الفن والحياة
(١) الفن والدين Art and Religion
إذا كنتُ في الفصل الأول قد تجشمت عناءً كبيرًا لكي أبين أن الفن لا يَدين للحياة بشيء، فإن عنوان الفصل الثاني «الفن والحياة» قد يُثير شبهة التناقض، غير أن الأمر أبسط من ذلك؛ فرغم أن الفن لا يدين بشيء للحياة فإن الحياة قد تدين حقًّا بشيءٍ ما للفن. إن الطقس مثلًا مستقلٌّ بدرجة فائقة عن آمال البشر ومَخاوفهم، إلا أنه يندر من بيننا من يعلو شأنه عن الاكتراث بالطقس. إنَّ الفن ليؤثِّر في حيوات الناس، إنه يثير النشوة، وهو بذلك يُضفي لونًا وأهميةً على ما مِن شأنه أن يكون بدون الفن أمرًا كئيبًا وتافهًا نوعًا ما. إن الفن عند البعض يجعل الحياة جديرةً بأن نَحياها، والفن أيضًا يتأثر بالحياة؛ لأن إبداع الفن يتطلب أناسًا ذوي أيدي وحسٍّ بالشكل واللون والمكان الثلاثي الأبعاد، والقدرة على الشعور والتوق إلى الإبداع؛ ومن ثم فإن للفن صلةً كبيرة بالحياة؛ بالحياة الوجدانية. أما أنه وسيلةٌ إلى حالة من النشوة العالية فهو أمرٌ متَّفقٌ عليه، وأما أنا يجيء من الأعماق الروحية للطبيعة الإنسانية فهو أمرٌ يعز أن نختلف فيه. إن تذوق الفن هو بالتأكيد سبيلٌ إلى النشوة، وإبداعه ربما يكون هو التعبير عن حالة نشوة ذهنية، الفن في حقيقة الأمر ضرورةٌ للحياة الروحية ونتاجٌ لها.
إنَّ من يوافقونني تمامًا فيما قلته حتى آخر شوط من رحلتي الميتافيزيقية، سيُسلمون بأن الانفعال المُعبَّر عنه في العمل الفني هو انفعال يَنبع من أعماق الطبيعة الروحية للإنسان، وحتى من لا يَجدون لكلامي أي معنًى سيوافقون على أن الجانب الروحي من الإنسان يتأثر تأثُّرًا هائلًا بالأعمال الفنية؛ الفن إذن مرتبط بالحياة الروحية التي إليها يُعطي ومنها بالتأكيد يأخذ. والفن، بطريقة غير مباشرة، يرتبط ارتباطًا ما بالحياة العملية؛ فالفن يفعل فعله في شخصياتنا، وإلا فما أهونها وأحقرها تلك الخبرات الوجدانية التي تغادر شخصياتنا دون أن تمسها من قريب أو بعيد؛ فمن خلال تأثيره على الشخصية ووجهة الرأي، يمكن للفن أن يؤثر في الحياة العملية، غير أن الحياة العملية والعاطفة الإنسانية لا يمكن أن تؤثِّرا في الفن إلا بقدر ما يُمكن أن تؤثِّرا في الأحوال التي يعمل الفنانون في ظلها، وبهذه الطريقة قد تؤثِّران بعض التأثير في إنتاج الأعمال الفنية، فإلى أيِّ حدٍّ يمتد هذا التأثير؟ هذا ما سوف أتناوله في موضع آخر.
في عصور الوجد الروحي العظيم يتفتَّت الحاجز في بعض البقاع ويغدو أقل منَعة، يُقال لمثل هذه العصور بعامة العصور الدينية العظيمة، وما جانب الصواب مَن أطلق عليها هذا الاسم؛ فالدين في أغلب الأحيان هو حجر الشحذ الذي يُرهِف عليه الناس حسهم الروحي؛ فالدين، شأنه شأن الفن، موكلٌ بعالم الواقع الانفعالي، ولا تعنيه الأشياء المادية إلا بقدر ما تكون ذات دلالةٍ انفعالية؛ فالعالم الفيزيائي بالنسبة للمتصوف، كما بالنسبة للفنان، هو وسيلةٌ إلى النشوة؛ فالمتصوف يشعر بالأشياء كغايات بدلًا من أن يراها كوسائل، إنه يتلمَّس داخل كل الأشياء ذلك الواقع النهائي الذي يُثير الوجد الانفعالي، وهو إن كان لا يَبلغه من خلال الشكل الخالص فثمَّ كما قلنا أكثر من طريق لبلوغ هذا البلد. إن الدين، كما أفهمه، هو تعبيرٌ عن الحسِّ الفردي بالدلالة الانفعالية للعالم، ويجب ألا أندهش حين أجد أن الفن كان تعبيرًا عن الشيء نفسه. وعلى كل حالٍ فكلاهما يبدو أنه يُعبِّر عن انفعالاتٍ مختلفة عن انفعالات الحياة ومُتجاوزة لها، وكلاهما بالتأكيد له القدرة على أن ينقل الناس إلى مواجيد فوق بشرية، كلاهما سبيلٌ إلى حالاتٍ ذهنية غير أرضية، ينتمي الفن والدين لعالمٍ واحد؛ فهما هيئتان يُحاول البشر فيهما أن يَحصروا أخفى تصوراتهم وأكثرها شفافيةً ويوفِّروا لها أسباب البقاء، ليست مملكة الفن ولا مملكة الدين من هذا العالم؛ ومن الحق لذلك أن نَعتبر الفن والدين توءمين متلازمَين من مظاهر الروح، ومن الخطأ أن يتحدث البعض عن الفن كمظهر من مظاهر الدين.
