(١) الفرضية
الإستطيقية The Aesthetic Hypothesis
رغم أني أستبعد أن يكون ما كتب في الإستطيقا (علم الجمال) من هُراءٍ أكثر مما كُتب
في
غيرها (فالتراث الإستطيقي أصغر مِن أن يَبلغ ذلك) إلَّا أني لا أعرف بين جميع الموضوعات
موضوعًا افتقر تناوله إلى وضوح الغرض مثلما هو الحال في الإستطيقا، وتفسير ذلك غير
خافٍ؛ فلا بدَّ لمن ينبري لوضع نظريةٍ محكمةٍ ومقبولة في الإستطيقا أن يتحلَّى بخصلتين؛
الحساسية الفنية، والميل إلى التفكير الواضح. فمن افتقر إلى الحساسية فقد عَدِم الخبرة
الإستطيقية (الجمالية) aesthetic experience،
وجليٌّ أن لا قيمة لأي نظرية إستطيقية لا ترتكز على خبرة جمالية واسعة وعميقة، فما كان
لأحدٍ غير مولعٍ بالفن ولوعًا متصلًا أن يظفر بالمعطيات التي يمكن أن تستنبط منها
نظرياتٌ مفيدة.
غير أن استنباط نظرياتٍ مفيدة، حتى لو توافَرت المعطيات الدقيقة، يتطلب قدرًا معينًا
من العمل الذهني، ومِن عثرة الحظ أن قوة الفكر ورهافة الحس ليستا متلازمتَين بالضرورة.
لي صديقٌ وهبَه الله ذكاءً نافذًا كالحفَّار، وهو على اهتمامه بالإستطيقا لم يَحدث له
في عمره الذي يقرب الأربعين أن اقترف انفعالًا إستطيقيًّا. إن مثله وقد عَدم الملكة
التي يميِّز بها بين العمل الفني والمنشار اليدوي، عرضةٌ لأن يُشيِّد هرمًا من الحجج
السديدة تأييدًا لفرضية أن المنشار اليدوي هو عملٌ فني، ومن شأن هذا القصور أن يَسلب
تفكيره الواضح والحاذق كثيرًا من جدواه؛ فمن المبادئ المسلَّم بها دائمًا أن المنطق
السديد لا يشفع لنتائج تستند إلى مقدمات معروفة البطلان، ولكن رُبَّ ضارةٍ نافعة: فهذا
التبلد، على نحسه إذ يمنع صديقي أن يتخيَّر أساسًا سليمًا لحُجته، لا يزال رءوفًا به
إذ
يُعمِّي عليه خُلف نتائجه فيما يتركه مزهوًّا غاية الزهو بجدله اللوذعي، إنَّ من ينطلق
في فكره الإستطيقي من فرضية أن سير إدفين لاندسير هو أبرع مصوِّر شهدته الأرض، لن
يَستشعِر قلقًا في نظرية إستطيقية تستوي له يكون جوتو
Giotto بمُقتضاها هو أسوأ مصوِّر؛ ومن ثم فحين خلص صديقي بمنطقيةٍ
تامةٍ إلى نتيجةٍ مفادها أن العمل الفني يجب أن يكون صغيرًا أو مستديرًا أو ناعمًا، أو
أن عليك لكي تقدر لوحةً تقديرًا تامًّا أن تخطو أمامها برشاقةٍ أو تديرها كالخذروف حين
خلص صديقي إلى ذلك لم يكن بوسعه أن يَحدس لماذا أسأله هل ذهب مؤخرًا إلى كمبردج (وهو
مكانٌ يُلمُّ به أحيانًا).
١
وهناك من الجهة الأخرى أناسٌ يستجيبون للأعمال الفنية استجابةً فوريةً ناجحة، ورغم
أنهم في تقديري أسعد حظًّا من ذوي الفكر الكبير مع الحساسية القليلة، فهم كثيرًا ما
يكونون عاجزين بنفس الدرجة عن الإفضاء بكلامٍ مفيد في الإستطيقا؛ ذلك أن أفكارهم ليست
دائمًا واضحةً بما فيه الكفاية، وبَينما هم يَملكون المعطيات التي يَنبغي أن يقوم عليها
أي نسقٍ إستطيقي، إلا أنهم بعامةٍ تُعوِزهم القدرة على استخلاص استدلالات صائبة من
المعطيات الصحيحة. إن مثلهم، بعد إذ تلقوا من الأعمال الفنية انفعالاتٍ إستطيقية، في
وضع يدعو إلى تلمُّس الصفة المشتركة التي تجمع بين كل الأشياء التي حركت مشاعرهم، غير
أنهم في الحقيقة لا يفعلون شيئًا من هذا، وأنا لا ألومهم؛ فلماذا يُكرِّثون أنفسهم بفحص
مشاعرهم وهم ليسوا متضلِّعين في الفكر؟ لماذا يتعيَّن عليهم أن يجوسوا لتصيد خصلةٍ
مشتركةٍ بين جميع الأشياء التي حرَّكت مشاعرهم ما دام بإمكانهم أن يتلبَّثوا حيال السحر
السائغ والعجيب في كل شيء منها كيفما يأتي؟ ومِن ثمَّ فإذا كتب هؤلاء نقدًا وأسموه
إستطيقا، وإذا تصوَّروا أنهم يتحدَّثون عن «الفن» بينما هم يتحدَّثون عن أعمال فنية
بعينها، أو حتى عن تكنيك التصوير،
٢ وإذا وجدوا في غمرة حبِّهم لأعمالٍ معيَّنة أن النظر في الفن في جملته أمرٌ
مضجر — فربما يكونون قد ظفروا بالنصيب الأوفر، إذا لم يكن هؤلاء مشغوفين بمعرفة طبيعة
انفعالهم ولا بمعرفة الميزة المشتركة لجميع الأشياء التي تُحرِّكهم، فإن قلبي معهم،
وحيث إن ما يقولونه كثيرًا ما يكون أخاذًا وموحيًا، فلهم إعجابي أيضًا، كل ما أبتغيه
ألا يَفترض أحدٌ أن ما يَكتبونه ويقولونه هو إستطيقا، إنه نقد، أو مجرَّد حديث «في
الشغل».
إن نقطة البدء في كل نسقٍ إستطيقي ينبغي أن تكون هي الخبرة الشخصية بانفعالٍ خاص،
ونحن نُطلق على الأشياء التي تُثير هذا الانفعال اسم «الأعمال الفنية» works of art، ويتَّفق كل ذي حسٍّ مُرهَف من الناس على أن هناك
انفعالًا خاصًّا تثيره الأعمال الفنية، ولست أعني بطبيعة الحال أن كل الأعمال الفنية
تُثير نفس الانفعال؛ إذ، على العكس، يُولد كل عملٍ من أعمال الفن انفعالًا مختلفًا، غير
أنه من الممكن إدراك أن هذه الانفعالات جميعًا هي من نفس الصنف، وعلى أية حال فالرأي
الأرجح حتى هذا الحد هو في صفي، إن هناك صنفًا معينًا من الانفعال تُثيره الأعمال
الفنية البصرية، وهو انفعالٌ يُثيره كل نوع من الفن البصري: الصور وأعمال النحت
والمباني والجِرار وأعمال الحفر والنسيج، وأعتقد أن هذا شيء لا يُماري فيه أي شخص لديه
القدرة على أن يحسَّ هذا الانفعال، ويُطلِق على هذا الانفعال «الانفعال الإستطيقي» aesthetic emotion، ولو أمكنَنا
أن نَكتشِف صفةً ما مشتركة ومميزة لجميع الأشياء التي تُثير هذا الانفعال نكون قد ظفرنا
بحلٍّ لما أعتبره المشكلة المركزية في الإستطيقا؛ أي نكون قد وقفنا على الصفة الجوهرية
في العمل الفني، تلك الصفة التي تميِّز الأعمال الفنية عن جميع الفئات الأخرى من
الموضوعات.
ذلك أنه لو لم تكن للأعمال الفنية صفة مشتركة تشملها جميعًا، لكان حديثنا عن «الأعمال
الفنية» لغوًا وثرثرة، كلنا يتحدَّث عن «الفن» واضعًا بذلك تصنيفًا ذهنيًّا يفرِّق به
بين فئة «الأعمال الفنية» وجميع الفئات الأخرى، فما هو المُبرِّر العقلي لهذا التصنيف؟
وأيًّا ما كانت هذه الصفة فمما لا شك فيه أنها كثيرًا ما توجد مصاحبةً لصفاتٍ أخرى، غير
أن هذه الصفات عرضية بينما الصفة التي نَلتمسها جوهرية، لا بد أن هناك صفة مفردة محددة
لا يمكن أن يوجد بدونها عملٌ فني، وإذا حاز عليها أي عمل فستكون له بعض القيمة على أقل
تقدير، فما هي هذه الصفة؟ ما الصفة التي تَشترك فيها جميع الأشياء التي تُثير
انفعالاتنا الإستطيقية؟ ما الصفة التي تجمع بين كنيسة القديسة صوفيا، والنوافذ في
كاتدرائية شارتر، والنحت المكسيكي، والآنية الفارسية، والسجاد الصيني، وجداريات جوتو
الجصية في بادوا، وروائع بوسان وبييرو دلا فرانشيسكا وسيزان؟ يبدو أن ليس هناك سوى جواب
واحد ممكن، هو «الشكل ذو الدلالة» (الشكل الدال) significant
form، ففي كلٍّ منها فإنَّ الخطوط والألوان إذ تتضامُّ بطريقة
معينة، وإن أشكالًا معينة وعلاقات الأشكال، تُثير انفعالاتنا الإستطيقية، هذه العلاقات
والحبكات من الخطوط والألوان، هذه الأشكال المحرَّكة إستطيقيًّا، أُطلق عليها «الشكل
الدال»، و«الشكل الدال» هو الصفة الفريدة التي تشمل كل أعمال الفن البصري.
هنا قد يعترض البعض بأني بذلك أجعل الإستطيقا شأنًا ذاتيًّا محضًا، ما دامت معطياتي
الوحيدة هي خبرات شخصية بانفعالٍ معين، وسيقال إنه ما دامت الأشياء التي تُثير هذا
الانفعال تختلف من شخصٍ لآخر فلا يمكن أن يكون لأي نسقٍ إستطيقي صوابٌ موضوعي، ولا بد
أيضًا أن يُقال ردًّا على ما ذكرت أن أي نسقٍ إستطيقي يدَّعي أنه قائم على حقيقة
موضوعية هو من البطلان الواضح بحيث لا يَستحق المناقشة؛ فنحن لا نَملك أي وسيلة
للتعرُّف على عملٍ من الأعمال الفنية سوى شعورنا به، وإن الموضوعات التي تُثير الانفعال
الإستطيقي تختلف باختلاف الأشخاص، والأحكام الجمالية كما جرى المثل هي مسألة ذوق، ولا
مشاحة في أذواقنا كما يُسلم — فخورًا — كل إنسان. قد يستطيع الناقد القدير إزاء لوحةٍ
لم تحرِّك مشاعري أن يلفت انتباهي إلى أشياء أغفلتها في اللوحة إلى أن يقع لي الانفعال
الجمالي فأدركها كعملٍ من أعمال الفن، إن وظيفة النقد هي ألا ينفك يبين لنا تلك الأجزاء
التي من شأنها حين تتَّحد أن يفضي مجموعها، أو بالأحرى تضامها، إلى إنتاج الشكل الدال،
غير أنه من العبث الذي لا طائل منه أن يخبرني ناقدٌ فني أن شيئًا ما هو عمل فني، بل لا
بد له أن يجعلني أشعر بذلك بنفسي، ولا بد له لكي يَنجح في ذلك أن يصل إلى انفعالاتي من
خلال عيوني؛ فليس بإمكانه أن يُرغمني على الانفعال ما لم يَنجح في أن يجعلني أرى شيئًا
ما يُحرك مشاعري، وليس من حقي أن أعتبر أي شيء عملًا فنيًّا ما لم يُمكنِّي أن أستحيب
له انفعاليًّا، ولا هو من حقي أن أبحث عن الصفة الجوهرية في أي شيء لم أشعر إزاءه أنني
أمام عملٍ فني، ولا يَملك الناقد أن يؤثر على آرائي الجمالية إلا عن طريق التأثير على
خبرتي الجمالية، ولا بد لجميع الأنساق الإستطيقية أن تقوم على الخبرة الشخصية؛ أي لا
بد
أن تكون ذاتية.
ولكن بالرغم من أن كل النظريات الإستطيقية تستند بالضرورة إلى أحكامٍ جمالية، وأن
جميع الأحكام الجمالية هي في النهاية مسألة ذوق شخصي، فمن التهوُّر أن نقول بأن النظرية
الإستطيقية لا يُمكن أن تتمتَّع بصوابٍ عام، فرغم أنني قد تُحركني الأعمال أ، ب، ﺟ، د،
بينما تحركك الأعمال أ، د، ﻫ، و؛ فليس هناك ما يمنع أن تكون الصفة س هي الصفة الفريدة
التي يعتقد كلانا أنها القاسم المشترك في جميع الأعمال بقائمته، فقد نتَّفق جميعًا على
إستطيقا واحدة ونختلف رغم ذلك حول أعمالٍ معيَّنة؛ أي نختلف حول وجود الصفة س أو
غيابها. سيكون هدفي المباشر إثبات أن «الشكلَ الدالَّ» هو الصفة الوحيدة المشتركة
والمميزة لجميع أعمال الفن البصري التي تُحرِّك مشاعري، وسأُناشد من لا تَنطبِق خبرتهم
الإستطيقية على خبرتي أن ينظروا ما إذا كانت هذه الصفة في تقديرهم ليست شاملة أيضًا
لجميع الأعمال التي تحركهم، وما إذا كان بإمكانهم اكتشاف أي صفة أخرى يُمكن أن يقال
عنها الشيء نفسه.
عند هذه النقطة أيضًا يبرز تساؤل — تساؤلٌ خارجٌ عن الموضوع حقًّا ولكن لا سبيل
إلى
دفعه — لماذا تتأثَّر مشاعرنا كل هذا التأثر حيال أشكالٍ متَّصلة فيما بينها على نحوٍ
معين؟ إنه سؤال شائق للغاية ولكنه غير ذي صلة بالإستطيقا، فليس لنا في الإستطيقا المحضة
أن ننظر فيما سوى انفعالنا وموضعِه؛ ففي حدود أغراض الإستطيقا ليس من حقِّنا، ولا هو
من
الضروري بحال، أن نَنبش وراء الموضوع في الحالة الذهنية للذي صنعه، ولسوف أحاول لاحقًا
أن أجيب عن هذا السؤال حتى يتسنَّى لي أن أقول كلمتي في علاقة الفن بالحياة، غير أنني
لن أُوهم نفسي عندئذٍ أن ذلك تتمةٌ لنظريتي الإستطيقية؛ فكلُّ ما يلزم في مبحث
الإستطيقا هو أن أُثبت فحسب أن الأشكال إذ تَنتظم وتجتمع وفقًا لقوانين معينة مجهولة
وغامضة، تحرك مشاعرنا فعلًا بطريقة معينة، وأن مهمة الفنان هي أن يجمعها ويُنظِّمها
بحيث تُحرِّك مشاعرنا، هذه التجمعات والتنظيمات هي ما أَطلقت عليه على سبيل التيسير،
ولسببٍ آخر سنعرفه فيما بعدُ، اسم «الشكل
الدال» Significant Form.
