاذًا للطبيعة النظرية بجامعة
ليبزج، ثم مديرًا لمعهد ماكس بلانك للطبيعة ببرلين، وأستاذًا بجامعة برلين،
وذلك من عام ١٩٤٢م إلى ١٩٤٥م، ثم انتقل مديرًا لمعهد ماكس بلانك للطبيعة بجونتجن.
٨
وتُعتبر جميع أعمال هيزنبرج العلمية، سواء كانت في الطبيعة الذرية أو
النووية، من الأركان الهامة في تلك الفروع. وكان لتلمذته على أساطين الذرة
أثَرٌ كبير في إنتاجه العلمي، خصوصًا في أوائل حياته العلمية؛ فلقد بدأ أعماله
بمعالجة عجز نظرية «نيلز بور» عن تفسير الظواهر التي تُشاهَد في الذرات
المعقَّدة التي تحتوي على أكثر من إلكترون. وعلَّل ذلك العجز بأن بور أسَّس
نظريته على أمورٍ لا يمكن مشاهدتها مباشرة، كحركة الإلكترونات في مداراتها،
فاتخذ لنفسه أساسًا لمعالجة الموضوع من وجهة نظرٍ أخرى مبنيةٍ على مقاديرَ
طبيعية يمكن مشاهدتُها وقياسها، كتردُّد الموجة مثلًا وشدة استضاءة الخطوط
الطيفية، وبذلك استثنى من افتراض صورة دوران الإلكترونات في مداراتها
لتمثيل الذرة. ولقد أدى تطبيق نظريته هذه إلى نتيجةٍ هامة جدًّا؛
٩ هي قاعدة أو مبدأ اللايقين الذي نقوم بدراسته في هذا
البحث.
لكل ما سبق قصدتُ إلى إنجاز بحث عن «مبدأ اللايقين عند هيزنبرج بين
ذاتية كوبنهاجن وموضوعية أينشتين»، ساعيًا من خلالها للتعرف على مفهوم مبدأ
اللايقين، وأهم المضامين الإبستمولوجية التي نجمَت عن هذا المبدأ. وهذا ما
سوف نكشف عنه من خلال إلقاء الضوء على فلسفة هيزنبرج في فكرة اللايقين،
وتحليل عناصرها الأساسية عَبْر تطوُّرها، ثم إعادة بنائها في ضوء المناقشات
التي أحاطت بها، والانتقادات التي تعرَّضَت لها. وعلى هذا فإن هذا البحث يرمي
إلى فهم وتأويل فلسفة هيزنبرج في مبدأ اللايقين، برؤيةٍ تحليليةٍ
نقدية.
وقد اعتمدنا في هذه المهمة على منهجَين؛ وهما: المنهج التاريخي والمنهج
النقدي. وقد استخدمنا المنهج التاريخي بمعنيَين؛ الأول بمعنى الرجوع إلى
الوقائع التاريخية التي قام عليها مبدأ اللايقين، والثاني بمعنى تطور مبدأ
اللايقين عَبْر مراحله الزمنية. واستخدمنا كذلك المنهج النقدي بمعنيَين؛ قصدنا
بالمعنى الأول فحص وتحليل النتائج التي انتهى إليها هيزنبرج على أساس
الأهداف التي حدَّدها لفلسفته في مبدأ اللايقين. وقصدنا بالمعنى الثاني
محاولة تقييم أفكار هيزنبرج في مبدأ اللايقين في ضوء الانتقادات الفلسفية
التي تعرَّضَت لها، وفي ضوء إمكان تطوير هذه الأفكار وحدود هذا
التطوير.
وبهذا تتجسَّد محاور البحث على النحو التالي:
-
التفسير العلمي لمبدأ اللايقين
-
البعد الذاتي لمبدأ اللايقين
-
البعد الموضوعي لمبدأ اللايقين
أولًا: التفسير العلمي لمبدأ اللايقين
لقد سادت الفيزياءَ التقليدية بعضُ التصورات، كفكرة الزمان، والمكان،
والأثير، هذا إلى جانب اقتصار منهج تلك الفيزياء على التحديد الفردي
للظواهر، وذلك بمعرفة سرعاتها الأصلية ومواضعها في لحظةٍ معيَّنة، ولكن سرعان
ما واجهَت تلك الفيزياء ظواهر جديدة لا تقبل تحديدها الفردي ولا صياغتها
القائمة على النزعة التقليدية. ويُعد القانون الثاني لنظرية القوى الحرارية
— مبدأ «كورنو» — أول تاريخ لبداية هذه الأزمة في الفيزياء التقليدية، ثُم
توالت الظواهر التي ساهمَت في تعميق الأزمة وفي مضاعفة حدَّتها، كحركة الغازات
والحركة البراونية والتحلل التلقائي لذرات الراديوم. وكانت جميعًا تدعيمًا
لنوع جديد من الظواهر تتميز باللاارتدادية وبعدم القابلية للتحديد الفردي.
وكان حساب الاحتمالات هو الصياغة الكمية الجديدة لهذه الظواهر جميعًا.
١٠
وشَهدَت بداية القرن العشرين، نظرياتٍ فيزيائية جديدة، لتحديد التركيب
الداخلي للذرة، وقامت هذه النظريات على دراسة ظواهر الإشعاع. وتتميز هذه
الظواهر كذلك بالمميزات السابقة من لاارتدادية وعدم إمكانية على التحديد
الفردي؛ وبالتالي ضرورة تطبيق حساب الاحتمالات عليها لدراستها وتحديد
انتظاماتها. وكانت مسألةُ طبيعة الضوء من أهم موضوعات الدراسة في تحديد
التركيب الداخلي للذرة؛ ذلك لأن الحركة الداخلية للذرة تتم دراستها عن طريق
إشعاعاتها. وكان الضوء تتنازعه نظريتان؛ نظريةٌ جسيمية وأخرى موجية؛
١١ وقد تم حسم هذا النزاع من خلال التجربة الحاسمة التي أجراها
فوكو
Foucault (١٨١٩–١٨٦٨م) لاتخاذ قرار
بصدد تصوُّرَين عن طبيعة الضوء متنافسَين. أحد التصوُّرَين قدمه «هويجينز
Huygens» وطوَّره فيما بعدُ «فريزنيل» و
«يونج»، اللذان قالا بأن الضوء يتألف من موجاتٍ عرضية منتشرة في وسطٍ أثيري.
وكان التصور الثاني لطبيعة الضوء، هو تصور «نيوتن
Newton»، القائل بأن الضوء يتألف من
جزئياتٍ صغيرةٍ للغاية متطايرة بسرعةٍ عالية؛ فقد ترتَّب على كلا الفرضَين أنه
أصبح بالإمكان استخلاص النتيجة القائلة بأن أشعة الضوء تتطابق مع قوانين
الانتشار للأشعة الضوئية في خطوطٍ مستقيمة من جانب، وتتطابق أيضًا مع قوانين
الانعكاس والانكسار الضوئية، ولكن التصور الموجي أدى إلى اللزوم الاختباري
القائل بأن الضوء يسير في الهواء أسرع منه في الماء، بينما التصوُّر الجُسيمي
يؤدي إلى نتيجةٍ مضادة. وفي سنة ١٨٥٠م نجح فوكو في إجراء تجربةٍ قارن فيها بين
سرعة الضوء في الهواء مباشرةً فأنتجت صورتَين لنقطتَين ضوئيتَين منبعثتَين
بواسطة أشعة الضوء المارة عَبْر الهواء والماء على التوالي، ثم تُعكسان في
مرآة تدور بسرعةٍ فائقة. واعتمادًا على أن سرعة الضوء في الهواء أعظم أو أقل
منها في الماء تظهر صورة المصدر الضوئي الثاني؛ ولذلك أمكن أن تُوضع بإيجاز
اللزومات الاختبارية المتضاربة التي تضبطها هذه التجربة على النحو التالي:
إذا أُجريَت تجربة فوكو تظهر الصورة الأولى إلى يسار الصورة الثانية. وقد
أبانت التجربة عن أن اللزوم الاختباري الأول كان صادقًا. واعتُبرَت هذه
النتيجة دحضًا، وعلى نطاقٍ واسع، للتصور الجُسيمي للضوء، وانتصارًا حاسمًا
للتصوُّر الموجي.
١٢
لكن سرعان ما اكتشف «ماكس بلانك» — صاحب ميكانيكا الكوانتم في القرن
العشرين — خطأ رأي فوكو، وأثبت بالتجربة أن قوام الضوء فوتونات
Photons، وأن كل شعاع، بما فيه الضوء،
يسير وفقًا للأعداد الصحيحة لوحداتٍ أولية من الطاقة هي ما أطلق عليه
الكوانتم
Quantum، وأن الطاقة قوامها كماتٌ
Quanta، والكوانتم ليس سوى ذرة الطاقة
المتوقفة على طول موجة الشعاع الذي ينتقل به الكوانتم.
١٣
ثم جاء «ألبرت أينشتين» وأيد النظرية الجُسيمية للضوء؛ فقد تبيَّن أنه إذا
ما سُلِّط الفوتون على الذرة فإنها تضطرب وفقا لكمية الطاقة الموجودة في
الفوتون، كما يتضمَّن أن الفوتون في حركةٍ مستمرة، وأن سرعته تُماثل سرعة الضوء.
١٤ وانتهى أينشتين إلى تقرير مبدأ ثنائية مذاهب الضوء؛ إذ إن
الظاهرة الكهربية لو كانت تقتضي تفسيرًا جسيميًّا؛ فإن علم الضوء الكلاسيكي
كان يدرس ظواهر تقتضي القول بالنظرية التموجية (كظاهرة التداخل). وبعبارة
أخرى، فإن نوع التفسير الذي كان ينبغي الأخذ به، أعني التفسير الجسيمي أو
التموجي، يختلف باختلاف الظواهر الضوئية الخاصة.
١٥
وظل الأمر كذلك حتى جاء «لويس دي بروي»، ليحسم الصراع بين نظريات الضوء
في ضوء مفاهيم الفيزياء؛ حيث اكتشف من خلال تجاربه أن الضوء مؤلَّف من جسيمات
وموجات معًا. وهذا الكشف الجديد مكَّنه من نقل الفكرة إلى ذرات المادة التي
لم يفسِّرها أحدٌ من قبله على أساسٍ موجي، فوضع نظريةً رياضية يكون فيها كل جزيءٍ
صغيرٍ من المادة مقترنًا بموجة.
١٦
ثم قام «إيرفين شرودنجر» بعد ذلك بوضع هذا الرأي في معادلةٍ تفاضلية
أصبحَت الأساسَ الرياضي للنظرية الحديثة في الكوانتم. ومعنى ما ذهب إليه «دي
بروي»، هو ما يكشف عنه «ماكس بورن» من أن الجُسيمات الأولية لا تتحكم في
سلوكها قوانينُ عِلِّيَّة، وإنما قوانينُ احتمالية من نوع مشابه للموجات فيما
يتعلق بتركيبها الرياضي. وفي ضوء هذا التفسير لا تكون للموجات حقيقة
الموضوعات المادية، بل تكون لها حقيقة المقادير الرياضية. وهذا ما جعل
«هيزنبرج» يتوصل إلى أن هناك قَدْرًا من اللاتحديد (أو اللايقين) بالنسبة
للتنبؤ بمسار الجزيء.
١٧
والسؤال الآن: ما هو مبدأ اللايقين؟
هو المبدأ المعروف بمبدأ «فيرنر هيزنبرج»، أعلنه عام ١٩٢٧م، ويُعرف
أحيانًا بمبدأ اللاتحديد أو عدم التحديد أو مبدأ اللايقين أو اللادقة أو
مبدأ اللاحتمية أو مبدأ الريبة أو مبدأ الشك؛ حيث درج المترجمون العرب
على استخدام التعبير الأخير، ونهَج على منوالهم أغلب أساتذة الفيزياء
والكيمياء الفيزيائية، أما ترجمة المجمع اللغوي «مبدأ أنه لا يقين في
الطبيعة» وهو مبدأ نتج عن تحوُّل معنى الحقيقة تبعًا لما اكتُشِف في علم
الفيزياء في هذا القرن مما اختلَّت به الموازين القديمة كل الاختلال؛ فقد
اتضح أن كل المعرفة الطبيعية التي حصل عليها العلم ليست إلا معرفةً
إحصائية تختفي وراءها حقيقة الأشياء وحقيقة العالم بما فيه من علل
ومعلومات، وأن هذا الكون المختفي من وراء ما نعلم من ظواهر ليست معروفة —
وغير قابلة لأن تُعرف — بل هي أيضًا غير قابلة للتصور.
١٨
ومبدأ اللايقين هو خاص بالإلكترون، فلنُلخِّص ما قيل عن اكتشافات علماء
الذرة وعلماء الكوانتم في الإلكترون؛ حيث جاء راذرفورد مكتشفًا للنواة في
الذرة وعرف منها البروتون فقط عام ١٩١١م، ورأى أن الإلكترون أو
الإلكترونات تدور حول البروتون دورةً كوكبية. ثم جاء نيلز بور عام ١٩١٣م
وأيد اكتشاف «ثابت بلانك» كما أيده في أن الذرة من طبيعةٍ جزيئية. وافترض
بور أن الإلكترون لا يبقى في مدارٍ ثابت محدد حول النواة وإنما يقفز من
مدار إلى مدار، وحين يغيِّر الإلكترون مداره تتغير الطاقة الكلية للذرة؛
ولذلك فإن هذه الطاقة إما أن تنطلق إلى خارج الذرة وإما أن تمتصَّها.
وصوَّر الإلكترون على أنه لا يؤدي حركةً متصلة، كما يتحرك القطار على شريط
السكة الحديدية، وإنما يتحرك في قفزاتٍ تشبه قفزات الكنجارو في حقل. وجاء
«دي بروي» و«شرودنجر» ليفترضا أن الذرة والإلكترون من طبيعةٍ موجية حيث لا
يكون لهما وضعٌ محدد في المكان.
١٩
جاء هيزنبرج ليكتشف شيئًا أكثر غرابة عن الإلكترون؛ حيث حاول بتجاربه
ملاحظة موضع الإلكترون وسرعته واتجاهه بأدقِّ ما لديه من مكبِّرات. بدا له أنْ
ليس للإلكترون وضعٌ محدَّد وسرعةٌ محدَّدة، ويمكن للعالم رصد ما يفعله
الإلكترون بدقة إذا كان يتناول مجموعة من الإلكترونات. لكن حين يريد
العالِم تحديد مسار إلكترونٍ واحد وسرعته واتجاهه فجهدٌ ضائع. نستطيع فقط
أن نجد نقطة من نُقَط تحركات موجات الإلكترونات كمجموعة تمثِّل الوضع المحتمل
للإلكترون المعيَّن. لكن الإلكترون الواحد منعزلًا عن إخوته في مجموعته ليس
غير بقعةٍ غير محددة، شأنها في ذلك شأن الريح أو موجات الصوت في الظلام.