إذا زعم أحدٌ أن الفن والدين مظهران توءمان لشيءٍ ما قد يُسمى «الرُّوح الدينية» على سبيل التيسير؛ فإنَّ عليَّ ألا أبتئس، غير أني أصرُّ على التمييز بين «الدين» بالمعنى السائد للكلمة، و«الرُّوح الدينية» التي نوردها، تمييزًا يَنفي كل احتمالٍ لإثارة مماحكاتٍ تافهة، وعليَّ أن أصرَّ على أنه إذا كان لنا أن نقول بأن الفن هو مظهرٌ للرُّوح الدينية فلا بد أن نقول الشيء نفسه عن كل دينٍ موقَّرٍ وجد يومًا أو يمكن أن يوجد على الإطلاق، ويجب أن أصرَّ فوق كل شيء على أنه أيًّا مَن كان القائل فيجب أن يقر بالذهن كلما قالها إن كلمة «مظهر» مختلفة عن كلمة «تعبير» اختلاف «مونموث» عن «مقدونيا» على أقل تقدير.
«ما هكذا الأمر.» كذلك يردُّ القديسون والفنانون وعقليو كمبردج وكل ذي معدنٍ طيب؛ لأنهم يشعرون بأنَّ عواطفهم الدينية والجمالية والأخلاقية ليست مشروطة بشكل مباشر أو غير مباشر بحاجاتٍ جسيمة، ولا هي في الحقيقة مشروطة بأي شيء في العالم الفيزيائي. إنهم يحسُّون أن بعض الأشياء خيرٌ لا لأنها وسائل إلى الهناءة الجسمية، بل لأنها خيرٌ في ذاتها، فليست قيمة النشوة الإستطيقية أو الدينية متوقِّفةً بأي حال على ما تقدَّمه من إشباعٍ جسمي، ثمة أشياء في الحياة لا يمكن لقيمتها أن تتعلق بالعالم الفيزيائي؛ أشياء قيمتها ليست نسبيةً بل مُطلَقة، عن هذه الأمور أتحدث بحذرٍ ودون سلطة، ولا يعورني في غرضي المباشر — وهو أن أعرض تصوُّري للشخصية الدينية — سوى أن أقول إنَّ من الناس من يبدو لهم التصور المادي للعالم مفسِّرًا لتلك العواطف التي يُحسُّونها بيقينٍ أعلى ونزاهةٍ مطلقة. حقيقة الأمر هي أن رجال العلم بعد أن دفعوا بنا إلى عادة محاولة تبرير مشاعرنا وحالاتنا الذهنية بردِّها إلى العالم الفيزيائي، قد حملوا بعضنا بالترهيب على أن يعتقدوا بأن ما لا يُمكن تبريره بهذه الطريقة فهو غير موجود.
إنني أدعوه دينيًّا ذلك الإنسان الذي يوقن أن هناك أشياءَ هي خيرٌ في ذاتها وأن الوجود الفيزيائي ليس من بينها، فيسعى على حساب الوجود الفيزيائي إلى ما يبدو له خيرًا؛ ومن ثم فإن كل أولئك الذين يعتقدون بإخلاص عنيد أن الحياة الروحية أهم من الحياة المادية، هم في فهمي دينيُّون. لقد رأيت في باريس على سبيل المثال رسامين صغارًا، مُفلسين ضامرين مقرورين مُهلهَلي الثياب، وليست زوجاتهم ولا أولادهم بأفضل منهم حالًا، رأيتهم طيلة يومهم في نشوةٍ محمومةٍ مُنغمِسين في رسم لوحاتٍ لا يؤمَّل لها رَواج، ومن الجائز تمامًا أنهم كانوا حريِّين بأن يَقتلوا أو يُصيبوا أي شخص يقترح عليهم التوفيق بين فنهم ومتطلبات السوق، وحين كانت أدواتهم تَنفَذ ورصيدهم ينقطع بالكامل كانوا يبيعون الجرائد خِفيةً ويمسحون الأحذية حتى يُمكنهم أن يواصلوا خدمة ولوعهم المسيطر، لقد كانوا دينيِّين بامتياز؛ فجميع الفنانين دينيون، وكل اعتقادٍ عنيدٍ هو اعتقادٌ ديني. إن إنسانًا تملَّكَه حُبُّ الحقيقة بحيث آثر السجن أو الموت على الاعتراف بإلهٍ لا يؤمن بوجوده، هو إنسانٌ ديني وشهيد في سبيل الدين شأنه شأن سقراط ويسوع؛ ذلك أنه جعل لقيَمِه معيارًا خارج العالم الفيزيائي.