وهناك مُقاطعٌ ثالث عليَّ أن أُجيبه، يسألني: «تراك أغفلت مسألة اللون؟» بالطبع لا،
فمُصطلح «الشكلِ الدالِّ» هو عندي يتضمَّن تضام الخطوط والألوان، إنَّ التفرقة بين
الشكل واللون هي تفرقة غير حقيقية؛ فأنت لا يُمكنك أن تتصوَّر خطًّا لا لون له، أو
تتصوَّر فراغًا عديم اللون، ولا هو بإمكانك أن تتصوَّر علاقة بين الألوان لا شكل لها؛
ففي حالة الرسم الأبيض والأسود تكون الفراغات جميعًا بيضاء، وتكون جميعًا محاطة بخطوط
سوداء، وفي معظم اللوحات الزيتية تكون الفراغات مُتعدِّدة الألوان، وكذلك الحدود، فأنت
لا تَستطيع أن تتخيَّل خطًّا حديًّا بدون مُحتوى أو محتوى بدون خطٍّ حدي؛ ولذا فحينما
أتحدَّث عن الشكل الدال فإنما أعني تضامًّا معينًا للخطوط والألوان (معتبرًا الأبيض
والأسود ألوانًا) يثير في نفسي هزةً إستطيقية.
وقد يَندهِش البعض لأني لم أُطلِق على ذلك beauty
(جمال، ملاحة)، إنني بطبيعة الحال أُسلِّم عن طيب خاطر لمن يعرف الجمال بأنه «ضروب من
تضامِّ الخطوط والألوان بطريقة تثير انفعالًا إستطيقيًّا.» بحقِّه في أن يستبدل لفظه
بلفظي، غير أن معظمنا، مهما بلغَت دقَّتنا الاصطلاحية، عرضةً لأن يخلع نعت «جميل beautiful» على موضوعات لا تثير ذلك الانفعال الخاص الذي
تُثيره الأعمال الفنية، فكلٌّ منا فيما أظن قد أطلق يومًا على فراشةٍ أو زهرة صفة
«جميل»، فهل يحسُّ كلٌّ منا تجاه الفراشة أو الزهرة بنفس الانفعال الذي يحسُّه تجاه
كاتدرائية أو لوحة؟ من المؤكَّد أن ما أسمِّيه انفعالًا إستطيقيًّا هو شيء يختلف عما
يشعر به معظمنا، بصفة عامة، تجاه الجمال الطبيعي، ولسوف أتطرَّق فيما بعد إلى أن بعض
الناس في بعض الأحيان قد يرى في الطبيعة ما نراه في الفن ويحسُّ إزاءها انفعالًا
إستطيقيًّا، ولكن بحسبي الآن أن أقر كقاعدة أن ما يحسُّه معظم الناس تجاه الطيور
والأزهار وأجنحة الفراشات هو صنف من الانفعال مختلف كليًّا عما يُحسونه تجاه اللوحات
والأواني الخزفية والمعابد والتماثيل. أما لماذا لا تفعل هذه الأشياء الجميلة في شعورنا
ما تفعله الأعمال الفنية فهو سؤال آخر وليس سؤالًا إستطيقيًّا، فلنَجتزئ لغرضنا الحالي
باستكشاف الصفة التي تعمُّ الموضوعات التي تهزُّنا بوصفها أعمالًا فنية، وآمل في نهاية
هذا الفصل، عندما أحاول أن أضع يدي على سبب تأثُّرنا العميق بضروب معينة من تضام الخطوط
والألوان، أن أقدِّم تفسيرًا مقبولًا لعِدم تأثَّرنا بنفس العمق تجاه الأشياء
الأخرى.
وما دمنا نُطلق كلمة «جمال»
beauty على خاصية ليست
تُثير الانفعال الإستطيقي المميَّز، فمن المضلل أن نطلق الكلمة نفسها على الخاصية التي
تثيره، فإذا ما جعلنا «الجمال»
beauty هو موضوع
الانفعال الإستطيقي لتوجب علينا أن نعطي الكلمة تعريفًا مفرطًا في التشدد وغير مألوف؛
فجميعنا نستخدم كلمة «جمال»
beauty أحيانًا بمعنى غير
إستطيقي، ومعظم الناس اعتادت أن تفعل ذلك؛ فالمعنى الأعم لكلمة «جمال»
beauty عند الجميع، ربما باستثناء «جمالي متطرف»
aesthete٣ نُصادفه عرضًا هنا وهناك، هو معنًى غير إستطيقي، ولستُ بحاجةٍ لذكر
الاستخدام الأسوأ للكلمة، كما يتجلى في هذرنا عن «صيد جميل» و«ركلة جميلة»، فبوسع
السراة من الناس أن يردوا بأنهم لا يبذلونها بهذه الطريقة أبدًا، وإذا كنا في هذا
المقام بمأمن من الخلط بين الاستخدامَين الإستطيقي وغير الإستطيقي لكلمة «جميل»
beautiful، فإن خطر الخلط قائم عندما يكون حديثُنا عن
امرأة جميلة، عندما يتحدَّث الرجل العادي عن امرأة جميلة فمن المؤكَّد أنه لا يَعني
بذلك أنها تُحرك مشاعره الإستطيقية فحسب، أما عندما يصف فنانٌ امرأةً ذاويةً شمطاء
بالجمال؛ فإنه قد يعني أحيانًا الشيء نفسه الذي يَعنيه عندما يصف جذع تمثالٍ معطوبًا
بأنه جميل، وقد يصف الرجل العادي، إذا كان ذا ذوقٍ أيضًا، جذع تمثال معطوبًا بأنه جميل،
ولكنه لن يَنعت بالجمال امرأةً ذابلةً شمطاء؛ ذلك أنه لا يفرد نعت الجمال لتلك الخاصية
الإستطيقية التي قد تتحلى بها العجوز الشمطاء وإنما لخاصية معيَّنة أخرى، والحق أن
معظمنا لا يرد بخياله على الإطلاق أن يقصد إلى إخوانه من البشر ابتغاء انفعالٍ إستطيقي؛
فالذي نَبتغيه من الناس هو شيء مختلف تمامًا، ونحن عندما نجد هذا «الشيء» في امرأة شابة
نميل إلى أن نسميه «جمالًا»، إننا نعيش في عصرٍ رقيقٍ وكلمة «جميل» عند رجل الشارع هي
في أغلب الأحوال مرادفة لكلمة «مرغوب»
desirable، وهي
في أغلب الأحوال لا تَحمل أي دلالة إستطيقية البتَّة، وإنني أميل إلى الاعتقاد بأن
النكهة الجنسية للكلمة أقوى في أذهان الكثيرين من النكهة الإستطيقية. لقد لاحظت اتساقًا
منطقيًّا في رأي أولئك الذين يرون أن أجمل الأشياء جميعًا في الدنيا هي امرأة جميلة،
وأن الشيء الذي يليه في الجمال هو صورة لإحدى النساء؛ فالخلط بين الجمال الإستطيقي
والجمال الجنسي في حالة هؤلاء ليس خلطًا كبيرًا كما قد يَبدر إلى الظن، وربما لا يوجد
أي خلط؛ ذلك أنهم ربما لم يُجرِّبوا في حياتهم انفعالًا إستطيقيًّا واحدًا حتى يختلط
مع
بقية انفعالاتهم. الفن «الجميل» عند هؤلاء هو في عموم الأحوال وثيق الصلة بالمرأة؛
فالصورة الجميلة هي صورة فوتوغرافية لفتاة حسناء، والموسيقى الجميلة هي الموسيقى التي
تُثير انفعالات شبيهة بتلك التي تُثيرها النسوة الشابات في المسرحيات الهزلية الاستعراضية
musical farces، والشعر الجميل
هو ذلك الشعر الذي يَستدعي نفس العواطف التي كانوا يُحسُّونها منذ عشرين عامًا تجاه
ابنة القسِّ. من الواضح أن كلمة «جمال» تُستخدم لتدلَّ على الموضوعات الخاصة بانفعالات
متميزة تمامًا، وهو مما يجعلني أُحجم عن استخدام مصطلح حريٍّ بأن يوقع ضروبًا محتومة
من
الخلط وسوء التفاهم بيني وبين قرائي.
ومن ناحية أخرى، هناك من يرون أن من الأصوب الأدق أن نُطلِق على هذه الضروب من
التضامِّ والترتيب الشكلي التي تُثير الانفعالات الإستطيقية اسم «العلاقات الدالة
للشكل» بدلًا من «الشكل الدال»، وعندئذٍ يُحاوِلون الإفادة القصوى من عالَمين، العالم
الإستطيقي والعالم الميتافيزيقي، بتسمية هذه العلاقات «الإيقاع» rhythm، ومع هؤلاء لستُ على أدنى خلاف؛ فأنا على استعداد، بعد أن
أوضحت أني أعني بالشكل الدال تلك الترتيبات والتضافُرات التي تحرِّك مشاعرنا بطريقةٍ
معينة، أن أمد يدي إلى أولئك الذين يُفضِّلون أن يضعوا اسمًا مختلفًا لنفس
الشيء.
تتمتَّع فرضية «الشكل الدال بوصفه الخاصية الجوهرية للعمل الفني» بمزيةٍ يفتقر إليها
كثيرٌ من الفرضيات الأكثر شهرةً وإثارة — وهي أنها تُسعفنا بالفعل في تفسير أمورٍ
كثيرة؛ كلنا مثلًا نألف لوحاتٍ تُثير اهتمامنا وإعجابنا دون أن تهزَّنا كأعمالٍ فنية،
تحت هذه الفئة من اللوحات يَندرج ما أسميه «التصوير الوصفي»
Descriptive Painting؛ أي ذلك الصنف من التصوير الذي يُستخدم فيه الشكل
لا كموضوعٍ للانفعال بل كوسيلةٍ لنقل معلوماتٍ واقتراح عواطف، في هذا التصنيف تدخل البورتريهات
٤ ذات القيمة السيكولوجية والتاريخية، وتدخُل الأعمال الطوبوغرافية واللوحات
التي تروي حكاياتٍ وتوحي بمواقف، وتدخل وسائل الإيضاح بجميع أنواعها، إن الفرق واضح لنا
جميعًا؛ فمَن منا لم يتَّفق له يومًا أن يقول إن هذه أو تلك من اللوحات هي رسمٌ ممتازُ
كوسيلة إيضاح، ولكنه لا قيمة له كعملٍ فني؟ هناك بالطبع كثيرٌ من اللوحات الوصفية التي
تتحلَّى، فيما تتحلى به، بالشكل الدال، غير أن هناك عددًا أكبر لا يتحلى بذلك، إنها
تروقنا وتُطرفنا وقد تُحرِّكنا بمائة طريقة متنوعة، عدا أن تُحركنا إستطيقيًّا، إنها
وفقًا لفرضيتي ليست أعمالًا فنية، فهي لا تمسُّ انفعالاتنا الإستطيقية؛ ذلك لأن ما
يَنالنا منها ليس الشكل بل الأفكار التي يَقترحها الشكل أو المعلومات التي
ينقلها.
قلَّما حظيت لوحةٌ بالشهرة أو النجاح الذي حظيَت به لوحة فريث
Frith «محطة
بدنجتون»
Paddington Station،
٥ ومن المؤكَّد أنني آخر من يَنفس عليها شهرتها ورواجها، ولكم تريَّثتُ
إزاءها وأطلتُ تأملها لأحلِّل تفصيلاتها الفاتنة وأصوغ لكلٍّ منها ماضيًا متوهَّمًا
ومستقبلًا مُستحيلًا، ولكن رغم أنه من المؤكد أن رائعة فريث أو طبعات منها قد غمرت
الآلات بآمادٍ من المتعة المدهشة والعجيبة، فليس أقلَّ توكيدًا أنها لم تبثَّ في خبرة
أي مُشاهد آنةً واحدةً من النشوة الإستطيقية؛ ذلك وإن اللوحة لتتضمَّن العديد من
الانتقالات اللونية البارعة، وإنها أبعد ما تكون عن أخطاء الرسم. إن لوحة «محطة
بدنجتون» ليست عملًا فنيًّا بل وثيقة طريفة ومسلية؛
فالخطوط والألوان فيها تستخدم لكي تُردِّد حكايات وتوعز بأفكار وتشير إلى طرائق وعادات
عصرٍ من العصور؛ إنها لا تُستخدم لتبثَّ انفعالًا إستطيقيًّا؛ فالأشكال وعلاقات الأشكال
لم تكن بالنسبة لفريث موضوعات انفعال، بل وسائل لاقتراح انفعالات وتوصيل أفكار.
إنها أفكار ومعلومات طريفة وجيدة العرض تلك التي تنقلها لوحة «محطة بدنجتون»، وهي
من
الطرافة والجودة بحيث تمنح اللوحة قيمةً كبيرة وتجعلها جديرةً بالحفظ كل الجدارة. إلا
أنه مع تقدُّم التقنيات الفوتوغرافية والسينمائية نحو مزيد من الدقة والإتقان، فإن هذا
الصنف من اللوحات صائرٌ من التبطُّل والبوار، وهل ثمة من شك في أن بإمكان أحد مصوري اﻟ
«ديلي ميرور» بالتعاون مع أحد مراسلي اﻟ «ديلي ميل» أن يُنبآنا عن «لندن يومًا بيوم»
بما لا يَحلم به أي عضو من أعضاء «الأكاديمية الملكية»؟ فإذا أردنا في المستقبل أن
نتحرى خبرًا عن السلوكيات والأنماط السائدة فسوف نلجأ إلى الصور الفوتوغرافية يدعمها
قليلٌ من الكتابة الصحفية الذكية، بدلًا من أن نلجأ إلى الرسم الوصفي. ولو أن
الأكاديميِّين في إمبراطورية نيرون كانوا قد عمدوا إلى تسجيل عادات عصرهم وأنماطه في
لوحات جصية جدارية وفسيفسائية، بدلًا مما لفَّقوه من تقليدات بَشِعة الغثاثة لفن العصور
القديمة، لكانت أعمالهم الآن، على رداءتها الفنية، منجمَ ذهب تاريخيًّا، فيا ليتهم
كانوا كلهم فريث بدلًا من ألماتاديما! غير أن التصوير الفوتوغرافي قد سدَّ الطريق على
أي تحويل كهذا بالنسبة للغثاء العصري، فلا مناص إذن من الاعتراف بأن اللوحات على طريقة
فريث لم تعد إليها حاجة، إن هي إلا إهدارٌ لساعات رجالٍ ذوي براعة، من الأجدى أن
يُستخدموا في أعمالٍ أوسع نفعًا.