وكلما قل عدد الإلكترونات التي يلاحظها العالم زاد حَيْرة. ولا ترجع هذه
الظاهرة عند هيزنبرج إلى نقص في آلات العالم، وإنما إلى طبيعة الإلكترون،
ولكي يثبت ذلك افترض أن مُكبرًا خاليًا قادرٌ على تكبير الإلكترون إلى قدْر
قُطره بمائة بليون مرة حتى نستطيع رؤيته. وجد هيزنبرج هنا صعوبةً جديدة لأن
الإلكترون أصغر من موجة الضوء؛ ولذلك يُضطَر العالم إلى استخدام إشعاع طول
موجته أصغر مثل الأشعة السينية، فوجد هيزنبرج أنها عديمة الجدوى؛ لأنها لا
تمكِّنُنا من رؤية الإلكترون. وجد أن الرؤية قد تكون ممكنةً إذا استخدمنا
أشعة جاما، وهي أشعة تنبعث من ذرة الراديوم. لكن تجارب العلماء السابقين
عليه أثبتت أن الأشعة السينية تؤثِّر على الإلكترون لدرجة الخطورة على
وجودها. وصل هيزنبرج من كل ذلك إلى مبدأ اللايقين الذي يقول إن من
المستحيل من حيث المبدأ أن ترصُد موضع الإلكترون وسرعة حركته واتجاهها
بدقةٍ متناهية في نفس الوقت. يمكنك فقط أن تُحدِّد سرعته بدقة واتجاهها بنفس الدقة،
أو يمكنك تحديد سرعته واتجاهها بكل دقة، وحينئذٍ لا تستطيع تحديد موضعه المكاني.
٢٠
وبالتالي يقضي مبدأ اللايقين بأن الحالة التي يكون لها توزيعٌ احتمالي
متمركز جدًّا لقياسات الموضع سوف يكون لها حتمًا توزيعٌ عريض المدى
بالنسبة لقياسات كمية التحرك، والعكس بالعكس. هناك حد لإمكانية تحديد كلٍّ
من الموضع وكمية التحرك بدقةٍ عالية في آنٍ معًا. وينسحب القول نفسه على
أزواج أخرى معيَّنة من الكميات التي يمكن ملاحظتها أو رصدها أو قياسها
Observables. وقد حُفظَت هذا النظرية في
الصياغة الشهيرة التي وضعها هيزنبرج لمبدأ الارتياب أو اللايقين. هذا
المبدأ ليس مجرد ضميمةٍ أُضيفت إلى ميكانيكا الكم، ولكنه نتيجةٌ فنية نابعة
من بنية ميكانيكا الكم ذاتها. ولا يشكِّل حد هيزنبرج تقييدًا لما ينبغي أن
يكون عليه الحال بالطبع بالنسبة للأجسام العيانية (الكبيرة)
macroscopic التي نراها في الحياة
اليومية العادية؛ فنحن نستطيع، مثلًا، أن نعرف كلًّا من الموضع وكمية
التحرك لقطعة حلوى متحركة بحجم حبة الفول، وذلك بدقةٍ تامة كافية لكل
الأغراض العادية. أما على المستوى الذري فإن مبدأ اللايقين يسري على نحوٍ تام.
٢١
وقد أدلى «هيزنبرج»، بهذا المبدأ في صورة قانون طبيعي؛ حيث تخيل
تجربةً وهمية ومضمونُ هذه التجربة بسيطٌ يُحاول فيها العالِم ملاحظة موضع
وسرعة الإلكترون واتجاه حركته باستخدام مجهرٍ عملاق للغاية يُمكِنه تكبير
الإلكترون إلى حجم يمكن رؤيته، وأن الضوء المستخدم لإضاءة الإلكترون يجب
أن يكون طول موجته قريبًا من أبعاد الإلكترون، وحين تتدخل الأجهزة لتسجل
ما يحدُث كما هو في طبيعته؛ إما أن نقيس وضعه في المكان قياسًا دقيقًا،
ولكن حينئذٍ لا نستطيع قياس سرعة حركته واتجاهها قياسًا دقيقًا. وإما أن
نقيس سرعته قياسًا دقيقًا، ولكن ذلك القياس يعبث بالوصول إلى وضعه
المكاني بالدقة المطلوبة.
٢٢
وصل هيزنبرج إلى أن تحديد موضع وسرعة إلكترون في لحظةٍ واحدة مستحيل؛
فالفيزيائيون يحدِّدون خواص الإلكترون بدقةٍ مناسبة بالاستنباط من خواصَّ
مجملة منها، ولكنهم عندما يحاولون تحديد مكان إلكترونٍ معيَّن في الفضاء،
فخير ما يقال في هذه الحالة هو أن نقطةً معينة من نُقط تحركات موجات
الإلكترونات كمجموعة تمثِّل الوضع المحتمل للإلكترون المعيَّن — فالإلكترون
عبارة عن بقعةٍ غير محدَّدة شأنها في ذلك شأن الريح أو الموجات الضوئية.
وكلما قل عدد الإلكترونات التي يلاحظها الفيزيائي زادَتْه مشاهدتُه
حَيرةً وعدمَ تحديد.
٢٣
ويؤكِّد هيزنبرج استحالة وصف إلكترون وصفًا دقيقًا، شارحًا رأيه بأنه
إذا اصطدم إلكترونان أ، ب يتألف منهما نقطةٌ من السيل الكهربي
Drop of Electric Fluid تلك التي تتفتَّت
من جديد لتؤلِّف إلكترونَين جديدَين ج، د لأن الإلكترونَين أ، ب لم يعُد لهما
وجود على الإطلاق.
٢٤
إن المحاولة الني قام بها هيزنبرج الرامية إلى توضيح بعض الغموض الذي
بقي عالقا بمسألة «انتقال» الإلكترون من مدار إلى آخر، ومسألة طبيعته
عندما يكون خلال فترة «الانتقال» بين المدارَين. وكانت إجابته عنها، كما
يرى بعض الباحثين، بمثابة القطيعة الكبرى مع العلم القديم؛ ذلك أنها تضمَّنَت
القول بضرورة التخلي عن تصوُّر الإلكترون كما لو كان جوهرًا ماديًّا صغيرًا
يخضع لنفس القوانين التي خضع لها العالَم المعتاد، وعلى ضرورة تصوُّره ﮐ «شيء
يُوجد» بكيفيةٍ متأنية في مواقعَ مختلفة. ونتيجةَ ذلك، وضع هيزنبرج علاقات
تمكِّننا من ضبط تعيُّن المنظومة الذرية الحاصل عن «انتقال» الإلكترون من
محطة إلى أخرى ضبطًا احتماليًّا، وذلك بواسطة علاقات الارتياب، وهي
علاقات أدى التعمق في بحثها ودراستها إلى الزيادة في تحديد الحدود
الفاصلة بين الفيزياء الحديثة والفيزياء الكلاسيكية، وإلى رسم نُقط
القطيعة بين مفهومَين مختلفَين ونظريتَين متعارضتَين، وإلى التعمق في بنية
الذرة. وأخذ العلماء يفحصون الجزئيات الدقيقة وحركاتها الكوانتية، ولاقَوا
صعوبةً كبرى، وانتهَوا إلى أنه من المتعذِّر الزيادة في دقة التنبؤ إن زدنا
في دقة الملاحظة وضبط الأجهزة. ومعنى هذا أنه كلما زدنا في تدقيق بعض
القياسات زادت دقَّتنا تلك في مقدار الخطأ المرتكَب في القياس الآخر. وهذا
ما قالت به علاقة الارتياب عند هيزنبرج، والتي يمكن إحصاء نتائجها فيما
يلي: كلما كان قياسنا لموقع الجسيم دقيقًا، أثَّر ذلك على كمية حركته
وسرعته، وكلما كان قياسنا لكمية حركته دقيقًا، تعذَّر علينا قياس
موقعه بدقةٍ خالية من الإبهام؛ ولهذا فإنه يستحيل استحالةً مطلقة قياس موقع
الجُسيم وكمية حركته معًا قياسًا مضبوطًا، أو بتعبيرٍ آخر يتعذر تعيين
الموقع والسرعة الابتدائيَّين خلاف ما كانت تعتقد الفيزياء الكلاسيكية.
وينتج عن هذا التعذُّر عدم إمكان معرفة موقع الجسيم وسرعته في الأزمنة
اللاحقة؛ لذا فإننا إذا قسنا موقع جُسيمٍ ما وحركته في آنٍ واحد كان حاصل
الخطأ المرتكب في تعيين الموقع والحركة معًا يساوي ثابت بلانك أو أكثر منه.
٢٥
وقد استطاع هيزنبرج التوصُّل إلى هذه النتائج من دراسته للمناهج
المختلفة المتَّبَعة أو الممكن اتباعُها لقياس موقع جسيمٍ وقياس كمية حركته.
وقد لاحظنا أننا كلما أردنا أن نعيِّن موقع الجسيم لزمنا أن نعيِّن تعيينًا
مضبوطًا ودقيقًا إحداثياته الثلاث، إلا أن كل ذلك يتطلب منا إضاءة الجسيم
وتسليط نورٍ قوي عليه. ويؤدي هذا الاحتكاك العنيف بينهما إلى حدوث اضطراب
من نتائجه ازدياد نسبة الخطأ المرتكَب لقياس حركته. إن سقوط فوتون ضوئي
على إلكترون يُضاء به، إذا كان الفوتون قوي الطاقة أي قصير الموجة، يؤدي
إلى أن يصطدم به ويغيِّر من حركته ويُزيحه من موقعه الأصلي بناءً على مفعول
كمتون. ومن جَرَّاء ذلك، يحدُث إبهامٌ والتباسٌ لا بد من الإذعان والخضوع له
إذا أردنا قياس الموقع بدقة، أو القضاء عليه إن أردنا قياس السرعة والحركة
بدقة، لكن سينتُج من هذا الاتهام أنه سيُميط بالموقع وهكذا باستمرار؛ فكلما
أردنا أن نقيس موقع الجسيم وحركته معًا، لا بد من أن نخضع لبعض الارتياب
حول مقدار كلٍّ منهما، ولا بد في ذلك من ارتكابِ خطأٍ تقريبي في قياس الموقع
وارتكاب خطأٍ آخر في قياس كمية الحركة.
٢٦
ثانيًا: البعد الذاتي لمبدأ اللايقين
انقسم العلماء في مناقشتهم لمبدأ اللايقين في الفيزياء الحديثة بين
كونه يمِّثل صفةً موضوعية أم صفةً ذاتية؛ فالقائلون بالصفة الموضوعية يؤكدون أن
هذا المبدأ ناتج عن عملياتٍ موضوعية خالصة؛ فأداة القياس أداةٌ فيزيائية
مركَّبة من عناصرَ فيزيائية تقوم بينها وبين الوقائع الفيزيائية ظواهرُ موضوعية
دقيقة غايةَ الدقة هي التي يحدِّدها تحديدًا دقيقًا مبدأ اللايقين أو عدم
التحديد. أما القائلون بالصفة الذاتية في الفيزياء الحديثة فيُعوِّلون على
تداخُل أدوات القياس مع الظاهرة العلمية، وإن عملية القياس تُعَد تأثيرًا
ذاتيًّا أو انعكاسًا إنسانيًّا على الطبيعة الخارجية بشكلٍ يثير اضطرابًا في
العملية الفيزيائية ويجعل قياساتنا غير يقينية.
٢٧
والقائلون بالصفة الذاتية يقفون طويلًا أمام مبدأ عدم اليقين في فيزياء
الكم متخذيه مثالًا نمطيًّا لتداخل الذات المُلاحِظة في الموضوع «الملاحَظ»،
ودليلًا على ذاتية الفيزياء الحديثة بوجهٍ عام، وفيزياء الكم بوجهٍ خاص؛
ولهذا يَرونَ أن فيزياء الكم لا تصف حالةً موضوعية في عالمٍ مستقل، وإنما تصف
مظهر هذا العالم كما عرفناه خلال وجهةِ نظرٍ ذاتيةٍ معيَّنة أو بواسطة وسائلَ
تجريبيةٍ معينة.
٢٨
وأصحاب هذه الصفة ينتمون إلى مدرسة كوبنهاجن
Copenhagen
School، وهذه المدرسة مكوَّنة من جماعة من الفيزيائيين
الألمان الذين تتلمذوا على يد «نيلز بور» (مدير معهد الفيزياء النظرية في
كوبنهاجن) في العشرينيات. وكان «جان لويس ديتوش» (
Jean
Louis Destouches) وكرامر
Kramers، وسلاتر
Slater، وهيزنبرج من أحد أقطابها؛ فقد
حاول هؤلاء أن يحلُّوا التناقضات الكثيرة بين صورة الموجة وصورة الجُسيم عن
طريق تصوُّر موجة الاحتمال، وذهبوا إلى أن الموجات الكهرومغناطيسية موجاتٌ
حقيقية تُعطي احتماليةَ تواجُد الجسيم في مكان أو آخر.
٢٩
ولقد نزعَت مدرسة كوبنهاجن في أول عهدها منزعًا وضعيًّا منطقيًّا في أول عهدها؛
٣٠ علاوةً على إيمانها العميق باستحالة معالجة الظواهر الذرية
بواسطة مفهوم الحتمية نظرًا لعلاقات اللايقين، فهي تتخذ الطابع الاحتمالي
للظواهر الكوانتية أساسًا لنظرية تُنكِر الوجود المادي الواقعي على الجسيمات الذرية،
٣١ وتلجأ كما تلجأ الوضعية المنطقية الجديدة في الدفاع عن وجهة
نظرها إلى تحليل اللغة، وكأن الوجود الواقعي يتوقَّف فقط على المفاهيم اللغوية.
٣٢
كما أثارت مدرسة كوبنهاجن مجموعة من القضايا الإبستمولوجية منها قضية
الذاتية والموضوعية في المعرفة العلمية، وبالأخص فيما يتعلق بالعالم
المتناهي في الصغر. إن عدم خضوع الجُسيمات الأولية للتحديد الدقيق، كما كشف
عنه مبدأ اللايقين، يُرجع فيه إلى تداخُل آلات القياس تدخُلًا يجعل من الصعب
الفصل في نتائج القياس بين ما يعود إلى الموضوع المُلاحَظ وما يرجع إلى عملية
القياس وأدواته. هذا معطًى من معطيات البحث العلمي في مرحلةٍ معيَّنة من تطوره؛
وبالتالي فلا يمكن إهماله. غير أن فكر مدرسة كوبنهاجن قام على فهم العلاقة
بين الذات والموضوع فهمًا وحيد الجانب؛ حيث أكد دعاة تلك المدرسة على الصفة
الذاتية في الفيزياء الحديثة، كما عوَّلوا على تداخُل أدوات القياس مع الظاهرة
العلمية، وأن عملية القياس تُعَد تأثيرًا ذاتيًّا أو انعكاسًا إنسانيًّا على
الطبيعة الخارجية بشكلٍ يثير اضطرابًا في العملية الفيزيائية ويجعل قياساتنا
غير يقينية.