يقال في مجال الأشياء المادية إنَّ نصف رغيف خيرٌ من انعدام الخبز، لكن الأمر في مجال الأشياء الروحية غير ذلك. إن رجل السياسة سوف يؤيد مشروع قانونٍ يَعرِف قصوره إذا ما رأى أن هذا القانون قد يعود بفائدةٍ ما، إنه يُدلي باعتراضاته ثم يصوت مع الأغلبية، وربما يكون تصرُّفه سليمًا، أما في المسائل الروحية فمثل هذه التسويات غير مُمكنة، إن الفنان لا يسعه أن يقدم تنازلًا لكي يرضي الجمهور؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون قد ضحَّى بالشيء الذي يجعل للحياة قيمة، فإذا كان عليه أن يكذب ويُعبِّر عن شيء غير ما يشعر به فلن يعود مسكونًا بالحقيقة، وماذا يُجديه أن يربح العالم كله ويخسر روحه الخاص؟ إنه يعرف أن في دخيلته شيئًا أهم من الوجود الفيزيائي، شيئًا ليس الوجود الفيزيائي إلا وسيلة إليه؛ فوجود احتمالٍ بأن يحسَّ هذا الشيء ويعبر عنه يجعل من الخير له أن يتشبَّث بالحياة، ولكنه ما لم يشعر بهذا الشيء ويعبر عنه على خير وجه فمن الأفضل له أن يموت.
الفن والدين إذن طريقان بهما يهرب البشر من الحدث العرضي إلى الوجد، وبين الوجد الإستطيقي والوجد الديني ترابطٌ أسري؛ فالفن والدين وسائل إلى حالات ذهنية متشابهة، وإذا جاز لنا أن نتغاضى عن علم الإستطيقا ونتفحص، متجاوزين انفعالنا وموضوعه، ما في ذهن الفنان، فقد نقول (بتبسطٍ كبير) إنَّ الفن من تجليات الحس الديني، فإذا كان الفن تعبيرًا عن انفعال — مثلما هي قناعتي — فهو تعبير عن ذلك الانفعال الذي هو القوة الحيوية في كل دين، أو هو على أيَّة حال يُعبِّر عن انفعال نحو ذلك الذي هو جوهر الكل، وقد نقول إن كلًّا من الفن والدين هو من مظاهر الحسِّ الديني للإنسان، إذا كنا نعني ﺑ «الحس الديني للإنسان» حسَّه بالواقع النهائي. أما الذي يَجمُل بنا ألا نقوله فهو أن الفن تعبير عن أي ديانة معيَّنة؛ لأننا بذلك نخلط بين الرُّوح الدينية وبين القنوات التي أُجبرت فيها هذه الروح أن تجري. إنه خلطٌ بين النبيذ والقارورة؛ فقد يكون للفن شأن كبير بذلك الانفعال الكوني الذي وجَد تعبيرًا فاسدًا ومتلعثمًا في ألف عقيدة مُختلفة: ولكنه لا شأن له بالوقائع التاريخية والخيالات الميتافيزيقية، ومما يؤكِّد ذلك أن كثيرًا من فنون التصوير الوصفي هو أبواق دعاية وشروحٌ للعقائد الدينية، وهو أيضًا استعمال مناسب جدًّا للتصوير الوصفي، ويقينًا أن موطن الضعف في كثير من الصور الجيدة هو العنصر الوصفي المُقحَم من أجل التهذيب والإرشاد، ولكن بقدر ما تكون صورةٌ ما عملًا فنيًّا فلن يكون لها شأن بالعقائد والنظريات أكثر من شأنها باهتمامات الحياة اليومية وانفعالاتها.