على أن هذه اللوحات، بعد كل شيء، لا بأس بها، وهو نعتٌ لا يرقى إليه ذلك الصنف من
التصوير الوصفي الذي تعدُّ لوحة «الطبيب» مثاله الصارخ. بديهٌ أن لوحة «الطبيب» ليست
عملًا فنيًّا؛ فالشكل هنا لا يستخدم كموضوع للانفعال، بل كوسيلة لاقتراح انفعالات
والإيعاز بعواطف، وهذا يكفي وحده لجعلها تافهة، بل إنها أكثر من تافهة؛ لأن العاطفة
التي توعز بها هي عاطفة كاذبة، فما توعز به ليس الشفقة والإعجاب بل إحساس بالرضا الذاتي
عن شفقتنا نحن وكرمنا، إنها إسفافٌ عاطفي. إن الفن فوق الأخلاق، أو بالأحرى كل فن هو
أخلاقي؛ ذلك أن الأعمال الفنية، كما أودُّ أن أبين الآن، هي وسائل مباشرة للخير، فما
إن
نحكم على شيء بأنه عملٌ فني حتى نكون قد حكمنا بأنه ذو أهمية قصوى أخلاقيًّا وجعلناه
دون منال الداعية الأخلاقي. غير أن اللوحات الوصفية التي ليست أعمالًا فنية، وبالتالي
ليست بالضرورة سبلًا إلى حالات ذهنية خيرة، هي جديرة بأن تقع تحت طائلة الفيلسوف
الأخلاقي. وما دامت «الطبيب» ليست عملًا فنيًّا، فهي تفتقر إلى القيمة الأخلاقية
الهائلة التي تتحلَّى بها جميع الموضوعات التي تبعث النشوة الإستطيقية، وإن الحالة
الذهنية التي تُفضي إليها بوصفها صورةً إيضاحية تبدو لي غير مرغوب فيها.
٦
وأعمال أولئك الشبان المغامرين — المستقبليِّين
الإيطاليين Italian Futurists — هي أمثلة لافتة للتصوير الوصفي، وهم، شأنهم شأن
الأكاديميِّين الملكيين، يستخدمون الشكل لا ليبثُّوا انفعالاتٍ إستطيقيةٍ، بل ليوصلوا
معلوماتٍ وأفكارًا. والحق أن النظريات المنشورة للمستقبليِّين تُثبت أن لوحاتهم ينبغي
ألا تعدَّ فنًّا على الإطلاق. إن نظرياتهم الاجتماعية والسياسية جديرةٌ بالاحترام، غير
أني أودُّ أن يعلموا أن بوسع المرء أن يُصبح مستقبليًّا في الفكر والفعل ويظل مع ذلك
فنانًا، ما دام حظُّه أن وُلد فنانًا. إن لوحاتهم وصفية أولئك المستقبليين؛ لأنهم
يستهدفون أن يعرضوا بالخط واللون فوضى الذهن في لحظة معينة؛ فهم لا يقصدون من الشكل أن
يعزز الانفعال الإستطيقي بل أن يوصِّل معلومات، وعلى ذكر هذه الأشكال فهي في حدِّ
ذاتها، وأيًّا ما كانت طبيعة الأفكار التي توحي بها، قد تكون أي شيء عدا أن تكون ثورية؛
فالرسم في هذه اللوحات المستقبلية كما شهدتها — ربما باستثناء بعض لوحات سفريني Severini — متى أصبح تمثيليًّا كما هو الحال في لوحاتٍ
كثيرة، يتَّضح أنه يتبع ذلك التقليد الرقيق والشائع الذي استحدثه بسنارد منذ حوالي
ثلاثين عامًا، والذي تأثَّر كثيرًا بطلاب Beaux-Arts
(الفنون الجميلة) منذ ذلك الحين، إن اللوحات المستقبلية غير ذات قيمة كأعمال فنية، غير
أنها يجب ألا تُصنَّف كأعمالٍ فنية؛ فاللوحة المستقبلية الجيدة قد تنجح بنفس الطريقة
التي تنجح بها قطعة جيدة من السيكولوجيا؛ فهي تكشف من خلال الخط واللون عن تعقيدات
حالةٍ نفسية طريفة، فإذا فشلَت لوحاتٌ مستقبلية وبدتْ مخفَّقةً فإن تفسير ذلك يجب أن
يُلتمس لا في افتقاد الخصائص الفنية التي لم تعمد هذه اللوحات إلى التحلي بها على
الإطلاق، بل بالأحرى في العقول التي كانت هذه اللوحات تقصد إلى كشف حالاتها.
يجد أغلب المولَعين بالفن أن الشطر الأكبر من الأعمال الأشد إثارةً لهم هو ما يُطلِق
عليه الدارسون الفن «البدائي»
primitive، هناك بالطبع
قطع بدائية رديئة، أذكر على سبيل المثال أني ذهبت يومًا وأنا ممتلئٌ حماسًا لكي أشاهد
واحدةً من أقدم الكنائس الرومانسكية في بواتيا (نوتردام لاجراند)، فوجدتُها غير متناسقة
ومُفرطة الزينة وفظَّة غليظة ثقيلة، مثلها مثل أي مبنًى من مباني الطبقة الموسرة،
صمَّمه واحدٌ من أولئك المهندسين الفائقي التحضُّر الذين ازدهروا قبل ذلك بألف عام أو
بعد ذلك بثمانمائة عام، على أن مثل هذه الاستثناءات نادرة؛ فالفن البدائي، كقاعدة عامة،
هو فن جيد — وفرضيتي هنا مسعفةٌ مرةً أخرى — ذلك أن الفن البدائي، كقاعدة، هو أيضًا
مبرأ من الخصال الوصفية، ولن تجد فيه غير الشكل الدال، ومع ذلك فهو بين الفنون أعماقها
تأثيرًا فينا، فسواء تأملنا النحتَ السومري، أو فن ما قبل الأُسر في مصر القديمة، أو
الفن الإغريقي القديم، أو روائع عصر أُسر واي
Wei٧ وأسرة تانج
Tang٨ بالصين،
٩ أو تلك الأعمال اليابانية المُبكِّرة التي أسعدني الحظ بمشاهدة بضعة نماذج
رائعة منها (ولا سيما قطعتا بوديساتفا خشبيتان) في معرض شبردز بوش عام ١٩١٠م، وسواء
دنونا من الوطن وتأمَّلنا الفن البيزنطي البدائي للقرن السادس وتطوراته البدائية بين
البرابرة الغربيِّين، أو التفتنا إلى أصقاعٍ أبعد وتأملنا ذلك الفن الغامض والمهيب الذي
ازدهر في أمريكا الوسطى والجنوبية قبل مجيء الرجل الأبيض؛ ففي كل حالة من هذه الحالات
سوف نلاحظ ثلاث خصائص عامة: غياب التمثيل، وغياب الاختيال التكنيكي، وحضور الشكل الجليل
التأثير. وليس من العسير أن نكتشف الارتباط الوثيق بين هذه الخصائص الثلاث؛ فالدلالة
الشكلية تخسر نفسها إذا هي انشغلَت بالتمثيل الدقيق والبراعة المتباهية.
من الطبيعي أن يُقال إنه إذا كان التمثيل في الفن البدائي قليلًا والدجل أقل، فمرد
ذلك إلى أن البدائيِّين لا يَمتلكون القدرة على اقتناص الشُّبه والقيام بوثبات فكرية،
إلا أن هذا المراء في غير محله. لا شك أن هناك وجهًا من الصواب في هذا القول، غير
أنَّني لو كنت ذلك الناقد الذي تتَّكئ مكانته إلى قدرته على اختلاب العامة بظاهر
المعرفة لتوخَّيت الحذر في الإلحاح على هذا الرأي أكثر مما يَفعل أمثال هؤلاء النقاد
في
عموم الأحوال، فافتراض أن الأساتذة البيزنطيِّين كانوا يفتقرون إلى المهارة أو كان
متعذِّرًا عليهم خلق إيهامٍ لو أنهم أرادوا ذلك. يبدو أنه افتراضٌ ينطوي على جهلٍ
بالواقعية المدهشة الحذق التي تسم الأعمال الرديئة لذلك العصر والمتفق على رداءتها، بل
أخشى أنه في الأغلب الأعم ينبغي أن تُعزى إساءة التمثيل لدى البدائيين إلى ما يُطلِق
عليه النقاد «التحريف
المقصود» willful
distortion، ومهما يكن من أمر فالوجه أن البدائيِّين، سواء لغياب
المهارة أو غياب القصد، لم يخلقوا إيهامًا illusion
ولم يتباهوا بالإتمام المحكم للعمل، بل كانوا يُركزون طاقاتهم على المطلب الوحيد
المنشود؛ خلق الشكل، هكذا أبدعوا لنا أرفع الأعمال الفنية التي بين أيدينا.
أود ألا يتصور أحدٌ أن التمثيل شيءٌ سيئ في ذاته؛ فليس هناك ما يحول دون أن يكون شكلٌ
واقعيٌّ ما، وهو مُنتظِم في مكانه كجزء من التصميم، مضاهيًا في الدلالة لآخر تجريدي،
ولكن إذا كان لشكلٍ تمثيلي قيمةٌ فبوصفِه شكلًا لا بوصفه تمثيلًا؛ فالعنصر التمثيلي في
العمل الفني قد يضرُّ وقد لا يضر، ولكنه دائمًا خارجٌ عن الموضوع؛ ذلك أننا لكي ندرك
عملًا من أعمال الفن لا نحتاج إلى أن نأتي معنا بشيءٍ من الحياة، أو بمعرفةٍ بأفكارها
وشئونها أو بإلفٍ بانفعالاتها؛ فالفن ينتشلنا من عالم الدأب البشري إلى عالم الوجد
الإستطيقي، ونحن في اللحظة الإستطيقية تنقطع أسبابنا بالاهتمامات البشرية، وتتوقَّف
تطلعاتنا وذكرياتنا؛ إذ يشيل بنا الفن فوق تيار الحياة.
إن عالم الرياضيات البحتة المُستغرق في دراساته يَعرف حالةً ذهنيةً اعتبرها شبيهةً
بذلك إن لم تكن مطابقة؛ فهو يشعر إزاء تأملاته بانفعالٍ لا ينجم عن أي علاقةٍ مُدركةٍ
بينها وبين حياة البشر، بل ينبع — غير بشريٍّ أو فوق بشري — من قلب علمٍ مجرد، وربما
يذهب بي الظن أحيانًا إلى أن مدركي الفن ومدركي الحلول الرياضية قد يَكونون أكثر قربًا
وأوثق صلةً حتى من ذلك، فأتساءل: قبل أن يأخذنا انفعالٌ إستطيقي تجاه تجمُّعٍ من
الأشكال، ترانا ندرك بالفكر صواب هذا التجمع وضرورته؟ فإن صح ذلك فهو حريٌّ أن يفسر
واقعة أننا إذ نمرُّ سراعًا خلال غرفةٍ فنحن نميز جودة إحدى اللوحات رغم أننا لا نستطيع
أن نقول إنها أثارت فينا انفعالًا كبيرًا، فيبدو أننا نكون قد تبيَّنا بالفكر صواب
الأشكال باللوحة دون أن نتريث لنُركِّز انتباهنا ونقبض على دلالتها الانفعالية كيفما
كانت، فإذا كان الأمر كذلك فإن لنا أن نتساءل ما إذا كانت الأشكال ذاتها هي ما أدى إلى
الانفعال الإستطيقي أم إدراكنا لصواب الأشكال وضرورتها. ولكني لا أظن أني بحاجة إلى أن
أطيل الوقوف هنا لاستقصاء هذه المسألة، لقد كنتُ بصدد البحث عن سبب انفعالنا بتجمعات
معينة من الأشكال، وما كنت لأُستدرج إلى مسالك أخرى لو أنني تساءلتُ بدلًا من ذلك:
لماذا تُدرك تجمعاتٌ معينة كصوابٍ وضرورة، ولماذا يُطربنا إدراكنا لصوابها وضرورتها؟
والجواب عندي هو هذا: إن الفيلسوف المستغرق؛ وذلك الذي يتأمَّل عملًا من أعمال الفن،
كلاهما يستوطن عالمًا ذا دلالة كثيفة وخاصة، دلالة لا شأن لها بدلالة الحياة، في هذا
العالم لا محلَّ لانفعالات الحياة، إنه عالم له انفعالاته الخاصة به وحده.
لكي نُدرك عملًا من أعمال الفن لا نحتاج إلى أن نأتي معنا بشيء عدا إحساس بالشكل
واللون ومعرفةٍ بالمكان ذي الأبعاد الثلاثة. إنني أُسلم بأن ذلك الجانب الأخير من
المعرفة ضروريٌّ لإدراك كثير من الأعمال العظيمة؛ ذلك أن الكثير من الأشكال الأكثر
تأثيرًا بين كل ما أُبدع من فنٍّ على الإطلاق إنما يتمثَّل في ثلاثة أبعاد. إن رؤية
مكعَّب أو شبه معيَّن كشكلٍ مسطح من شأنها أن تُخفِّض من دلالته، كما أن الإحساس
بالمكان ذي الأبعاد الثلاثة هو أمر ضروري للإدراك الكامل لمعظم الأشكال المعمارية. إن
الصور التي تَفقِد دلالتها إذا شهدناها كنماذج مسطحة هي صور بالغة التأثير فينا؛ لأننا
نراها في الحقيقة على هيئة مستويات (مسطَّحات) مرتبطة فيما بينها، فإذا كان لتمثيل
المكان الثلاثي الأبعاد أن يُسمى تمثيلًا representation فإنني أوافق عندئذٍ على أن هناك صنفًا واحدًا من التمثيل غير
خارج عن الموضوع. إنني أوافق أيضًا على أننا يجب أن نأتي معنا، إلى جانب شعورنا بالخط
واللون، بمعرفتنا بالمكان إذا شئنا أن نظفر من كل صنف من الشكل بأَوفى نصيب، ورغم ذلك
فإن هناك تصميمات رفيعة لا يحتاج إدراكها بالضرورة إلى هذا الصنف من المعرفة. إذن رغم
أن المعرفة بالمكان غير خارجة عن الموضوع في بعض الأعمال الفنية، فإنها غير ضرورية
لإدراك جميع الأعمال، وما يتعيَّن أن نقوله هو أن تمثيل المكان ذي الأبعاد الثلاثة لا
هو خارج عن الموضوع ولا هو ضروري بالنسبة لكل فن، وأن كل صنفٍ عداه من التمثيل هو خارج
عن الموضوع.