وبالتالي أنكرت مدرسة كوبنهاجن الصفة الواقعية-الموضوعية للشيء
الفيزيائي الكوانتي (الدقائق الصغرى كالإلكترونات مثلًا) نكرانًا كليًّا أو
جزئيًّا، وذلك بعد أن ركَّزوا على أن الظواهر التي يدرُسها العالِم لا تملك أي
واقع فيزيائي موضوعي قائم بذاته وباستقلال عن طريق اختبارها وملاحظتها
والقياس عليها؛ أي إنها لا تُوجد إلا بالنسبة لذاتٍ تختبرها وتجرِّب عليها؛ لذا
فالقضايا العملية لا تشير إلى الواقع الموضوعي، بل إلى إجراءاتنا وطرقنا
التجريبية؛ أي إن الظواهر لن يكون لها وجودٌ موضوعي مستقل عمن يُدرِكها، وهي
في الأخير ليست سوى مركَّباتٍ ذهنية من الإحساسات. وبهذا يُعيدون إلى الأذهان
سيرة «إرنست ماخ»، الذي يميِّز بين المعرفة الحسية؛ أي معرفة الواقع مثلما
تُمدُّنا به حواسُّنا، ومعرفة الواقع في ذاته التي هي معرفةٌ مستحيلة؛ وبالتالي
يُعيدون المثالية الكانطية والتي لم يعمل ماخ سوى على تنقيتها وتطهيرها من
الشوائب الميتافيزيقية العالقة بها، كفكرة الشيء في ذاته، حتى تمتزج بآراء
هيوم وبركلي وتتفق معها.
٣٣ وفي هذا يؤكِّد «هيزنبرج» أنه «يجب أن نُلاحِظ أن تفسير كوبنهاجن
لنظرية الكم ليس على الإطلاق وضعيًّا؛ فبينما تركِّز الوضعية على أن عناصر
الواقع هي الإدراكات الحسية للمراقب، فإن تفسير كوبنهاجن يعتبر الأشياء
والعمليات التي يمكن وصفُها بلغة المفاهيم الكلاسيكية، نعني الواقعية، أساسًا
لأي تفسيرٍ فيزيائي. في نفس الوقت سنُلاحظ أننا لا نستطيع تجنُّب الطبيعة
الإحصائية لقوانين الفيزياء الميكروسكوبية؛ لأن أية معرفة عن الواقعي هي
بذات طبيعتها معرفةٌ ناقصة بسبب قوانين الكم النظرية.»
٣٤
ومن ناحيةٍ أخرى فقد تمكَّنَت مدرسة كوبنهاجن بزعامة بور وهيزنبرج أن تُروِّج
لتفسيرٍ مفادُه استحالةُ معالجة الظواهر الذرية بواسطة مفهوم الحتمية؛ نظرًا
لعلاقات الارتياب واستحالة الاستمرار في الاعتقاد في الوجود المادي الواقعي
والموضوعي للجُسيمات الذرية. وبهذا المعنى يغدو من الصعب، في نظرها، الحديث
عن «واقع»؛ لأن هذا الأخير في ميدان الذرة يختلف اختلافًا أساسيًّا عن
الواقع في الميدان الميكروسكوبي؛ أي في مستوى الظواهر التي نتعامل معها في
حياتنا اليومية الاعتيادية. وانطلاقًا من نفس الاعتبارات، نفَوا أن تكون
نتائج قياساتنا وتجاربنا في المستوى الذري نتائجَ موضوعية، نتيجةَ ما يؤدي
إليه تدخُّل آلات القياس من تأثير على الظاهرة المُلاحَظة نفسها تأثيرًا
بارزًا؛ حيث لا يكون للظاهرة الفيزيائية المُلاحَظة واقعٌ فيزيائي إلا بالنسبة
للآلة، أو لوسيلة إدراكه وقياسه.
٣٥
وكان معظم ممثلي مدرسة كوبنهاجن يرفضون الحتمية بالمعنى الكلاسيكي الذي
أرساه لابلاس، ويقولون بالطابع الإحصائي للقوانين العلمية مع إعطاء مفهوم
اللايقين؛ إذ أضحى جلُّ فكر معظم العلماء والفيزيائيين المتخصصين في ميكانيكا
الكوانتم، منقادين وراء التفسير الفلسفي الذي اقترحَتْه مدرسة كوبنهاجن
لعلاقات اللايقين ولازدواجية الجُسيم والموجة والتداخُل القائم بين آلات
القياس والظواهر، معتبرين أن اللاحتمية واقعةٌ أساسية في الظواهر الكوانتية،
وأن التداخُل ينزع كل صبغةٍ موضوعية عن الظواهر التي ندرُسُها وعن النتائج التي
نحصُل عليها من دراستنا؛ لهذا فإن الشيء أو الموضوع في نظرهم، لم يعُد
بالنسبة لنا سوى مجرد تركيب من الانطباعات أو الإحساسات التي يتدخَّل فيها
عنصر الاعتباط والاختيار والذاتية، وهم يعتقدون انطلاقًا من ذلك أن
الاستمرار في القول بأن هدف العلم هو الاطلاع على حقيقة العالم الواقعي ليس
سوى وهمٍ أصبح يكذِّبه العلم الكوانتي.
٣٦
ويؤكد تفسير كوبنهاجن على أن الملاحظة الإنسانية تؤدي إلى عدم اليقين
في قياس الظواهر الفيزيائية. وهي كما يبدو دعوى بالذاتية في القياس العلمي
بشَّرَت به مدرسة كوبنهاجن (هيزنبرج-بور) التي لا تنتبه إلى أن التداخل
الموضوعي بين عمليات القياس وبين الظواهر الفيزيائية يُحدَّد بتحديدٍ كمي لعدم
التحديد أو عدم اليقين.
٣٧
وهنا يذهب ديتوش، وهو أحد المناصرين لفكر مدرسة كوبنهاجن؛ يؤكِّد: «إن
التصوُّرات الديكارتية هي التي قادت إلى تلك الحتمية التي عرفها العلم
الكلاسيكي. وعندما ظهر أن تطبيقها يؤدي إلى تناقضات، وأن التمسك الصارخ
بالروح الوضعية يمنع من استعمال عناصر تتطلب، لكي تكون محددة بالفعل،
القيام بعملياتٍ لا يمكن إنجازها، كان لا بد من فحص الإمكانات المبدئية
المتعلقة بالقياسات الفعلية فحصًا دقيقًا، والاقتناع بالتالي بأنه ليس في
الإمكان قياس «حالة» منظومةٍ ما بالمعنى الذي يُفهَم به القياس في الفيزياء
الكلاسيكية؛ الشيء الذي يعني أنه لا يمكن تحويل «علاقات اللايقين» تحويلًا
عكسيًّا، ومن ثَم التسليم بوجود لاحتميةٍ أساسية.»
٣٨
لهذا تنتهي مدرسة كوبنهاجن إلى إبطال صلاحية التصور الكلاسيكي للواقع
على أنه أجسام، والقول بأنه تصوُّرٌ محدود بحدود ظواهر العالم المرئي الذي كانت
تدرسه الميكانيكا، ولا يمكنه أن ينطبق على الميدان الميكروفيزيائي. كما تقول
بضرورة إبطال صلاحية المنطق الأرسطي الذي نشأ في أحضان نظرةٍ فلسفيةٍ جوهرية،
باعتباره منطقًا يعجز عن استيعاب المظهر التكاملي للظواهر الذرية كازدواجية
الجُسيم والموجة. وانطلاقًا من التأثير الذي تُمارِسه أدوات وأجهزة قياسنا على
الظاهرة المدروسة، قالت بضرورة الإقلاع عن إعطاء الآلة نفسها أو الظاهرة
واقعًا فيزيائيًّا قائمًا بذاته.
٣٩
ولم تكتفِ تلك المدرسة بذلك، بل راحت تُعلِن رأيها حول الأحداث في العالم
الصغير، وذلك على النحو التالي:
٤٠
- (١)
أن جُسيمات العالم الصغير لا تكتسب صفة الواقع الموضوعي إلا حينما
تُسجَّل بواسطة جهازٍ مختبري، ويُحسُّ بها إحساسًا ميكروسكوبيًّا (القياس أو
الرصد).
- (٢)
لا يمكن الفصل فصلًا واضحًا بين الراصد (الإنسان أو الجهاز)
والمرصود (الدقيقة، الذرة)؛ أي بين الذات والموضوع، وأن المرصود ليس
له واقعٌ موضوعي مستقل عن الراصد.
- (٣)
التفاعُل بين الجُسيم الصغير (الدقيقة الميكروسكوبية) وجهاز القياس
يخلُق اضطرابًا في الجُسيم لا يُمكِن السيطرة عليه أو معرفته
مقدمًا.
- (٤)
للراصد إمكانية الاختيار الحُر بين ترتيبَين مختبرَين مختلفَين يؤدي
كلٌّ منهما إلى معلوماتٍ عن الجسم الميكروسكوبي تتنافَى مع ما يؤدي إليه
الترتيب الآخر، إلا أنهما تُكملان بعضهما (مبدأ التكميلية). وفُسر ذلك
بأن الخواص التكميلية (الدقائقية أو الموجية) للدقائق الصغرى تتولد
بتأثير الذات على الموضوع؛ ولذلك لا يُستطاع معرفة الشيء (الموضوع في
جوهره). وبهذا كانت ثنائية الدقيقة–الموجة وعلاقة اللايقين تُفسَّران
تفسيرًا لا أدريًّا.
- (٥)
الإحصاء والسببية أو الاحتمال والحتمية نقيضان يتنافَى أحدهما مع
الآخر تناقُضًا مطلقًا. ولا يمكن التوفيق بينهما. وإن قوانين
الميكانيك الكوانتي الإحصائية تعني اللاحتمية واللاسببية في أحداث
العالم الصغير (الميكروسكوبي).
- (٦)
واجب الفيزياء ينحصر في وصف الروابط بين الإحساسات وصفًا
شكليًّا. أما الواقع الموضوعي الذي هو مصدر تلك الإحساسات، وإمكان
معرفة هذا الواقع، فيُنبذ من تفكير البعض باعتباره تأملات «غير ذات
معنًى».
وما يمكننا استخلاصه من هذه الاعتبارات التي قالت بها مدرسة كوبنهاجن،
هو أن تقدُّم العلم جرَّد المادة من كيفياتها المادية، كما سلخ عنها الصبغة
الواقعية التي قالت بها العقلانية الديكارتية بإمكان تحديدها بالشكل
والحركة باعتبارها أجسامًا تتحرك في مكانٍ معيَّن. لقد تغيَّر مفهوم النقطة
المادية في الفيزياء الحديثة إذ لم تعُد نقطةً معيَّنة في المكان تعيينًا
سكونيًّا، بل غدت مركزًا لحركةٍ دورية تنتشر حولها. وأن محاولة تحديد موقعه
أو سرعته تقتضي إنشاءه ذهنيًّا بحيث إن صفاته يكتسبها من هذه المنظومة
ذاتها؛ لهذا نقول بأن محاولة التغلب على الصعوبات التي طرحَتْها الإشكالية
الكوانتية (في المرحلة الأولى) أدَّت إلى انفتاح آفاقٍ جديدة للتفسير أمام
العلم تُثبِت كلها الطابع الإنشائي التركيبي للعلم، وتؤكِّد على الصبغة
الطرائقية لمفهوم «الشيء»؛ إذ الجُسيم المُلاحَظ لا يُعرف إلا في علاقته
بالملاحظة وأداة الملاحظة. ومن نتائج ذلك أن بنية التفسير الميكروسكوبي
استُبعدَت صلاحيتها، بل ظهَر فشلُها كأداة للتفسير في هذا المستوى الجديد من
الظواهر؛ وبالتالي انهارت النظرة الكيميائية للذرة التي اعتبرَتْها جُسيماتٍ
صلبة يمكن تحديد موقعها وسرعتها بالشكل والحركة. وفي نفس الوقت الذي تنهار
فيه المقادير الديكارتية أمام علاقات الارتياب تؤكِّد نزعة العلم الطرائقية
نفسَها وتُبين عن جداراتها، خصوصًا وأن مفهوم الموقع والسرعة يتحول إلى مفهومٍ
طرائقي وكأن تحديده ينتج عن علاقة الجُسيم بمنظومة الملاحظ.
٤١
ويُعتبر هيزنبرج من أقطاب مدرسة كوبنهاجن، والمتحدث الرسمي عن فكر تلك
المدرسة، بل والمدافع عن فكرها؛ حيث راح يعلن أن: «الوصف الموضوعي للوقائع في
الفضاء والزمان غير ممكن»؛
٤٢ كما أنه: لا يمكن أن تُوجد «فيزياء موضوعية»؛ أي إن من الممكن
وضع حدٍّ فاصلٍ واضح بين الموضوعي والذاتي. وإن الفيزياء الذرية لا تعالج بنية
الذرات، بل أحداثًا نُحس بها عند الرصد. وليس من الممكن جعل الرصد عملية
موضوعية، ولا يمكن اعتبار نتائجه شيئًا واقعيًّا بصورةٍ مباشرة. وكتب:
«تنحصر مهمة الفيزياء في وصف الترابط بين الإحساسات وصفًا شكليًّا فقط.
وبإمكاننا إيجاز الواقع الحقيقي كما يلي: بما أن جمع التجارب تخضع لقوانين
الميكانيك الكوانتي، أصبح خطأ قانون السببية مثبتًا إثباتًا قاطعًا.»
٤٣
ومما يجلب الانتباه أن هيزنبرج لم يكن له موقفٌ واضح ثابت من «الواقع
الموضوعي»؛ فهو يكتب عن الذرة مثلًا: «في الجوهر نجد أن الدقيقة الأولية
ليست جُسيمًا ماديًّا في الفضاء والزمان، إنما هي بشكل من الأشكال مجرد رمز
تتخذ قوانين الطبيعة عند تقديمه شكلًا سهلًا واضحًا … إن خبرات الفيزياء
الحديثة تُبيِّن لنا أن لا وجود للذرات كجسيماتٍ بسيطة. إلا أن تقديم مفهوم
الذرة يمكِّننا من صياغة القوانين التي تحكُم المعطيات الفيزيائية والكيميائية
صياغةً سهلة.» ولكنه يكتب في نفس المقال: «إن الشرط المسبق للتدخُّل الفعال
العلمي في العالم المادي والموجَّه لأغراضٍ عملية هو المعرفة الواعية
بالقوانين الطبيعية المصاغة بقالبٍ رياضي.» وكتب في مكانٍ آخر: «العلم يسأل
بشكلٍ من الأشكال محاولة لوصف العالَم بالمدى الذي يكون فيه هذا العالَم
مستقلًّا عن فكرنا وعملنا. أما حواسُّنا فليست سوى وسيلة محدودة الكمال،
تمكِّننا من اكتساب المعرفة عن العالم الموضوعي.»