(٢) الفن والتاريخ Art and History
على أن هناك صلة بين الفن والدين، حتى بالمعنى الشائع والمحدود للكلمة، هناك صلة تاريخية: أو بمعنى أدق هناك صلة أساسية بين تاريخ الفن وتاريخ الدين. إن الأديان لا تتحلى بالحيوية والصدق ما لم تكن مُفعَمةً بما يُفعم كل فنٍّ عظيم — الخميرة الروحية. ومن الخطأ، على ذكر ذلك، أن نفترض أن الدين الدوجماوي لا يُمكن أن يكون حيويًّا وصادقًا. إنَّ بالعواطف الدينية ميلًا إلى أن تُلقي بمرساتها إلى العالم الأرضي بواسطة سلسلة من الدوجما، هذا الميل هو العدو المندس داخل كل حركة دينية، وقد يكون الدين الدوجماوي حيويًّا وصادقًا، بل إن اللاهوت والشعيرة كانا فيما مضى هما بوق الثورات الروحية وطبلها، غير أن العصور الدينية الدوجماوية أو الخالية من الفكر، عصور الفورة الروحية إذ يعلي الناس الروح فوق الجسد والعواطف فوق الفكر، هي العصور التي يشيع فيها الإحساس بالدلالة الروحية للعالم. الأمر إذن هو أمر بشرٍ يَقطنون على تخوم الواقع ويُصغون بشغف إلى حكايا الرحالة، هكذا قدَّر أن تكون العصور الدينية الكبرى هي بعامة العصور الكبرى للفن، أما حين يأخذ حسُّ الواقع في التبلُّد ويتضلَّع الناس في التلاعب بالنعوت والرموز ويَصيرون أكثر آليةً وتدجينًا وتخصُّصًا وأقل قدرةً على الإحساس المباشر بالأشياء، هنالك تَهِن قدرتهم على الهروب إلى عالم الوجد ويبدأ الفن والدين في الانحدار، حين يَفتقر الأغلبية إلى الانفعال الذي منه جُبل الفن والدين، ويَفتقرون حتى إلى الحساسية التي يَستجيبون بها لما تُقدمه القلة التي لا تزال قادرةً على الإبداع، عندئذٍ يُصاب الفن والدين بالعرج، وبعدها لا يتبقى للفنِّ والدين إلا اسمُهما، ويسمى الإيهام والملاحة فنًّا، وتسمى السياسة والابتذال العاطفي دينًا.
والآن، إذا كنتُ مصيبًا فيما أراه من أن الفن هو مظهر — علامة لا تعبير — للحالة الرُّوحية للإنسان، فنحن في تاريخ الفن إذن سنقرأ التاريخ الروحي للجنس البشري، وليس من المستغرب عندي أن أولئك الذين كرَّسوا حياتهم لدراسة التاريخ لا بد أن يستاءوا حين يأتي شخصٌ مثلي يعترف بأن فهمه مقصور على طبيعة الفن ويُلمِّح بأن فهمه لعمله قد يؤهله للحكم على عملهم، فلأكن دمثًا إزاءهم جهد ما أستطيع. إنني آخر من يحقُّ له، وآخر من يميل حقًّا إلى أن يدَّعي شرف التلقب بلقب «عالم تاريخي»، فليس أحدٌ أقل مني التفاتًا إلى اللغو التاريخي أو يَفوقني حيرةً في فهم ما يراد ﺑ «علم التاريخ» على وجه الدقة. غير أنه إذا كان للتاريخ أن يكون أكثر على أي نحو من مجرد سجلٍّ للتسلسُل الزمني للوقائع، وإذا كان له أن يُعنى بتحولات العقل والروح، فإن لي إذن أن أؤكد أننا لكي نقرأ التاريخ قراءةً صحيحة فلا بد لنا من أن نعرف الأعمال الفنية التي أنتجها كلُّ عصر، بل أن نعرف أيضًا قيمتَها كأعمالٍ فنية، وإذا كانت الدلالة الإستطيقية للأعمال الفنية، أو انعدام الدلالة، شاهدةً حقًّا على الحالة الرُّوحية؛ فإن الشخص الذي لدَيه القدرة على إدراك الدلالة لا بد أن يكون في وضعٍ يَسمح له بأن يُدلي بدلوه فيما يتعلَّق بالحالة الروحية للأشخاص الذين أنتجوا تلك الأعمال ولأولئك الذين تذوَّقوها، وإذا كان للفن أن يكون ذلك الشيء الذي يفترض دائمًا أن يكونه، فإن تاريخ الفن لا بد أن يكون فهرسًا للتاريخ الرُّوحي للجنس البشري، يبقى أن المؤرِّخ الذي يريد أن يستخدم الفن كفهرس ينبغي ألا تقتصر ملكاته على الملاحظة الدقيقة لرجل العلم وعالم الآثار، بل أن يمتلك أيضًا حساسية مُرهَفة؛ ذلك أن الدلالة الإستطيقية للعمل هي ما يقدم مفتاحًا لفهم الحالة الذهنية التي أنتجته؛ ومن ثم فإن القدرة على نسبة عملٍ فني معين إلى حقبة معينة لا تغني فتيلًا ما لم تصحبها قدرةٌ أخرى على إدراك دلالته الإستطيقية.