ليس من المستغرب على الإطلاق أن هناك عنصرًا تمثيليًّا أو وصفيًّا خارجًا عن الموضوع
في الكثير من الأعمال الفنية العظيمة، وسوف أُحاول في موضع آخر أن أبيِّن لماذا هو غير
مستغرب. إن التمثيل ليس موبقًا بالضرورة، وليس هناك ما يمنع أن تكون بعض الأشكال
البالغة الواقعية هي أشكال بالغة الدلالة، إلا أنه في أغلب الأحوال يكون التمثيل علامة
ضعفٍ في الفنان؛ فمن دأب الفنان الذي لا يقوى على خلق أشكالٍ قادرة على إثارة انفعال
إستطيقي كبير أن يتحايل على ضآلة ما يُثيره باللجوء إلى انفعالات الحياة، وهو لكي يثير
انفعالات الحياة فلا بد له أن يستخدم التمثيل؛ مثال ذلك أن يشرع رسامٌ في تنفيذ مخططه،
ولأنه يخشى أن تحيد رميَتُه الأولى عن إصابة شكلٍ جمالي فسوف يُحاول الإصابة بالثانية
بأن يوقظ انفعالًا بالخوف أو الشفقة، ولكن إذا كان الميل إلى العزف على عواطف الحياة
لدى الفنان هو علامة على خبوِّ الإلهام في كثير من الأحوال، فإن ميل المشاهد إلى التماس
عواطف الحياة وراء الشكل هو علامة على قصور الحساسية في جميع الأحوال؛ فهو يعني أن
انفعالاته الإستطيقية ضعيفة أو غير تامة على كل حال؛ فإزاء العمل الفني يَشعُر الأشخاص
الذين لا ينفعلون بالشكل الخالص إلا قليلًا، أو لا ينفعلون على الإطلاق، بالحيرة
الشديدة؛ فهم أشبه بالصمِّ في حفلٍ موسيقيٍّ، إنهم يعرفون أنهم ينبغي أن يشعروا إزاء
هذا الشيء بانفعالٍ هائل، غير أن الصنف الخاص من الانفعال الذي يمكن أن يُثيره فيهم هو
شيء يُحسُّونه بالكاد أو لا يُحسُّونه على الإطلاق، وهكذا يقرءون في أشكال العمل تلك
الوقائع والأفكار التي يَملكون القدرة على أن يشعروا بها، وهي الانفعالات المألوفة في
الحياة، وعندما يُواجهون بإحدى اللوحات فهم يَردُّون أشكالها تلقائيًّا إلى العالم الذي
أتوا منه، فهم يُعاملون بالشكل المبتكَر كما لو كان شكلًا مقلَّدًا، ويُعاملون اللوحة
كما لو كانت صورة فوتوغرافية، وبدلًا من أن يترحَّلوا على تيار الفن إلى عالمٍ جديد من
الخبرة الإستطيقية، فهم يُولونه أظهُرَهم ويعودون أدراجهم إلى عالم الاهتمامات البشرية.
إنَّ دلالة العمل الفني بالنسبة لهم تتوقَّف على ما يَجلبونه له؛ ولذلك لا يُضيف الفن
شيئًا جديدًا إلى حياتهم، إن هي إلا المادة القديمة قد أُثيرت، إنَّ العمل الفني الجيد
ليَحمل الشخص القادر على تذوُّقه ويَخرج به من الحياة إلى الوجد، واستخدام الفن كوسيلةٍ
إلى انفعالات الحياة هو مثل استخدام تلسكوب لقراءة جريدة، وسوف تُلاحظون أن الأشخاص
الذين لا يقدرون على الشعور بانفعالات إستطيقية خالصة يتذكَّرون اللوحات بموضوعاتها،
أما القادرون فكثيرًا ما لا تكون لهم أي فكرة عما يكونه موضوع لوحةٍ ما؛ ذلك أنهم لم
يُعيروا العنصر التمثيلي انتباهًا قط؛ ومن ثم فحين يُناقشون اللوحات الفنية فهم
يتحدَّثون عن الهيئة التي تتَّخذها الأشكال، وعن علاقات الألوان وكمياتها، وكثيرًا ما
يكون بإمكانهم أن يَحكموا من خلال خطٍّ واحد ما إذا كان الفنان قديرًا أو غير قدير. إن
اهتمامهم بكامله منصبٌّ على الخطوط والألوان وعلاقاتها وكمياتها وكيفياتها، غير أنهم
من
خلال هذه الأشياء يَظفرون بانفعالٍ أكثر عمقًا وأكثر جلالًا بكثير من أي شيء يُمكن أن
يمنحه وصف الوقائع والأفكار.
قد يلمس البعض في هذه العبارة الأخيرة نبرةً شديدة الثقة … زائدة الثقة، وربما أمكنني
أن أُبرِّرها وأن أجعل مقصدي أكثر وضوحًا أيضًا إذا ما تناولت بالوصف مشاعري الشخصية
تجاه الموسيقى. إنني في الحقيقة لستُ مولعًا بالموسيقى، ولستُ أجيد فهم الموسيقى، وأجد
صعوبة بالغةً في إدراك الشكل الموسيقي، ومن المؤكَّد أن غوامض الهارموني والإيقاع
ودقائقهما تفوتني في معظم الأحوال، والحق أن شكل أي مؤلفٍ موسيقيٍّ لا بد أن يكون
بسيطًا كيما يتسنَّى لي أن أفهمه فهمًا صحيحًا. إن رأيي في الموسيقى لا يُعتد به، غير
أني في بعض الأحيان، إذ أجلس في حفلٍ موسيقي، يكون إدراكي للموسيقى على قلَّته وتواضعه
إدراكًا خالصًا؛ أي أنني في بعض الأحيان تكون لي رغم ضعف الفهم ذائقةً نقية؛ ومن ثم
فعندما أشعر أني متيقِّظ وصافٍ ومنتبه، في بداية الحفل على سبيل المثال؛ إذ يكون ما
يجري عزفه بمنالٍ فهمي، فإنني أستمد من الموسيقى ذلك الانفعال الإستطيقي الخالص الذي
أستمده من الفن البصري. إنَّ الانفعال أقل شدةً والنشوة أسرع زوالًا؛ لأن فهمي للموسيقى
أضعف من أن تحملني بعيدًا في عالم النشوة الإستطيقية المحضة، إلا أنني لا أعدم لحظاتٍ
أدرك فيها الموسيقى كشكلٍ خالص؛ كأصواتٍ متضامَّة وفقًا لقوانين ضروريةٍ خفية؛ كفنٍّ
بحتٍ له دلالته الهائلة الخاصة به ولا علاقة له من قريب أو بعيد بدلالة الحياة، وإنني
في تلك اللحظات لأتبدَّد في نفس الحالة النفسية اللامتناهية الجلال التي ينقلني إليها
الشكل البصري الخالص.
يا لرداءة حالتي الذهنية المُعتادة حين أكون في حفلٍ موسيقي، ضَجِرًا كنتُ أو محيرًا
فإنني أدع إحساسي بالشكل يُفلت مني، وأفشل في فهم التآلفات الهارمونية فأظل أنسج بها
أفكار الحياة، وأعجز عن الشعور بالانفعالات الصارمة للفن فأظلُّ أقرأ في الأشكال
الموسيقيَّة عواطف بشرية من رعبٍ وغموض وحب وكراهية، وأنفق اللحظات — مستمتعًا إلى حدٍّ
مُرضٍ — في عالمٍ من المشاعر الآسنة المتدنية، فلو أن نُتَفًا من أبشع ضروب التمثيل الأونوماتوبي
١٠ قد أُقحمت داخل السيمفونية في هذه اللحظات، لما تأذَّيت، بل الأرجح جدًّا
أنني سأبتهج لها وأُسر؛ فهي حرية أن تقدم لي منطلقاتٍ جديدةً لتيارات المشاعر
الرومانسية والتفكير البطولي. إنني أدري تمامًا ما الذي حدث، لقد كنتُ أتخذ الفن سبيلًا
إلى انفعالات الحياة وأقرأ فيه أفكار الحياة، لقد كنت أقطع جلاميد صخرٍ بموسى حلاقة،
لقد ترديت من الذرى العالية للنشوة الإستطيقية إلى السفوح الحميمة للحياة البشرية
الدافئة، إنها وطنٌ بهيج، ولا يَخلجن أحدٌ من إمتاع نفسه هناك، كل ما في الأمر أن من
عرف يومًا عز الأعالي فعسيرٌ عليه ألا يستشعر في الأودية الدافئة شيئًا من الهوان، ولا
يتصورنَّ أحدٌ، لمجرَّد أنه قد جعل يمرح حينًا في أرض الرومانسية الذلول الدافئة
وأركانها الطريفة، أن بإمكانه حتى أن يُحرز بما تُكوِّنه المواجيد الصارمة والمثيرة
لأولئك الذين ارتقوا القمم البيضاء الباردة للفن.
ومثلي يؤثر معظم الناس التواضع في تقدير ذائقتهم الموسيقيَّة، فإذا ما عجزوا عن أن
يفهموا الشكل الموسيقي ويستمدُّوا منه انفعالًا إستطيقيًّا محضًا، اعترفوا بأنهم لا
يفهمون الموسيقى فهمًا كاملًا أو لا يفهمونها على الإطلاق، وهم يتبيَّنون بوضوح تام أن
هناك فرقًا بين شعور الموسيقيِّ تجاه الموسيقى البحتة وشعور المُستمِع الممراح الذي
يرتاد الحفلات الموسيقيَّة تجاه ما توحي به الموسيقى. إن هذا الأخير ليستمتع بانفعالاته
الخاصة، كما يحقُّ له تمامًا، وهو على بيِّنةٍ من قصورها ودونيتها، ومن المؤسف أن الناس
تميل إلى أن تكون أقل تواضُعًا حين يتعلَّق الأمر بقدراتهم على تذوق الفن البصري؛ فالكل
يميل إلى الاعتقاد بأن بإمكانه أن يستخلص من اللوحات على أية حال كلَّ ما يمكن
استخلاصه، والكل على استعداد لأن يَصيح «دجال» أو «أفاك» في وجه من يقول بأن اللوحة
يمكن أن يكون لديها أكثر من ذلك. إن نوايا أصحاب الانفعالات الإستطيقية الخالصة ليُظن
بها الظنون من جانب الذين لم يَعرفوا في حياتهم أي شيء من ذلك، ولعلَّ تفشِّي عنصر
التمثيل هو ما يجعل رجل الشارع على كل هذه الثقة بأنه يعرف اللوحة الجيدة عندما
يُشاهدها، فلقد لاحظتُ أن الناس في مجال العمارة والخزف والنسيج … إلخ تُؤثر الاعتراف
في نفسها بالجهل والخرَق وتُذعِن لآراء أولئك الذين أنعم الله عليهم برهافةٍ حسية خاصة.
إنه لأمرٌ مؤسف أن يتعذَّر إقناع المثقفين والأذكياء من الرجال والنساء بأنَّ توافر
ملَكةٍ كبيرة للإدراك الإستطيقي في مجال الفن البصري هو أمرٌ مُماثل في ندرته على أقل
تقدير لنظيرتها في مجال الفن الموسيقي، ولقد أمكنني إذ قارنت بين خبرتي الخاصة في كلا
المجالين أن أميِّز بوضوحٍ شديد بين الإدراك النقي والإدراك المشوب، فهل كثيرٌ أن أناشد
الآخرين أن يكونوا صادقين تجاه إحساسهم باللوحات قدر صدقي تجاه إحساسي بالموسيقى؟ فأنا
على يقينٍ مِن أن معظم الذين يرتادون معارض الصور يجدون شعورًا جد قريب مما أجده في
حفلات الموسيقى. إنهم ليظفرون بلحظاتٍ من النشوة الخالصة، غير أنها لحظاتٌ قصيرة وغير
مضمونة، سرعان ما يَرتدون بعدها إلى عالم الاهتمامات البشرية ويحسُّون بانفعالات طيبة
ولا شك، ولكنها دون المستوى. وما عنيت قط أن ما يحظون به من الفن هو شيءٌ رديءٌ أو
تافه، وإنما أعني أنهم لا يأخذون من الفن أطيب ما يُمكن أن يعطيه، ولا قلت إنهم لا
يمكنهم أن يفهموا الفن، وإنما أقول إنهم لا يمكنهم أن يفهموا الحالة الذهنية التي يجدها
من يَفهمون الفن على أفضل وجه، ولا أقول إن الفن لا يَعني شيئًا بالنسبة لهم أو يعني
أقل القليل، بل أقول إن هؤلاء تفوتُهم الدلالة الكاملة للفن، ولا يخطر لي لحظةً أن
أُعرِّض بذائقتهم الفنية. إن غالبية الشخصيات الجذابة والذكية التي أعرفها يُدركون الفن
البصري إدراكًا غير نقي، وعلى ذكر ذلك أقول إن إدراك جميع كبار الكتاب تقريبًا كان
إدراكًا غير نقي، غير أنه لو تحقَّق وجود نسبة ضئيلة من الانفعال الإستطيقي الخالص؛
فإنني على ثقة من أنه حتى الإدراك الفني المشوب والضئيل هو واحد من أعلى الأشياء قيمةً
في الدنيا، إنه شيء ثمين حقًّا بحيث أجد نفسي في لحظات الوجد البالغ منجرفًا إلى
الاعتقاد بأن الفن قد يَثبت يومًا أن فيه خلاص العالم.
ولكن رغم أنَّ أصداء الفن وظلاله تُثري حياة السهول فإن روحه تسكن أعالي الجبال.
إنَّ
من يتودَّد إلى الفن ودًّا مشوبًا فحسب، فإن الفنَّ يردُّ له صنيعه مضاعَفًا؛ فالفن
كالشمس تُدفئ البذرة الصالحة في تربة صالحة وتُتيح لها أن تؤتي ثمارًا صالحة، ولكن وحده
العاشق الكامل من يذخر له الفن هديةً عجيبةً جديدة، هدية فوق كل ثمن. إنَّ أصحاب الود
الممذوق يَجلبون إلى الفن ويَغنمون منه أفكار عصرهم الخاص وعواطف حضارتهم، فلعلَّ
امرءًا في أوروبا القرن الثاني عشر قد تأثَّر غاية التأثر بكنيسة رومانسكية بينا لم يجد
شيئًا في إحدى لوحات أسرة تانج. ولعلَّ النحت الإغريقي كان يعني الكثير لامرئ من عصرٍ
لاحق في حين لا يُحرِّك النحت المكسيكي فيه ساكنًا؛ إذ كان بمقدوره أن يجلب للأول حشدًا
من الأفكار المتداعية لتكون موضوعات لانفعالات مألوفة، أما العاشق الكامل، ذلك الذي يملك
الشعور بالدلالة
العميقة للشكل، فإنه يبرأ فوق عوارض الزمان والمكان. إنَّ مشكلات الأركيولوجيا والتاريخ
وسِيَر القديسين هي بالنسبة إليه أمرٌ خارج عن الموضوع، فمتى كان شكل العمل دالًّا أصبح
مصدره غير ذي صلة، إنه محمولٌ أمام جلال تلك الصور السومرية في اللوفر على نفس التيار
الانفعالي وإلى نفس النشوة الإستطيقية التي كانت تملُّ العاشق الكلداني منذ أربعة آلاف
عامٍ خلت، إنَّ آية الفن العظيم أن جاذبيَّته عالَميةٌ خالدة؛
١١ فالشكل الدال يبقى مشحونًا بالقدرة على إثارة انفعال إستطيقي في أيما شخص
قادر على الشعور به. إن أفكار البشر لتموت عاجلًا كالجراجس
١٢ وتذهب أدراج الرياح، وإن البشر ليُبدلون مؤسساتهم ويُغيِّرون عاداتهم مثلما
يُغيرون ستراتهم، فما كان يعد نصرًا فكريًّا في عصرٍ يعدُّ حماقةً في عصرٍ آخر، وحده
الفن العظيم يبقى ثابتًا لا يذهب بهاؤه؛ لأنَّ المشاعر التي يوقظها مستقلةٌ عن الزمان
والمكان؛ ذلك أن مملكة الفن ليست من هذا العالم، فماذا يُهم بالنسبة لأولئك الذين
يملكون حسًّا بدلالة الشكل إن كانت الأشكال التي تحركهم قد أُبدعت في باريس أمس الأول
أم في بابل منذ خمسين قرنًا؟ إن أشكال الفن لا تنضب ولا تستنفد، بل تؤدي جميعًا عن
الطريق نفسه — طريق الانفعال الإستطيقي، إلى العالم نفسه — عالم الوجد
الإستطيقي.
