(١) صعود الفن
المسيحي The Rise of Christian Art
ماذا أعني ﺑ «مُنحدَر» slope؟ هذا ما آمل أن أوضحه
خلال هذا الفصل والفصل الذي يَليه، ولكن حيث إنَّ القراء يترقَّبون شيئًا ما يسترشدون
به، سأعجِّل ببيان أنني رغم إدراكي لاستمرارية تيار الفن فأنا أعتقد أن من المُمكِن
والملائم أن أقسم هذا التيار إلى منحدرات وحركات. من المتعذر التيقُّن من الخط المحدد
للتقسيم، وبميسورنا أن نقول إنه خلال مجرى نهر عظيم من التلال إلى البحر، فإن من
المتعيَّن أن يتفاوت عمق المياه وعرضها ولونها وحرارتها وسرعتها. أما التحديد الدقيق
لنقطة التغير فهذا أمرٌ آخر، فإذا حاولتُ أن أصور لنفسي التاريخ الكلي للفن منذ الأزمنة
الأولى في جميع أجزاء العالم، فلن يُمكنني، بطبيعة الحال، أن أراه كخيطٍ فريد واحد.
إنَّ الخامة التي هو مصنوعٌ منها لا يمكن أن تتغير؛ فهي دائمًا ماءٌ يتدفق إلى أسفل
النهر، غير أن هناك أكثر من قناة؛ هناك مثلًا «الفن الأوربي» و«الفن الشرقي»، يتراءى
لي
التاريخ العالمي للفن في صورة خريطةٍ فيها تياراتٌ عديدة تنزل من سلسلة الجبال نفسها
إلى البحر نفسه، وهي تبدأ من ارتفاعات متفاوتة ولكنها جميعًا تنزل في النهاية إلى
مستوًى واحد، هكذا عليَّ أن أقول بأن المنحدر الذي على قمَّته تقف الروائع البوذية لأسر
واي ولانج وتانج يبدأ أعلى بكثير من ذلك الذي قمَّته النحت السومري المبكر، ولكن إذا
تعين أن ننظر في الفن الياباني المعاصر، والنحت الإغريقي — الروماني والروماني،
والأشوري المتأخر، لرأينا أنها جميعًا قد آلت إلى نفس المستوى البحري للطبيعة المُغثية.
أعني بالمنحدر إذن ذلك الذي يقع بين صبحٍ بدائي عظيم، إذ يخلق الناس الفن لأنهم لا
بد
أن يَخلقوه، وبين تلك الساعة الأحلك عندما يخلط الناس بين التقليد والفن، هذه المنحدرات
يمكن تقسيمها إلى حركات، ليس المسار الهابط ناعمًا ومستويًا، بل هو وعرٌ ومليءٌ
بالعوارض. الحق أن موكب الفن لا يشبه النهر بقدر ما يُشبه طريقًا من الجبال إلى السهل،
هذا الطريق هو سلسلةٌ من الارتفاعات والانخفاضات، كل ارتفاع وانخفاض يُشكِّلان معًا
حركة، قد تبلغ قمة إحدى الحركات نفس الارتفاع الذي بلغتْه قمة الحركة السابقة عليها،
إلا أن قاعدتها تأخذها دائمًا إلى مستوًى أدنى على المنحدر، وفي تاريخ الفن كذلك فإن
ذروة إحدى الحركات تبدو دائمًا طالعةً من غور سابقتها بزاويةٍ قائمة؛ فالحركة الصاعدة
عمودية، أما الهابطة فتتخذ مستوًى مائلًا، من دوتشو، على سبيل المثال، إلى جوتو خطوةٌ
إلى أعلى حادةٌ ضحلة، ومن جوتو إلى ليوناردو سقوطٌ طويلٌ وغير مُدرَك تقريبًا في بعض
الأحيان. إنَّ جوتو هو تفسخ بارع لتلك الحركة البازيلية
Basilian التي عاشت بعض الزمن بعد الفتح اللاتيني وانتهت نهايةً
مونقةً في ظلِّ الباليولوجيين
Palaeologie١ الأوائل، ارتفعت قمة هذه الحركة كثيرًا فوق جوتو، رغم أن دوتشو بقرابة
قاعدتها هو أسفل منه. إن فن جوتو هو بالتأكيد أدنى من الفن البيزنطي الأرفع للقرنين
الحادي عشر والثاني عشر، وجوتو هو ذروة حركةٍ جديدةٍ مقدرٍ عليها حتمًا أن تهبط إلى
أغوارٍ لم يحلم بها دوتشو.
كل ما كان روحيًّا في الحضارة الإغريقية كان معتلًّا قبل نهبِ كورنث، وكل ما كان
حيًّا في الفن الإغريقي كان قد مات قبل ذلك بسنواتٍ طويلة. أما أنها ماتت قبل موت
الإسكندر فلتكن مقبرته في القسطنطينية شاهدي على ذلك. لقد كانت معتلةً قبل أن يضعوا
الحجر الأخير في البارثينون. إنَّ التماثيل الرخامية الكبيرة في المتحف البريطاني هي
الأمثلة المهمة الأخيرة للفن الإغريقي. الإفريز بطبيعة الحال ليس دليلًا على أي شيء؛
إذ
هو عمل صانعٍ حرفيٌّ لا أكثر. أما الرجل الذي صنع ما يُمكن أن أسميه أيضًا «الثيسيوس»
The Theseus٢ و«الإليسوس»
The Ilissus، الرجل الذي يمكن
أيضًا أن أسميه «فيدياس»
Phidias،
٣ فإنه يتوج الحركة الحيوية الأخيرة في المنحدر الهليني. إنه عبقري، ولكنه
ليس «غريبة»؛ فهو يقع موقعه بشكلٍ طبيعي تمامًا بوصفه أستاذ التدهور المبكر. إنه الرجل
الذي يجري فيه، ثرًّا دافقًا وإن يكن فظًّا بعض الشيء، تيارُ الإلهام الذي منح الحياة
للنحت الإغريقي القديم. إنه جوتو (وإن من صنفٍ أدنى) المنحدر الذي بدأ من القرن الثامن
ق.م — أدنى بكثيرٍ من القرن السادس الميلادي — لكي يَرزح ويتبدد في مستنقعات الهراء
الهلينستي والروماني، من أين أتت تلك الصحوة الهيلينية؟ حتى الآن لا يمكننا أن نقول،
ربما من بقايا حضارة من متوسطية جليلة لا أتردَّد في القول بأن الصحوة الهيلينية كانت
رد فعلٍ ضد ماديتها المغرقة، تمكن قراءة قصةِ بدايتها في كسر النحت القديم المتناثر
خلال أوروبا، والمدروس في المتحف القومي في أثينا؛ حيث تكشف تماثيل معيَّنة للرياضيين
تعود إلى حوالي سنة ٦٠٠
٤ مزايا وعيوب الفن الإغريقي في عنفوانه. وفيدياس هو جوتو (من الدرجة
الثانية) انحدارِه المبكر في القرن الخامس،
٥ ونُسَخ المشاهير من معاصريه ومن أسلافه المباشرين مُغثية جدًّا؛ بحيث
يستحيل أن تكون دقيقة، وبراكسيتليز
Praxiteles،
٦ في القرن الرابع، عصر الرابعة المُكتملة، هو كوريجو
Corregio٧ أو أيما عابثٍ مبهج يقترحه عليك إحساسك بالفن والكرونولوجيا، وتأبى علينا
عمارة القرن الخامس والرابع أن نَنسى عظمة الإغريق في العصر الذهبي من تاريخهم الفكري
والسياسي، وبوسعك أن تَقتفي الهبوط من الرسم الحساس (وإن يكن دائمًا مثقلًا بالتفاصيل)،
عبر الرسم الذواق والمكتمل، إلى القسري بغير فاعلية في جرار وزهريات القرن السادس
والخامس والرابع والثالث، وفي الرمال والسهول المديدة للواقعية الرومانية يضيع تيار
الإلهام الإغريقي إلى الأبد.
قبل وفاة ماركوس أوريليوس كانت أوروبا ضجرةً من المادية مثلما كانت إنجلترا قبل وفاة
فيكتوريا، ولكن أية قوةٍ قدِّر لها أن تحطم آلةً استعبدت الناس تمامًا بحيث لم يجرءوا
على تصور أي بديل؟ لقد تضخَّمت هذه الآلة حتى لم يَعُد بقدرة الإنسان أن يُحدِّق إلى
جانبها، لم يَعُد بقدرته أن يرى سوى كرنكاتها وروافعها، ولا يسمع إلا طنينَها، بوسعه
أن
يلاحظ الحذَّافات المدومة ويغترُّ بتأمل الكرَّات الدوَّارة. كانت الإبادة هي المهرَب
الوحيد للمُواطن الروماني من الإمبراطورية الرومانية، وبينما كان هادريان في الغرب يخمر
الموهبة الإمبراطورية في التوحُّش إلى نظامٍ وعلمٍ كانت خميرةٌ جديدةٌ في الشرق — في
مصر وآسيا الصغرى، أو، على الأرجح، في سوريا أو بين الرافدين أو حتى فارس — كانت تعمل
عملها. كانت تلك القوة التي ستحرِّر العالم في اختمار. كانت الرُّوح الدينية تولد مرةً
ثانية، هنا وهناك في وجه التناقض التام في الأحوال سيَسع واحدًا أن يقوم ويؤكد أن
الإنسان لا يعيش بالخبز وحده. كانت الأورفية
٨ والمثرية
٩ والمسيحية — وهي أشكال متعددة لروحٍ واحدة — تشرع في أن تعني شيئًا أكثر من
الطقوس الدقيقة والفسوق المضمر، كان تغيرٌ ما يرين رويدًا رويدًا على وجه
أوروبا.