هل يتعيَّن علينا لكي نفهم تاريخ عصر من العصور فهمًا كاملًا أن نعرف تاريخ الفن في ذلك العصر ونفهمه؟ يبدو ذلك، إلا أن هذه الفكرة لا يحتملها علماء التاريخ، وإلا فأية نازلةٍ تحلُّ بالمبدأ العلمي الأكبر: مبدأ انقسام العلم إلى مباحث مستقلةٍ مسيَّجة منيعة؟ مرة أخرى هذا مبدأٌ جائر؛ إذ من المتيقن أننا لكي نفهم الفن فلن نحتاج إلى معرفة أي شيء كان عن التاريخ، ونحن ربما كان بإمكاننا أن نستمد من الأعمال الفنية استدلالات عن نوعية الأشخاص الذين صنعوها، إلا أن محادثاتنا مع أحد الفنانين مهما تكن طويلة وحميمة فهي لن تُنبئنا إن كانت لوحاته جيدةً أم رديئة، إنما يتعين علينا أن نشاهدها، وعندئذٍ سوف نَعرف؛ فقد أكون متحيزًا أو غير صادق فيما أقول عن العمل الفني لصديقي، غير أن دلالة العمل الإستطيقية ليست أوضح لي من دلالة عمل فني فرغ منه مُبدعه منذ خمسة آلاف عام، فلكي ندرك عملًا فنيًّا إدراكًا كاملًا فلسنا بحاجة لشيءٍ غير الحساسية. إن الفن ليتحدث عن نفسه إلى من يستطيعون سمعًا، بينما لا تتحدث الوقائع والتواريخ بشيء، وعلى المرء إن أراد أن يغزل شيئًا من هذه المادة أن يتلقط المعلومات من النجود والأغوار التماسًا لنتفٍ من الأخبار والاقتراحات المساعدة، وليس تاريخ الفن استثناء لهذا المبدأ، فإذا شئتُ أن أدرك فن شخص فلستُ بحاجةٍ إلى أن أعرف أي شيء عن الفنان، وبوسعي أن أحكم إن كانت هذه اللوحة أفضل من تلك دون عون من التاريخ، أما إذا حاولتُ أن أبين أسباب تدهور فنه فسوف يعينني أن أعرف أنه قد أُصيب بمرضٍ خطير، أو أنه قد تزوَّج امرأةً دفعتْه إلى أن ينتج للارتزاق فقط؛ فأنا حين أتبيَّن التدهور إنما أقيم حكمًا إستطيقيًّا بحتًا، وحين أُعلِّل له أتحول إلى مؤرِّخ، يتعيَّن إذن أننا لكي نفهم تاريخ الفن يَنبغي أن نعرف شيئًا عن أنواع أخرى من التاريخ، وربما يكون الفهم الدقيق لأي نوع من التاريخ منوطًا بفهم كل نوع من التاريخ، ربما يكون تاريخ أي عصر أو حياة هو كلٌّ لا يتجزَّأ، وتلك فكرة أخرى لا يَحتملونها! فأي خطبٍ يلمُّ بالمتخصِّص؟ ماذا يكون مصير تلك الخلاصات التاريخية الهائلة التي تفصل فيها أنشطة الإنسان المتعددة عن بعضها البعض بحرصٍ شديد؟ إنَّ العقل ليُجفل رعبًا من الرؤية الهولية لاستنتاجاته الخاصة.
ولكن هل يَعنيني هذا الأمر على أية حال؟ إنني لستُ مؤرِّخًا للفن ولا لأي شيء آخر، ولا يُهمُّني بحالٍ متى صُنعت الأشياء أو لماذا صُنعت، إنما تعنيني دلالتها الانفعالية بالنسبة لنا، فكل شيء عند المؤرِّخ هو وسيلةٌ لوسيلةٍ معينة أخرى. أما بالنسبة لي فكل ما يهمُّ هو وسيلة مباشرة للانفعال. إنني أكتب في الفن لا في التاريخ، وليس يَعنيني التاريخ إلا بقدر ما يُسعفني في إيضاح فرضيَّتي، ولا يعنيني في شيء أصدق التاريخ أم كذب؛ حيث إن نظريتي غير قائمة على التاريخ بل على الخبرة الشخصية، وليست مُستندة إلى الوقائع بل إلى المشاعر؛ فالصدق والكذب التاريخيان لا وزن لهما عند من يُحاولون التعامل مع حقائق الواقع؛ فهؤلاء لا يُعوزهم أن يسألوا «هل حدث هذا؟» بل يعوزهم أن يسألوا فحسب «هل أشعر بهذا؟» ومن حسن حظِّنا أن الأمر كذلك؛ إذ لو كان على أحكامنا عن الأشياء الواقعية أن تَنتظِر حتى يأتيها اليقين التاريخي فقد يكون عليها أن تَنتظِر إلى الأبد، إلا أنَّ من الشائق أن ننظر إلى أي حدٍّ يتَّفق ما نحن واثقون منه مع ما يجب أن نتوقَّعه. لقد كانت فرضيتي الإستطيقية — أن الصفة الجوهرية في أي عمل فني هي الشكل الدال — قائمة على خبرتي الإستطيقية، وأنا من خبراتي الإستطيقية على ثِقة. أما عن فرضيتي الثانية — أن الشكل الدالَّ هو تعبير عن انفعال خاص تجاه الواقع — فلستُ واثقًا منها بحال، ورغم ذلك فإنني أفترض أنها صحيحة وأمضي قدمًا فأقترح أن حسَّ الواقع هذا يجعل الناس تُولي الدلالة الرُّوحية للعالم أهميةً أكبر من الدلالة المادية، وأنه يجعلهم أميل إلى الشعور بالأشياء كغايات بدلًا