٤٤
لكن هيزنبرج في كتابه «الفيزياء والفلسفة»، يقدِّم لنا بعضًا من أصرح ما
رأيت من تأكيدات لهذا الموقف الذاتي الغير موضوعي؛ فهو يقول: «في التجارب
التي تُجرى على الوقائع الذرية علينا أن نتعامل مع الأشياء والحقائق، مع
ظواهر لها نفس واقعية الحياة اليومية. لكن الذرات أو الجُسيمات الأولية
ذاتها ليست واقعية مثلها. إنها تشكل عالمًا من الإمكانات أو الاحتمالات لا
عالمًا من الأشياء والحقائق.» تُوسم آراء أينشتين بأنها واقعيةٌ دوجماطيقية،
وهي تمثِّل موقفًا طبيعيًّا جدًّا في رأي هيزنبرج. والحق أن الغالبية العظمى
من العلماء يدينون به. هم يعتقدون أن أبحاثهم تشير فعلًا إلى شيءٍ واقعي
«يُوجد هناك» في العالم المادي، وأن الكون المادي الشرعي ليس مجرد ابتكار من
خيال العلماء. إن النجاح غير المتوقَّع للقوانين الرياضية البسيطة في
الفيزياء يدعم الاعتقاد بأن العالم إنما يطرق واقعًا خارجيًّا موجودًا
بالفعل. لكن هيزنبرج يُنبِّهنا إلى أن ميكانيكا الكم قد بُنيَت أيضًا على قوانينَ
رياضيةٍ بسيطة ناجحة تمامًا في تفسير العالم المادي، غير أنها لا تتطلب أن
لا يكون لهذا العالم وجودٌ مستقل، بالمعنى الذي تقول به «الواقعية
الدوجماطية». وعلى هذا فإن العلم الطبيعي ممكنٌ بالفعل دون أساسٍ من الواقعية الدوجماطية.
٤٥
وهنا يُعلِن هيزنبرج عن موقف مدرسة كوبنهاجن من الواقع فيقول: «إن تفسير
كوبنهاجن لنظرية الكم يبدأ بمقارنة. إنه يبدأ من حقيقة أننا نصف تجاربنا
بلغة الفيزياء الكلاسيكية، بينما نعرف في نفس الوقت أن هذه المفاهيم لا
تلائم الطبيعة بدقة، والتوتُّر بين نقطتَي البداية هاتَين هو أصل الطبيعة
الإحصائية لنظرية الكم. وعلى هذا فلقد اقتُرح أحيانًا أنَّ علينا أن نهجر
المفاهيم الكلاسيكية تمامًا، وأن تغيُّرًا جذريًّا في المفاهيم المستخدمة
لوصف التجارب قد يرجع بنا إلى وصفٍ للطبيعة غير إحصائي، وموضوعي تمامًا. على
أن هذا الاقتراح يُبنى على سوء تفهُّم. إن مفاهيم الفيزيقا الكلاسيكية هي مجرد
تهذيبٍ لمفاهيم الحياة اليومية، وهي جزءٌ أساسي من اللغة التي تشكِّل الأساس
لكل العلوم الطبيعية. إن موقفنا الواقعي في العلوم هو أننا نستخدم بالفعل
المفاهيم الكلاسيكية لوصف التجارب. ولقد كانت مشكلة نظرية الكم هي أن نجد
التفسير النظري للتجارب على هذا الأساس. لا فائدة تُرجى من مناقشة ماذا يمكن
عمله لو كنا كائناتٍ أخرى غيرنا نحن. وهنا يجب أن ندرك — كما قال فون
فايتسيكر — أن «الطبيعة أقدم من الإنسان، لكن الإنسان أقدم من العلوم
الطبيعية». والفقرة الأولى من الجملة تُبرِّر الفيزياء الكلاسيكية ومثَلُها
الأعلى هو الموضوعية الكاملة. أما الفقرة الثانية فتُخبرنا عن السبب في أننا
لا نستطيع أن نهرب من مفارقة نظرية الكم، نعني حاجتنا إلى استخدام المفاهيم الكلاسيكية.»
٤٦
ومن الملاحظ أن هيزنبرج هنا يعتبر الحديث عن عالمٍ موضوعي واقعي تتمتع
فيه أصغر الجسيمات بنفس الوجود الموضوعي الذي ننسبه للأجسام
الميكروفيزيائية حديثًا مستحيلًا وغير مقبول؛ إذ الظواهر الميكروفيزيائية
لا تُوجد إلا بالنسبة لذاتٍ تُدرِكها وبالنسبة لآلةٍ تقيس عليها؛ فوجودها يكمن
في كونها مدركةً ومختبرةً من طرف عالم، ومن طرف منظومة بين الذات والموضوع
المُلاحَظ نتيجة التداخُل والتفاعُل بينها؛ أي يعدو من غير الممكن اعتبار
الظواهر تتمتع بوجودٍ واقعي فيزيائي مستقل وموضوعي بالمعنى الاعتيادي
للكلمة. بل تخلقُه خلقًا إراديًّا حُرًّا تلعب فيه مبادرة العالم دورًا
أساسيًّا. كما يشكِّل فيه الاختيار عنصرًا رئيسيًّا.
٤٧
وفي الوقت الذي يُدافِع فيه هيزنبرج عن فكر وتوجُّه مدرسة كوبنهاجن، نجده
يقدِّم عرضًا لمفهوم السببية في ضوء ميكانيكا الكوانتم؛ حيث نراه يقول عن
مبدأ السببية: «لقد درَج الناس على القول، خلال السنين الأخيرة، إن العلم
الذري قد أبطل مبدأ السببية أو على الأقل، أفقده قسطًا من سلطته، وذلك إلى
درجة أنه لم يعُد من الممكن الحديث عن ضبط عمليات الطبيعة، بالمعنى الدقيق
لكلمة ضبط، بواسطة قوانين. وأحيانًا يُقال فقط إن مبدأ السببية لا يسري
مفعوله إلى علم الذرة الحديث.»
٤٨
ويستطرد هيزنبرج فيقول: «لقد عمل العلم الذري منذ بداية نشأته على
صياغة وتطوُّر مفاهيم لا تتفق، والحق يُقال، مع هذه الصورة التي رسمناها عن
مبدأ السببية، ولكن هذا لا يعني أن هذه المفاهيم الجديدة تُناقِض الأسس التي
قامت عليها تلك الصورة؛ فكل ما في الأمر هو أن طريقة التفكير الخاصة بالعلم
الذي كان شائعًا، لا بد أن تتميز منذ البداية، عن أسلوب التفكير الذي تقوم
عليه الحتمية. لقد سبق لعلم الذرة القديم أن بنى تفسيره للكون على أساس
فكرة الترابط الإحصائي بين العديد من العمليات الصغيرة المعزولة، فعمَّم هذه
الفكرة وقدَّم لنا صورة عن العالم، قوامُها أن جميع الكيفيات الحسية التي
للمادة، يرجع السبب فيها بكيفيةٍ غير مباشرة، إلى وضعية الذرات وحركتها،
يقول ديموقريطس: «لا يكون الشيء حلوًا أو مرًّا إلا في الظاهر. أما في
الواقع فلا وجود لشيءٍ آخر غير الذرات والخلاء.» فإذا فسَّرنا هكذا الظواهر
الحسية بواسطة تضافُر العديد من العمليات الصغيرة المعزولة نتج من ذلك
ضرورة، أننا نعتبر قوانين الطبيعة إحصائية لا غير. والحق أن هناك قوانينَ إحصائية.»
٤٩
ثم يشرح هيزنبرج الطابع الإحصائي لنظرية الكوانتا قائلًا: «على الرغم
من أن المعرفة الناقصة بمنظومةٍ ما كانت، منذ الاكتشافات التي توصَّل إليها كلٌّ
من «جيبس» و«بولتزمان»، مندرجةً في الصياغة الرياضية للقوانين الفيزيائية،
فإنه لم يقع التخلي عن مبدأ الحتمية إلا بعد ظهور نظرية الكوانتا على يد
بلانك. لم يجد بلانك في البداية سوى عنصرٍ واحد يدل على الطابع المنفصل
لظواهر الإشعاع التي كان يَدرُسها. لقد أثبت أن الذرة المشعَّة لا تُصدِر الطاقة
بكيفيةٍ منفصلة على شكل صدمات. إن هذا الانفصال في إصدار الطاقة الذي يشبه
تتابع الصدمات، قد أدى، مثله في ذلك مثل جميع المفاهيم المتعلقة بنظرية
الذرات، إلى القول بالطابع الإحصائي لظاهرة الإشعاع. ومع ذلك كان لا بد من
مرور خمس وعشرين سنة على اكتشاف الكوانتا حتى يصبح في الإمكان إثبات أن
نظرية كوانتا، تحتِّم في الواقع إعطاء الصبغة الإحصائية للقوانين الفيزيائية،
والتخلي عن مبدأ الحتمية؛ فمنذ أن ظهَرَت أبحاث أينشتين وبور وسومرفيلد بدا
واضحًا أن نظرية الكوانتا هي المفتاح الذي يفتح باب الفيزياء الذرية على
مصراعَيه. وكان النموذج الذري الذي قال به روتر فورد وبور خير مُساعِد على
تفسير العمليات والتفاعلات الكيماوية مما سمح منذ ذلك الوقت بدمج الفيزياء
والكيمياء والفيزياء الفلكية في واحدٍ منصهر، وحتَّم التخلي عن مبدأ الحتمية
المحض عن صياغة القوانين الرياضية للظواهر الطبيعية حسب نظرية الكوانتا.»
٥٠
ومن هذا المنطلق شرع هيزنبرج في عقد مقارنة مذهب كانط والفيزياء
الحديثة، حيث يقول: «… من اللحظة الأولى سيبدو مفهومه المحوري عن الأحكام
التركيبية القبلية، وقد محقَته اكتشافات هذا القرن (يقصد القرن العشرين).
غيَّرَت نظرية النسبية رؤيتنا للمكان والزمان، بل لقد كشَفَت في الحقيقة ملامحَ
جديدة للزمان والمكان، ليس بينها ما نراه في صور كانط القبلية للحدْس
الخالص. لم يعُد قانون العلِّية يُطبَّق في نظرية الكم ولم يعُد قانون حفظ المادة
صحيحًا بالنسبة للجُسيمات الأولية. الواضح أن كانط لم يكن له ليتنبأ
بالاكتشافات الحديثة. لكن لما كنتُ مقتنعًا بأن مفهوماته ستكون الأساس لأي
ميتافيزيقيا مستقبلية يمكن أن تُسمَّى علمًا، فمن المُشوِّق أن ترى أين كانت حُججه خاطئة.»
٥١
ولم يكتفِ هيزنبرج بذلك، بل نراه يؤكد قائلًا: «دعنا نأخذ قانون العِليَّة
كمثال. يقول كانط إنه حينما نلاحظ واقعة فإننا نفترض أن ثمَّة واقعةً سبقَتْها لا
بد للأخرى أن تنتج عنها حسب قاعدةٍ ما. وهذا كما يقرِّر كانط أساس كل العمل
العلمي. أما إمكانية أن نجد دائمًا هذه الواقعة السابقة من عدمه فهو أمرٌ لا
يهمُّ بالنسبة لهذه المناقشة. والواقع أننا نستطيع أن نجدها في الكثير من
الحالات. لكن حتى لو لم نستطع، فليس ثمَّة ما يمنعنا من أن نسأل عما قد
تكونه، وأن نبحث عنها. وعلى هذا فقد تم تطويع قانون العِليَّة إلى منهج البحث
العلمي. إنه الشرط الذي يجعل العلم ممكنًا، ولمَّا كنا نطبِّق هذا المنهج
بالفعل فإن قانون العِليَّة قَبلي ولا يُشتَق من الخبرة. فهل هذا صحيح في
الفيزياء الذرية؟ فلنأخذ ذرة راديوم يمكنها أن تُطلِق جُسيم ألفا، لا يمكن أن
يُتنبأ بالوقت الذي سيُطلق في المتوسط في نحو ألفَي عام. وعلى هذا فعندما
نلاحظ الانطلاق فلن نبحث عن مثل هذه الواقعة، ولا يلزم أن تُثبِّطنا حقيقة أن
أحدًا لم يلحظ حتى الآن مثل هذه الواقعة. لكن لماذا تغيَّر المنهج العلمي
بالفعل في هذه القضية الجوهرية بالذات منذ كانط.»
٥٢
يستكمل هيزنبرج الحديث بقوله: «ثمة إجابتان محتملتان لهذا السؤال.
الأولى منهما هي: لقد أقنعَتْنا الخبرة أن قوانين نظرية الكم صحيحة، فإذا
كانت كذلك، فإننا نعرف أننا لن نجد واقعةً سابقة تُعلِّل انبعاث الجُسيم في وقتٍ
معيَّن. أما الإجابة الثانية فهي: إننا نعرف الواقعة السابقة، لكن ليس بشكلٍ
دقيق تمامًا. إننا نعرف القوى في النواة الذرية المسئولة عن إطلاق جُسيمات
ألفا. لكن هذه المعرفة تحمل اللامحققية الناجمة عن التفاعل بين النواة وبين
بقية العالم. فإذا أردنا أن نعرف السبب في إطلاق جُسيم ألفا في ذلك الوقت
المعيَّن فمن الضروري أن نعرف التركيب الميكروسكوبي للعالم بأكمله بما فيه
أنفسنا، وهذ أمرٌ مستحيل؛ ولهذا فلم تعُد حُجج كانط للصفة القبلية لقانون
العلية قابلةً للتطبيق هنا.»
٥٣
إن قول هيزنبرج باللاحتمية والذاتية في الفيزياء الحديثة استنادًا إلى
احتمالية هذه الوقائع وإحصائية قياسها، قد فتح باب الاجتهاد لوضع تفسيراتٍ
ميتافيزيقية للكون الذري، وأول هذه التفسيرات هو القول بنظرية في الحرية
الإنسانية استنادًا إلى فكرة اللاحتمية. والعلماء الذين يذهبون هذا المذهب
يحدِّدون المسألة على هذا النحو: لا يمكن أن تُوجَد سيطرةٌ حتمية كاملة على
الظواهر غير الحتمية ما لم تكن الحتمية مسيطرةً على الذهن نفسه، وعلى العكس
من ذلك لو أردنا أن نُحرِّر الذهن فينبغي إلى حدٍّ ما أن نُحرِّر العالم المادي كذلك.
٥٤
ويُبرِّر هؤلاء العلماء موقفهم هذا من خلال مقارنتهم بين ميكانيكا نيوتن
وميكانيكا الكوانتم؛ فالأولى قد ضربَت على الكون ستارًا حديديًّا من الحتمية
الآلية الصارمة، التي تُعبِّر عن سيطرة الضرورة العقلية على الطبيعة والإنسان
على السواء؛ فكل شيءٍ مقدَّر له سلفًا وبنوع من الضرورة، ماذا سيكون عليه في
المستقبل. وهكذا عاش الإنسان في ظل حتمية نيوتن أو السببية الضرورية كما لو
كان يختنق؛ فكل ما يحدث لا بد له من سبب، فإذا عُرف السبب كان كالقضاء
المبرم الذي لا رادَّ له، بحيث يتحتم على الشيء أن يحدُث. وقد أحسن كلٌّ من
اسبينوزا وكانط التعبير عن هذه الحتمية كلٌّ بطريقته الخاصة. وبينما كان كانط
على استعداد للتضحية بالضرورة الإبستمولوجية من أجل الأخلاق، كان ديكارت قد
سبقه إلى ذلك، حينما قرَّر أن الإرادة أوسع من الذهن؛ أي إن الإرادة الحرة لا
تخضع لمنطق التفكير الرياضي.