كان ثمة تغير قبل أن تتبدى علاماته؛ فالتصاوير المسيحية الأولى في مقابر تحت الأرض
كلاسيكيةٌ خالصة، وإذا كان المسيحيون الأوائل يحسون أي شيء جديد فإنهم لم يستطيعوا
التعبير عنه، ولكن لم يكد القرن الثاني يَنصرم حتى كان الصناع الأقباط قد شرعوا ينسجون
في التصاميم الرومانية الميتة شيئًا ما حيويًّا، لقد انحرفت الأنماط الأكاديمية على
نحوٍ غريب وانبسطت إلى أشكالٍ ذات دلالة معيَّنة، كما يُمكن أن نحسَّ من جانبنا إذا
ذهبنا إلى غرفة النسيج في ساوث كنسينجتون، من المؤكد أن هذه المنسوجات القبطية للقرن
الثاني أشبه بالأعمال الفنية من أي شيءٍ أُنتج في الإمبراطورية الرومانية لأكثر من
أربعمائة سنة، أما التصاوير المصرية للقرن الثالث فتحمل شهادة إيجابية أقل على تلمسات
روح جديدةٍ تتحسَّس طريقها، ولكن في بداية القرن الرابع شيَّد ديوقليتيانوس
١٠ قصره في سبالاتو؛ حيث تعلمنا جميعًا أن نرى الكلاسيكية والرُّوح الجديدة من
الشرق يقتتلان عليها جنبًا إلى جنب، وإذا كان لنا أن نثق في
Strzygowski فمن نهاية هذا القرن تتأرَّخ الكنيسة
الجميلة لكودجا — كاليسي في إيسوريا. إن القرن الذي ساد فيه الشرق في النهاية على الغرب
(٣٥٠–٤٥٠م) هو فترة اختمار. إنه وقت نشاطٍ مضطرب يَسبق الاندلاع البيِّن للفن على
المنحدر المسيحي. لقد كنتُ قمينًا أن أؤكد بثقةٍ أن كل ميلادٍ فني تسبقه فترة حمل قلقة
يكتسب فيها الطفلُ غير المولود الأعضاء والطاقة التي ستُقله في رحلته الطويلة، لو أنني
كنت أملك البيانات الكفيلة بأن تُقدم دعمًا مترنحًا لمثل هذا التعميم المريح. وا أسفاه!
فميلاد المنحدرات العظيمة للعصر القديم محجوبٌ في ليلٍ قلما تؤرقه أبحاثٌ دقيقة لأثريين
دءوبين، ومستغلق على الكشوف المروِّعة لخبراء التزييفات المكشوفة، عن هذه الفترات
الحرجة، نحن لا نجرؤ على أن نتحدث بثقة، ورغم ذلك فإن بوسعنا أن نقارن القرن الخامس
بالقرن التاسع عشر ونستنبط نتائجنا الخاصة.
في عام ٤٥٠ شيَّدوا ضريح جالا
بلاسيديا Galla Placidia الجميل في رافينا، إنه مبنًى غير روماني في صميمه؛ أي أن
الصبغة الرومانية التي تتعلَّق به عارضةٌ ولا تُضيف شيئًا إلى دلالته، غير أنَّ
الفسيفساء داخله ما زالت كلاسيكية على نحوٍ فظٍّ. ثمة واقعيةٌ مُغثِيةٌ في الخراف وفي
الراعي الصالح تتجاوز مسحة الإغريقي؛ الروماني أبولو. لا تزال المحاكاة تُقاوم وإن كانت
تحارب معركةً خاسرة مع الشكل الدال، وعندما بدأ تشييد كنيسة سان فيتال S. Vitale سنة ٥٢٦م حُسمت المعركة، وكانت أيا صوفيا
تُشيد بين عام ٥٣٢ وعام ٥٣٧م، تنتمي أرقى فسيفساء في سان فيتال وسان أبولينير نوفو وسان
أبولينير إنكلاس إلى القرن السادس، وكذلك سان سيرجيوس وباكوس في القسطنطينية والدومو
في
بارينزو. والحق أن أفخم آثار الفن البيزنطي تنتمي إلى القرن السادس، إنها الذروة
البدائية والأسمى للمنحدر المسيحي. إن الصعود من مستويات الطريقة الإغريقية — الرومانية
هو صعودٌ هائلٌ لا يُقاس، والجوانب التي يمكن أن يشملها هذا الصعود لا تزال غير مكتشفة؛
إنه الطول الكلي للمنحدر من أيا صوفيا إلى نصب فيكتوريا المنتصب واقفًا على قاعدة من
مئات السنين، ونحن على ارتفاعات لا تُرى منها السهول الطينية، والمرء إذ يمكث هنا يتعذر
عليه أن يعتقد بأن السهول كان لها وجود على الإطلاق، أو، على أيَّة حال، أنها سيكون لها
وجود مرةً ثانية. اذهب إلى رافينا ولسوف تشهد روائع الفن المسيحي، بدائيي المنحدر،
واذهب إلى التيت جاليري أو اللكسمبورج ولسوف تشهد نهاية هذا المنحدر الفنَّ المسيحي وهو
في النزع الأخير، مثل هذه الأضرُب من «تذكرة الموت»
مفيدة لنا في عصر الثقة الذي نحن فيه؛ إذ نشعر، ولنا عذرنا، ونحن ننظر إلى لوحات سيزان
أننا بعيدون فوق الطين والملاريا، فبين سيزان وتيت جاليري آخر ماذا يقبع مذخورًا
للرُّوح الإنسانية؟ هل نحن في فترة اختمارٍ جديدة؟ أو هل ولد العصر الجديد؟ هل هو
منحدرٌ جديد هذا الذي نحن فيه، أم نحن فقط في جزء من ارتعاشٍ تمهيدي مدهش في قوته؟ هذه
تساؤلات للتفكُّر، هل سيزان هو بداية منحدر، أم بشير، أم مجرد ذروة حركة؟ الكاهنات لا
تحير، شيء واحد يبدو لي مؤكدًا: منذ أن وضع البدائيون البيزنطيون أعمالهم الفسيفسائية
في رافينا لم يخلق أي فنان في أوروبا أشكالًا ذات دلالة عظيمة اللهم إلا سيزان.
ومع أيا صوفيا بالقسطنطينية، وكنائس وفسيفساء القرن السادس في رافينا، يؤسس المنحدر
المسيحي نفسه في أوروبا،
١١ لقد أخذ انعطافةً إلى أسفل في القسطنطينية، غير أن الإلهام الجديد بقي يعبر
عن نفسه في جزء أو آخر من أوروبا على نحوٍ أسمى لأكثر من ستمائة عام، كانت هناك بالطبع
صعداتٌ ونزلات، حركاتٌ وردَّات فعل، فكان الفن في بعض الأماكن جيدًا دائمًا تقريبًا،
وفي أماكن أخرى دون الطبقة الأولى دائمًا، ولكن لم يكن ثمة هبوطٌ مستعصٍ عام حتى
استسلمت العمارة النورمانية والرومانسكية للعمارة القوطية، حتى تحوَّل نحت القرن الثاني
عشر إلى تزيين القرن الثالث عشر.
احتفظ الفن المسيحي بدلالته البدائية لأكثر من نصف ألفية، ولستُ أرى عجبًا في ذلك،
فحتى الأفكار والعواطف كانت تتنقَّل ببطء في تلك الأيام. لقد حقَّقت القطارات والبواخر
من جهة، على كل حال، تنبؤات مستخدميها؛ فجعلت كل شيء يتحرك أسرع. يكمن الخطأ في ثقتهم
المفرطة بأن هذه نعمة، أما في تلك العصور المظلمة فكانت الأشياء تتحرك ببطء، هذا أحد
أسباب لماذا لم تستنفد القوة الجديدة نفسها في ستمائة سنة، وسبب آخر هو أن الإلهام جاء
إلى عصرٍ كان يقتحم أرضًا جديدة على الدوام. كانت هناك دائمًا بقعةٌ بكرٌ تتلقى البذرة
وتزرع محصولًا قويًّا، فبين سنة ٥٠٠ وسنة ١٠٠٠م كانت الكتلة السكانية لأوروبا سائلةً
فكان ثمة دائمًا عرقٌ جديد قابض على الإلهام والشعور ومعبر عنه بحساسيةٍ وانفعالٍ
بدائيَّين. وكان العِرق الأخير في تلقي العدوى من أرقى الأعراق، فأنتجت القوة
النورماندية والذكاء الفرنسي في القرن الحادي عشر في غرب أوروبا مظهرًا للخميرة
المسيحية لا يقلُّ كثيرًا عن ذلك الذي مجَّد الشرق قبل ذلك بخمسمائة عام.
ولأؤكد مرةً ثانية أنني عندما أتحدث عن الخميرة المسيحية أو المنحدر المسيحي فأنا
لا
أفكر في الدين العقدي، وإنما أفكر في تلك الروح الدينية التي تُعدُّ المسيحية، بعقائدها
وطقوسها، مظهرًا واحدًا من مظاهرها، والبوذية مظهرًا آخر. وعندما أتحدث عن الفن كمظهر
للروح الدينية فأنا لا أعني أن الفن يُعبر عن عواطف دينية معينة، بله أن يعبر عن أي شيء
لاهوتي. لقد قلتُ إنه إذا كان الفن يعبر أي شيء فإنه يعبر عن انفعال يحسُّ تجاه الشكل
المحض وتجاه ذلك الذي يمنح الشكل المحض دلالته الفائقة؛ لذا فعندما أتحدث عن الفن
المسيحي فأنا أعني أن هذا الفن كان منتجًا لحالةٍ من الحماسة تعدُّ الكنيسة المسيحية
منتجًا آخر لها، كانت الرُّوح الجديدة بعيدةً عن أن تكون مجرد فورة إيمان مسيحي؛ بحيث
إننا لَنَجد تجلياتٍ لها في الفن الإسلامي،
١٢ يعلم ذلك كل من شهد صورةً فوتوغرافية لمسجد عمر في القدس. لم تكن النهضة
الانفعالية في أوروبا هي الانتشار الواسع للمذاهب المسيحية، وإنما من خلال الإيمان
المسيحي تأتَّى لأوروبا أن تدري بإعادة اكتشاف الدلالة الانفعالية للعالم. ليس الفن
المسيحي تعبيرًا عن عواطف مسيحية محدَّدة، بل عندما أيقظت المسيحية الناس هنالك فقط شرع
الناس في الإحساس بانفعالاتٍ تُعبِّر عن نفسها في الشكل. لقد كانت المسيحية هي ما وضع
أوروبا في تلك الحالة من الفورة الانفعالية التي انبثق منها الفن المسيحي.