من تمييزها كمجرد وسائل، وأن حسًّا بالواقع هو في حقيقة الأمر جوهر الصحة الرُّوحية، فإن صحَّ ذلك فسوف نتوقع أن نجد أن العصور التي توقَّف فيها إبداع الشكل الدال هي عصور بات فيها حسُّ الواقع كليلًا، وأن هذه العصور هي عصور فقرٍ رُوحي، وسوف نتوقع أن منحنيات الفن ومنحنيات التوقد الروحي تصعد معًا وتهبط معًا. وفي الفصل القادم سألقي نظرةً على تاريخ دورةٍ من دورات الفن بقصد تتبُّع حركة الفن واكتشاف مدى مواكبة تلك الحركة للتغيُّرات التي تعتور الحالة الروحية للمجتمع. إنَّ وجهة نظري عن صعود الفن في العالم المسيحي وانحداره وسقوطه قائمةٌ بالكامل على سلسلة من الأحكام الإستطيقية المستقلة أثق بصحتها ثقةً كبيرة وأعتد كثيرًا بذلك. إنني أدعي القدرة على التمييز بين الشكل الدال والشكل غير الدال، وسوف يُشوِّقني أن أنظر إن كان انحدارٌ في دلالة الأشكال — أي تدهور الفن بتعبيرٍ آخر — يتزامن بصفة عامة مع هبوط الحس الديني، وسوف أتوقع أن أجد أنه حيثما سمح الفنانون لأنفسهم أن تضل عن مهمتها الحقيقية، وهي خلق الشكل، تحت إغراء اهتماماتٍ أخرى غير ذات صلة بالفن؛ فإن المجتمع يكون إذاك في تفسُّخٍ روحي، وأتوقع أن العصور التي ضاع فيها حس الدلالة الشكلية تمامًا في غمرة الانشغال بالواضح سوف يُثبِت أنها كانت عصور قحطٍ رُوحي؛ ولذا فإنني فيما أتتبع مصاير الفن خلال أربعة عشر قرنًا من الزمان سوف أحاول أن أضع نصب عيني ذلك الشيء الذي قد يكون الفن مظهرًا له — أعني حسَّ الإنسان بالواقع النهائي.
أن ننقد عملًا من أعمال الفن نقدًا تاريخيًّا هو أن نتصرَّف بسخف مَن أسكرَه العلم، فلم يحدث قط أن صدر عن دماغ مشعوذٍ نظريةٌ أكثر شؤمًا من نظرية التطور في الفن. إن جوتو لم يزحف، يرقةً، حتى يُرفرف تيتيان، فراشة، إن من إساءة الفهم لفن شخصٍ ما أن نعتبره مؤديًا إلى فنِّ شخص آخر؛ فإطراء عملٍ فني أو تسفيهُهُ أو الاهتمام به لأنه يؤدي أو لا يؤدي إلى عملٍ فني ثان، هو بمثابة اعتباره شيئًا آخر غير عمل فني؛ فقد تكون للصلة بين عمل فني وآخر شأنٌ كبير بالتاريخ، ولكن هيهات أن يكون لها شأن بالتذوق الفني؛ فما إن نشرع في النظر إلى عمل ما دون اعتباره غايةً في ذاته حتى نكون قد غادرنا عالم الفن؛ فرغم أن التطور في فنِّ التصوير من جوتو إلى تيتان قد يكون ذا أهمية من الوجهة التاريخية، فما كان له أن يؤثر على القيمة الفنية لأية لوحة معيَّنة؛ فذاك أمرٌ غير ذي بالٍ على الإطلاق من الوجهة الإستطيقية. إن كل عمل من أعمال الفن ينبغي أن يُقيَّم وفق حالته الموضوعية ودون تأثر بأي اعتبارات أخرى.
ليكن القارئ إذن على ثقة بأني لن أقوم في الفصل القادم بوضع أحكام إستطيقية في ضوء التاريخ، بل سأقوم بقراءة التاريخ في ضوء أحكام إستطيقية؛ فبعد أن أضع أحكامي، بمعزلٍ عن أية نظرية إستطيقية أو غير إستطيقية، سأكون مشوَّقًا لأن أرى إلى أي حدٍّ تتفق النظرة التاريخية التي قد تستند إلى هذه الأحكام مع الفرضيات التاريخية المقبولة، فإذا صحَّت الأحكام التي وضعتها والتواريخ التي يقدمها المؤرخون لترتَّب على ذلك أن بعض العصور قد أنتجت فنًّا أجود من بعضها الآخر، ولكن مما لا خلاف عليه حقًّا أن التنوع في الدلالة الفنية للعصور المختلفة هو تنوعٌ هائل، وسوف يُشوِّقني أن أرى نوع العلاقة التي يمكن أن تتأسَّس بين الفن والعصر الذي أنتجه، وإذا صحَّت فرضيتي الثانية (أن الفن هو تعبير عن انفعالٍ نحو الواقع النهائي) فإن العلاقة بين الفن وعصره ستكون علاقةً محتومةً ووثيقة. في تلك الحالة سيَنطوي كل حكمٍ إستطيقي على نوع معيَّن من الحكم عن الحالة الذهنية العامة للفنان ومحبِّيه المعجبين به، الحق أن كل مَن يقبل فرضيتي الثانية قبولًا مطلقًا بكل متضمَّناتها الممكنة — وهو أمرٌ يفوق ما أريد أن أفعله — فلن يَكتفي بأن يرى في تاريخ الفن التاريخ الروحي للجنس البشري، بل لن يسعه أبدًا أن يفكر في أحدهما دون أن يفكر في الآخر.