٥٥
وعلى العكس من ذلك، جاء مبدأ اللاتحديد عند هيزنبرج ليفُك الحصار الذي
ضربَتْه حتمية نيوتن على الكون بما في ذلك الإنسان. والأساس المنطقي الذي
يعتمد عليه هذا اللاتحديد هو نظرية الاحتمالات، بمعنى أن حتمية نيوتن قد
قامت على فكرة المسار الثابت والذي يُحتِّم الجمع بين الموضع والسرعة بالنسبة
للشيء المتحرك، ولكن بناءً على معادلة هيزنبرج على هامش الخطأ، فمن المستحيل
الجمع بين الدقة الكاملة في قياس الموضع والسرعة بالنسبة لحركة الإلكترون،
فيقول بعض الباحثين: «إن تركيب الأجهزة لقياس إحداثيات الإلكترون (أي موضعه
المكاني) يحول آليًّا دون وضع المعدَّات المطلوبة لقياس سرعته في المكان
نفسه، والعكس صحيح؛ فعملية القياس ذاتها تُحدِث في وضع الإلكترون تغيُّرًا لا
سبيل إلى التنبؤ به. وهكذا حاول البعض استثمار مبدأ اللاتحديد بطريقةٍ
ميتافيزيقية ليؤكِّد بها حرية الإرادة الإنسانية، بالرغم أن منهم علماءَ يعرفون
حدود العلم، وبالرغم من أن هيزنبرج لم يرتقِ ببحوثه إلى الإنسان، فقد ذهب
«بافينك» و«إدنجتون»، كلٌّ منهما على حِدَة، إلى تفسير عجز العلماء عن التنبؤ
بأيِّ الإلكترونات هو الذي سيقفز من مداره، وإلى أي المدارات سيتجه، نقول
تأوَّلوا ذلك بأن الإلكترون «حُر» في أن يقفز متى وأنَّى شاء. أفيكون الإنسان
وإرادته أقل حرية من الإلكترون؟»
٥٦
ولكي نفهم وقع نظرية الكم على تصوُّرنا العام للكون فهمًا واضحًا، فقد
يحسُن بنا ألا نسأل الفلاسفة والعلماء، وأن نسأل الكُتَّاب الأدباء، الذين
عبَّروا عن مشاعر القرن العشرين. كتب جورج برنارد شو يقول: «إن العالَم الذي
بناه إسحاق نيوتن، والذي ظل القلعة المنيعة للمدينة الحديثة على مدى ثلاثمائة
عام قد تهاوى أمام نقد أينشتين كما تهاوت جدران المعبد. كان عالم نيوتن
يمثِّل معقل المذهب العاقل للحتمية؛ فالكواكب في مداراتها تخضع لقوانينَ ثابتةٍ
لا تتغير، وكذلك تخضع الإلكترونات في مدارها في الذرات لنفس القوانين
العامة. إن كل لحظة من لحظات الزمن تحكُم اللحظة التي تليها … إن كل شيء يمكن
حسابه، وكل ما وقع كان حتمًا أن يقع. لقد أُزيلَت الأوامر من فوق مائدة
القوانين، وحل محلها علم الجبر الجاري؛ معادلات الرياضيين.»
٥٧
ويصف «برنارد شو» بعد ذلك الإنسان الحديث، حيث أصبحَت لديه فيزياء نيوتن
بديلًا للدين التقليدي. ويستطرد «برنارد شو» قائلًا: «هنا كان إيماني، وهنا
وجدتُ عقيدتي في العصمة من الخطأ. وأنا الذي ازدريتُ الكاثوليكي وهو يحلُم
هباء بالإرادة الحرة المسئولة، مثلها ازدريتُ البروتستانتي بتظاهره بالحكم
المتميِّز.» ويصف «شو» بعد ذلك كيف تهشَّم هذا الدين البديل بواسطة الفيزياء
الذرية ونظرية الكم في القرن العشرين. يستطرد «شو» قائلًا «والآن — الآن —
ماذا يبقى من ذلك؟ إن مدار الإلكترون لا يخضع لقانون، فهو يختار مسارًا
وينبذ مسارًا آخر؛ فكل شيء يسير على هواه، والعالم الذي كنتَ تستطيع
الاعتماد عليه فيما مضى لم يصبح موضعًا للاعتماد عليه.»
٥٨
ولكي نفهم على نحوٍ أكثر تحديدًا الفائدة من استخدام تماثُلات الفطرة
السليمة في التفسيرات الميتافيزيقية لمبدأ اللايقين في الفيزياء الذرية،
يجب أن ندرُس مثالًا ورد في كُتيب لبرنارد بافنك، وهذا المثال يعود إلى
القوانين التي تحكُم انتقال الإلكترون من أحد المدارات حول نواة الإيدروجين
إلى مدارٍ آخر. وتُحدِّد لنا قوانين ميكانيكا الكم ما هي المدارات التي يمكن أن
يتحرك فيها الإلكترون حول النواة، غير أنه إذا كان هناك إلكترونٌ معيَّن يدور
حول نواة الذرة، فليس هناك قانونٌ يحدد لنا تحديدًا دقيقًا، وفي كل لحظة، ما
الذي سيفعله هذا الإلكترون في اللحظة التالية، هل سيقفز إلى مدارٍ آخر أم
لا يفعل؟ وتستطيع النظرية أن تحدِّد فقط متوسط عدد الإلكترونات التي تقفز في
الثانية التالية، ولكنها لا تستطيع أن تحدِّد ما إذا كان إلكترونٌ معيَّن سوف
يقفز أم لا. ويعطي بعض الباحثين تفسيرًا لهذا الوضع قائلًا: «يجب أن نتذكر
أولًا أن الفعل الأوَّلي المفرد (القفزة) لا يمكن حسابه على هذا النحو، ولكنه
يترك حرًّا؛ وأن نتذكر ثانيًا أن الجوهر الحقيقي لهذه الحرية ربما كان
حدثًا فيزيائيًّا … وبعبارة أخرى، إن الاختيار «الحر» للفعل الأولي، والذي
لا تحدِّده الفيزياء، لا وجود له في الواقع إلا كجزء من «خط» أو «هيئة»؛ أو
هو جزء من مجموعةٍ متسلسلة من الهيئات والأشكال الأرقى يمتص دائمًا الشكل
المختلف ليصنع منه تركيبًا أعلى … والجديد في الأمر هو أن الفيزياء تقترح
اختبار هذه الفكرة.»
٥٩
وتتضح الخاصية التماثلية لهذا التفسير في هذه الحالة؛ فبما أن قواعد
ميكانيكا الأمواج لا يمكن صياغتها بلغة الفطرة السليمة، فإن المؤلف يقارن
سلوك الإلكترون بسلوك الكائن الحي «الحر» في اختيار ما يفعله في اللحظة
التالية. وقد استُخدمَت كلمة «حر» هنا في لهجة الفطرة السليمة الغامضة التي
بمقتضاها نَصِف ما يفعله الكائن الحي بأنه فِعلٌ «حر» لأننا لا نعرف القواعد
التي نستطيع أن نحدِّد بها ما سوف يفعله في اللحظة التالية. وبعد أن ترسخ
وجود الحرية «الحرية» في العالم الفيزيائي فإن المرء يستخدم هذه «الحقيقة»
لكي يصبح من المعقول أن تكون القرارات البشرية قرارات «حُرة»؛ فمن المؤكد أن
الإنسان لا يمكن أن يكون أقل تحررًا من الشيء الفيزيائي غير الحي. وقد كان
تبرير مذهب الإرادة الحرة بواسطة الفيزياء الذرية واحدًا من الأسباب التي
أُعلِن من أجلها مرارًا أن الفيزياء قد صارت اليوم أكثر تآلفًا مع الدين
التقليدي عما كانت عليه لقرونٍ مضت.
٦٠
وبطبيعة الحال، يجب أن نذكُر أن نصوصًا مثل: «أدخلَت التقدُّمات الأخيرة في
الفيزياء عواملَ عقليةً في العلم.» أو «إن العلوم الحديثة تبرِّر مذهب «الإرادة
الحرة».» هي نصوص لا تتحدث عن الفيزياء من «الوجهة العلمية». إنها في الواقع
تتناول التفسيرات الميتافيزيائية للنظريات الفيزيائية الأخيرة، ولكي نحدِّد
المعنى الدقيق لهذه النصوص يجب أن نقول: إن الفيزياء المعاصرة قد تعرَّضَت
لتفسيرٍ ميتافيزيائي، وطبقًا لهذا التفسير يُعتبَر الإلكترون ناتجًا عن قوًى
روحية، كما أنه في قفزة من مدار إلى مدار، إنما يمارس عملًا من أعمال
الإرادة الحرة؛ ومن ثَم فإن علينا أن نتساءل عما إذا كانت الميكانيكا
النيوتونية لا تستطيع أن يكون لها تفسيرٌ ميتافيزيائي يُرخِّص بإدخال القوى
الروحية والإرادة الحرة إلى الفيزياء. وبما أن كل هذه التفسيرات هي في
الأساس عرضٌ لتماثلات من الفطرة السليمة للنظريات الفيزيائية فيمكننا فقط أن
نتساءل عما إذا كان من الأقرب إلى «الطبيعة» أو إلى «الفطرة السليمة» أن
نفسِّر ميكانيكا الكم بواسطة القوى الروحية وألا نفعل ذلك بالميكانيكا النيوتونية.
٦١
والحقيقة، أن هؤلاء الذين دافعوا عن الحرية الإنسانية بمنطق العلم، سيَّان من العلماء
أو
الفلاسفة أو حتى من رجال الدين، لم يكن هدفهم هدم الحتمية في العلم أو التهليل للاحتمية،
بل فقط
تأكيد أن الظواهر لها قوانينها الخاصة المختلفة عن قوانين المادة الصماء. وإنه إذا كانت
هناك
حتمية فمحلها العالم الفيزيائي. ولا تسري على الباطن الإنساني. وإنه لجديرٌ بنا عدم الخلط
بين
حقائق العلم المتغيِّرة وحقائق النفس الثابتة؛ فها هو فالتون شين (أحد رجال الدين الكاثوليك)
يقول إن القديس توما الأكويني يؤكِّد أن التغير في العلم التجريبي لا يستتبع تغيرًا في
الميتافيزيقيا التي تحكُم هذا العلم، ما دامت الفلسفة مستقلة عن العلم. ونحن لو نظرنا
للنتائج
التي انتهت إليها نظرية الكوانتم ومبدأ اللاتحديد، فلن نجد فيها ما يُبرهِن على عدم خضوع
الحوادث الفيزيائية لمبدأ السببية؛ أي إن المدافعين عن الحرية الإنسانية استثمروا جهل
العلماء
بالظروف المحيطة بالإلكترون والتي تَدفعُه لتغيير مداره في
تأكيد اللاحتمية.
٦٢
من أجل ذلك فمن العبث أن نبحث عن سندٍ فيزيائي لحرية الإرادة؛ لأنها
مشكلة الفلسفة في المقام الأول، وليست مشكلة الفيزياء. وهذا ما أكَّده أحد
الفلاسفة الهنود كانتا براهما
N. K.
Brahama وبنفس حُجة شين عن استقلال الميتافيزيقا عن
الفيزيقا، فيقول معقبًا على المحاولات الخاطئة لاستخلاص الحرية الإنسانية
من نتائج العلم: «ثم ماذا يمكن أن يحدُث فيما لو فاجأتنا تجارب المستقبل بأن
اللاحتمية التي يُفترض وجودها في حركة الإلكترون، لا وجود لها حقيقة، ألن
تجد الفلسفة نفسها عاجزة عن تبرير موقفها، فيما لو أخذَت الآن برأي
إدنجتون؟! إن الحرية وسائر الحقائق الميتافيزيقية الأخرى لا يمكن البرهنة
عليها في عالم الظواهر الذي تُسيطِر عليه مقولات المكان والزمان والسببية.»
٦٣
ثالثًا: البعد الموضوعي لمبدأ اللايقين
إذا كانت مدرسة كوبنهاجن، قد استطاعت بزعامة «بور» و«هيزنبرج»
و«ديتوش»، أن تُروِّج لتفسيرٍ مفادُه استحالة معالجة الظواهر الذرية بواسطة
مفهوم الحتمية نظرًا لعلاقات الارتياب واستحالة الاستمرار في الاعتقاد في
الوجود المادي الواقعي والموضوعي للجُسيمات الذرية، وبهذا المعنى يغدو من
الصعب، في نظرها، الحديث عن (واقع) لأن هذا الأخير في ميدان الذرة يختلف
اختلافًا أساسيًّا عن الواقع في الميدان الميكروسكوبي؛ أي في مستوى الظواهر
التي نتعامل معها في حياتنا اليومية الاعتيادية، فإنه انطلاقًا من الاعتبارات
نفسها، نفَوا أن تكون نتائجُ قياساتنا وتجاربنا في المستوى الذري نتائجَ
موضوعية، نتيجةَ ما يؤدي إليه تدخُّل آلات القياس من تأثير على الظاهرة
المُلاحَظة نفسها تأثيرًا بارزًا؛ حيث لا يكون للظاهرة الفيزيائية المُلاحَظة
واقعٌ فيزيائي إلا بالنسبة للآلة، أو لوسيلة إدراكه وقياسه.