(٢) الإستطيقا وما بعد
الانطباعية Aesthetic and Post-Impressionism
أستطيع الآن، في ضوء نظريتي الإستطيقية، أن أقرأ تاريخ الفن قراءةً أكثر وضوحًا من
ذي
قبلُ، وأستطيع أيضًا أن أتبيَّن مكان الحركة المعاصرة في هذا التاريخ؛ وحيث إني سوف
أُسهب فيما بعد في الحديث عن الحركة المعاصرة فربما يكون من الحكمة أن أغتنم هذه
اللحظة، والفرضية الإستطيقية حاضرةٌ بعد في ذهني، وفي أذهان قرائي كما آمل، لدراسة
الحركة في علاقتها بالفرضية، إنه لا يسع أيَّ واحد من جيلي أن يضع كتابًا عن الفن لا
يعرض فيه لتلك الحركة التي يُطلق عليها في هذا البلد «ما بعد الانطباعية» Post-Impressionism، وإلا كان فعله محضَ
تصنُّع، وحيث إني سوف أتناولها بإفاضةٍ كبيرة، فأودُّ ألا أُفوِّت هذه الفرصة السانحة
لكي أنظر في مدى انسجام هذه الحركة مع نظريتي في الإستطيقا، وستكون هذه النظرة مناسبةً
للإدلاء ببعض الأشياء عما تتَّسم به «ما بعد الانطباعية» وعما لا تتَّسم به، ومناسبة
لطرح بعض النقاط التي سآخذها في موضع آخر بتفصيلٍ أكبر، وسأجتزئ الآن بطرح هذه النقاط،
وباقتراح حلٍّ على أقل تقدير.
يُنتج البدائيون الفن لأنهم لا بد أن ينتجوه؛ فالبدائيون ليس لديهم دافعٌ آخر غير
رغبتهم المشبوبة في التعبير عن إحساسهم بالشكل، إنهم، عن زهدٍ في خلق الإيهام أو عن
عجز، يُكرِّسون أنفسهم كليًّا لخلق الشكل، إلا أن الأمور قد تغيرت في الوقت الحاضر،
وغدا الفنان مرتبطًا براعٍ ومرتبطًا بجمهور، الأمر الذي عجَّل بنشوء حاجة إلى «المشابهة
الأمينة الناطقة»، وفيما لا تزال الجماهير الغفيرة تصخب في طلب المشابهة، فقد بدأت أواق
الصفوة تتكلَّف الإعجاب بالبراعة والصناعة، وها هو المآل أمام أعيننا، إننا لنشاهد الفن
في أوروبا يسوخ رويدًا رويدًا من تصميم رافينا
Ravenna١٣ المثير إلى فن البورتريه المُضجر في هولندا، بينما الشطر الأكبر من النحت
الرومانسكي والنورماندي يتحول إلى تلاعُبٍ قوطي بالحجر والزجاج، وقبل أن تنقضي ظهيرة
النهضة كان الفن قد انطفأ تقريبًا، ولم تعد الساحة تزخر إلا بكل متكلفٍ من صانعي
الإيهام وأساتذة الحرفة، كانت تلك هي اللحظة المواتية لانبعاث «ما بعد
الانطباعية».
ولأسبابٍ عديدةٍ لم تكن ثمة ثورة؛ فقد بقي التقليد الفني في غيبوبة، فكان يظهر
عبقريٌّ هنا وهناك ويَصطرع من سلاسل التقليد ويخلق شكلًا دالًّا؛ من ذلك أن فن
نيقولاس بوسان Nicolas Poussin وكلود Claude وإلجريكو El Greco وشاردان Chardin
وأنجر Ingres ورينوار Renoir (وهي بضعة أسماء نذكرها على سبيل المثال) يُحرِّك مشاعرنا كما
يُحرِّكها فن جوتو Giotto وسيزان Cézanne، غير أن غالبية الذين نبهوا فيما بين ذروة النهضة والحركة
المعاصرة يمكن تقسيمهم إلى فصيلَين؛ أهل الصنعة، وأهل الغفلة، أما أهل الصنعة، فأولئك
الأساتذة الصغار الذين كان بوسعهم أن يكونوا فنانين لو لم يستغرق التصوير painting كل طاقاتهم، فكانوا طيلة هذه الفترة لا
يَفتئون ينسجون أحاجي تكنيكية ويجدُّون في حلِّها، وأما أهل الغفلة فقد ظلوا يُطورون
الصور الفوتوغرافية الملوَّنة ولا يزالون.
إن حقيقة أن الشكل الدال هو الخاصية المشتركة الوحيدة في الأعمال التي تُطربني، وأن
هذه الخاصية في الأعمال أكثر إطرابًا لي؛ أي في الفن البدائي،
١٤ هي الصفة الوحيدة الكائنة تقريبًا — هذه الحقيقة قد هدَتْني إلى فرضيتي قبل
أن تكون لي أي معرفة بأعمال سيزان وتابعيه؛ لقد فتنَني سيزان وخلب لبي قبل أن يتكشَّف
لي أن أقوى خصائصه هي إلحاحه على إعلاء منزلة الشكل الدال فوق كل منزلة، وعندما تفطنت
لذلك صار إعجابي بسيزان وبعض أتباعه مُدعِّمًا لي في نظرياتي الإستطيقية، ولم أجد
بطبيعة الحال ما يعوق إعجابي بهم؛ فقد وجدت فيهم الشيء الذي شغفت به في أيما عملٍ فني
أطربني وحرك مشاعري.
ليس ثمة من أسرار حول «ما بعد الانطباعية»؛ فاللوحة «بعد الانطباعية» الجيدة هي لوحة
جيدة لنفس الأسباب بالضبط التي تجعل أي لوحة أخرى جيدة؛ فالخاصية الجوهرية في الفن هي
خاصية دائمة؛ لذا لا تَنطوي حركة «ما بعد الانطباعية» على قطيعة عنيفة مع الماضي؛ فهي
لا تعدو أن تكون رفضًا متعمَّدًا لتقاليد معيَّنة تُعيق نمو الفن الحديث، صحيح أنها
تُنكِر أن على الفن أن يتلقى أوامر من الماضي، غير أن هذا ليس شعارًا لما بعد
الانطباعية. إنه السِّمة الأعم للحيوية. إن مجرد الحديث عن «ما بعد الانطباعية» بوصفها
حركةً من شأنه أن يؤدي إلى ضروب من سوء الفهم. بل إن عادة الحديث عن «حركات» على
الإطلاق هي عادةٌ مضلِّلة نوعًا ما. إن تيار الفن لم يجف تمامًا في يوم من الأيام؛ فهو
ما برح يتدفق خلال العصور، عريضًا تارةً ضيقًا طورًا، عميقًا مرةً ضحلًا مرةً أخرى،
سريعًا آنًا متثاقلًا آنًا آخر. إن لونه في تغيُّر دائم، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يضع
علامةً تحدِّد نقطة التغير بدقةٍ وحسم؟ ففي بدايات القرن التاسع عشر كان تيار الفن يجري
مُنخفضًا جدًّا، وفي أيام الانطباعيين، الذين تعدُّ الحركة الجديدة بمعنًى ما هي رد فعل
ضدهم، كان التيار قد أصبح غزيرًا لتوه. إن أيَّة محاولة لسد هذا النهر وحبسه، وتخير
مدرسة أو حركة معينة والقول «هنا يبدأ الفن وهناك ينتهي»، هي عبث ضار، وهكذا دأب
التقنين الأكاديمي؛ ففي هذه اللحظة ليس هناك بين الرسامين المجيدين الأحياء، باستثناء
حفنة لا تتجاوز نصف دستة، من لا يستمدُّ شيئًا من سيزان ويَنتمي بمعنًى ما لحركة «ما
بعد الانطباعية»، ولكن قد يظهر غدًا رسامٌ عظيم يخلق الشكل الدالُّ بطرائق معارضة
ظاهريًّا لطرائق سيزان، وأقول «ظاهريًّا» لأن كل الفن الجيد ينتمي «جوهريًّا» إلى نفس
الحركة، فليس هناك غير نوعَين من الفن: جيد ورديء، ومهما يكن من أمر فإن تقسيم المجرى
إلى مراحل تتمايَز بفروق في الطريقة هو شيء واضح القصد، وهو بالنسبة للمؤرِّخين على أية
حال، شيءٌ مفيد، وتتفاوَت المراحل أيضًا في الحجم، فتتميز حقبةٌ فنية عن حقبة أخرى
بخصوبتها؛ حيث النتاج الفني الجدير بالاعتبار في بضعة أعوام أو عقود سعيدة نتاجٌ عظيم،
ثم إذا به يتوقَّف فجأة أو يتضاءل رويدًا رويدًا مؤذنًا بأن حركةً ما قد استنفدت ذاتها،
هل تصادُف وجود عددٍ من الفنانين العظام في عصرٍ واحد هو الذي يَصنع حركةً فنية، أو
أنَّ تفشِّي روحٍ باطنةٍ معيَّنة للعصر هو الذي يساعد الفنانين على خلق الشكل الدال؟
وإلى أيِّ حدٍّ؟ ذاك سؤال لا يُمكن البتُّ فيه دون أدنى اعتراض، ولكنَّ الفضل يمكن أن
يقسم رغم كل شيء، وإنني لأظن أنه يجب أن يقسم بالتساوي، إنَّ لنا ما يُبرر، إذ نَنظُر
إلى تاريخ الفن ككل، أن نَعتبِر فترات الخصوبة الفنية كأجزاء محددة من ذلك الكل، إنَّني
إن أكن معجبًا بحركة «ما بعد الانطباعية» فبوصفها فترة خصب في الفن الجيد والفنانين
العظام بالدرجة الأساس، كما أنَّني أعتقد أيضًا أن المبادئ التي تتبطَّن تلك الحركة
وتُلهمها أجدر بحفز الفنانين على تقديم خير ما عندهم وإنشاء تقليدٍ جديد من أي مبادئ
يحملها لنا سجلُّ التاريخ الحديث. غير أن شغفي بهذه الحركة وإعجابي بكثير من الفن الذي
أنتجته ما كان ليُغشيَني عن عظمة الثمار التي أنتجتها الحركات الأخرى، وإنني لآمُل ألا
تغشيني عن عظمة أي خلق جديد للشكل مهما بدت جِدته مشتملةً على ردِّ فعلٍ ضد طريقة
سيزان.
إن «ما بعد الانطباعية»، شأنها شأن جميع الثورات الصحيحة، ليست أكثر من عودةٍ وإنابةٍ
إلى المبادئ الأولى؛ ففي عالمٍ يتوسم في الرسام أن يكون إما مصوِّرًا فوتوغرافيًّا وإما
بهلوانًا، ينبري الفنان «بعد الانطباعي» قائلًا بأنه فوق كل شيء يجب أن يكون فنانًا،
«لا يكن همك التمثيل أو التتميم، النقل أو الصقل، فكِّر في خلق الشكل الدال، فكر في
الفن.» هكذا يقول، إن خلق عملٍ فني هو مهمةٌ جسيمةٌ بحيث لا تَترك مُنصرفًا لتصدي شبهٍ
أو عرض براعة، وكل تَقدمةٍ على مذبح التمثيل هي شيءٌ مسلوبٌ من الفن. إن «ما بعد
الانطباعية» ليست بحالٍ ذلك الصنف المتعجرف من الثورة كما يَفترض السوقة، بل هي في
حقيقة الأمر عودةٌ ومتابٌ؛ عودةٌ لا إلى أي تقليد معيَّن في الرسم بل إلى التقليد
العظيم للفن البصري. إنها تضع نصب عين كل فنان ذلك المثل الأعلى الذي كان يضعه
البدائيون نصب أعينهم؛ وهو مثلٌ لم يعد يتعلَّق به منذ القرن الثاني عشر سوى عدد
استثنائي من أهل العبقرية> ليست «ما بعد الانطباعية» سوى إعادة توكيد للوصية الأولى من
وصايا الفن: «اخلق الشكل» Thou shalt create form، وهي
بهذا التوكيد إنما تصافح — عبر العصور — البدائيين البيزنطيين وكل حركةٍ حية جاهدت
للبقاء منذ بداية الفن.
ليست «ما بعد الانطباعية» مسألة تكنيك، صحيحٌ أن سيزان قد ابتكر تقنيةً، مناسبة لغرضه
بشكلٍ باهر، وقد تبناها وطورها بشكل أو بآخر معظم أتباعه، إلا أنه ليس ما يهم في لوحةٍ
من اللوحات هو كيف رُسمَت وإنما المهم هو ما إذا كانت تثير الانفعال الإستطيقي. وكما
قلت آنفًا، إن اللوحة «بعد الانطباعية» الجيدة تماثل في جوهرها أي عمل فني آخر من أعمال
الفن، ولا تختلف عن بعضها، ظاهريًّا، إلا بالرفض الواعي والمقصود لتلك الطفيليات
التقنية والعاطفية المبتذلة التي فرضها على فن التصوير تقليدٌ سيئ، إن هذا يصبح واضحًا
للمرء عندما يزور معرضًا من قبيل Salon d’Automne أو
Les Indépendants حيث مئات اللوحات المرسومة على
طريقة «ما بعد الانطباعية» كثيرٌ منها غايةٌ في التفاهة، ويدرك المرء أن هذه اللوحات
هي
رديئة بنفس الطريقة التي تكون بها أي لوحة أخرى رديئة؛ أي أن أشكالها غير دالة ولا تثير
أي استجابة إستطيقية. وفي الحق إنها ضرورة تعسة تلك التي ألجأتنا إلى الحديث عن «لوحات
بعد انطباعية»، وأرى أن الوقت قد آذنَ لكي نعود إلى المصطلح الأقدم والأوفى بالقصد،
ونتحدَّث عن لوحات جيدة ولوحات رديئة، كل ما يجب ألا ننساه هو أن الحركة التي يعد سيزان
مظهرها المبكر والتي خلَّفت لنا محصولًا مدهشًا من الفن الجيد، تدين بشيء ما، ولكن ليس
بكل شيء، للمذاهب المحرَّرة والثورية لما بعد الانطباعية.