(٣) الفن والأخلاق Art and Ethics
يبقى بيني وبين المواضع السارة من التاريخ رغم ذلك حاجزٌ صفيقٌ واحد؛ فليس بوسعي أن ألهو وأُخضخض في بِرَك الماضي وضحله قبل أن أجيب عن سؤال هو من العبث بحيث لا يكل الحمقى من ترديده: «ما هو التبرير الأخلاقي للفن؟» إنَّهم على حقٍّ بالطبع أولئك الذين يُلحُّون على أنَّ إبداع الفن يجب أن يُبرَّر على أساس أخلاقي؛ فجميع النشاطات البشرية يجب أن تبرر أخلاقيًّا. إن من صلاحيات الفيلسوف أن يطالب الفنان بإثبات أن ما يقوم به هو إما خير في ذاته وإما وسيلة إلى الخير، وإن من واجب الفنان أن يجيب: «الفن خير؛ لأنه يعلو بنا إلى حالة من النشوة أفضل بكثير مما يُمكن أن يخطر ببال الداعية الأخلاقي البليد الحس، وفي هذا وحده الكفاية.» إن الفنان على حق من الوجهة الفلسفية، كل ما في الأمر أن الفلسفة ليست بهذه البساطة التي يجيب بها الفنان، فلنُحاول إذن أن نجيب بطريقة فلسفية.
سأوجه هذا السؤال إلى من يؤمن بأن اللذة هي الخير الوحيد: هل يتحدَّث، شأنه شأن جون ستيوارت مِل أو أي شخص آخر سمعت به، عن لذاتٍ «أعلى وأدنى» أو «أجود وأردأ» أو «رفيعة ووضيعة»؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يدرك أنه قد تخلى عن قضيته؟ إذ عندما يقول بأن إحدى اللذات «أعلى» أو «أفضل» من الأخرى فهو لا يعني أنها أكبر في «الكم» بل أرفع في «الكيف».
اعمر الكوكب الموحش بعقلٍ إنساني واحد، يُصبح كل جزء من هذا الكوكب ذا قيمة كامنة كوسيلة؛ لأنه قد يكون وسيلة إلى ذلك الشيء الذي هو خير كعادته؛ أعني حالة ذهنية خيرة، إن الحالة الذهنية لشخصٍ في حالة حبٍّ أو مُستغرق في التأمل تكفي في ذاتها؛ فنحن لا نعود نتساءل «أيُّ غرض نافع تُقدِّمه هذه الحالة، أيُّ شخصٍ تفيده، وكيف؟» بل نقول بمباشرة واقتناع: «هذا خير.»
لقد وقَع في هذا الخطل كثيرٌ من الحمقى، وروَّج له واحدٌ من عباقرة الرجال ترويجًا قبيحًا، فلم يحدث قط أن وضع أحدٌ العربة بشكلٍ معيقٍ أمام الحصان مثلما فعل تولستوي عندما أعلن أن ما يُبرِّر الفن هو قدرته على تعزيز الأفعال الخيرة، كما لو كانت الأفعال غايات في ذاتها! إنَّ فعل الجري ليس فيه فضيلة ولا رذيلة، ولكن أن تجري بأنباء سارة هو فعل جدير بالثناء، وأن تجري فرارًا بكيس إحدى العجائز هو فعلٌ غير جدير بذلك. كذلك فعل الصِّياح، فليس في الصياح فضيلة، ولكن أن تصيح لكي تصدعَ بالحق والعدل هو فعل خير، أما أن تصمَّ آذان الخلق بالدجل والهُراء فهو فعلٌ لعين. إنَّ الغاية المنشودة هي دائمًا ما يضفي على الفعل القيمة، ويجب أن تكون غاية جميع الأفعال الخيِّرة في النهاية هي أن تخلق أو تحفز أو تمكِّن لحالاتٍ ذهنيةٍ خيِّرة؛ ومن ثم فإن حثَّ الناس على الأفعال الخيِّرة بواسطة لوحاتٍ إرشادية هو حرفةٌ جديرة بالاحترام ووسيلة غير مباشرة إلى الخير. أما الأعمال الفنية فهي وسيلة مباشرة إلى الخير وأكثر مباشرةً من أي شيء آخر يمكن للكائن الإنساني أن يُمارسه، في هذه الحقيقة على وجه التحديد تَكمن الأهمية الهائلة للفن: فليس ثمة وسيلة إلى الخير أكثر مباشرةً من الفن.