٦٤
ولقد قُوبلَت هذه الآراء بالترحاب الكبير من طرف كبار العلماء، بل كان
لها تأثيرٌ فلسفي قوي عليهم؛ فلويس دي بروي انساق تحت تأثيرهم، منذ تاريخ
انعقاد سولفي الخامس (١٩٢٧م) بباريس حتى سنة ١٩٥١م، في تفسيرٍ احتمالي محض
للميكانيكا الكوانتية ونتائجها، والتزم حرفيًّا بآراء بور وهيزنبرج، وهو ما
جعله يتخلى عن آرائه الأولى المناصرة للحتمية الكلاسيكية،
٦٥ ويعتنق آراء مدرسة كوبنهاجن هي حذاقة حُجج بور ودقة وفطانة
براهينه. وانساق الحاضرون في المؤتمر وراءه هو وهيزنبرج ما عدا أينشتين
الذي أعلن عن عدم رضاه عن الاتجاه الاحتمالي؛
٦٦ مؤكدًا أنه يُوجد عالمٌ واقعي وموضوعي خارجًا عن الذات وباستقلال
عنها، كما أن معرفتنا به معرفةً موضوعية لا تتطلب إدراكه في الإحساس والخبرة
فقط، بل بالأساس إنشاءه عقليًّا وإعادة بنائه؛
٦٧ ففي خطابٍ وجَّهه أينشتين إلى ماكس بورن في ٣٠ ديسمبر سنة ١٩٤٧م،
يقول: «لقد أدى بنا تطوُّر العلم إلى أن أصبح كلٌّ منا على طرف نقيضٍ من الآخر
(أنت تؤمن بإلهٍ يلعب بالنرد، أما أنا فأُومِن بوجود قواعدَ دقيقةٍ وقوانينَ يخضع
لها الكون خضوعًا موضوعيًّا …)، فالاحتمال الذي تتضمَّنه الفيزياء الكوانتية
الإحصائية لا ينبغي أن يُنسيَنا أن العلم لا يمكنه التخلي عن فكرة خضوع
الظواهر للقانون؛ فالإحصاء ليس يمثِّل حلًّا نهائيًّا لمشكل تحديد حركة
الجُسيمات الدقيقة. يقول أينشتين: «لا يمكنني أن آخذ بالنظرية الإحصائية
بصورةٍ جدية؛ لأنها تتعارض مع المهمة الأساسية للفيزياء؛ أي وصف الواقع في
المكان والزمان (…) وإني مقتنعٌ تمام الاقتناع بأننا سننتهي بنظرية تكون
الروابط والعلاقات فيها حقائقَ لا احتمالات؛ فالصفة الإحصائية للنظرية
الكوانتية الراهنة، ناتجة بالضرورة عن عدم كمال وصفنا للمنظومات المُلاحَظة،
فلا مبرر يدعونا إلى الاعتقاد بأن أساس الفيزياء سيبقى مستقبلًّا هو
الاحتمال. وإن هيزنبرج وديتوش وغيرهما باعتقادهم أن فكرة اللاحتمية في
الفيزياء الكوانتية هي لاحتمية صميمة، يُغفِلون مسألةً أساسية وهي أن النظرية
الكوانتية القائمة، لا تمثِّل سوى مرحلةٍ انتقالية من تطور العلم، ولا يمكن
التشبث بها كمنطقٍ أكيد ونهائي لتطور الفيزياء اللاحق؛ فالاحتمال لا يمكن أن
يكون أساسًا لتطور الفيزياء. وتبقى دائمًا هناك إمكانية التوصل مستقبلًا
إلى نظرية نستطيع بواسطتها الإفصاح عن حركة الجسيمات الدقيقة منفردة بواسطة
دالةٍ متصلة زمانيًّا ومكانيًّا.»
٦٨
وانطلاقًا من هذا المنظور، انتقد أينشتين تفسير كوبنهاجن لميكانيكا
الكم الذي يناصره هايزنبرج، والذي يُوقِعنا في رفض الواقع الموضوعي لعالم
الكم؛ بمعنى أن أينشتين يرفض مثلًا أن يكون للإلكترون موقعٌ محدَّد تمامًا
وكميةُ حركة محدَّدة تمامًا في غياب ملاحظةٍ فعلية لموقعه أو لحركته (ولا يمكن
أن يكون لكليهما سويًّا في نفس الوقت قيمٌ قاطعة). وعلى هذا فلا يمكن أن نعتبر
الإلكترون أو الذرة شيئًا صغيرًا بالمعنى الذي تكون فيه كرة البلياردو
شيئًا. إن كلامنا يكون بلا معنى إذا نحن تحدَّثنا عما يفعله إلكترون بين
ملاحظتَين؛ لأن المُلاحَظة وحدها هي التي تخلُق واقع الإلكترون. وعلى هذا فإن
قياس موقع إلكترون ما يخلق «إلكترونًا له موقع»، وقياس كمية حركته يخلق
«إلكترونًا له ذا حركة» لكنا لا نستطيع أن نعتبر هذا الكيان أو ذاك
موجودًا بالفعل قبل أن نُجري القياس.
٦٩
وفي مقابل ذلك نجد أن صورة العالم الكلاسيكي التي يعتنقها أينشتين في
حماسٍ هي صورةٌ تنسجم جيدًا مع العقل العام بتأكيدها الواقع الموضوعي للعالم
الخارجي. وهي تُسلِّم بأن ملاحظاتنا بالضرورة تقتحم ذلك العالم وتُقلِقه، لكن
هذا الإقلاق ليس سوى اتفاقٍ عرضي يمكن التحكم فيه وتقليله. ثم إن هذه النظرة
تعتبر العالم الصغير مختلفًا في المدى، لا في مرتبة الوجود، عن عالم
الشهادة الكبير؛ فالإلكترون صورةٌ مصغَّرة من كرة بلياردو عادية، ويشترك مع
هذه الأخيرة في مجموعةٍ كاملة من الخصائص الدينامية، مثل صفة الوجود في مكانٍ
ما (نعني أن لها موقعًا) والحركة في مسارٍ معيَّن (نعني أن لها كمية حركة)؛
فملاحظاتُنا في العالم الكلاسيكي لا تخلُق الواقع وإنما تكشفه. وعلى هذا تظل
الذرات والجُسيمات موجودة تحمل صفاتٍ محدَّدة تمامًا حتى لو لم نكن نلحظها.
٧٠
ومن هذا المنطلق شرع أينشتين يدعو إلى استبعاد المنهج الاحتمالي كأساس
للفيزياء النظرية بوجهٍ عام، نتيجة لربطه جوهر الفيزياء النظرية بالوصف
الفردي الكامل؛ ولهذا كان على الفيزياء أن تبحث لها عن أساسٍ جديد. إن
أينشتين يتحرك كما يرى بعض الباحثين في إطارٍ عقيدي خالص؛ فهو يُدرِك ويسلِّم
بأن قانونية الطبيعة مركَّبة بحيث يمكن لقوانينها أن تُصاغ صياغةً كاملة
وملائمة في إطار وصفنا غير الكامل، أو يسلِّم بأن الوصف الإحصائي للظواهر إنما
هو وصفٌ كامل لها، وهذا يعني أن هذه الظواهر إحصائية في جوهر تركيبها. إن
أينشتين يسلِّم بهذه الوجهة من النظر، ولكنه يعتقد أن من الضروري البحث عن
منهج آخر غير إحصائي، منهج يمكن به وصف الأنظمة الفردية وصفًا كاملًا؛
فأينشتين يرى أن معرفة الحركة الفردية هي أساسٌ للعلم النظري، معرفتها لا في
علاقتها بالأفراد الآخرين. وإنما من حيث إنها عالمٌ مستقل كامل. ولمَّا كانت
هذه المعرفة غير قائمة في الفيزياء الحديثة، رفض هذه الفيزياء، واعتبرها
مرحلةً موقوتة بل لعبةً من ألعاب زهرة النرد «لا يمكنه أن يقتنع بها».
٧١
وهنا نلاحظ أن أينشتين قد راعته فكرة اللاتنبؤية المتأصلة في العالم
الفيزيقي ليرفضها في غير تحفُّظ بمقولته الشهيرة «إن الإله لا يلعب النرد مع
الكون» فكان يرى أن ميكانيكا الكم قد تكون صحيحة في حدودها، لكنها بالرغم
من ذلك ناقصةٌ ولا بد من وجود مستوًى أعمق من متغيراتٍ دينامية مخبوءة
تؤثِّر في النظام، وتُضفي عليه لاحتمية ولاتنبوءية، في الظاهر لا أكثر. لقد
أمَل أينشتين أن تُوجَد تحت فوضى الكم صيغةٌ غاية في الدقة من عالمٍ مألوف حسن
السلوك من الديناميكا الحتمانية. ولقد عارض هايزنبرج ونيلز بور، وبقوة،
محاولة أينشتين للتشبُّث بهذه النظرة الكلاسيكية للعالم. وامتد الجدل الذي
بدأ في أوائل ثلاثينيات هذا القرن لسنينَ طويلة، كان أينشتين أثناءها يهذِّب
من اعتراضاته ويُعيد صياغتها. كان أكثر هذه الاعتراضات ثباتًا هو ما اقترحه
مع بوريس بودولكسي وناثان روزين عام ١٩٣٥م، وهو ما يُطلَق عليه عادةً اسم «أ ب
ر» (والواقع أنه ليس ثمَّة مفارقةٌ حقيقية). تتعلق هذه المفارقة بخصائص نظام
من جُسيمَين يتفاعلان ثم يفترقان وينطلقان بعيدًا عن بعضهما مسافةً طويلة. تقول
ميكانيكا الكم إن النظام يبقى كلًّا لا يتجزأ بالرغم من انفصال الجُسيمَين في
الفضاء، والمتوقع أن تُبيِّن القياسات المتزامنة التي تُجرى على الجُسيمَين
المتلازمَين (تدُل على) أن كل جُسيمٍ يحمل (بمعنى يمكن تحديده تحديدًا رياضيًّا
جيدًا) أثرًا لنشاطات الآخر. يحدُث هذا التعاضد بالرغم من قيود نظرية
النسبية الخاصة لأينشتين نفسه والتي ترفض أي اتصالٍ فوري مادي بين الجُسيمَين؛
فقد كان أينشتين يرى أن نظام الجُسيمَين يوضِّح القصور في ميكانيكا الكم؛ ذلك
أن المجرِّب عندما يُجري القياسات على الجُسيم الثاني وحده (وهو ما يعني في
الواقع استخدام هذا الجُسيم بالإنابة كوسيلة للحصول على بيانات عن الجُسيم
الأول) فقد يستنبط حسب هواه موقع الجُسيم الأول في تلك اللحظة أو كمية
حركته. يقول أينشتين إن هذا بالتأكيد يعني ضرورة إضفاء قدْرٍ من الواقع في
تلك اللحظة على الجُسيمَين كلَيهما؛ لأن الباحث يستطيع أن يدنو من أيٍّ منهما (لا
كليهما) مستخدمًا نظامَ قياسٍ لا يمكن أن يُقلِق الجُسيم موضع الاهتمام (بسبب
قيد سرعة الضوء).
٧٢
ومن جهةٍ أخرى رفض أينشتين اتخاذ مبدأ عدم اليقين في فيزياء الكم مثالًا
نمطيًّا لتداخُل الذات المُلاحِظة في الموضوع «المُلاحَظ»، ودليلًا على أن
فيزياء الكم لا تصف حالةً موضوعية في عالمٍ مستقل، وإنما تصف مظهر هذا العالم
كما عرفناه خلال وجهةِ نظر ذاتيةٍ معيَّنة أو بواسطة وسائلَ تجريبيةٍ معيَّنة؛
فخلافًا لمدرسة كوبنهاجن، لم يذهب أينشتين إلى التشكيك في الواقع الموضوعي،
كما لم يربطه بالذات الُملاحِظة وبأدوات القياس. لقد كان على أتم اقتناع
بحتمية الظواهر الكونية كبيرها وصغيرها، وبأن الاحتمال لا يعكس خاصيةً صميمة
لمجال الظواهر اللامتناهية في الصغر، بل يعكس جهلنا أمامها، وبإمكان تحديد
الظاهر تحديدًا حتميًّا في المكان والزمان.
٧٣
ويذكر عالم الفيزياء «جورج جاموف» أن أينشتين كان ضمن المجموعة التي
انتقدَت مبدأ اللايقين؛ إذ لم تسمح فلسفتُه (التي تركَّزَت في تحديد الأشياء)
بالسمو بعدم التثبُّت (اللايقين) إلى مرتبة المبادئ. وكما كان حُسَّاده يحاولون
إيجاد متناقضاتٍ في نظريته الخاصة بالنسبية، حاول أينشتين اكتشاف المتناقضات
في مبدأ عدم التثبُّت الخاص بفيزياء الكم. ومهما يكن من شيء فقد أدَّت مجهوداته
هذه إلى تقوية مبدأ عدم التثبُّت. ومن الأمثلة الرائعة التي حدثَت مصادفةً
وكانت تدُل على ذلك، ما حدث في المؤتمر الدولي السادس للفيزياء الذي انعقد
في بروكسل عام ١٩٣٠م؛ فقد أجرى أينشتين — في أثناء نقاش كان يحضره بور —
«تجربةً ذهنية» تبيِّن أن الزمن إحداثٌ رابع للمكاني-الزمني، وأن الطاقة مركبةٌ
رابعة لكمية التحرك (كتلة في السرعة)، فقال إن معادلة عدم التثبِّت لهيزنبرج
تتطلب أن يتوقف عدم التثبُّت في الزمن على عدم التثبُّت في الطاقة، وأن حاصل
ضرب الكميتَين يساوي على الأقل ثابت بلانك. ﻫ. وراح أينشتين يحاول إثبات خطأ
ذلك، وأن الزمن والطاقة يمكن تحديدهما من غير عدم التثبُّت بتاتًا، فقال: خذ
مثلًا صندوقًا مثاليًّا تُبطِّنه من الداخل مرايا مثالية بحيث يستطيع الإبقاء
على طاقة الإشعاع إلى ما لا نهاية من الوقت. عيِّن وزن الصندوق. وبعد فترة
تبدأ ساعةٌ ميكانيكية سبق ضبطُها — كما تُضبَط القنبلة الذرية — العمل على فتح
بوابةٍ مثالية لينطلق منها بعض الضوء. وبعد ذلك عيِّن وزن الصندوق مرةً أخرى.
وبطبيعة الحال يكون التغيُّر في الكتلة دليلًا على طاقة الضوء التي تم
إشعاعها وانبعاثها. وذهب أينشتين أنه يمكن بهذه الوسيلة قياس الطاقة
المنبثقة والزمن الذي يتم فيه ذلك إلى أي درجةٍ نريدها من الدقة، مما لا
يتفق مع مبدأ التثبُّت. وفي صباح اليوم التالي، بعد قضاء ليلةٍ ساهرة أذاع بور
كلمةً هادمة لبرهان أينشتين العكسي، وتقدَّم بتجربةٍ فكرية مضادة استخدم فيها
جهازًا مثاليًّا خاصًّا به وقد بناه لتفنيد تجربة أينشتين.
٧٤
وبصرف النظر عن نجاح تجربة أينشتين الذهنية من عدم نجاحها، إلا أنها لم
تغيِّر من رأيه في مبدأ اللايقين بأنه ناتج عن «عمليات موضوعية خالصة، وأن
أداة القياس أداةٌ فيزيائية مركبة من عناصرَ فيزيائية تقوم بينها وبين
الوقائع الفيزيائية ظواهرُ موضوعية دقيقة غاية الدقة هي التي يحدِّدها تحديدًا
دقيقًا مبدأ اللايقين أو عدم التحديد.»