يبدو أن تيار الحماسة قد أخذ بلبِّ العالم الشرقي، وحتى العالم الرسمي، لحظةً ما،
في
القرن السادس، غير أن المسئولين البيزنطيين لم يكونوا أكثر شغفًا بالسباحة من غيرهم،
لم
يكن الرجالُ المسيِّرين للآلة الإمبراطورية، والدارسين للشعراء السكندريين، والمشتغلين
بالأركيولوجيا الكلاسيكية على سبيل الهواية؛ لم يكونوا ليُحدقوا بشغف. ليس غير الناس،
المتبعين للنساك، بغموضٍ وبغباءٍ دون شك، من كان إلى جانب الانفعال وإلى جانب المستقبل،
وسرعان ما بدأت الإمبراطورية بعد وفاة جستنيان تنقسم إلى معسكرين. كان الفن الديني، على
نحوٍ ملائم، هو معيار الطرف الشعبي، وحول هذا المعيار نشبَت المعركة، قال لورد ملبورن:
«لا أحد يفوقني احترامًا للدين المسيحي، ولكن إذا بلغ الأمر أن تُجرَّ إلى الحياة
الخاصة …» في القسطنطينية شرعوا في جرِّ الدين، والفن أيضًا، إلى حرمة العاصمة الخاصة.
لم يكن ثمة مسئولٌ جديرٌ باسمه يُمكنه أن يشاهد الظل يضحَّى به من أجل الجوهر دون أن
تُلحَّ عليه رغبة في استدعاء الشرطة للقبض على شخصٍ ما. وقد أصبحت يقظة المسئولين
البيزنطيِّين واحتراسهم مضرب الأمثال. نعلم من رسالة كتبها الباب جريجوري الثاني إلى
الإمبراطور ليو، الأيقونوكلاستي (محطم الأيقونات الدينية)، أنَّ الناس كانت على استعداد
لأن تهَب أملاكها من أجل صورة، كان هذا عند البابا والإمبراطور والسيد فينلي المؤرِّخ
برهانًا كافيًا على فسادٍ خلقيٍّ مروِّع، وكانوا يُضاهون ذلك، فيما أعتقد، بطيش
المجدلية الفاضح. كان الناس بالقسطنطينية الذين يأخذون الفن مأخذ الجد، وإن بروحٍ
أدبيةٍ مفرطة إلى حدٍّ بعيد،
dicunt enim artem pictoriam piam
esse. كان لا بد لهذا أن يتوقَّف، وفي بواكير القرن الثامن بدأ
الهجوم الأيقونوكلاستي، لا تعنينا حرب المائة عام هذه، التي أدار فيها الحزب الشعبي
مُقاومة جريئة وناجحة في النهاية، غير أن هناك تفصيلة جديرة بالملاحظة؛ فأثناء الاضطهاد
الأيقونوكلاستي ظهر فنٌّ شعبي جديد في تلك الأدْيِرة البعيدة، وحولها، التي كانت معاقل
النسَّاك، والمثال الأشهر على هذا الفن هو «الكلودف سلتر»
Chloudof Psalter. من المؤكَّد أن فن الكلودوف سلتر ليس فنًّا عظيمًا؛
فالرغبة في الإيضاح تُفسد، في عامة الأحوال، كلًّا من الرسم والتصميم، إنها تُفسد
ولكنها لا تدمِّر تمامًا؛ ففي كثير من الرسوم يبقى ثمة شيءٌ ما ذو دلالة، ثمة دائمًا،
رغم ذلك، واقعية مُفرطة وأدبية مفرطة، ولكن لا الواقعية ولا الأدبية مستقاة من النماذج
الكلاسيكية؛ فالعمل مبتكَر في صميمه، وهو أيضًا شعبي في صميمه؛ إنه أشبه حقًّا ببيانٍ
حزبي، ونحن في موضع منه نرى الإمبراطور ووزراءه يؤدون عملهم كاجتماعٍ سرِّي للمُدانين،
فلنتجنَّب الإسراف في القيمة الفنية التي نُضفيها على الكلودوف سالتر، ولكنه على أعلى
درجة من الأهمية كوثيقة؛ لأنه يَعرض بوضوحٍ ذلك التضاد بين الفن الرسمي
للأيقونوكلاستيين الذي يستند إلى التقليد الهلينستي ويَقتبس ببلادة من بغداد، وبين الفن
الحيوي الذي يستمدُّ إلهامه من الحركة المسيحية ويحوِّل كل اقتباسه إلى شيءٍ ما جديد،
وجنبًا إلى جنب مع هذا الفن الحي للحركة المسيحية سنرى مخرجًا مستمرًّا من العمل القائم
على تقليد النماذج الكلاسيكية، تلك الأشياء الفظَّة والكئيبة التي تطلُّ كثيرًا في الفن
البيزنطي المبكِّر، والفن الميروفينجي
Merovingian١٣ والكارولينجي والأوتوني
١٤ والرومانسكي والإيطالي المبكر، ليست مع ذلك ميراثًا من الفترة
الأيقونوكلاستية، إنها الظل الطويل الذي ألقَتْه عبر التاريخ إصبع روما الإمبراطورية،
لم يكن الأذى الذي اقترفه الأيقونوكستيون متعذِّر الإصلاح ولكنه كان خطرًا. أطلق
المسئولون البيزنطيون، مخلصين لطبقتهم، أطلقوا العنان لذوقٍ في الأثاث، مانحين بذلك
هجومهم وخزًا غير متعمَّد، وكشأن نبلاء النهضة الكلاسيكية حطوا منزلة الفن، الذي هو
ديانة، إلى تنجيد، إلى حرفةٍ وضيعة. لقد رعوا حرفيِّين لم يكونوا يُنعمون النظر في
قلوبهم بل في الماضي؛ مَن جاء من بلاط الخليفة بنماذج بارعة، ومن العصر الكلاسيكي
القديم بإيهامات أنيقة؛ لكي تقوم مقام التصميم الدالِّ، وقد نظروا إلى اليونان، وروما
مثلما فعل رجال النهضة، ومثلهم أضاعوا في علم التمثيل فن الخلق، في عصر
الأيقونوكلاستيين بدأت النمذجة — النمذجة الرومانية الفظة — تنتأ وتلتفُّ على نحوٍ
زخرفي في القسطنطينية، القرن الثامن في الشرق هو بشير القرن السادس عشر في الغرب؛ إنه
استعادة المادية مع عشيقها: الفن الخنوع، يَروي لنا فن الأيقونوكلاستيين حكاية أيامهم؛
إنه فنٌّ وصفي، ورسمي، وتلفيقي، وتاريخي، وبلوتوقراطي، وبلاطي، وسوقي، ولحُسنِ الحظ كان
انتصاره جزئيًّا وسريع الزوال.
ذلك أن الفن كان بَعدُ عفيًّا بحيث لا تخنقه حفنةٌ من كبار الموظَّفين المهذبين،
وفي
النهاية انتصر النساك، وتحت الريجنت تيودورا (٨٤٢م) استعيدت الصور أخيرًا، وتحت الأسرة
البازيلية (٨٦٧–١٠٥٧م) والكومنينية
١٥ تمتَّع الفنُّ البيزنطي بعصرٍ ذهبي ثانٍ، ورغم أني لا يُمكنني أن أرفع أفضل
فن بيزنطي للقرن التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر إلى نفس المستوى العالي الذي
أضع فيه مستوى فنِّ القرن السادس؛ فأنا أميل إلى أن أضعه في مستوى أعلى، لا من أي شيء
سيأتي فحسب، بل أيضًا من أرقى منجزات لأزهى عصور مصر وكريت واليونان.
(٢) تألُّق وانحدار Greatness and Decline
بعد أن ألقينا نظرة على بدايات الفن المسيحي ينبغي ألا نتلكأ عند التاريخ البيزنطي؛
فالتجار والصناع الشرقيون الموغلون في أوروبا الغربية من البحر الأدرياتيكي وعبر وادي
نهر الرُّون حملوا معهم الخميرة، والرهبان الذين احترشتهم من الشرق الاضطهادات
الأيقونوكلاستية وجدوا أوروبا الغربية مسيحية وغادروها دينية. إن قوة الحركة في أوروبا
بين سنة ٥٠٠ و٩٠٠م لا تقدر في عامة الأحوال حق قدرها، يعود ذلك جزئيًّا إلى أن آثارها
الباقية غير واضحة؛ فالمباني هي الأشياء التي تقتنص العين، وقلما توجد خارج رافينا
عمارةٌ مسيحيةٌ لهذه الفترة. كذلك جدًّا ما يسمح للفن المهذب المدلل لبلاط النهضة
لشارلمان أن يسيء تمثيل عصرٍ ويغثي آخر، ومعظم تلك الحلي التافهة الوفيرة المصنوعة
للأباطرة الكارولينيين والأوتونيين، والتي يُمكنك أن تراها الآن في آكن
Aechen،
١٦ بهيمية شأنها شأن أي شيء آخر مصنوع فقط لكي يكون ثمينًا؛ إنها تعكس الذوق
الجرماني في أسوأ حالاته، ومِن الحكمة في اقتفاء خطِّ المنحدَر المسيحي وتقدير قيمته
أن
نتغاضى حتى عن أفضل الجهد التيوتوني؛
١٧ فمعظمه ليس فنًّا بدائيًّا أو قروسطيًّا أو نهضويًّا، بل هو فن جرماني، وهو
على كل حال مظهر للطابع القومي وليس إلهامًا إستطيقيًّا، أغلب الخلق الإستطيقي يحمل
ميسم القومية وقلما تحمل القومية الجرمانية أي أثر من الخلق الإستطيقي، والفروق بين
كنوز آكن والعمارة الجرمانية والنحت الجرماني بالقرن الخامس عشر وما ينتج الآن في
ميونيخ هي فروق سطحية؛ فكلها تقريبًا جرمانيةٌ حتى النخاع، جرمانيةٌ قلبًا وقالبًا:
أعني أنها منجزةٌ بضميرٍ حي، ونيةٍ صادقة، وتمكُّنٍ شديد، ومفتقرةٌ بالتحديد إلى ذلك
الذي يميز العمل الفني عن أي شيءٍ آخر في العالم، يمكن الشعور بإلهام العصور المظلمة
وحساسيتها بأتمَّ وثوقٍ وسهولة في الأعمال الفنية الصغرى المنتجة في فرنسا وإيطاليا،
١٨ على أن إيطاليا فيها من العمارة ما يكفي لأن يثبت تمامًا، إذا كان ثمة حاجة
لبرهانٍ آخر، أنَّ الروح كانت عفية، إنه عصرٌ ما يُسميه سيجريفويرا العمارة قبل
اللومباردية-الإيطالية البيزنطية: إنه عصر المدرسة البيزنطية للتصوير في روما.