ولعل أسخف ما يقال عن لوحات «ما بعد الانطباعية» هو ما يقوله أولئك الذين يَعتبرون
«ما بعد الانطباعية» حركةً منفصلة، بينما الحقيقة أنها تحتلُّ مكانها كجزء من منحدر من
تلك المنحدرات الهائلة التي يُمكن أن نقسم إليها تاريخ الفن والتاريخ الروحي للجنس
البشري، إنني في لحظات حماستي يُغريني الأمل بأن تكون «ما بعد الانطباعية» هي المرحلة
الأولى في منحدرٍ جديد تقف فيه هذه الحركة بالنسبة إليه نفس الموقف الذي يقفه الفن
البيزنطي في القرن السادس بالنسبة إلى المنحدر القديم. إنَّ لنا في تلك الحالة أن نضاهي
«ما بعد الانطباعية» بتلك الرُّوح الحيوية التي جعلت، تجاه نهاية القرن الخامس، تخفق
بالحياة وسط أطلال الواقعية الإغريقية — الرومانية. إن لما بعد الانطباعية، أو
لنُسمِّها الحركة المعاصرة، مستقبلًا، ولكن عندما يكون ذلك المستقبل حاضرًا فلن يعود
سيزان Cézanne وماتيس Matisse يُلقبان «بعد انطباعيين»، بل سيُسمَّيان بالتأكيد فنانين
عظيمَين، تمامًا كما كان يُسمى جوتو Giotto
وماساتشو Massaccio فنانَين عظيمَين، سيسمى سيزان
وماتيس زعيمَي حركة، ولكن هل يُقدَّر لتلك الحركة أن تكون أكثر من حركة؟ هل يُقدَّر لها
أن تكون شيئًا في سعة المنحدر الواقع بين سيزان وأساتذة سان فيتالي S. Vitale؟ تلك مسألةٌ أقل يقينًا بكثير مما يهم المتحمسين أن
يفترضوا.
تُتَّهم «ما بعد الانطباعية» بأنها عقيدةٌ سلبية وتحطيمية، وليس في الفن عقيدة صحية
يمكن أن تكون أي شيءٍ آخر، إنك لا يمكن أن تهبُّ الناس العبقرية، كل ما يمكنك أن تهبهم
هو الحرية — التحرُّر من الخرافة، وليس بإمكان «ما بعد الانطباعية» أن تصنع فنانين
عظامًا أكثر مما يمكن للقوانين الصالحة أن تصنع بشرًا صالحين. ومما لا شك فيه أنه مع
تزايد شعبيتها فإن حشودًا مُتزايدة سنويًّا من المغفَّلين سوف يستخدمون ما يسمى
«التكنيك بعد الانطباعي» لكي يَعرضوا نماذج بلا دلالة ويُردِّدوا حكايات حمقاء. إن
لوحاتهم سوف تلقب «بعد انطباعية»، ولكن ليس بغير ظلم عظيم سوف تمنع من دخول برلنجتون
هاوس. ليست «ما بعد الانطباعية» علاجًا نوعيًّا للحماقة والعجز البشريَّين، فكل ما يمكن
أن تقدمه إلى الرسامين هو أن تطرح أمامهم دعاوي الفن، يُمكنها أن تقول للعبقري وللتلميذ
الموهوب: «لا تهدر وقتك وطاقتك في أشياء لا تهمُّ، ركِّز على ما يهم؛ ركِّز على خلق
الشكلِ الدالِّ.» بذلك فقط يمكن لأيٍّ منهما أن يُؤتي خير ما فيه، لقد كان كلاهما في
السابق مضطرًّا إلى أن يعقد تسوية بين الفن وبين ما عُلم الجمهور أن يترقبه؛ ولذلك فإن
عمل الأول (أي العبقري) قد تشوَّه بفُحش، أما عمل الثاني (أي التلميذ الموهوب) فقد
دُمِّر. لقد أوعز التقليد إلى الرسام أن يكون مصوِّرًا فوتوغرافيًّا وبهلوانًا
وأركيولوجيًّا (عالم آثار) وأديبًا، بينما تدعوه «ما بعد الانطباعية» إلى أن يكون
فنانًا.
(٣) الفرضية
الميتافيزيقية The Metaphysical Hypothesis
أما وقد تحدَّثتُ بما فيه الكفاية، في حدود غرضنا الحالي، عن المشكلة الإستطيقية وعن
«ما بعد الانطباعية»، فأودُّ الآن أن أتناول هذا السؤال الميتافيزيقي: لماذا تهزُّنا
ترتيباتٌ وتجمعاتٌ معيَّنةٌ للشكل وتحرك مشاعرنا بهذه الطريقة الغريبة؟ إنه ليكفي
بالنسبة لمجال الإستطيقا إنها تحرِّك مشاعرنا فعلًا، وإنَّ بالإمكان الرد على كل
استجواب زائد من جانب المملين والحمقى بأنه كيفما تكن غرابة هذه الأشياء فما هي بأغرب
من أي شيء آخر يزخر به هذا العالم المفرط في العجب والغرابة. أما أولئك الذين يَلوح لهم
أن نظريتي تفتح أفقًا من الممكنات فإنني أقدم إليهم تخيُّلاتي عن طيب خاطر، بقدر ما
يطيقون.
يبدو لي ممكنًا، وإن لم يبلغ اليقين بحال، أن الشكل المُبدع يهزنا بهذا العمق لأنه
يعبر عن انفعال مبدعه، لعلَّ خطوط العمل الفني وألوانه تُوصِّل لنا شيئًا ما قد أحسه
الفنان، فإذا صح هذا فإنه سيُفسِّر لنا تلك الواقعة العجيبة والتي لا يمكن إنكارها في
الوقت نفسه، والتي أشرتُ إليها آنفًا؛ وهي أن ما أُسميه الجمال المادي (جناح فراشة
مثلًا) لا يُحرِّك مشاعرنا بطريقة تشبه طريقة العمل الفني من قريب أو بعيد. إنها شكلٌ
جميل، ولكنها ليست شكلًا دالًّا، إنها تحركنا، ولكنها لا تُحرِّكنا إستطيقيًّا، ومن
المُغري أن نفسر الفرق بين «الشكل
الدال» significant form و«الجمال» beauty — أي الفرق
بين الشكل الذي يثير انفعالات إستطيقية والشكل الذي لا يُثيرها — بأن نقول إن «الشكل
الدال» يُوصِّل إلينا انفعالًا أحسه مُبدعَه وإن «الجمال» لا يوصل شيئًا.
تجاه أي شيء إذن يشعر الفنان بذلك الانفعال الذي يُفترض أنه يُعبر عنه؟ من المؤكد
أن
الانفعال يأتي إليه أحيانًا من خلال الجمال المادي؛ فتأمُّل الأشياء الطَّبيعيَّة
كثيرًا ما يكون هو السبب المباشر لانفعال الفنان، فهل علينا إذن أن نفترض أن الفنان
يشعر (أو يشعر أحيانًا) تجاه الجمال المادي ما نَشعر به نحن تجاه عملٍ فني؟ هل يُحتمل
أن يكون وجه الأمر هو أن الجمال المادي بالنسبة للفنان يكون في بعض الأحيان «دالًّا»
بطريقةٍ ما؛ أي قادرًا على إثارة انفعال إستطيقي؟ وإذا كان الشكل الباعث على الانفعال
الإستطيقي هو الشكل الذي يُعبِّر عن شيء ما، فهل من المحتمل أن يكون الجمال المادي
بالنسبة له معبِّرًا؟ هل يشعر وراءه بشيءٍ ما مثلما نتخيَّل أننا نشعر بشيء ما وراء
أشكال عملٍ فني؟ هل لنا أن نفترض أن الانفعال الذي يعبر عنه الفنان هو انفعال إستطيقي
تجاه شيء تفوتنا نحن دلالته في عامة الأحوال وتدقُّ على حساسيتنا البليدة الكليلة؟ كل
هذه أسئلة أُفضل أن أتأملها على أن أجزم فيها بشيء.
لنستمع إلى ما تعين على الفنانين أن يقولوه من جانبهم. إننا لنُصدقهم من فورنا عندما
يُخبروننا أنهم في الحقيقة لا يُبدعون الأعمال الفنية لكي يُثيروا انفعالاتنا
الإستطيقية بل لأن هذا هو السبيل الوحيد الذي يمكنهم به أن يجسِّدوا صنفًا معينًا من
الشعور، ما هو هذا الشعور على وجه التحديد؟ ذلك ما يَجدون الجواب عنه صعبًا، ثمة وصفٌ
لهذه المسألة قاله لي واحدٌ من أعظم الفنانين؛ هو أن ما يُحاول أن يعبر عنه في لوحة
فنية هو «فهمٌ انفعاليٌّ للشكل»، وقد صمَّمتُ على أن أكتشف ما يَعنيه «الفهم الانفعالي
للشكل»، وبعد حديث كثير وإصغاء أكثر خلصتُ إلى النتيجة التالية: في بعض الأحيان عندما
ينظر فنانٌ، فنانٌ حقيقي، إلى الأشياء (محتويات غرفة مثلًا) فهو يُدركها كأشكالٍ خالصة
ذات علاقات معينة بعضها ببعض، ويشعر بانفعال نحوها بما هي كذلك، هذه هي لحظات إلهامه،
ثم تأتي بعدها الرغبة في التعبير عما تم الشعور به. إن العاطفة التي أحسَّ بها الفنان
في لحظة الإلهام لم تكن تجاه الأشياء بوصفها وسائل، بل تجاه الأشياء أشكالًا خالصة —
أي
غايات في ذاتها. إنه لم يشعر بانفعال نحو أحد الكراسي كوسيلة للراحة الجسدية، ولا كشيء
مرتبط بالحياة الأسرية الحميمة، ولا كمكان جلس فيه يومًا شخصٌ ما وقال أشياء لا تُنسى،
ولا حتى كشيء مرتبط بحياة مئات من الرجال والنساء، الأموات والأحياء، بمائة سببٍ خفي،
لا شك أن الفنان كثيرًا ما يشعر بانفعالات من هذا القبيل نحو الأشياء التي يراها، ولكنه
في لحظة الرؤية الإستطيقية لا يرى الأشياء كوسائل ملفَّعةٍ بالارتباطات، بل كأشكالٍ
خالصة. إن انفعاله الملهم إنما يحسُّه تجاه الشكل الخالص، أو خلاله على أية حال.
إذن، أن نرى الأشياء كأشكالٍ خالصة هو أن نراها كغاياتٍ في ذاتها، فرغم أن الأشكال
بالطبع مرتبطة بعضها ببعض كأجزاءٍ في كلٍّ؛ فهي مرتبطة على قدم المساواة، إنها ليست
وسيلة لأي شيء عدا الانفعال، ولكن ألا نشعر نحو الأشياء التي نراها كغايات في ذاتها
بانفعالٍ أعمق وأكثر إثارةً من أي انفعال سبق لها نحوها كوسائل؟ في تصوُّري أننا جميعًا
نحظى فعلًا من وقتٍ آخر برؤيةٍ للأشياء كأشكالٍ خالصة؛ إننا نرى الأشياء كغاياتٍ في
ذاتها؛ أي إننا ننظر إليها — وهو ما يبدو في تلك اللحظات ممكنًا بل مرجِّحًا — بعين
فنان. مَن منا لم يظفر، مرةً في حياته على أقل تقدير، برؤيةٍ مفاجئة لمنظرٍ طبيعي كشكلٍ
خالص؟ إنه لم ينظره في هذه المرة الفريدة كحقولٍ وأكواخ، بل أحسَّ به بالأحرى كخطوطٍ
وألوان، ألم يظفر من الجمال المادي في تلك اللحظة بهزةٍ لا تُفرِّق عن تلك التي يمنحها
الفن؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يَّتضح أنه قد ظفر من الجمال المادي بهزة لا يقدر على
منحها بصفة عامة سوى الفن؛ لأنه قد اتخذ سبيلًا إلى رؤيتها كتضامٍّ شكلي خالص للخطوط
والألوان؟ ألا نمضي قدمًا ونقول إنه إذ رآها كشكلٍ خالص، وبرأها من كل ضروب الاهتمام
السببي والعارض ومن كل ما يمكن أن تكون قد اكتسبته من صلاتها ببني البشر، ومن كل دلالة
لها كوسيلة؛ فقد أحس دلالتها كغايةٍ في ذاتها؟
ما هي دلالة أي شيء بوصفه غايةً في ذاته؟ ما الذي يتبقَّى عندما نجرد شيئًا ما من
جميع ارتباطاته؟ ماذا عساه أن يتبقى لكي يُثير انفعالنا؟ ماذا غير ذلك الذي درج
الفلاسفة على تسميتِه «الشيء في
ذاته» the thing in itself ويسمونه الآن «الواقع النهائي» ultimate
reality؟ هل
أكون خياليًّا تمامًا إذا اقترحتُ ما اعتقَدَه نفرٌ من أعمق المفكرين من أن دلالة الشيء
في ذاته هي دلالة «الواقع» Reality؟ هل من المحتمل أن
يكون جواب سؤالي «لماذا نطرب كل هذا الطرب لتجمُّعات معينة من الخطوط والألوان» هو «لأن
بقدرة الفنانين أن يُعبِّروا بتجمُّعات الخطوط والألوان عن انفعالٍ نحو الواقع يكشف عن
نفسه من خلال الخط واللون»؟
إذا حظيَ هذا الاقتراح بالقبول فقد يترتَّب عليه أن «الشكل الدال» هو الشكل الذي نظفر
من ورائه بحسٍّ بالواقع النهائي، وقد يكون لدينا مبررٌ لافتراض أن الانفعالات التي
يحسُّها الفنانون في لحظات إلهامهم، والانفعالات التي يُحسُّها الآخرون في اللحظات
النادرة التي ينظرون فيها الأشياء نظرةً فنية، والانفعالات التي يحسُّها كثير منا عندما
يتأملون الأعمال الفنية، هي جميعًا من نفس الصنف؛ فقد تكون جميعًا انفعالات نحو واقع
يكشف عن نفسه من خلال الشكل الخالص، من المتيقَّن أن هذا الانفعال لا يمكن التعبير عنه
إلا في شكل خالص، ومن المتيقن أن معظمنا لا يُمكن أن يبلغ إليه إلا من خلال شكلٍ خالص،
ولكل هل الشكل الخالص هو الطريق الوحيد الذي يمكن لأي شخص من خلاله أن يصل إلى هذا
الانفعال السري؟ ذاك سؤال مربك ومرير للغاية؛ لأني ظننتُ عند هذه النقطة أني أبصرتُ
طريقي إلى إلغاء كلمة «واقع»، والقول بأنها جميعًا انفعالاتٌ محسة نحو شكلٍ خالص قد
يكون وراءه شيءٌ ما وقد لا يكون، إنه ليُرضيني كل الرضا أن أقول بأن السبب الذي يجعل
بعض الأشكال تُحركنا إستطيقيًّا وبعضها لا، هو أن بعضها قد تمَّت تنقيته بما يكفي؛ لأن
نشعر به إستطيقيًّا، وأن البعض الآخر مُتخثِّر بالمادة غير الإستطيقية (كالارتباطات)
بحيث يحتاج إلى حساسية فنانٍ لكي يُدرك دلالته الشكلية الخالصة. لقد كان يُرضيني كل
الرضا أن أعتقد بأن كل شخص لا بد أن يبلغ إلى الواقع عن طريق الشكل مثلما أن كل شخص لا
بد أن يُعبِّر عن حسِّه بالواقع في شكل، ولكن هل هذا صحيح؟ فأي صنف من الشكل ذاك الذي
يستقي منه الموسيقيُّ الانفعال الذي يُعبِّر عنه في تآلفاتٍ هارمونية مجرَّدة؟ ومن أين
تأتي انفعالات المعماري والخزاف؟ إنني أعرف أن انفعالاتي الإستطيقية لا يمكن أن تنشط
من
عقالها إلا بواسطة شكل، ولكن هل يُمكنني أن أجزم بأن انفعال الفنان لا يثيره دائمًا إلا
شكل؟ عودٌ إلى الواقع مرةً أخرى.