٧٥
ومن هنا شرع أينشتين يقدِّم مجموعة من الأدلة النظرية لنقد مبدأ اللايقين
من خلال مناقشته نقده لميكانيكا الكم التي اتهمَها بالذاتية والقصور؛ فقد
أكَّد أن ميكانيكا الكم كأي جانبٍ آخر من الفيزياء لا تتعلق إلا بالعلاقات بين
موضوعاتٍ فيزيائية. وكافة قضاياها وتعبيراتها إنما تُصاغ بدون أي إشارة إلى
مُلاحِظ. والاضطراب الذي يُحدِثه المُلاحِظ .. مسألةٌ فيزيائية بأكملها ولا تتضمن
أي إشارة إلى تأثيراتٍ صادرة من الكائنات الإنسانية من حيث إنهم مُلاحِظون. إن
أداة القياس تُحدِث اضطرابًا لا لأنها أداةٌ يستعين بها مُلاحِظون من البشر،
ولكن لأنها شيءٌ فيزيائي ككل الأشياء الفيزيائية؛ فلقد رأينا عن طبيعة قياس
موضع الإلكترون وسرعته، أنه لتحديد الموضع يُستخدم شعاعٌ ضوئي، ولكن هذا
الشعاع نفسه مكوَّن من فوتونات وبمقتضى الطول الموجي للشعاع تصطدم هذه
الفوتونات بالإلكترونات وتُغيِّر من سرعته. كذلك الحال في حالة قياس السرعة.
وعلى هذا فليست المسألة إذن تأثيرَ مُلاحظٍ أو ذات على العمليات الفيزيائية.
وليس استخلاص حكم بعدم يقينٍ علمي، نتيجةً لتدخل الذات. وإنما هو شكل من
أشكال التحديد الموضوعي للتداخُل بين ظواهرَ فيزيائيةٍ خالصة. وعدم اليقين هذا
ليس إلا نتيجة للتداخُل الضروري بين عواملَ فيزيائيةٍ متعددة؛ فمبدأ عدم
اليقين ينطبق على الطبيعة سواء كنا ننظر إليها أم لا ننظر؛ ولهذا فهو مبدأٌ
علميٌّ فيزيائي خالص موضوعي وليس نتيجة لحدود المعرفة الإنسانية؛ فهو ليس
عجزًا إنسانيًّا، وإنما هو قياس لصفةٍ معينة للإلكترون؛ ومن ثَم فهو قياس
لصفةٍ فيزيائية خالصة. هذا إلى جانب أنه لا يكشف عن نقص في الإعداد الفني
لمقاييسنا العلمية ولا يحدد من دقة هذه المقاييس، بل هو نتيجة هذه المقاييس
ودلالة على هذه الدقة؛ لذا فإن الفهم الذاتي لمبدأ عدم اليقين وعدم التحديد
فهم غير علمي كما رأينا؛ فعدم اليقين صفةٌ كمية وتحديدٌ فيزيائي خالص، لا
يرتبط بالذات الدارسة ارتباط معلول بعلَّة. وليس نتيجةً لعجز عن الكمال في
المعرفة أو لنقص في مقاييسنا العلمية. وإنما هو مظهر للتداخُل الموضوعي
الخالص بين العمليات الفيزيائية. خلاصة القول فإن أينشتين واحدٌ من العلماء
الذين يتهمون فيزياء الكم بالذاتية والقصور، ويجعلون منها مرحلةً مؤقتة من
مراحل المعرفة، لا يردُّون ذلك إلى مبدأ عدم اليقين وحده، وإنما إلى الأساس
المنهجي الذي تقوم عليه الفيزياء، وهو حسابُ الاحتمالات باعتبار أن الاحتمال
وصفٌ غير كامل للظاهرة الفيزيائية.
٧٦
ولذلك استبعد أينشتين المنهج الاحتمالي كأساس للفيزياء النظرية بوجهٍ
عام، نتيجةً لربطه جوهر الفيزياء النظرية بالوصف الفردي الكامل؛ ففي خطاب
وجهه إلى ماكس بورن في ٣٠ ديسمبر سنة ١٩٤٧م يقول: «إنني بالطبع أرى أن
التفسير الإحصائي يقوم على جانبٍ كبير من الصدق، ولكنني لا أستطيع أن أُومِن
به إيمانًا جِديًّا؛ ذلك لأن النظرية غير متماسكة مع المبدأ القائل بأن
الفيزياء ينبغي أن تمثِّل حقيقةً واقعة في المكان والزمان بدون تأثيراتٍ خيالية
عَبْر المسافات … إنني مقتنعٌ اقتناعًا مطلقًا بأن المرء سوف يصل في نهاية
الأمر إلى نظريةٍ تكون فيها الموضوعات المرتبطة بقوانين ليست احتمالاتٍ وإنما
وقائعُ متصوَّرة.»
٧٧
ويذهب بعض الباحثين إلى أن استبعاد أينشتين للمنهج الاحتمالي كان
خاطئًا إلى حدٍّ ما؛ حيث إن القوانين الاحتمالية في فيزياء الكم والميكانيكا
الموجية كما يؤكِّد بعض الباحثين، هي قوانينُ محقَّقة تحقيقًا تجريبيًّا، وتكشف
كشفًا صادقًا عن طبيعة الظواهر التي تنطبق عليها. إن دخول المنهج الإحصائي
ليس معناه إدخال الشك والعوامل الذاتية في مجال ينبغي أن يكون موضوعيًّا
بشكلٍ حاسم، وإنما يدُل على سقوط التصور الزائف المحدود للموضوعية في مفهومها
التقليدي؛ فتحديد الموضوعية بحدود موضع الجزيء الفرد وسرعته، تحديدٌ جامد؛
إذ إن الموضوعية ليست صفة التفرُّد، وإنما صفة الترابُط والتداخُل، والتعدُّد
والتشابُك؛ ولهذا تميَّزَت الفيزياء الحديثة بوجهٍ عام، بموضوعيتها لاحتفاظ
موضوعات بحثها ونتائجها بهذه الصفات. والاحتمال هو التعبير الدقيق الكامل
عن هذه الصفات من ترابُط وتداخُل وتعدُّد وقابلية للتغيُّر والاستقلال. وهي
الصفات التي واجهَتنا في حركة الغازات واتجاه المحدود
entropy وحركة الإلكترون وموضع الجُسيم في
موجة الاحتمال. هي صفاتٌ فيزيائية أصيلة، يعبِّر عنها حساب الاحتمالات تعبيرًا
دقيقًا. والقياس الاحتمالي بشكلٍ عام ليس تحديدًا مُتعسِّفًا للموضوعات
المدروسة، وإنما استيعاب لها وامتلاء بحقيقتها وطواعية لإمكانياتها.»
٧٨
ولقد عارض هيزنبرج وبقوة دعوة أينشتين في أن مبدأ اللايقين ناتج عن
عملياتٍ موضوعية خالصة؛ فأداة القياس أداةٌ فيزيائية مركَّبة من عناصرَ فيزيائية
تقوم بينها وبين الوقائع الفيزيائية ظواهرُ موضوعيةٌ دقيقة غاية الدقة هي
التي يحدِّدها تحديدًا دقيقًا مبدأ اللايقين أو عدم التحديد؛ فنجد هيزنبرج
يعقد فصلًا في كتابه «الفيزياء والفلسفة»، بعنوان «نقد تفسير كوبنهاجن
لنظرية الكم، والاقتراحات المضادة له»؛ حيث ذكر أن النقد الذي ظهر في
العديد من أبحاث أينشتين (وغيره) يركِّز على قضية ما إذا كان تفسير كوبنهاجن
يسمح بوصفٍ متفرد موضوعي للحقائق الفيزيائية. ويمكن أن نعرض حُجَجهم الجوهرية
فيما يلي: إن البرنامج الرياضي لنظرية الكم يبدو وصفًا كاملًا كافيًا
لإحصائيات الظواهر الذرية. لكن حتى لو كانت تقاريره أن احتمالات الوقائع
الذرية صحيحة تمامًا، فإن هذا التفسير لا يصف ما يحدث واقعيًّا وصفًا
مستقلًّا عن الملاحظات أو بين الملاحظات. لكنَّ شيئًا ما لا بد أن يحدُث، هذا
أمرٌ لا يمكن الشك فيه. وهذا الشيء لا يلزم أن يُوصَف بصيغة الإلكترونات أو
الموجات أو كمَّات الضوء. ومهمة الفيزياء لا تتم دون أن نَصِفه بشكل أو بآخر.
لا يمكن أن نُقِر بأنه يُشير إلى فعل الملاحظة وحده. لا بد للفيزيائي أن يسلِّم
أنه في علمه إنما يدرس عالمًا لم يصنعه هو، عالمًا سيُوجَد دون تغيُّر يُذكَر في
غير وجوده. وعلى هذا فإن تفسير كوبنهاجن لا يقدِّم أي تفهُّمٍ حقيقي للظواهر
الذرية يسهل مرةً أخرى أن نرى أن ما يتطلبه هذا النقد هو الأنطولوجيا
المادية القديمة، ولكن، ما ستكون الإجابة من وجهة نظر تفسير كوبنهاجن؟
٧٩
ويستطرد «هيزنبرج»: «يمكن القول إن الفيزياء جزء من العلم؛ ومن ثَم
فإنها تهدف إلى وصف وتفهُّم الطبيعة. وأي صورة للتفهُّم — علمية كانت أو غير
علمية — إنها تعتمد على لغتنا، على تبادل الأفكار. إن كل وصف للظواهر،
للتجارب ونتائجها، يرتكز على اللغة كسبيلٍ أوحد للاتصال. وكلمات هذه اللغة
تمثِّل مفاهيم الحياة اليومية، وهي مفاهيمُ هُذِّبَت في اللغة العلمية للفيزياء
إلى صورة مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية. هذه المفاهيم هي الأدوات الوحيدة
لاتصالٍ لا يشوبه غموضٌ حول الوقائع، حول إقامة التجارب وحول نتائجها. وعلى
هذا فإذا ما سُئل الفيزيائي أن يقدِّم وصفًا لما يحدُث واقعيًّا في تجاربه، فإن
كلمات «وصفًا» و«يحدُث» و«واقعيًّا» لا تُشير إلا إلى مفاهيم الحياة اليومية
أو الفيزياء الكلاسيكية، فإذا ما تخلى الفيزيائي عن هذا الأساس، فقد وسيلة
الاتصال غير الغامض، فلا يستطع المضي في عمله. وعلى هذا فإن أي تقريرٍ عما قد
«حدث واقعيًّا» هو تقريرٌ صِيغ في لغة المفاهيم الكلاسيكية وهو بطبيعته ناقصٌ
بالنسبة لتفاصيل الوقائع الذرية، بسبب الثرموديناميكية والعلاقات
اللامحققية. إن سؤالنا «أن نصف ما يحدث» (في عملية الكم النظرية) بين
ملاحظتَين متعاقبتَين هو — بصفته — تناقُض؛ لأن كلمة الوصف إنما تعني استخدام
المفاهيم الكلاسيكية، بينما لا يمكن تطبيق هذه المفاهيم على الفضاء بين
الملاحظات، هي لا تُطبَّق إلا عند مواقع الملاحظة.»
٨٠
وفي فِقرة أخرى يؤكِّد هيزنبرج قائلًا: «تظهر في نظرية الكم أعقد مشاكل
استخدام اللغة. لم يكن لدينا في البدء أي دليلٍ بسيط نربط به الرموز
الرياضية بمفاهيم اللغة الاعتيادية. كان كل ما نعرفه في البداية هو حقيقة
أن مفاهيمنا الشائعة لا يمكن أن تُطبَّق على بنية الذرة. مرةً أخرى بدت نقطة
البداية الواضحة للتفسير الفيزيقي للصورية هي اقتراب البرنامج الرياضي
لميكانيكا الكم من برنامج الميكانيكا الكلاسيكية. وذلك في الأبعاد الأكبر
كثيرًا من حجم الذرات، وحتى هذا لا نستطيع أن نقوله دون بعض التحفُّظات؛
فسنجد حتى تحت الأبعاد الكبيرة العديد من الحلول للمعادلات الكماتية
النظرية، والتي لا نظير لها في الفيزياء الكلاسيكية، تظهر في هذه الحلول
ظاهرة «تداخُل الاحتمالات». وهذه ظاهرة لا تُوجد في الفيزياء الكلاسيكية.
وعلى هذا، فلن يكون تافهًا على الإطلاق — حتى داخل حدود الأبعاد الضخمة —
ذلك الارتباط بين الرموز الرياضية والقياسات والمفاهيم المألوفة، ولكي نصل
إلى مثل هذا الارتباط غير الملتبس علينا أن نُدخِل في اعتبارنا ملمحًا آخر من
ملامح المشكلة. علينا أن نُلاحِظ أن النمط الذي تُعالجه مناهج ميكانيكا الكم هو
في الحقيقة جزء من نظامٍ أكبر (حدوده العالم بأَسْره)، إنها تتفاعل مع هذا
النظام الأكبر، ولا بد أن نضيف أن الخصائص الميكروسكوبية للنظام الأكبر
مجهولة — إلى حدٍّ كبير على الأقل. لا شك أن هذا وصفٌ صحيح للوضع الواقعي.
ولاستحالة أن يكون هذا النظام موضوعَ قياسٍ وتفحُّصاتٍ نظرية، فإنه لن ينتمي إلى
عالم الظواهر ما لم يكن يتفاعل مع مثل هذا النظام الأرحب، الذي يمثِّل
المراقب جزءًا منه. والتفاعل مع النظام الأكبر هذا بخصائصه الميكروسكوبية
غير المحدَّدة يقدم إذن إلى وصف النظام (الكماتي-النظري والكلاسيكي) عاملًا
إحصائيًّا جديدًا. وفي الحالة الحدية للأبعاد الكبيرة يحطِّم هذا العامل
الإحصائي آثار و«تدخل الاحتمالات» حتى ليقترب البرنامج «الكماتي-الميكانيكي» الآن من
البرنامج الكلاسيكي في الوضع الحدي. وعلى هذا يصبح
الارتباط عند هذه النقطة بين رموز نظرية الكم ومفاهيم اللغة الاعتيادية غير
مبهم، ويصبح هذا الارتباط كافيًا لتفسير التجارب.»
٨١
والمُلاحَظ أن هذا الذي سار فيه هيزنبرج هو نفس الاتجاه الذي طوَّره
«بريدجمان» في كتاب «منطق الفيزياء الحديث» (١٩٢٧م)، وهو أيضًا الذي سار فيه
أصحاب مدرسة كوبنهاجن (بور-ديتوش) عندما ركَّزوا على أن معنى قضيةٍ ما مرتبط
بطرق تحقيقها وملاحظتها، وأن الظواهر لا تملك أي واقعٍ فيزيائي موضعي قائم
بذاته وباستقلال عن طرق تحقيقها وملاحظتها والقياس عليها؛ أي إنها لا تُوجد
إلا بالنسبة لذات تختبرها وتجرِّب عليها «ويترتب عن وجهة النظر هذه أن
القضايا العلمية تشير إلى طرائقنا التجريبية وليست الأشياء ذاتها التي هي
موضوع التجربة». وهذا هو السبب الذي من أجله قلنا إن مدرسة كوبنهاجن تمثِّل
لونًا وضعيًّا جديدًا يُحاول، انطلاقًا من الإشكالية الجديدة التي طرحَتْها
الفيزياء الكوانتية، أن يُعيد تمييزًا تصوَّره ماخ بين المعرفة الحسية؛ أي
معرفة الطبيعة مثلما تُمِدُّنا بها حواسُّنا. وبهذا المعنى لن يكون للظواهر وجودٌ
موضوعي مستقل عمن يدركها، ولن تكون سوى مركباتٍ ذهنية من الإحساسات؛ فمعرفة
الشيء في ذاته هي مستحيلةٌ لا سيما وأن الوجود إدراك؛ إذ إن ما نلاحظه ليس
الطبيعة في ذاتها، بل الطبيعة في ارتباطها بطرائقنا ومناهجنا؛ أي في ارتباط
بما يُسمُّونه «الذات».