١٩
إنَّ ما فعله «البرابرة»، بشكلٍ غير مباشر، للفنِّ هو شيءٌ لا يمكن إنكاره؛ لقد
أزالوا تقريبًا تقليد الثقافة، شرعوا في القضاء على بعبع الإمبراطورية، لقد نظفوا
السجل، واستطاعوا أن يقدموا قوارير جديدةً للخمر الجديد. يتعذَّر على الفنانين أن
يَكبتوا حسدهم عندما يَسمعون أن المصوِّرين والأساتذة الأكاديميِّين قد استرَقوا
بالنقاط. لقد تسلم البرابرة المشعل واجترحوا في ضوئه الأعاجيب. غير أن الناس في تلك
الأيام كانوا منشغلين بالقتال والحرث والصلاة؛ بحيث لم يبقَ لهم متسع من الوقت لأي شيءٍ
آخر. لقد امتصت الحاجات المادية طاقاتهم دون أن تسمنهم، كانت شهيتهم الروحية ضاريةً
ولكن كان لديهم دينٌ حيٌّ وفنٌّ حي ليُشبعاها. يفترض الناس أن العوز والقلاقل في العصور
المظلمة قد حطت بالبشرية إلى منزلةٍ لا تكاد تفترق عن الحيوانية، غير أن فنَّهم وحده
يدحض ذلك. وثمة دليلٌ آخر: إذا كان الاضطراب والقلاقل تحطُّ البشر إلى البهيمية لكان
الإيطاليون بالقرن التاسع هم أولى الناس بالثغاء والرغاء؛
٢٠ لقد كانوا عرضةً على الدوام لتحرُّشات العرب والمجر واليونان والفرنسيين
والجرمان على اختلاف أنواعهم، وكانوا محرومين من حوافز العمل والخلق التي أنتجت في زمن
الأمن الواسع للباكس رومانا
٢١ والباكس بريتانيكا تلك الثمار المجيدة للموهبة الفردية والعظمة العامة، على
أن المُستشكفين المجريِّين في ٨٩٨م يرون أن شمال إيطاليا كثيف السكان ومليء بالمدن المحصنة،
٢٢ أُحرقت لدى الاستيلاء على بارما (٩٢٤م) أربع وأربعون كنيسة، ومن المؤكَّد
أن هذه الكنائس كانت أشبه بسانتا ماريا دي بومبوزا أو سان بيترو في توسكانيلا منها بالكلوسيوم
٢٣ أو محاكم العدل الملكية، لا شك البتَّة في أن المُخرج الفني في العصور
المظلمة كان محصورًا بفقره؛ فقد أَنتج من فن الطبقة الأولى في أوروبا بين عامي ٥٠٠
و٩٠٠م أكثر مما أنتج في نفس البلاد بين عامي ١٤٥٠ و١٨٥٠م.
ذلك أنه في تقدير القيمة الفنية لحقبةٍ ما يميل المرء أولًا إلى النظر في روعة
منجزاتها الكبرى، وبعد ذلك يحسب كمية أعمال الطبقة الأولى المنتجة، وفي النهاية يُحسب
نسبة الأعمال الفنية المقطوع بفنيتها إلى المُخرج الكلي، يبدو أن النسبة في العصور
المظلمة كانت مُرتفعة، وهذه من سمات الفترات البدائية؛ فالسوق أضيق من أن يغري الكثير
من كبار المنتجين، وظروف المعيشة أقسى من أن تقيم أود رسام الأكاديمية أو الصالون
المعتاد الذي يعيش على مقدراته الخاصة ويُكبُّ على الفن لأنه غير مؤهل لأي شيء آخر، مثل
هذا المنتج الذي يُنبئنا وجوده عن حالة الفن أقل مما ينبئنا عن حالة المجتمع، والقمين
بأن يكون أسوأ عاملٍ في طاقمه، وأسوأ جندي في سريته، والذي كان النتاج الرئيسي لمدارس
الفن الرسمية — مثل هذا لم يُسمع عنه في العصور البدائية؛ ولذا فإن علينا في
استدلالاتنا ألا نُغفل الميزة التي تتمتَّع بها الفترات البدائية، ألا وهي أن من بين
أولئك الذين يُقدمون أنفسهم كفنانين فإنَّ الغالبية العظمى لديها موهبةٌ ما حقيقية،
وإنني لأَجرؤ على الحدس بأنه بين الأعمال التي بقيَت من العصر المظلم فإن نسبةً عالية
مثل ١ : ١٢ تحوز قيمة فنية حقيقية، فلو أن نسبة الفن المنتج بين ١٤٥٠ و١٨٥٠م مكافئة
لنسبته في الفترة بين ٥٠٠ و٩٠٠م لترجِّح جدًّا ألا تشتمل هذه الفترة على عملٍ فني واحد،
الحق أننا نَميل إلى أن نرى الأشياء الأهم فحسب لهذه الفترة وأن نضرب صفحًا عن السقط
الفاضح، على أني حين أحكم من الأعمال المنتقاة التي استرعت نظرنا في صالات العرض
والمعارض والمجموعات الخاصة، لا أعتقد بأي حال أن نسبةً تتعدى ١٪ من الأعمال المنتجة
بين ١٤٥٠ و١٨٥٠م يمكن أن توصف بحق كأعمالٍ فنية.
ليست المنجزات الكبرى للفن المسيحي بين ٩٠٠ و١٢٠٠م أعلى قدرًا من منجزات العصر الذي
يسبقه. الحق أنها تَقصر عن الروائع البيزنطية للقرن السادس، ولكن فن الطبقة الأولى لهذه
الفترة الثانية كان أغزر، أو لعلَّه كان أنجح في البقاء من فن الفترة الأولى. إن العصر
الذي أورثنا العمارة الرومانسكية واللومباردية والنورمانية لا يبدي أمارة انحلال، فما
نزال على المرتفعات المنبسطة ﻟ «النهضة
المسيحية» Christian Renaissance، والفنانون لا يزالون بدائيين، والناس لا تزال تشعر بدلالة
الشكل بما يكفي لأن يخلقوه بغزارة، والثروة الزائدة تشتري فراغًا زائدًا، وبعض هذا
الفراغ يُكرس لخلق الفن؛ لذا فأنا لا أعجب بالرأي الشائع (وإن يكن في رأيي غير دقيق)
القائل بأن هذه كانت الفترة التي بلغت فيها أوروبا المسيحية قمة تاريخها الروحي؛
فآثارها في كل مكان مهيبة أمام أعيننا، وبوسعنا أن نرى انتصارات الفن الرومانسكي لا في
فرنسا وإيطاليا وإسبانيا فحسب، بل في إنجلترا وفي بلدان خارجية بعيدة بُعد الدنمرك
والنرويج والسويد، كانت هذه آخر درجة منبسطة في الرحلة الطويلة من سانتا صوفيا إلى سانت
جونز وود.
ومع العمارة القوطية بدأ الانحدار، والعمارة القوطية تلاعبٌ في الحجر والزجاج، إنها
الطريق الملتف الذي ينتهي في كعكة عرسٍ أو إطارٍ مؤنَّف، الكاتدرائية القوطية عمل
براعة، وهو أيضًا ميلودراما، ادخل ولسوف تروعك مهارة البناء المنقطعة النظير، وربما
سيروعك حسٌّ بسرٍّ وقوةٍ غامضَين، ولكن لن يهزَّك الشكل الدال، قد تتأوَّه «آه» وتنهار،
ولكنك لن تَنسلك في وجدٍ متقشِّف. طوِّف حولها وتنعَّم بدقائق حرفة البناء، والأركان
الغريبة، والميازيب والدعامات الطامحة، ولكن لا تتوقَّع الرعشة التي ترجع إدراك الصواب
الشكلي المحض، إنما في العمارة تولد الرُّوح الجديدة أول ما تولد، وفي العمارة تموت أول
ما تموت.