إنَّ الذين يميلون إلى الاعتقاد بأن انفعال الفنان هو شعور نحو الواقع سوف يُسلمون
عن
طيب خاطر بأن الفنانين البصريِّين الذين لا يَعنينا سواهم — يبلغون الواقع بصفة عامة
من
خلال الشكل المادي، ولكن ألا يبلغونه أحيانًا من خلال شكلٍ متخيل؟ ألا ينبغي علينا أن
نضيف أننا نجهل أحيانًا من أين يأتي حسُّ الواقع؟ لعل أبلغ وصفٍ أعرفه لهذه الحالة من
الطرب بحسٍّ باطني بالواقع هو الوصف الذي قدمه دانتي Dante في أبياته التالية:
أيها الخيال، يا من تنتشلنا بعض حينٍ من
العالم الذي حولنا، حتى إننا لا نعود نسمع له ركزًا
وإن تكن ألفٌ من الطبل تقرع حولنا
•••
مَن ذا الذي يُحرِّكك، إن لم يكن الإحساس هو ما يحدوك؟
يُحرِّكك ضياءٌ يتَّخذ في الأعالي شكلًا
بذاته أو بإرادةٍ تتنزل به
•••
هنالك انسحبَ عقلي داخل ذاته
بحيث لم يعد يطرقه طارقٌ
يمكن أن يتلقاه ويدركه.
يقينًا أننا في تلك اللحظات العالية التي يُتيحها الفن، مؤهلون
للاعتقاد بأننا كنا في حوزة انفعالٍ آتٍ من عالم الواقع، وسيتعيَّن على الذين يرون هذا
الرأي أن يقولوا بأن جميع الأشياء تَمتلك الخامة الأولية التي يُصنَع منها الفن — أي
الواقع، حتى الفنانون لا يُمكنهم أن يَقبضوا على الواقع إلا عندما يردُّون الأشياء إلى
أنقى حالات وجودها — إلى الشكل الخاص، ما لم يكونوا من أولئك الذين يَبلغونه على نحوٍ
سريٍّ دون عون من عناصر خارجية، وفي جميع الأحوال لا يُمكن التعبير عن حسِّ الواقع إلا
في شكل خالص، وربما يتبيَّن، وفقًا لهذه الفرضية. إن الخاصة التي تميِّز الفنان عن بقية
الخلق هي أنه يَمتلك القدرة على القبض على الواقع على نحوٍ مَضمونٍ ومتكرِّر (ومن خلال
شكل خالص في عامة الأحوال)، ويمتلك القدرة على التعبير عن حسِّه بالواقع، في شكلٍ خالصٍ
دائمًا، غير أن الكثير من الناس، رغم شعورهم بالدلالة الهائلة للشكل، يشعرون أيضًا
بكراهةٍ حذرة تجاه الكلمات الكبيرة، و«الواقع» كلمةٌ جد كبيرة. يفضل هؤلاء أن يقولوا
إن
ما يكشف عنه الفنان وراء الشكل، أو يقبض عليه بقوة الخيال المحضة، هو الإيقاع الذي يغمر
كل الأشياء ويبثُّ فيها الحياة، وقد سبق أن قلتُ إنني لن أعترض مطلقًا على هذه الكلمة
الموفقة «الإيقاع» rhythm.
إنَّ الموضوع النهائي لانفعال الفنان سوف يبقى إلى الأبد غير مؤكَّد، ولكني أعتقد
أننا، ما لم نَفترض أن جميع الفنانين كاذبون، يجب أن نفترض أنهم يَشعرون فعلًا بانفعالٍ
ما، وهو انفعالٌ بمقدورهم أن يُعبِّروا عنه في شكل، وفي شكلٍ فقط، ولنلحظ جيدًا هذه
النقطة الإضافية: يُحاول الفنانون أن يُعبِّروا عن انفعال، لا أن يُدلوا بتقارير عن
الموضوع النهائي أو المباشر لهذا الانفعال، وبالطبع إذا كان انفعال الفنان آتيًا إليه
من (أو من خلال) إدراكٍ للأشكال وعلاقات الأشكال، فسيكون حريًّا أن يُعبِّر عنه في
أشكالٍ مستقاة من تلك التي أتت منها، غير أنه لن يتقيَّد برؤيته بل بانفعاله وحده، ليس
ما رآه هو الذي سيحكم تصميمه بالضرورة بل ما أحسُّه، هل الصلة بين أشكال العمل المبدع
وأشكال العالم المنظور هي صلة واضحة أم صلة مُبهَمة، موجودة أم غير موجودة؟ تلك مسألة
غير ذات بال على الإطلاق، فما ارتاب أحدٌ قطُّ في أن إناءً خزفيًّا من عهد أسرة سنج أو
كنيسة رومانسكية كانت تعبيرًا عن انفعال، شأنها تمامًا شأن أي لوحة رسمها راسمٌ في أي
يوم، فماذا كان موضوع انفعال الخزاف؟ وماذا كان موضوع انفعال مُشيِّد الكنيسة؟ أكان
شكلًا متخيَّلًا ما، هو مركَّب من مائة رؤية مختلفة لأشياء طبيعية، أم كان تصورًا ما
للواقع لا صلة له بالخبرة الحسية وبعيدًا تمامًا عن العالم الفيزيائي؟ هذه أسئلة وراء
كل تخمين، وعلى أيَّة حال فالشكل الذي يُعبِّر فيه الفنان عن انفعاله لا يَحمل أي تذكرة
بأي شكل خارجي يُحتمل أن يكون قد أثاره؛ فالتعبير لا يتقيَّد على أي نحو بأشكال الحياة
أو انفعالاتها أو أفكارها، وليس بالإمكان أن نعرف على وجه الدقة ما الذي أحسَّه الفنان،
إنما نعرف فقط ماذا أبدع، وإذا كان الواقع هو هدف انفعاله فإن الطرق إلى الواقع طرقٌ
عديدة؛ فبعض الفنانين يَبلغون الواقع من خلال مظهر الأشياء، وبعضهم يبلغونه بمجموعة من
المظاهر، وبعضهم يبلغونه بقوة التخيل المحضة.
لماذا تُطربنا كل هذا الطرب ضروبٌ معينة من تضامِّ الأشكال؟ لا أودُّ أن أردَّ على
هذا السؤال ردًّا إيجابيًّا، ولستُ مضطرًّا إلى ذلك؛ لأن هذا السؤال ليس سؤالًا
إستطيقيًّا، على أنني أقترح بالفعل أن سبب طربنا هو أن هذه التضافرات الشكلية تُعبِّر
عن انفعالٍ معين قد أحسَّه الفنان، رغم أني أتردَّد في البتِّ بأي شيء عن طبيعة ذلك
الانفعال أو موضوعه، فإذا ما حظيَ اقتراحي بالقبول فإنه سوف يزوِّد النقد بسلاحٍ جديد،
وهو سلاح جدير بأن نتأمل لحظةً في طبيعته. إن الناقد إذ يتخطى انفعال الفنان وموضوع
انفعاله، فإنه سيكون قادرًا على كشف النقاب عن الشيء الذي يُضفي على الشكل دلالته،
وسيكون قادرًا على أن يفسر لماذا تكون بعض الأشكال دالَّة وبعضها غير دال، وهو بذلك
سيتمكَّن من دفع جميع أحكامه خطوةً إلى الخلف. ولأضرب مثالًا لتوضيح ذلك: تنقسم اللوحات
المنسوخة إلى فئتَين؛ فئة تتضمن بعض الأعمال الفنية، والأخرى لا تتضمَّن ذلك؛ فالنسخة
الحرفية قلما تُعدُّ عملًا فنيًّا حتى في رأي صاحبها، إنها لا تُخلف فينا شعورًا، إن
أشكالها غير دالة، إلا أنها إذا كانت نسخةً مطلقة الدقة فمن الواضح أنها ستكون محرِّكة
للمشاعر قدر النسخة الأصلية، وكثيرًا ما تكون النسخة الفوتوغرافية لإحدى اللوحات مساوية
في تأثيرها تقريبًا للنسخة الأصلية، ومن البديهي أن تقليد عمل فني بدقة هو أمر محال؛
فالفروق بين النسخة والأصل مهما تكن طفيفة هي فروق ماثلة يحسُّ بها على الفور. حتى هذا
الحد يقف الناقد على أرضية صلبة، وحتى هذه اللحظة يقف على أرضية مألوفة أيضًا. إن
النسخة لا تثيره لأن أشكالها ليست مطابقة لتلك التي بالأصل، وإن ما يجعل الأصل مثيرًا
هو بالضبط ما يذهب به النسخ، ولكن لماذا يتعذَّر رسم نسخة مطلقة الدقة؟ يبدو أن تفسير
ذلك هو أن الخطوط الحقيقية والألوان والفراغات في عملٍ فني تتسبَّب عن شيء ما في عقل
الفنان، وهو شيء غير موجود في عقل المقلد. إن اليد لا تطيع العقل فحسب، بل إنها لعاجزةٌ
عن مد الخطوط والألوان بطريقة معيَّنة ما لم تخضع لتوجيه حالةٍ ذهنية معينة،
١٥ إنَّ الموضوعين المرئيين، الأصل والنسخة، يختلفان؛ لأن ذلك الشيء الذي أدار
دفة العمل الفني لا يُشرف على تصنيع النسخة، وإنني لأقترح أن ما يُدير دفة العمل الفني
هو ذلك الانفعال الذي يُمكن الفنانين من خلق الشكل الدال. إن النسخة الجيدة، تلك التي
تُحرِّك مشاعرنا، هي دائمًا من عمل شخصٍ استحوذ عليه هذا الانفعال الخفي؛ فالنسخ الجيدة
ليست على الإطلاق محاولات للتقليد الدقيق؛ فنحن عند الفحص نجد دائمًا فروقًا ضخمة بين
النسخ والأصول، النسخ الجيدة هي عمل رجالٍ أو نساء لا ينسخون بل بمكنتهم أن يُترجموا
فن
الآخرين إلى لغتهم الخاصة. إن القدرة على خلق شكلٍ دالٍّ لا تعتمد على بصرٍ حاد كبصر
الصقر بل على قدرة خاصة ذهنية وانفعالية، حتى في عملية نسخ لوحة، لا يتوجب على المرء
أن
ينظر كملاحظٍ مدرب، بل أن يشعر كفنان، ويبدو أنه يتحتم على المبدع لكي يُلقي شعورًا في
رُوع المشاهد … أن يَشعُر هو أيضًا، ما هو هذا الشيء الذي تفتقر إليه الأشكال المقلدة
وتتحلى به الأشكال المبدعة؟ ما هو هذا الشيء الخفي الذي يحكم الفنان في عملية خلق
الأشكال؟ ما ذلك الذي يَكمُن من وراء الأشكال ويبدو أنه يَنتقِل إلينا من خلالها؟ ما
الشيء الذي يميِّز المبدع عن الناسخ؟ وما عساه أن يكون غير انفعال؟ أليس ما يجعل أشكال
الفنان أشكالًا دالة هو أنها تُعبِّر عن صنفٍ معيَّن من الانفعال؟ وما يجعلها مترابطة
هو أنها تنطبق على الانفعال وتُطوِّقه؟ وما يجعلها ترقى بنا إلى معارج الوجد هو أنها
توصل الانفعال وتبثُّه؟
ثمة كلمة تحذيرٍ لا بد منها: يجب ألا يتخيَّل أحدٌ أن التعبير عن انفعال هو العلامة
الخارجية والمرئية للعمل الفني؛ فالسمة المميزة للعمل الفني هي قدرته على إثارة انفعال
إستطيقي، ومن المحتمل أن يكون التعبير عن انفعال هو ما يمنح العمل تلك القدرة. إنه لمن
العبث أن تذهب إلى معرض صورٍ بحثًا عن التعبير، بل ينبغي أن يكون ذهابك بحثًا عن شكلٍ
دالٍّ، وحالَما أطربك شكلٌ فإن لك عندئذٍ أن تُشرع في النظر فيما جعلك تَطرب، فإذا
صحَّت نظريتي فإن صواب الشكل هو بلا استثناء نتيجة مترتِّبة على صواب الانفعال. إنني
أدَّعي أن الشكل الصائب يحكمه ويُنظِّمه نوع معين من الانفعال، ولكن سواء صحَّت نظريتي
أم أخطأت فإن الشكل يظل صائبًا، فمتى جاءت الأشكال مرضيةً فلا بد أن الحالة الذهنية
التي اقتضتها كانت حالةً صائبةً إستطيقيًّا، أما إن جاءت الأشكال خاطئة فلن يترتب على
ذلك أن الحالة الذهنية كانت خاطئةً بالضرورة، فبين لحظة الإلهام ولحظة انتهاء العمل
الفني ثمة متسعٌ لزلاتٍ عديدة. إن الانفعال الواهن أو القاصر هو على أكثر تقدير مجرَّد
تفسير واحد للشكل الفاشل؛ ولذا فعندما يصادف الناقد شكلًا مرضيًا فعليه ألا يكرث نفسه
حول مشاعر الفنان، وبحسبه أن يحسَّ الدلالة الإستطيقية للأشكال التي أبدعها، فإذا اكترث
بالحالة الذهنية للفنان فليكن على ثقة بأنها كانت صائبة ما دامت الأشكال صائبة، أما
عندما يُحاول الناقد أن يعلِّل لقصور الأشكال فإن له أن يبحث في الحالة الذهنية للفنان،
وهو لن يسعه أن يَثق بخطأ الحالة الذهنية قياسًا على خطأ الأشكال؛ ذلك أن الأشكال
الصائبة تدلُّ ضمنًا على شعورٍ صائب، ولكن إذا سعى الناقد إلى تفسير خطأ الشكل فثمَّ
احتمالٌ لا يُمكن إغفاله؛ أنه سيكون قد غادر الأرض الصلبة للإستطيقا لكي يترحَّل في
جوٍّ غير مُستقر. إن المرء في نطاق النقد ليتعلق بأية قشة، ولا ضير في ذلك ما تذكر
دائمًا أنه مهما تكن عبقرية النظريات التي قد يُقدِّمها فهي لن تعدو أن تكون محاولاتٍ
لتفسير حقيقةٍ مركزيةٍ واحدة؛ هي أن بعض الأشكال يُحرِّكنا إستطيقيًّا والبعض الآخر لا
يفعل ذلك.