٨٢
ومن هنا نجد هيزنبرج يعترف أن: «تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم ليس على
الإطلاق وضعيًّا؛ فبينما تركِّز الوضعية على أن عناصر الواقع هي الإدراكات
الحسية للمُراقب، فإن تفسير كوبنهاجن يعتبر الأشياء والعمليات التي يمكن
وصفها بلغة المفاهيم الكلاسيكية، نعني الواقعية، أساسًا لأي تفسيرٍ فيزيائي.»
٨٣
ولم يكتفِ هيزنبرج بذلك، بل نراه يصب جام غضبه على الوضعية المنطقية
قائلًا: «أما المشكلة الأساسية فقد أقرَّت بها الوضعية الحديثة في وضوح. يعبِّر
هذا الخط من التفكير عن انتقاد للاستخدام الساذج لمصطلحاتٍ معيَّنة مثل
«الشيء» و«الإدراك الحسي» و«الوجود» وذلك بالمسلَّمة العامة بأن مسألةً ما إذا
كان لجملةٍ ما أي معنًى على الإطلاق، هي أمرٌ لا بد أن يخضع لفحصٍ دقيق نقدي.
والموقف من خلفها، مشتق من المنطق الرياضي. ويُصور منهج العلوم الطبيعية
كوصلة من الرموز ملحقة بالظواهر. من الممكن أن تُجمع الرموز — كما في
الرياضيات — حسب قوانينَ معيَّنة، وبهذه الطريقة يمكن أن تُمثَّل التقارير عن
الظواهر بمجاميع من الرموز، فإذا ما كان ثمَّة مجموعة من الرموز لا تطيع
القوانين، فهي ليست خاطئة، إنما هي فقط لا تنقل أي معنًى. والمشكلة الواضحة
في هذه الحجة هي افتقارنا إلى أي معيارٍ نحكُم به عما إذا كانت الجملة بلا
معنى؛ فنحن لن نصل إلى حكمٍ حاسم إلا إذا كانت الجملة تنتمي إلى نظامٍ مغلَق
من المفاهيم والبديهيات، وهذا أمرٌ يُعتبر في تطوير العلوم الطبيعية
الاستثناء لا القاعدة. يقول التاريخ إن التخمين بأن جملةً معيَّنة لا معنى لها
قد قاد في بعض الحالات إلى تقدُّمٍ كبير؛ إذ فتح الباب لتوطيد علاقاتٍ جديدة
كانت مستحيلة لو كان للجملة معنًى. ولقد ناقشنا في نظرية الكم مثالًا هو
الجملة: «في أي مدارٍ يتحرك الإلكترون حول النواة». لكن المخطَّط الوضعي
المستمد من المنطق الرياضي هو على العموم نطاقٌ ضيق للغاية في وصف الطبيعة
يستخدم بالضرورة كلماتٍ ومفاهيمَ يصعُب تعريفها إلا في صورةٍ مبهمة. ولقد قادت
القضية القائلة إن كل المعرفة تتركَّز في نهاية المطاف في الخبرة، قادت إلى
مسلَّمة تتعلق بالتفسير المنطقي لأي تقرير عن الطبيعة. ربما كان هناك ما يُبرِّر
مثل هذه المسلمَّة في مرحلة الفيزياء الكلاسيكية، لكن قد عرفنا منذ أن ظهَرَت
نظرية الكم أنها لا يمكن أن تُحقَّق، إن موقع وسرعة الإلكترون كلمتان يبدو
أنهما محدَّدتان من ناحية المعنى والارتباطات المحتملة، والحق أنهما كانتا
مفهومَين واضحَي التحديد داخل الإطار الرياضي لميكانيكا نيوتن، لكن الواقع
أنهما ليستا كذلك، تُخبرنا بذلك العلاقات اللامحققية؛ فقد نقول إن الموقع في
ميكانيكا نيوتن كان محدَّدًا تمامًا، لكن العلاقة بالطبيعة لم تكن كذلك. وهذا
يُبيِّن أننا أبدًا لن نستطيع أن نعرف مقدمًا أية قيود قد تكتنف قابلية تطبيق
مفاهيمَ معيَّنة عندما نمُد موقفنا إلى مناطقَ من الطبيعة بعيدةٍ لا يمكننا
اختراقها إلا باستخدام أعقد الأدوات. علينا إذن في عملية الاختراق أن
نستخدم مفاهيمنا أحيانًا بطريقة لا تبرَّر ولا تحمل أي معنًى. والإصرار على
مسلَّمة التفسير المنطقي الكامل سيجعل العلم مستحيلًا، وسيُذكِّرنا علم الفيزياء
الحديث هنا بالحكمة القديمة القائلة: على كل من يريد ألا يتفوَّه بخطأ أن يصمت.»
٨٤
نتائج البحث
بعد هذه الجولة السريعة من عرض «إبستمولوجيا مبدأ اللايقين عند فيرنر
هيزنبرج»، فإنه يمكنُنا أن نخلُص إلى أهم النتائج وذلك على النحو
التالي:
إن المفهوم اللاحتمي الذي تمسَّك به أنصار مدرسة كوبنهاجن إنما هو نتيجة
للارتباط والتمسك بمفهومٍ معيَّن للحتمية هي الحتمية الميكانيكية التقليدية؛
فالميكانيكا التقليدية تتميز بالتحديد الفردي للظاهرة تحديدًا مكانيًّا
زمنيًّا مطلقًا؛ أي يرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل، ويجعل من التنبؤ بها
أمرًا يقينيًّا.
إن إقامة الحرية الإنسانية استنادًا إلى حرية الإلكترون ومبدأ عدم
التحديد هو تفسيرٌ غير سليم من الناحية المنهجية؛ لأننا بهذا نرتكب ذات
الخطأ الغائي الذي ارتكبه فلاسفة اليونان، وبالأخص أبيقور عندما جعل من
الميل سندًا لإثبات حرية الإنسان؛ فتطبيق تصوراتٍ فيزيائية على تجربةٍ
إنسانية — هي الحرية — عمليةٌ غير ملائمة.
إن فكرة اللاحتمية والذاتية عند هيزنبرج ومدرسة كوبنهاجن قائمة على
مبدأ وهو أنهم يحدُّون الموضوعية والتي يأنفون منها بحدودٍ نيوتونية، بدلًا من
أن يجعلوا من النيوتونية، مقاربةً معيَّنة من الموضوعية. إن التحديد الدقيق
لموضع الجُسيم وسرعته في لحظةٍ معيَّنة عند نيوتن، ليس هو الحد المطلَق للتحديد
الدقيق وللموضوعية العلمية، وإنما هو شكل من أشكال التحديد بالنسبة للظواهر
التي يمكن عزلها عزلًا نسبيًّا ودراستها دراسةً فردية.
إن المفهوم اللاحتمي عند هيزنبرج ومدرسة كوبنهاجن، إنما هو نتيجة
للارتباط والتمسك بمفهومٍ معيَّن للحتمية هي الحتمية الميكانيكية التقليدية.
فالميكانيكا التقليدية تتميز بالتحديد الفردي للظاهرة تحديدًا مكانيًّا
زمنيًّا مطلقًا؛ أي يرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل، ويجعل من التنبؤ بها
أمرًا يقينيًّا؛ ولهذا كان التحديد الاحتمالي في الفيزياء الحديثة حتميًّا
لعدم انطباقه على الحتمية الميكانيكية.
إن تفسير كوبنهاجن ليس خاليًا من النقائص؛ فما يزال الكثيرون من
الفيزيائيين يشعرون بالضيق بالنسبة للنظرية، التي يلزم قبل تطبيقها من
توسيع الصورية بفروضٍ إبستمولوجية (معرفية) معيَّنة. أما حقيقة أنَّ تفسير
كوبنهاجن يرتكز على قبول الوجود المسبق للعالم الكلاسيكي الكبير، فإنها
تبدو حقيقةً دائرية ومتناقضة؛ لأن العالم الكبير يتألف من عالم الكم
الصغير.
إذا كان أينشتين قد استبعد المنهج الاحتمالي كأساس للفيزياء النظرية
بوجهٍ عام، فذلك راجع لكونه يمثِّل نتيجة لربطه جوهر الفيزياء النظرية بالوصف
الفردي الكامل.
إن الخبرة الضخمة التي تُمدُّنا بها الاستعانة بالاحتمال في الفيزياء
الحديثة تكشف عن أن الاحتمال ليس وصفًا غير كامل للظواهر، وإنما صورةٌ
ملائمة وانعكاسٌ دقيق للوقائع الموضوعية؛ فالاحتمال صفةٌ واقعية موضوعية
وليست جهلنا نُسقِطه على الواقع؛ فالظواهر الفيزيائية بما تتميز به من تشابك
وتداخُل وصيرورة وقابلية للتغيُّر والارتدادية تجد في حساب الاحتمال التعبير
عن حقيقتها. إن الظواهر التي تَدرُسها الفيزياء الحديثة لا تتميز بالحتمية
الميكانيكية لا لنقص في معرفتنا أو لقصورٍ منهجي أو لعدم دقة في القياس،
وإنما لطبيعة هذه الظواهر نفسها، لطبيعتها غير الارتدادية ولطبيعتها
المتداخلة المتشابكة المترابطة التي لا سبيل إلى تجزئتها إلى فردياتٍ منعزلة
بدون الخروج بها عن تلك الطبيعة. عندما قام الفيزيائي الألماني ماكس بلانك
بوضع ميكانيكا الكم والكوانتم، والتي تبحث في قوانين الجزيئات والأجسام
الصغيرة، كانت المفاجأة حين أعلن بلانك أن حركة الجُسيمات لا يمكن التنبؤ
بها، وأن حركة الجُزيئات لا تخضع لما يُعرف بالحتمية المادية، وظل الأمر
مستغلقًا مريبًا إلى أن أتى هيزنبرج، وقام بالتأصيل للنظرية تأصيلًا علميًّا
فيما يُعرف بمبدأ اللايقين.
لقد نجح هيزنبرج في أن يزيل الغموض الذي بقي يحيط بكيفية انتقال
الإلكترون من مدارٍ لآخر؛ إذ ماذا يحدث عندما ينتقل الإلكترون من مدارٍ لآخر؟
وماذا تكون طبيعته وهو «بين» المدارَين؟ هل تتم النقلة من مدار إلى آخر
بكيفيةٍ متصلة أم بكيفيةٍ أخرى؟ وقد كانت إجابتُه تقوم على القول بضرورة
التخلي كليةً عن تصوُّر الإلكترون كما لو كان يمثِّل جُسيمًا صغيرًا تنطبق عليه
قوانين الحركة في الفيزياء الكلاسيكية. وعلى ضرورة اعتباره لا على أنه جسم
ينتقل من مكانٍ لآخر، بل كشيء يُوجَد بصورةٍ متأنية في أمكنةٍ مختلفة؛ وبالتالي
لا يمكن أن يُوجد «بين» مدارَين مختلفَين؛ لأن له طبيعةً تُخالف طبيعة الأجسام
القابلة للإدراك تجريبيًّا.
إن المحاولة التي قام بها هيزنبرج الرامية إلى توضيح بعض الغموض الذي
بقي عالقًا بمسألة «انتقال» الإلكترون من مدارٍ إلى آخر. ومسألة طبيعته عندما
يكون خلال فترة «الانتقال» بين المدارَين، كانت بمثابة القطيعة الكبرى مع
العلم القديم؛ ذلك أنها تضمَّنَت القول بضرورة التخلي عن تصوُّر الإلكترون كما لو
كان جوهرًا ماديًّا صغيرًا يخضع لنفس القوانين التي خضع لها العالم
المعتاد، وعلى ضرورة تصوُّره ﮐ «شيء يُوجد» بكيفيةٍ متأنية في مواقع
مختلفة.
إن مبدأ اللايقين كشف عن أن العلم قد جرَّد المادة من كيفياتها المادية،
كما سلَخ عنها الصبغة الواقعية التي قالت بها العقلانية الديكارتية بإمكان
تحديدها بالشكل والحركة باعتبارها أجسامًا تتحرك في مكانٍ معيَّن. لقد تغيَّر
مفهوم النقطة المادية في الفيزياء الحديثة؛ إذ لم تعُد نقطةً معيَّنة في المكان
تعيينًا سكونيًّا، بل غدت مركزًا لحركةٍ دورية تنتشر حولها.
إن أينشتين كان على حق في انتقاداته لتفسير كوبنهاجن؛ فهو لم يتشكك في
الواقع الموضوعي، كما لم يربطه بالذات المُلاحِظة وبأدوات القياس. لقد كان
على أتم اقتناع بحتمية الظواهر الكونية كبيرها وصغيرها، وبأن الاحتمال لا
يعكس خاصيةً صميمة لمجال الظواهر اللامتناهية في الصغر، بل يعكس جهلنا
أمامها، وبإمكان تحديد الظاهرة تحديدًا حتميًّا في المكان والزمان.
إن مبدأ اللايقين عند هيزنبرج قد فك الحصار الذي ضربَتْه حتمية نيوتن على
الكون بما في ذلك الإنسان. والأساس المنطقي الذي يعتمد عليه هذا اللاتحديد
هو نظرية الاحتمالات، بمعنى أن حتمية نيوتن قد قامت على فكرة المسار الثابت
والتي تُحتِّم الجمع بين الموضع والسرعة بالنسبة للشيء المتحرك، ولكن بناءً على
معادلة هيزنبرج على هامش الخطأ، فمن المستحيل الجمع بين الدقة الكاملة في
قياس الموضع والسرعة بالنسبة لحركة الإلكترون.
إن النزعة الموضوعية عند أينشتين كان لها مفعول السحر على بعض فلاسفة
العلم وبالأخص كارل بوبر؛ إذ أكَّد بوبر على مناصرته للمعرفة الموضوعية التي
يرى أنها معرفةٌ بلا عارف، كما أنها معرفة بلا ذاتٍ عارفة؛ فلا تُوجَد في نظرية
بوبر قضايا ملاحظةٍ أولية تتجاوز ما — نظريًّا — يمكن أن تُبنى النظرية عليها؛
وبالتالي تتعارض أفكار بوبر مع نظرية الكوانتم؛ حيث إن الذات تقوم بدَورٍ
محوري داخل هذه النظرية، ولا يمكن فصلها عن موضوع المعرفة. بالإضافة إلى أن
قضايا الملاحظة الخاصة بنظرية الكوانتم لا يمكن أن تكون حسية، ولكنها بالفعل
تقع فيما وراء الإدراك الحسي.