نحن نجد الروح حية في نهاية القرن الثاني عشر في النحت الرومانسكي وفي الزجاج الملون:
بوسعنا أن نراها في كاتدرائية شارتر وفي كاتدرائية بورج،
٢٤ في كاتدرائية بورج ثمة إشارة إلى الطريقة التي تسير بها الأمور في حقيقة
أننا في مبنًى تافهٍ نجد زجاجًا وبعض كسرٍ من النحت جديرة بشارتر وبأي عصر أو مكان. إن
شيمابو
Cimabue ودوتشو
Duccio هما آخر الممثِّلين العظام في الغرب للتقليد الأعظم؛ التقليد
الذي يولي الجوهري كل شيء ولا يولي العرض شيئًا؛ فمع دوتشو على كل حال كان حسُّ الشكل
تقليدًا بقدر ما هو حيوي: وشيمابو هو «فان دي
سيكل»
Fin de siècle،
٢٥ يقولون إن شيمابو مات في ١٣٠٢م، ودوتشو بعد ذلك بخمسة عشر عامًا، ومع جوتو
(ولد في ١٢٧٦م)، وهو فنان أعظم من كليهما، ندور حول مفرق حاد بقدر حدة المفرق الذي
ذرعناه قبل ذلك بمائة عام مع ابتكار العمارة القوطية في فرنسا، ربما يكون جوتو من
الطبقة الثانية عن عمد؛ فقد كان بوسعه أن يُضحِّي بالشكل من أجل الدراما والحكاية،
صحيحٌ أنه لم يتخلَّ عن الجوهري قط ولكنه كان ينتقص من أركانه أحيانًا، لقد كان دائمًا
مشغوفًا بالفن أكثر من شغفه بسانت فرنسيس، ولكنه كان ينسى أحيانًا أن سانت فرنسيس لا
صلة له البتة بالفن. ذلك شيءٌ صحيحٌ نظريًّا إلى حدٍّ كبير؛ فالبيزنطيون كانوا يَعتقدون
أنهم أكثر اهتمامًا باللاهوت الدوجماتي منهم بالشكل، وما من فنانٍ عظيمٍ إلا كان يُضمِر
شيئًا من ذلك. الحق أنه ليس أخطر على الفنان من أن يعمد عن وعي إلى إغفال كلِّ شيء عدا
الفن؛ فأن يعتقد الفنان أن فنه معنيٌّ بالدين أو السياسة أو الأخلاق أو السيكولوجيا أو
الحقيقة العلمية ذلك خير؛ إذ يحفظ عليه حيويته وانفعاله وعافيته، ويَعصمه من النزعة
الجمالية العاطفية، ويجعل في يده مشكلة فنية ملائمة، ولكن على الفنان أن ينسى كل هذه
الأشياء، وعجزه عن نسيانها بالسهولة التي ينسى بها صائد السلَمون غداءه هو طامة كبرى.
لم يكن جوتو ينسى بسهولة؛ فهناك جداريات نجد فيها أن جوتو إذ يفشل في الإمساك بدلالة
شكلٍ ما فإنه يدعها تقرر حقيقةً أو تقترح موقفًا. بلغ جوتو أعلى مما بلغ شيمابو ولكنه
كثيرًا ما كان يهدف إلى الأدنى، قارن لوحته «العذراء والطفل» في الأكاديمية بلوحة
شيمابو في صالة العرض نفسها ولسوف ترى كم أمكن لإنسانيته أن تهبط به. أما الثقل الفظ
لأشكال تلك المرأة وطفلها فهو أمرٌ لا يخطر لشيمابو لأنه تعلم من البيزنطيين أن الأشكال
ينبغي أن تكون دالةً لا أن تكون شبيهةً بالحياة، لا شك أنه كان في ذهن كلَيهما شيءٌ ما
إلى جانب الاهتمام بالحبكات الشكلية، إلا أن جوتو سمح لذلك «الشيء ما» أن يطغى على
تصميمه، بينما ألزم شيمابو تصميمه أن يَطغى عليه، ثمة شيءٌ يقال اعتراضًا على صورة
جوتو، لقد كان مؤرقًا بعنفٍ بهاجس أن بشرية الأم والطفل هي المهم فيهما، فأصرَّ عليه
بحيث أضرَّ فنه، لم يقوَ شيمابو على مثل هذا الابتذال، اعقد المقارنة إذن فهي مفيدةٌ
ومرشدة، ثم اذهب إلى سانتا كروس أو أرينا شابل واعترف أنه إذا لم يكن أعظم اسمٍ في
التصوير الأوربي هو سيزان فإنه جوتو.
من القمة التي هي جوتو يهبط الطريق ببطء ولكن بثبات، يتزعم جوتو حركةً نحو المحاكاة
والصنع العلمي للصورة، مثل عبقريته كان مقدَّرًا لها أن تكون السبب في حركة، ولكن لم
يكن متعينًا عليها بالضرورة أن تكون سبب هذه الحركة، ولكن رُوح أي عصر من العصور أقوى
من أصداء التقليد مهما بلَغت عذوبتها، وقد اتَّجهت رُوح ذلك العصر، مثلما يعلم كل
مُحاضر تعليم مفتوح، شطر «الحقيقة» و«الطبيعة»، بعيدًا عن النشوات الفائقة للطبيعة. ثمة
لحظةٌ تبدأ الروح فيها تتوق إلى «الحقيقة» و«الطبيعة»، إلى الطَّبيعيَّة naturalism ومظهر الصدق verisimilitude. وفي تاريخ الفن تُعرف هذه اللحظة ببداية الانحطاط، ورغم
ذلك تُشنُّ حربٌ متصلة على الطَّبيعيَّة والمادية من قِبَل رُوحٍ عظيمةٍ أو روحَين
تائقين إلى الطرب الإستطيقي الخالص، ومِن عجبٍ أن هذه الحرب يصفها محاضر التعليم
المفتوح دائمًا كمعركةٍ من أجل «الحقيقة» و«الطبيعة»، لا شكَّ البتَّة أنهم سيظلون مائة
عام أو ما يقرب يُعلمون تلاميذهم أنه في عصر من التكلُّف والزيف المفرط ظهر رجلان،
سيزان وجوجان، استطاعا بالبساطة والإخلاص أن يردا العالم مرة ثانية إلى مكامن «الحقيقة»
و«الطبيعة»، والأعجب من كل هذا أن جزءًا مما يقولون سيكون صوابًا.
لقد قطعت الحركة الجديدة مع التقليد البيزنطي العظيم،
٢٦ وتركت جسد الفن ضحيةً لهجوم ذلك المرض الجديد الغريب «النهضة الكلاسيكية»
Classical Renaissance. إن القناة التي
تقع بين جوتو وليوناردو هي بداية النهاية، ولكنها ليست النهاية. لقد بلغ الفن الكِبر
متأخِّرًا، ومات بأسًى، وفن القرنين الرابع عشر والخامس عشر — وبخاصة المدارس
التوسكانية — ليس مجرد وصلة تاريخية؛ إنه حركة مهمة، أو بالأحرى حركتان، والأسماء السينية
٢٧ العظيمة أوجولينو
Ugolino، وأمبروجيو لورنزيتي
Ambrogio Lorenzetti،
٢٨ وسيمون مارتيني
Simone Martini، تنتمي إلى
العالم القديم قدر انتمائها إلى الجديد، ولكن الحركة التي أنتجت ماساتشو
Masaccio، وماسولينو
Masolino، وكاستانيو
Castgno،
ودوناتيلو
Donatello، وبييرو دلا فرنشيسكا
Piero della Francesca، وفرا أنجيليكو
Fra Angelico، هي ردُّ فعل من التقليد
الجوتي
Giottesque للقرن الرابع عشر، وهي حركةٌ
بالغة الحيوية، وكثيرًا، فيما يبدو، ما كان التحريك والاهتياج الذي تُثيره الكشوف
العلمية الكارثية في الصميم، كثيرًا ما كان سببًا للفن الجيد، وظني أن التقدير المنزَّه
للمنظور هو الذي مكن أوتشلو
Uccello ومانتينيا
Mantegna من بادوا أن يفهما الشكل انفعاليًّا؛ فلا بد
للفنان أن يكون لديه شيءٌ ما لكي يناله انفعالٌ به.
وخارج إيطاليا في بداية القرن الثالث عشر نجد مقاربات الإفلاس الروحي أكثر وضوحًا،
وإن كان التصوير هنا أيضًا أحسن بلاءً من العمارة. يبدو أن سبعمائة عام من الخلق الدائم
والمجيد قد أنهك العبقرية البنائية لأوروبا؛ فها هي العمارة القوطية تصبح مغثية
٢٩ بحيث لا يسع المرء أن يبتهج إلا عندما تَستسلم أوروبا وتَهجُر كل محاولة
للخلق وتَخلُد إلى محاكاة النماذج الكلاسيكية. كان كل خلقٍ حقيقي قد مات قبل ذلك بكثير،
وكان نقش ضريحه قد وضعه أستاذ الأوتوفر
Haute Oeuvre
في بوفيز
Beauvais، مجرد ابتكار فكري مسحوب على وجودٍ
عقيم ومنحوس، وما الكنيسة القوطية للعصور الوسطى المتأخرة إلا شيءٌ معدٌّ حسب الطلب،
لقد ابتكرت صيغة بناءٍ يجد داخلها الصانع، الذي أزاح الفنان، فرصةً لا نهاية لها لعرض
براعته. ثمة حاجةٌ كبرى لمهارة المشعوذ وذوق الفطائري ما دامت قوة الحس وعبقرية الخلق
قد فقدت، ثمة تجارة ناشطة في الأشياء الجميلة، وها هي المباني مرصعة بها من كل جانب،
اذهب وأنعم النظر في كلٍّ على حدة إذا كان لديك سنٌّ للحلوى الرخيصة.