لقد جذبني هذا البحث قريبًا من مسألة لا هي إستطيقية ولا ميتافيزيقية، ولكنها تمسُّ
كِلا المجالَين. إنها مسألة المشكلة الفنية، وهي في حقيقة الأمر مسألةٌ تكنيكية. لقد
زعمت أن مهمة الفنان هي إما أن يخلق شكلًا دالًّا وإما أن يُعبِّر عن حسٍّ بالواقع —
حسبما تُفضل من تعبير. غير أن من المؤكد أننا قلما نجد فنانًا، إن وجدنا أحدًا على
الإطلاق، يمكن أن يقعد أو يقوم لا لشيء إلا لكي يبدع شكلًا دالًّا، أو لكي يُعبِّر عن
حسٍّ بالواقع، دون أي تحديد أبعد من ذلك، إنما يتوجب على الفنانين أن يتَّخذوا
لانفعالهم مجرى معينًا … أن يُركزوا طاقاتهم على مشكلةٍ محدَّدة؛ فالشخص الذي يشرع في
رحلة صوب العالم كله هيهات له أن يبلغ مكانًا، هذه الحقيقة تُفسر لنا الضرورة المطلقة
للمواضعات الفنية، وتفسر لنا لماذا تعدُّ كتابة شعر جيد أيسر من كتابة نثرٍ جيد، ولماذا
تكون كتابة الشعر المرسل
١٦ الجيد أصعب من كتابة مقاطع جيدة من شعر الدوبيت المقفَّى، هذا هو مغزى
القوالب الفنية مثل السونيتة،
١٧ والبالاد،
١٨ والروندو:
١٩ إنَّ الحدود الصارمة تُركِّز طاقات الفنان وتُكثِّفها.
ومما يُشبه المحال على فنان لم يضع لنفسه مهمةً أكثر تحديدًا من إبداع شكلٍ دالٍّ
دون
شروط أو حدود مادية أو فكرية، أن يركز طاقاته بحيث يُنجز هدفه. إنَّ مشروعه سيكون
مفتقرًا إلى الدقة وجهوده من ثم ستكون مفتقرة إلى القصد، وأقرب إلى اليقين أنه سيكون
غامضًا ومتراخيًا في عمله، وقد يلوح له دائمًا أن هناك احتمالًا بأن يُعيد للشيء عافيته
بضربة حظٍّ، وقلما يُبصر بوضوح تام أنه قد ضلَّ السبيل، تلك هي مخاطر النزعة الجمالية
(المتطرفة) aestheticism على الفنان. إن من يشعر
أنه لا عمل له إلا أن يصنع شيئًا ما جميلًا، يندر أن يعرف من أين يبدأ أو أين ينتهي،
أو
لماذا ينبغي عليه أن يركز حول شيء أكثر من شيء آخر. لقد أخذه شعورٌ بضرورة أن يجعل عمله
الفني «صوابًا»، وأنه سيكون صوابًا عندما يُعبِّر عن انفعاله نحو الواقع أو عندما يقدر
على إثارة انفعال إستطيقي في الآخرين أيًّا ما كانت الطريقة التي يُهمُّك أن تنظر بها
إلى العمل. إلا أن معظم الفنانين قد انصرفوا إلى اتخاذ مجرى لانفعالهم وتركيز طاقاتهم
على مشكلةٍ ما أكثر تحديدًا وأقرب مأخذًا من مشكلة صنع شيء من شأنه أن يكون صوابًا من
الوجهة الإستطيقية. إنهم بحاجةٍ إلى مشكلةٍ تَصير بؤرةً لانفعالاتهم الشاسعة وطاقاتهم
الغامضة، وعندما تحلُّ تلك المشكلة سيكون عملهم «صوابًا».
يعني «صواب» بالنسبة للمشاهد «مُرْضٍ إستطيقيًّا»، وبالنسبة للفنان وهو في حالة عمل
يعني التحقيق الكامل لمفهومٍ ما — الحل الأمثل لمشكلةٍ ما، والخطأ الذي يقع فيه السوقة
هو أنهم يفترضون أن «صواب»
٢٠ تعني حل مشكلة واحدة بعينها؛ أن السوقة عرضةٌ لافتراض أن المشكلة التي
يَنذر لها جميع الفنانين البصريين والأدبيِّين أنفسهم هي أن يصنعوا شيئًا ما شبيهًا
بالحياة. ألا إن جميع المشكلات الفنية — وتنويعاتها الممكنة لا نهاية لها — يجب أن تكون
بؤراتٍ لصنفٍ معين واحد من الانفعال؛ ذلك الانفعال الفني المميَّز الذي أعتقد أنه
انفعال نحو الواقع يُدرك بصفةٍ عامةٍ من خلال شكل، ولكن طبيعة البؤرة لا مادية، ومن
الحق تقريبًا (وإن لم يكن تمامًا) أن نقول إن كل مشكلة هي مساوية في الوجاهة لغيرها؛
فكل المشكلات في الحقيقة هي في ذاتها وجيهة على حدٍّ سواء، رغم أن هناك بسبب الضعف
البشري مشكلتَين تنتهيان نهاية سيئة؛ المشكلة الأولى كما رأينا هي المشكلة الإستطيقية
الخالصة، والأخرى هي مشكلة التمثيل الدقيق.
يتخيل السوقة أن ليس هناك سوى بؤرةٍ واحدة؛ وهي أن «صواب» تعني دائمًا تحقيق تصورٍ
دقيق للحياة، وليس بإمكانهم أن يفهموا أنه قد تكون المشكلة المباشرة للفنان هي أن
يُعبِّر عن نفسه داخل مربع أو دائرة أو مكعَّب، أو أن يساوق توافقاتٍ هارمونية معينة،
أو أن يوفق بين تنافرات معينة، أو أن يحقق إيقاعاتٍ معينة، أو أن يقهر صعوباتٍ معينة
خاصة بالوسيط medium؛ وهي مشكلات تقف على قدم المساواة
مع مشكلة اقتناص مشابهة، هذا الخطأ يقع في الصلب من النقد السخيف الذي جعله الأستاذ شو
موضة الكتابة. إن في مسرحيات شكسبير تفاصيل من السيكولوجيا ورسم الشخصيات شديدة
الواقعية بحيث تذهل الجموع وتسحرهم، ولكن التصور conception، ذلك الشيء الذي نذر شكسبير نفسه لتحقيقه، لم يكن تمثيلًا طبق
الأصل للحياة، لا لم يكن خلق الإيهام illusion هو
المشكلة التي اتَّخذها شكسبير قناةً لانفعاله وبؤرةً لطاقاته، لم يكن عالم مسرحيات
شكسبير بأي حال من الأحوال شبيهًا بالحياة قدرَ عالم السيد جولزورثي Galsworthy؛ ومن ثم يَحق لأولئك الذين تخيَّلوا أن
مشكلة الفنان يجب أن تكون دائمًا هي تحقيق تطابق بين الكلمات المطبوعة أو الأشكال
المرسومة وبين العالم كما يعرفونه — يحقُّ لهم أن يحكموا بأن مسرحيات شكسبير أدنى مستوى
من مسرحيات السيد جولزورثي، حقيقة الأمر أن تحقيق الصدق الواقعي، وهو ليس المشكلة
الوحيدة الممكنة بأية حال، يَتنازع هو وتحقيق الجمال (الملاحة) على نيل لقب أسوأ
المشكلات المُمكنة. إن التشبه بالحياة أمرٌ سهلٌ؛ بحيث إن الاكتفاء به يترك أعلى قوى
الفنان الانفعالية والفكرية عاطلةً ولا يستنفرها أبدًا أو يهيب بها، وبالضبط كما أن
المشكلة الإستطيقية شديدة الغموض فإن المشكلة التمثيلية شديدة البساطة.
على كل فنان أن يختار «مشكلته» الخاصة، وله أن يستمدَّها من حيثما شاء ما دام قادرًا
على أن يجعلها البؤرة لتلك الانفعالات الفنية التي شرع في التعبير عنها، والحافز لتلك
الطاقات التي سيحتاج إلى التعبير عنها، وما يجب علينا أن نتذكره هو أن المشكلة (موضوع
اللوحة في حالة فنِّ التصوير بعامة) أمر غير ذي بال في حدِّ ذاته. إنها لا تعدو أن تكون
إحدى وسائل الفنان للتعبير أو الإبداع، وفي أي حالة خاصة قد تكون إحدى المشكلات خيرًا
مِن الأخرى كوسيلة، تمامًا كما أن قماشة لوحةٍ أو صنفًا من الألوان قد يكون أفضل من
غيره، فذاك أمرٌ سيتوقَّف على مزاج الفنان وقد لا نُنازعه فيه، ليس «للمشكلة» قيمةٌ
بالنسبة إلينا، أما بالنسبة إلى الفنان «فالمشكلة» هي الاختبار العامل «للصواب» المطلق،
إنها المقياس الذي يقيس ضغط البخار. إنَّ الفنان يذكي ناره لكي يجعل المقبض الصغير
يدور، وهو يدور أن آلته لن تتحرَّك حتى يجعل المؤشر يبلغ العلامة. إنه يتقدم تدريجيًّا
إليها وبواسطتها، غير أنها لا تُدير المحرِّك.
ما هي إذن زبدة القول في هذا الأمر كله؟ إنها في اعتقادي لا تزيد على هذا: يؤدي تأمل
الشكل الخالص إلى حالةٍ من النشوة العالية غير العادية وإلى انسلاخٍ تام عن هموم
الحياة، عن همومٍ أثق أنها (وإنني لأتحدَّث عن نفسي) كثيرةٌ جدًّا. إن من المغري أن
نفترض أن الانفعال الذي يطرب هو شيءٌ يُوصله إلينا من خلال الأشكال التي نتأملها ذلك
الفنان الذي أبدع الأشكال، فإذا صحَّ هذا فإن الانفعال الموصل، أيًّا ما كان هذا
الانفعال، لا بد أن يكون من ذلك الصنف الذي يُمكِن أن يعبر عنه في أي ضربٍ من ضروب
الشكل؛ في لوحات، منحوتات، مبانٍ، آنية، نسيج … إلخ، الانفعال الذي يُعبِّر عنه الفنان
إذن يحلُّ في بعض هذه الأشكال؛ ومن ثم فهي تؤثر فينا من خلال فهم الدلالة الشكلية
للأشياء المادية، وما الدلالة الشكلية لأي شيء مادي سوى دلالة ذلك الشيء معتبرًا كغايةٍ
في ذاته، ولكن إذا كان من شأن موضوعٍ ما إذ ينظر إليه كغايةٍ في ذاته أن يهزَّنا بعمقٍ
أكبر (أي تكون له دلالة أكبر) مما لو نظرنا إليه هو نفسه بوصفه وسيلةً إلى غايات عملية
أو كشيء متصل بالاهتمامات البشرية — وهو وجه الأمر بلا شك — فلا يسعنا إلَّا أن نفترض
أننا متى نتأمل أي شيء كغاية في ذاته نُصبح على وعي بتلك الخاصة الأبقى في ذلك الشيء
من
أي خاصة يمكن أن يكون قد اكتسبها من دوام صحبتِه ببني الإنسان، وبدلًا من أن نُميِّز
أهميته العرضية والمشروطة، فنحن نغدو على وعي بواقعه الجوهري، وعلى وعي بالإله في كل
شيء، بالكلي في الجزئي، بالإيقاع الذي يغمر الكل، فلتُطلق عليه ما شئت من أسماء؛ فالشيء
الذي أتحدث عنه هو ذلك الذي يقبع وراء المظهر من جميع الأشياء، ذلك الذي يُضفي على جميع
الأشياء دلالتها الفردية، الشيء في ذاته، الواقع النهائي. وإذا كان إدراكٌ معينٌ (لا
شعوريٌّ تقريبًا) لهذا الواقع الكامن للأشياء المادية هو حقًّا سبب ذلك الانفعال
الغريب، ذلك الولوع بالتعبير الذي هو إلهام كثيرٍ من الفنانين، فمن المعقول أن نفترض
أن
أولئك الذين يخبرون نفس الانفعال دون عون من الأشياء المادية، قد وصلوا من طريقٍ آخر
إلى البلد نفسه.
تلك هي الفرضية الميتافيزيقية، هل علينا أن نبتلعها كاملة، أو نقبَلَ بعضها، أو
نرفضها كليًّا؟ على كل شخص أن يُقرر ذلك بنفسه؛ فأنا لست مصرًّا إلا على صحة فرضيتي
الإستطيقية، كما أنني متيقِّن من شيء واحد آخر؛ أن أولئك الذين يبلغون النشوة «الوجد»،
وليكونوا فنانين أو عاشقين أو متصوِّفة أو رياضيين، هم أولئك الذين حرروا أنفسهم من
الكبر والغطرسة البشريَّين، فمن شاء أن يُحسَّ دلالة الفن فعليه أن يَتَّضع أمامه. أما
أولئك الذين يرون الأهمية الأولى للفن أو الفلسفة هي في علاقتهما بالسلوك أو بالنفع
العملي، أولئك الذين لا يستطيعون أن يقدروا الأشياء كغاياتٍ في ذاتها، أو كسبيلٍ مباشرٍ
إلى الانفعال على أية حال، فما يكون لهم أن يَظفروا من أي شيء بخيرِ ما يُمكن أن يمنحه،
وأيًّا ما كان عالم التأمل الإستطيقي فما هو بعالم المشاغل والأهواء البشرية، إنه عالمٌ
لا تسمع فيه لغو الوجود المادي وصخَبه، أو تسمعه كمجرد صدًى لتوافقٍ آخر أكثر
جوهرية.