تصدير الطبعة الجديدة

تحديث كتاب «الفن» Art؛ أي أن أجعل ما فكرت به وشعرت في ١٩١١ و١٩١٣م منسجمًا مع ما أُفكِّر وأشعر به اليوم، سيَعني أن أكتب كتابًا جديدًا، وهذا ما لن أفعله: أولًا لأني كسول. وثانيًا لأنه إذا كان للفن أيُّ قيمة للأجيال القادمة سيكون ذلك بوصفه تسجيلًا لما كان أشخاص مثلي يُفكِّرون ويَشعرون به في السنوات السابقة على الحرب الأولى؛ لذا فلأترك المبالغات كما هي والتبسيطات الطفولية والإجحافات.
وقد قمتُ بتصويب بعض الأخطاء في هذه الطبعة أو في سابقاتها، أغرب هذه الأخطاء، والتي استمرَّت سنوات في طبعاتٍ عديدة في هذا البلد وفي أمريكا، هو طباعة Gaugin بدلًا من Gauguin، وهو خطأ يُعزى بالتأكيد لمُراجِعين من جيلي، كان كثيرٌ منهم على غير وفاقٍ كبيرٍ مع أفكاري، ولا يدَ لي في هذا الخطأ المطبعي من قريب أو بعيد — باستثناء البروفيسور تونكس الذي لم يَكن مراجعًا، ولستُ أدري هل الشهامة هي ما منَعهم أن يلمحوا «تحصيل حاصل» tautology ناتئًا في عرضي ﻟ «الفرضية الإستطيقية» aesthetic hypothesis: وبوسعي أن أقول إنَّ هذه الوصمة قد أُزيلت منذ زمنٍ طويل،١ ومن عجبٍ أنَّني لم أوبَّخ على عبارة (ما زالت موجودة) تنزل بسورا Seurat وتضعه في مرتبة سينياك Signac وكروس Cross، ليس لي عذرٌ في هذا الحكم سوى أنني لم أطَّلع على عمل الأستاذ اطلاعًا يذكر، وهذا بالطبع ليس عذرًا لأي شخص أخذ على عاتقه أن يتفضَّل على الجمهور بآرائه، ومن جهةٍ أخرى، أودُّ أن أقدم بعض الاعتذار عن ملاحظة انتقاصية صوبتُها في كتابٍ آخر («معالم في تصوير القرن التاسع عشر» Landmarks in Nineteenth Century Painting) إلى ديجا Degas، كان ديجا فنانًا عظيمًا، عظيمًا جدًّا، ولكني كنت مستشاطًا من صيحةٍ جديدة، كانت مُنتشرةً يومًا بين الأشخاص الإنجليز الذين لا يعرفون شيئًا يُذكر عن التصوير الفرنسي، بتمجيد «منظر الشاطئ في التيت» Beach Scene in the Tate على حساب لوحاتٍ أفضل، إن لوحة «الشاطئ» La plage بعيدة عن أن تكون من بين روائع ديجا، ولكنها ممتازة، وممتازة على نحوٍ يُمكن تبيُّنه بسهولة، لقد كنتُ ساخطًا، ومثلما يحدث كثيرًا حين يكون امرؤ في حالةٍ عالية كهذه فقد قلتُ قولًا غير سديد.