وخارج إيطاليا كان التصوير يتَّخذ، بعمدٍ أكبر، الطريق الذي دلَّت عليه العمارة،
وبميسورك في المخطوطات المزخرفة أن تشاهد الفظاظة المتصلة للخط واللون، ومع بداية القرن
الرابع عشر كانت طلاءات ليموجس
Limoges٣٠ قد ساخت في ذلك السقوط الذي لم تُحاول أن تقوم منه أبدًا. أما عن التصوير
خارج الألب بعد ١٢٥٠م فحدِّث ولا حرج؛ فإذا كان الانحدار في التصوير الإيطالي أكثر
رفقًا؛ فلأن رُوح النهضة البيزنطية كانت تموت هناك موتًا أكثر تعسُّرًا، من جهةٍ لأن
الهبوط كان يعاق بفنانين أفرادٍ ارتفعوا فوق ظروفهم، ولكن هنا أيضًا كان الذهن يملأ
الفراغ الذي تركه الانفعال؛ فالعلم والثقافة يعملان عملهما، وبحلول عام ١٥٠٠م كان تيار
الإلهام قد تضاءل على نحوٍ مخيف بحيث لم يبقَ إلا ما يُدير بالكاد عجلات رجال العبقرية،
أما صغار الفنانين فكانوا فيما يبدو جاهزين لأن يُسلموا أنفسهم للمحتوم؛ فما دمنا لم
نغد فنانين نُوقظ فلنكن صانعين نُدهِش. إنه لشيءٌ مدهش أن نغري القنافذ بتفاحات مرسومة،
ذلك يصيب الناس بالذهول. مثل هذه الأعمال، بالمناسبة، دون مستوى خلفاء جوتو، نحن نتركها
للهولنديين الذين نَحسدهم بعض الشيء رغم ذلك. لقد خسرنا الفن، فلندرس علم المحاكاة، فها
هنا مجالٌ للعلم والبراعة، ولأنَّ رعاتنا الذين فقدوا إدراكاتهم الإستطيقية لم يفقدوا
كل حواسهم، فلنتملَّقهم بأشياء تُعبر عن الامتنان، لتكن أعنابنا وفتياتنا حلوةً كما هي
في الحياة، ولكن رعاتنا ليسوا جميعًا حسيِّين؛ فبعضهم أساتذة، وتجارة محاكاة القديم
جيدةٌ كتجارة محاكاة الطبيعة. وعلينا نحن علم الآثار والخبرة، تلكم العلامتان التوءمان
للفن المشلول؛ ذلك أن استجابة المرء للشكل تتطلَّب الحساسية، أما معرفة هل احترمت
القواعد أم لا فلا تتطلَّب غير معرفة هذه القواعد، وبحلول القرن الخامس عشر يكون الفن
قد أصبح مسألة قواعد، وتقييم الفن مسألة «خبرة»
connoisseurship.
الأدب ليس فنًّا خالصًا بأي حال، قليلٌ جدًّا من الأدب ما هو تعبيرٌ محض عن الانفعال،
ولا شيء من الأدب، في اعتقادي، هو تعبير عن انفعالٍ فوق بشري، معظم الأدب معنيٌّ، إلى
حدٍّ ما، بالحقائق والأفكار. إنه فكري؛ ولذا فإن الأدب مرشدٌ مضلِّل لتاريخ الفن،
وتاريخه هو تاريخ الأدب، وهو مرشدٌ جيد لتاريخ الفكر. إلا أن الأدب في بعض الأحيان
سيُقدِّم لتاريخ الفن حظًّا جيدًا من البنية الإضافية؛ مثال ذلك أن واقعة أن شارل
الأكبر أمر بجمع الأغاني الفرنجية تصنع قلادة أنيقة لنهضة فن آكن؛ فالذين يبدءون في
الجمع قد فقدوا الفورة الأولى للخلق، والتغيُّر الذي أصاب الفن التشكيلي في فرنسا تجاه
نهاية القرن الثاني عشر منعكس في المُنجَز التافه لكريتيان دي ترو
Chrètien de Troyes،
٣١ وكان القرن الحادي عشر قد أنتَج «أغنية رولان»
Chanson de Roland، وهي قصيدة في عظمة وبساطة كنيسة رومانسكية. لقد ميع
كريتيان دي ترو المفاهيم الهائلة لأعماله الأفضل ولوى بها إلى أوهام جيدة النسج. لقد
أنتج قصيدة محلقة ورشيقة وغير دالة مثل «كاتدرائية
روان»
Rouen Cathedral،
٣٢ وفي الأدب، مثلما هو في الفنون البصرية، صمد الأدب أطول صمود، وعندما سقط
سقط مثل لوسيفر — سقوطًا لا قيام بعده، لم يكن في إيطاليا نهضة أدبية، بل مجرد تقليب
في
ركام الهراء، وإذا كان ثمة رجل هو علامة وقف كامل فهذا الرجل هو بوكاتشيو
Boccaccio. مات دانتي في رافينا سنة ١٣٢١م، وكان موته
نقطة تحول في التاريخ الروحي لأوروبا، ووراءه يقع ذلك الذي، إذا أخذ مع الكوميديا
الإلهية، كسب لإيطاليا صيتًا أدبيًّا مبالغًا فيه، في القرن الثالث عشر كان هناك شعر
كثير لا يقلُّ كثيرًا عن «مرثية
رينالدو»
Lament of Rinaldo. وفي القرن الرابع عشر يجيء بترارك مع بلاء السبك
المعسول.
ولينسَنِي الله إن نسيت الفن الإيطالي العظيم للقرن الخامس عشر، ولكن، على الرغم
من
وجود كوكبةٍ من العبقريات الفردية وحشدٍ من المصورين الرائعين، فإن فن القرن الخامس عشر
كان أبعد عن الامتياز من المصورين الجوتيين للقرن الرابع عشر، والمُخرج الكلي للقرن
الرابع عشر والخامس عشر أدنى بما لا يُقاس من الإنتاج البيزنطي والرومانسكي العظيم
للقرنين الحادي عشر والثاني عشر. الحق أنه أدنى في الكيف، إذا لم يكن في الكم، من الفن
البيزنطي المتحلل والبيزنطي الإيطالي للقرن الثالث عشر؛ لذا سأقول إنه بنهاية القرن
الرابع عشر، وبرغم أن كاستانيو
Castgno وماسولينو
Masolino وجنتي لدا فبريانو
Gentile da Fabriano وفرا
أنجليكو
Fra Angelico كانوا أحياء، وكان ماساتشو
Masaccio وبييرو
piero وبليني
Bellini قادمين لم يولدوا بعدُ، بدا كما لو أن الطريق
الذي بدأ من القسطنطينية في القرن السادس على وشك أن ينتهي بمنزلق، ومن بودابست إلى
سليجو يمثل «القوطي المتأخر» شيئًا كريهًا بقدر ما هو «إحياء»، وبعد أن خرجت أوروبا
سالمة من الشعاب العالية كانت فيما يبدو بسبيل إنهاء رحلتها بالتردِّي في جرف، كان على
الاندفاع المتهوِّر أن يوقف، وعلى الهبوط أن يُهدَّأ بواسطة انعطاف غريب، بمُغامرة
خيالية، بانبعاث لم يكن ولادة جديدة، بل بالأحرى مرجل ميديا،
٣٣ بمرض نابض بالحياة مليء بالتَّوق والضَّحِك، كان للعالم القديم أن يُمد
أربعمائة عام أو نحوها، بواسطة القوة الصادمة ﻟ «النهضة
الكلاسيكية»
Classical
Renaissance.
(٣) النهضة الكلاسيكية وآفاتها The Classical Renaissance and Its Diseases
لا تعدو «النهضة الكلاسيكية» أن تكون فتلةً كبيرة في المنحدَر الطويل، غير أنها فلتةٌ
كبيرة جدًّا، إنها حدثٌ ذهني، من الوجهة الانفعالية كان الهزال الذي يبلي أوروبا يمضي
في مساره، كانت النهضة مجرَّد ومضةٍ محمومة، غير أن أهميتها للأدب هائلة؛ فبوسع الأدب
أن يستقلَّ بنفسِه عن الصحة الروحية، والأدب معنيٌّ بالأفكار قدر عنايته بالانفعالات،
بوسع الأدب أن يعيش على الأفكار معزَّزًا مكرَّمًا؛ فتاريخ فينلي Finlay للإمبراطورية البيزنطية، على سبيل المثال، لا يُثير انفعالًا
يُذكر، غير أن بوسعنا أن نسلك فينلي في زمرة الأدباء، كذلك الحال بالنسبة لهوبس وممسن
وسنت بيف وصموئيل جونسون وأرسطو؛ فبإمكان الفكر العظيم بغير شعور عظيم أن يصنع أدبًا
عظيمًا، وبين أقيَمَ ما لدينا من كتب هناك شطرٌ كبير لا ترجع قيمته إلى خصائصه
الانفعالية، وحتى حين يستند العمل العظيم إلى خاصية انفعالية، فإلى أي حد يكون هذا
الانفعال إستطيقيًّا؟ إنني أعرف أن المضمون الفكري والواقعي للشِّعر العظيم لا يكاد
يسهم في دلالته بشيء؛ فالمعنى الحقيقي للكلمات في أغنيات شكسبير، وهي أنقى ما بلغه
الشعر في اللغة الإنجليزية، هو في عامة الأحوال إما تافهٌ أو مبتذَل، إنها أغنيات
أطفالٍ حكائية أو أغاني غرف استقبال:
تعال، تعال إليَّ أيها الموت،
ووارني تحت سروةٍ حزينة،
واغربي، اغربي عني أيتها الحياة؛
فقد قتلتْني فتاةٌ قاسيةٌ جميلة.
هل يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر ابتذالًا من هذا؟
هارك هارك
باو واو
كلاب الحراسة تنبح
باو واو
هارك هارك! أسمع
لحن ديكٍ مختال
يصيح، كوك-آ-ديدل-داو.