حين تعدُّ أي شيء عملًا فنيًّا، فإنك إذن تُقيم حكمًا أخلاقيًّا خطيرًا؛ لأنك بذلك تعدُّه وسيلةً مباشرةً وفعالةً إلى الخير بحيث لا نحتاج إلى أن نُكرِّث أنفسنا بأي شيء من نتائجه المحتملة، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك؛ فإن عادة إقحام اعتباراتٍ أخلاقيةٍ في عملية الحكم بين أعمالٍ فنية معيَّنة لن يكون لها ما يبررها، فليُقم الداعية الأخلاقي حكمًا على الفن ككل، وليُقيِّض له ما يرى أنه مكانه الصحيح بين وسائل الخير، ولكن إذا كان المقام مقام أحكامٍ إستطيقية؛ أي أحكام مقارنة بين أعضاء فئة واحدة؛ أي بين الأعمال الفنية بوصفها أعمالًا فنية، فليُمسِك هذا الداعية لسانه. إن الفن مساوٍ لأعظم الوسائل إلى الخير، ولو ظنَّ الداعية الأخلاقي أن الفن أقل من ذلك بأي شيء فقد أخطأ، ولو سلَّمنا على سبيل الموادعة أنَّ الفن أدنى من بعض هذه الوسائل فسوف أُذكِّره رغم ذلك أن أحكامه الأخلاقية حول قيمة أعمالٍ فنيةٍ معيَّنة لا شأن لها بقيمتها الفنية. ليس من حق الحكم في إبسوم أن يغمط الفائز في الدربي حقه لمصلحة الحصان الذي جاء قبل الأخير، لا لشيءٍ إلا لأن هذا الحصان هو لأسقف بروجهام كنتربري.
عرِّف الفن كما تهوى، مؤثرًا أن يكون ذلك وفقًا لما طرحته من أفكار، وأنزله المنزلة التي تشاء في النسق الأخلاقي، ثم فاضِل بين الأعمال الفنية حسب امتيازها بتلك الخاصية أو تلك الخصائص التي وضعتها في تعريفك باعتبارها الخصائص الجوهرية والمميِّزة للأعمال الفنية. قد تقيم بالطبع أحكامًا أخلاقية حول أعمالٍ معينة، ليس بوصفها أعمالًا فنية بل بوصفها أعضاءً في فئة أخرى، أو بوصفها أجزاءً مستقلة وغير مصنَّفة من العالم، وقد ترى أن لوحة معينة لرئيس الأكاديمية الملكية هي وسيلة أعظم إلى الخير من إحدى لوحات نادي الفن الإنجليزي الجديد بكل مجده، وأن كعكةً بقرشٍ هي أفضل من الاثنتين؛ فأنت في مثل هذه الحالة إنما تُقيم حكمًا أخلاقيًّا لا حكمًا إستطيقيًّا؛ ومن ثم سيكون من الصواب أن تأخذ بالاعتبار مساحة القماشة، وسمك الإطار والقيمة الممكنة لكلٍّ منها كوقود أو وقاء من تقلبات مناخنا القاسية. وعليك في عملية جمع الحسابات ألا تُغفل آثارهما الممكنة على الكهول الذين يَزورون برلنجتون هاوس وصالة عرض سافوك ستريت، وألا تُغفل أيضًا ضمائر أولئك الذين يَمسُّون موارد الأوقاف أو أولئك الذين تدفعهم الرغبة في الربح إلى المحاكاة والتقليد. إنك عندئذٍ تُقيم حكمًا أخلاقيًّا لا حكمًا إستطيقيًّا. وإذا كنت قد خلصت إلى أن كلتا اللوحتين ليست عملًا فنيًّا، فأنت رغم مظنة تضييع وقتك ستكون بمنأى من السخرية، ولكن حين تتعامل مع لوحة بوصفها عملًا فنيًّا تكون قد أقمت — ربما على نحوٍ لا شعوري — حكمًا أخلاقيًّا أهم بكثير. لقد أدرجتها في فئة من الأشياء تُعدُّ وسائل قوية ومباشرة إلى النشوة الروحية بدرجة تمحي إلى جانبها جميع المزايا الصغرى، ورغم المفارقة الظاهرة؛ فإن الخصائص الوحيدة ذات الصِّلة بالعمل الفني بوصفه عملًا فنيًّا هي الخصائص الفنية، فنحن إذ خلصنا إلى أن الخصائص الفنية هي وسيلة إلى الخير؛ فإنَّ أي خصائص أخرى تغدو غير ذات بال؛ فليس ثمَّة خصائص تفوق الخصائص الفنية من حيث القيمة الأخلاقية؛ ذلك أن ليس هناك وسيلة إلى الخير أعظم من الفن.