هذه شوائب مُفرَدة، أما الأخطاء الأكثر عموميةً لهذا الكتاب فليست غير لائقة تمامًا بالشباب؛ فالنبرة واثقةٌ كثيرًا ومشاكسةٌ كثيرًا، وثمَّة مسحةٌ دعائية تصدر من صفحاتٍ ليست محلًّا للدعاية، ولكن تذكر أن «معركة ما بعد الانطباعية» كانت بعد في المُستهل، كان قصارى ما يُمكن أن يقوله سيكرت Sickert نفسه في حقِّ سيزان هو أنه «فاشلٌ عظيم» un grand raté، في حين دعاه سرجنت «مرقَّعًا» a botcher، أما مدير تيت جاليري فرفض أن يعلق لوحاته، وكان فان جوخ يَشجب كل يوم على أنه مجنون قاصر وسوقي، وأنبأنا السيد جاك إميل بلانش أنه عندما يُنظِّف لوحة ألوانه كثيرًا ما كان ينتج شيئًا ما أفضل من لوحةٍ لجوجان، وعندما أَطلَع روجر فراي «نقابة صناع الفن» Art-workers Guild على لوحةٍ لماتيس، علَت الصيحة: drink of drugs?، قد يكون سخيفًا أن نخرج عن طورنا مع «صناع الفن» أو مع أستاذ بمدرسة سليد، ولكن لا تنس أن فنانين ونقادًا مُبجَّلين — ودعك من الروائيِّين والشعراء والقضاة والكهنة والساسة والبيولوجيين — شاركوا في الصيحة، أصغِ إلى سيكرت: «ماتيس لديه أسوأ خدع مدرسة الفن جميعًا.» «بيكاسو، شأنه شأن أتباع ويسلر جميعًا، أخَذ خلفية ويسلر الفارغة دون أن يأخذ الصفة الفريدة التي جعل بها ويسلر خلفيته الفارغة خلفيةً شائقة.» ربما أحسنَّا صنعًا إذ غضبنا، إلا أن أي شخص يقرأ هذا الكتاب سيرى أنني إذ أغضب أتحدَّث بسخف وتطاول على عمالقة «ذروة النهضة» The High Renaissance، وأنني أغبن القرن الثامن عشر، وأنني أظن؛ لدواعي الحذلقة النظرية المعيبة، أن عليَّ أن أخفِّف من إعجابي بالانطباعيِّين Impressionists، إن نبرة الكتاب، كما قلت، مُفرطة الثقة، كما أنها عدوانية، وإن التعميمات الكاسحة، وتاريخ الأربعة عشر قرنًا الذي قيل في خمسٍ وسبعين صفحة لم يُقل مثلما ينبغي أن يقال تاريخٌ يُسرد بهذا الاختصار؛ أي بالأبيض والأسود، بل قيل بألوانٍ صارخة الاختلاف، كما أن بعض الألوان زائف، وفضلًا عن كل هذا، فهناك قدرٌ من التفاؤل قمينٌ أن يرتدَّ مُضحكًا في ضوء الأحداث التي تمَّت في الخمسة والثلاثين عامًا الأخيرة. غير أن الأحداث لم تكن إذ ذاك طوع يد المؤلف، ورغم ذلك فحين أعيد قراءة كتاب «الفن»، آخذًا بالاعتبار جميع (وإن لم تَزد، فيما أعتقد، عن جميع) الظروف المخففة التي يُمكن أن تقدِّم دفاعًا عنه، لا يسعني سوى الشعور بشيء من الحسد تجاه الشاب الجسور الذي كتبه.
كلايف بل
شارلستون، أكتوبر ١٩٤٨م
١  اتَّهم كلايف بِل بأنه ارتكب ما يشبه «الدور المنطقي» vicious circle؛ إذ يعرف الشكل الدال بالإحالة إلى الانفعال الاستطيقي ويُعرِّف الانفعال الاستطيقي بالإحالة إلى الشكل الدال، والحق أنه بريء من هذا «الدور»؛ فالانفعال الاستطيقي هو «كيفية» quality (شأنه شأن صفة «أحمر» حين نصف بها الأشياء) والكيفيات لا تعرف ولا تقبل البرهان؛ لأننا نعرفها بالحدس، بالإدراك المباشر، إن الانفعال الاستطيقي هو خبرة حقيقية نعرفها حين تقع لنا، ولا نحتاج في تعريفها إلى أي حدٍّ آخر، ولئن ربطها بِل بالشكل الدال فبوصفه علةً لها لا تعريفًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