ماذا عساه أن يكون أكثر هراءً؟ وفي قريض شاعرنا الثاني ملتون (العظيم
بحيث إن كلمة «الثاني» قبل اسمه تبدو زائفةً كضحكة الأبله) فإن الأفكار ضحلةٌ مرارًا،
والوقائع كاذبة عادةً، وعند دانتي إذا كانت الأفكار عميقةً أحيانًا والانفعالات رهيبة
فإنها، كقاعدة، ليست موافقةً لأفضل مشاعرنا؛ فالوقائع أشبه بمحفوظات امرأةٍ هابطةٍ
سليطة. إن موسيقى الشكل هي التي تصنَع معجزة الشعر العظيم؛ فالشاعر يُعبِّر في شكل لفظي
عن انفعال لا يتَّصل بالألفاظ التي وضعها إلا صلةً بعيدة، غير أنه يتصل بها على أيَّة
حال، وهو من ثم ليس انفعالًا فنيًّا خالصًا. إن الشكل ودلالته ليسا كل ما في الشعر؛
فالشكل والمضمون في الشعر ليسا شيئًا واحدًا، ورغم أن بعض أغنيات شكسبير تَقترب من الفن
الخالص فهي لا تخلو من واقع الأمر من أُشابة. إن الشكل في الشعر مُثقلٌ بمضمون فكري،
وهذا المضمون هو حالة نفسية تَمتزج بانفعالات الحياة وتستند إليها، ومن هنا يَعجز
الشعر، رغم ما فيه من مواجد، عن أن ينقلنا إلى تلك الذُّرى العالية من الغِبطة
الإستطيقية التي ينقلنا إليها الشكل البصري والموسيقيُّ الخالص بفضل انفصاله عن الحياة
البشرية.
كانت «النهضة الكلاسيكية» قراءةً جديدة للحياة الإنسانية، وما أضافته إلى رأس المال
الانفعالي لأوروبا كان حسًّا جديدًا بروعة الشئون الإنسانية، وإذا كان رجال النهضة
ونساؤها قد اهتزُّوا ﺑ «الفن» و«الطبيعة»؛ فلأنهم في «الفن» و«الطبيعة» رأوا انعكاساتهم
الخاصة، لم تكن «النهضة الكلاسيكية» إعادة ميلاد بل إعادة اكتشاف؛ وذلك الخليط الرائع
من الفكر والملاحظة والتَّوق والبلاغة والحذلقة — الذي نُسميه أدب «النهضة» هو أفضل
وأميَز آثارها، والذي أعاد اكتشافه هو الأفكار التي من عليائها اكتسب القدماء رؤيةً
للحياة، اقتبست «النهضة» هذه الرؤية، وبفعلها هذا نزعت الوخزة من الموت الروحي للعصور
الوسطى المتأخرة. لقد بينت للناس أنهم نجحوا أيما نجاحٍ بدون روح، وجعلت المادية
محتلمةً بأن بيَّنت كم يمكن أن يُعمل بالمادة والذهن، ذلك كان عملها الفذ. لقد علَّمت
الناس كيف يَبذلون غاية جهدهم رغم المصاعب، وأثبتَت أنه بتثقيف الحواس وجعل الذهن
يتفكَّر فيها تتسنى إثارة انفعالٍ ما من صنفٍ رديء، فعندما فقد الناس إبصار الرُّوح
سربلت الجسد برداءٍ من فتنة.
كانت «النهضة الكلاسيكية»، جوهريًّا، حركةً فكرية، مما يثبت ذلك، في اعتقادي، حقيقة
أنها لم تمسَّ الطبقات غير المتعلمة تقريبًا. لقد عانوا من جرائها، ولم تقدم لهم أي
شيء، وبينا موجةٌ من الانفعال تفيض على الحدائق الخلفية، بقيَ تيارٌ ذهنيٌّ داخل في
قنوات الري، لقد أتمَّت «النهضة الكلاسيكية» الانفصال بين العلية والعامة. كان اللورد
القروسطي في قلعته والفلاح القروسطي في كوخه صنوَين روحيَّين يُفكران ويشعران نفس
الشيء، ويضمران نفس الآمال والمخاوف، ويتقاسَمان إلى حدٍّ عجيب آلام ومسرات مجتمعٍ
بسيطٍ وقاسٍ نوعًا ما، جاءت «النهضة» فغيَّرت كل ذلك. دخل اللورد عالَمًا جديدًا من
الأفكار والحسية الرفيعة، وبقي الفلاح حيث هو، أو تدنَّى أكثر حيث بدأت بقايا الدين
الروحي في الزوال عند الطغام. لم يتغيَّر الفنُّ الشعبي إلا ببطء شديد بحيث إننا في
أواخر القرن الخامس عشر وفي القرن السادس عشر لا نزال نجد في الأركان القصية أشياء
خامًا ولكن بالغة الإثارة. كان بناء القرية لا يزال بوسعه أن يُخلق بالحجر في الوقت
الذي كان فيه جاك كور يبني لنفسه أول «مقامٍ جدير بمليونير» يتمُّ إعلاؤه منذ أيام
هونوريوس Honorius، ولكن تدهور الفن الشعبي ببطء
مع تقدم الفن البلوتوقراطي عدوًا، ذلك حدثٌ غريبٌ سرعان ما ضاعت آثاره. أما الحقيقة
الجليلة فهي أن أوروبا النهضة بالتأكيد قد أدارت ظهرها للرؤية الروحية للحياة، بهذا
التخلي تصبح القدرة على خلق الشكل الدال هي الموهبة الملغزة للعبقرية العارضة، فينتج
فردٌ من هنا وهناك عملًا فنيًّا؛ ومن ثم صار الفن يُعتبر شيئًا متفرِّقًا في الصميم
وغريب الأطوار. يُعد الفنان أعجوبة، ها نحن أولاء في عصر الأسماء والفهارس وعبادة
العبقرية، ألا إنَّ عبادة العبقرية هي علامةٌ لا تخطئ على عصرٍ غير خالق، أما في العصور
العظيمة فقد لا نكون جميعًا عباقرة ولكن كثيرًا منا فنانون، وحيثما كان هناك كثرةٌ من
الفنانين يميل الفن إلى أن يصير غُفلًا (من الاسم).
كانت «النهضة الكلاسيكية» شيئًا مختلفًا في النوع عما قد أسميته «النهضة المسيحية»،
وهي تقع بالضرورة في موضعٍ ما بين سنة ١٣٥٠ و١٦٠٠م، ضعها حيث شئت، أما أنا فأتصورها
دائمًا كثوبٍ رائع وجيد التفصيل قُدَّ من السنوات الواقعة بين ١٤٥٣ و١٥٩٤م، بين سقوط
القسطنطينية ووفاة تينتوريتو Tintoretto؛ وهي عندي عصر
ليوناردو، وشارل الثامن، وفرنسيس الأول، وقيصر بورجيا، وليو العاشر، ورفائيل،
ومكيافيللي، وإرازموس الذي يَنتقِل بنا إلى المرحلة الثانية، فترة السياسة الكنسية
الغاضبة لكليمنت السابع Clement VII، وفونتينبلو Fontainebleau، ورابيليس Rabelais، وتيتيان Titian،
وبالاديو Palladio، وفيزاري Vesari، ولكن على أي تقدير فإن «النهضة الكلاسيكية» تقع بين العلو
الروحي لأوائل القرن الثاني عشر والمادية الوطيدة لأواخر القرن السادس عشر، وأيما شيء
حدث فإنما حدث بين هذين التاريخين، وكل ما حدث بالفعل لا يعدو أن يكون تغيرًا من رجولةٍ
متأخرة إلى شيخوخةٍ مبكِّرة مضاعفة بانتقالٍ لمنزلٍ آخر، وجالبةً معها هواياتٍ وحرفًا
جديدة، الانحدار من القرن الحادي عشر إلى السابع عشر مستمر ويُتوقع، أما التغير من عالم
أوريليان إلى عالم جريجوري الأكبر فكارثي، منذ «النهضة المسيحية». ورغم الأفكار
والمعرفة الجديدة، فقد أُفسد العالم بالاحتشام والنظام، ولزمه أكثر من إعادة اكتشاف
النصوص الإغريقية والتماثيل الإغريقية-الرومانية لكي تُثار الجوائح والزلازل التي
ردَّته شابًّا.
كان فن «النهضة العالية» (ذروة النهضة) High
Renaissance مكيفًا بمطالب رُعاته، ولا غرابة في ذلك؛ فهو مرحلة
معروفة في مسيرة الانحدار، كان رعاة «النهضة» يريدون كثيرًا من الجمال من الصنف المفضل
لدى السماسرة السريعي التأثُّر، إلا أن بلوتوقراطيي القرن السادس عشر كان لديهم ذوقٌ
رقيق وحساس قمين بأن يجعل منازل وطرائق السماسرة المُحدَثين غير محتملة بالنسبة لهم.
قد
يكون مليونيرات «النهضة» سوقيِّين غلاظًا ولكنهم كانوا سادةً عظامًا؛ فهم ليسوا أوغادًا
أميين، ولا بيوريتانيين فضوليين، ولا حتى مخلصي مجتمع، غير أننا إن شئنا أن نفهم الرواج
المذهل لنساء تيتيان وفيرونيز Veronese يتعيَّن علينا
أن نلاحظ عذوبة مُقبَّلهنَّ ورغبتهن الواضحة في أن يُقبَّلن، هذا الجمال الذي يمكن أن
نستبدل به كلمة desirableness «مرغوبية»، وهذا الجمال
غير الدال الذي هو جمال الجواهر، كان مطلوبًا بشدة. المحاكاة أيضًا كانت مطلوبة؛ فإذا
كان على الصور أن تسرَّنا بوصفها اقتراحات أو تذكارات، توجب للأشياء التي تقترح أو تذكر
أن تصور بإتقان، تعين على هذه الصور أن تُثير انفعالات الحياة أولًا. أما الانفعال
الإستطيقي فكان أمرًا ثانويًّا، كان المقصود من لوحة «النهضة» أن تقول بالضبط تلك
الأشياء التي يودُّ الراعي أن يسمعها، وفي هذا الطريق تكمن نهاية الفن. قد يكون من
الخبث أن تُحاول أن تصدم الدهماء، ولكن الأخبث منه أن تحاول إرضاءها. ولكن بغضِّ النظر
عما اضطُرَّ مصوِّرو «النهضة» أن يقولوه، فقد قالوه بالطريقة الرفيعة، تذكر أننا لسنا
هولنديِّين؛ لذا دع كل صورك توعز بالانفعال المناسب بواسطة الإيماء المناسب؛ الإيماء
الذي يُكرِّسه التقليد العظيم، أطراف مشدودة، سيماء الحب والكره والحسد والخوف والرعب،
أعيُنٌ تشخص لأعلى أو تُغضُّ لأسفل، أيادٍ مبسوطة أو مقبوضة في يأس؛ فبواسطة عُدتنا
الرائعة، ومهارتنا الأروع، يمكننا أن نقدِّم لهم كل ما يطلبونه دون إحباط
الفوتوغرافيين. غير أننا لسنا جميعًا رواةً؛ فبعض رعاتنا شعراء، العالم المرئي عند
هؤلاء لا يوحي بحالاتٍ مزاجية أو، على أية حال، يتعاطف معها. هؤلاء يقدرون الأشياء
لارتباطها بهزل الحياة وحماقتها وعاطفتها الرومانسية، ولهؤلاء أيضًا نحن نرسم صورًا،
وفي صورهم نحن نضفي على الطبيعة من الإنسانية ما يكفي لجعلها شائقة: سيدي الراعي فاسق؟
سيمنحه كوريجيو Correggio خلفيةً لمزاجه، سيدي جليل؟
سينبئه مايكل أنجلو أن الإنسان حقًّا حيوان نبيل عضلاته متمعجة بشكلٍ بطولي مثل زنبركات
الساعة. أنتج القرن السادس عشر جنسًا من الفنانين متميِّزًا من حيث شعورهم بالجمال
المادي، ولكنه عادي، يجيء حيث هو عند قدم التلال، من حيث حرفيتهم التقنية وفقرهم
الإستطيقي. البراعة الحرفية تمسك الشمعة التي تفضح
خواء الخزانة، الدلالة الإستطيقية للشكل لا تحس إلا إحساسًا واهنًا وغير خالص، والقدرة
على خلقه مفقودة تقريبًا، غير أن الأوصاف الأدق قلَّما تم تصويرها. لقد عرفوا كيف
يصورون في القرن السادس عشر، أما عن البدائيين — باركهم الله — فقد بذلوا وسعهم، ماذا
كان بوسعهم أكثر من ذلك وهم لا يقدرون حتى على تدوير فخذي امرأة؟
كانت النهضة إعادة ولادة أشياء أخرى إلى جانب تذوُّق أطرافٍ مستديرة والعلم الخاص
بتمثيلها، وها نحن نسمع مرةً ثانية بمرضَين، متوطِّنَين في روما الإمبراطورية، يُحصِّن
كل مجتمعٍ حيوي وعفيٍّ نفسَه منهما بدرجة معقولة؛ تصيُّد النادر، والاطِّلاع الواسع.
ليس بوسع هذَين الطُّفيليَّين التمكُّن من جسمٍ صحيح، إنما على المادة الميِّتة أو
المحتضرة يَنموان ويَسمنان؛ فشهوة تملُّك ما هو نادر ليس إلا؛ هي مرضٌ ينشأ عندما تشيخ
الحضارة، ويلازمها إلى القبر، إنه
إعفيني (
saprophytic)،
٣٤ لك أن تُسمي صائد النوادر «جامعًا»
collector إذا كنت لا تعني بالكلمة ذلك الذي يشتري ما يسرُّه أو
يُحرِّكه. من المؤكد أن مثل هذا الشخص لا يستحق الاسم؛ فهو يفتقد غريزة العقعق الحقيقي؛
فالقيمة الباطنية للعمل الفني عند «الجامع» الحقيقي هي شيء غير ذي صلة؛ فالأسباب التي
تجعله يُثمِّن لوحة هي تلك الأسباب التي تجعل جامع الطوابع يُثمِّن طابع بريد، وبالنسبة
له يُعدُّ سؤال «هل هذا يُحرِّكني؟» سؤالًا مضحكًا، والسؤال «هل هو جميل؟» يُعدُّ
سؤالًا عقيمًا. ورغم أن جامع الطوابع أو الأعمال الفنية، الشديد التذوُّق، يسمح للجمال
أن يكون جوهرةً جميلةً في تاج الندرة، فإنه يودُّ منا أن نفهم أن القيمة التي تسبغها
هي
قيمة عرضية وتعتمد في وجودها على النَّدرة. لا نَدرة لا جمال. أما عن القيمة الإستطيقية
الأعمق، فلو قُدِّر لإنسانٍ أن يعتقد في وجودها لكفَّ عن أن يكون جامعًا. والسؤال الذي
يجب أن يُطرح هو: «هل هذا نادر؟» افترض أن الردَّ بالإيجاب فسيبقى سؤالٌ آخر: «هل هو
أصلي؟» إذا كان عمل أيِّ فنان مُعيَّن غير نادر، إذا كان العرضُ يَفي بالطلب، فيبقى أن
يَستنبِط أن العمل غير ذي شأن كبير؛ فالفن الجيد هو الفنُّ الذي يجلب أسعارًا جيِّدة
والأسعار الجيدة تأتي من قلَّة المعروض، ولكن رغم أن من المشهور أن عمل فلاسكويز
Velasquez نادر نسبيًّا؛ ومن ثم جيد، فإنه يبقى أن
يُحكم ما إذا كانت لوحة معيَّنة عُرضت بخمسين ألفًا هي حقًّا من عمل فلاسكويز.
يدخل الخبير the expert، الذي أودُّ أن أميِّزه عن
الأركيولوجي وعن الناقد، الأركيولوجي رجلٌ لديه فضولٌ أحمق وخطر عن الماضي، وأنا
شخصيًّا بي من الأركيولوجي خصلة، الأركيولوجيا خَطِرة لأنها يمكن أن تغشي بسهولة على
حساسية المرء الإستطيقية؛ فقد يشرع الأركيولوجي، في أيَّة لحظة، في تثمين عملٍ من أعمال
الفن لا لأنه عملٌ جيد بل لأنه قديم أو شائق. ورغم أن هذا أقل سوقيةً، من تثمينه لأنه
نادر أو غالٍ فإنه قاتل للتقدير الإستطيقي بنفس الدرجة، ولكن ما دمت على إدراكٍ ببطلان
علمي، ما دمتُ أُدرك أنني أُعلي من قدر العمل الفني لأني أعلم متى وأين صُنع، ما دمتُ
أدرك أنني في الحقيقة في وضعٍ غير موات في الحكم على فسيفساء القرن السادس حين أُقارن
بشخصٍ لديه نفس الحساسية، ولكنه يعلم ولا يُهمه شيء عن الرومان والبيزنطيِّين، ما دمت
أدرك أن النقد الفني والأركيولوجيا شيئان مختلفان؛ فإنني أرجو أن يُسمح لي أن أقرزم في
هوايتي المفضلة دون أن أُفضح، آمُل ألا يَنالني أذًى.
يبدو لي النقد الأدبي في الحالة الراهنة للمجتمع مهنةً مُحترَمة وربما مفيدة، يعيش
التحيُّز ضد النقاد، شأنه شأن معظم التحيُّزات، على الخوف والجهل، وهذا التحيز لا ضرورة
له على الإطلاق وهو ساذج نوعًا ما؛ فالنقاد في الحقيقة لا ينبغي التهويل من شأنهم.
يشكُّ الناس أن النقاد يمارسون كل ضروب السطوة؛ صُنْع الصيت وطمسه، التضخيم والتقزيم،
الترويج والاستغلال؛ وهي أشياء لا أَحسبهم قادرين عليها، وبرغم الرأي الشائع عنهم فأنا
لا أظن أن النقاد ذوو قوةٍ جبارة، ولا أنهم فاسدون تمامًا، الحق أني أرى بعضهم شخصياتٍ
بريئةً بل محبَّبة. تلك التعريضات الخبيثة (والمتملِّقة رغم ذلك) والاتهامات المفتوحة
بالفساد تخبو بشكلٍ مفجع إذا نظر المرء كم هو ضئيلٌ ما يؤمِّل فيه ناقد الفن الحديث من
تقريظ لوحاتٍ تُباع بعشرين أو ثلاثين جنيهًا للواحدة. واعلم أن الخبير عرضةٌ لشيءٍ من
الغواية. إذ إن بضع كلمات منه محكمة الوضع قد ترفع لوحةً من عشرين ماركًا إلى عشرين ألف
مارك، ولكنَّ خُلُقَ الخبير، كما يعرف الجميع، هي فوق الشكوك. قد تكون مهنة الناقد غير
ذات جدوى، ولكنها قد تكون صادقة، وهل هي، بعد كل شيء، أقل جدوى من جميع المهن الأخرى
باستثناء المهن المتعلِّقة بخَلق الفن، وإنتاج الطعام والشراب والطباق وحمل أطفالٍ
ملاح؟
إذا «الجامع» سألني كناقدٍ عن رأيي عن لوحة فلاسكويز التي يوشك أن يَشتريَها،
فسأُخبرُه بصدقٍ عن رأيي فيها كعملٍ فنِّي، سأخبره إن كانت تهزُّني كثيرًا أو قليلًا،
وسأحاول أن أُبيِّن له تلك الكيفيات والعلاقات الخاصة بالخط واللون التي يبدو لي أنها
تمتاز فيها أو تَقصر، سأُحاول أن أعلِّل درجة انفعالي الإستطيقي. هذه في تصوري هي وظيفة
الناقد، أما كل التخمينات عن «أصلية» authenticity
العمل القائمة على دلالته الشكلية، أو حتى على كماله التقني، فهي مُجازَفة للغاية؛
فهناك دائمًا احتمالٌ بأن شخصًا آخر كان كفؤًا للأستاذ كفنانٍ وكصانع، وأن لهذا الشخص
الآخر، ربما، كمًّا هائلًا من الإنتاج. قد يَبيع الناقد للجامع جروًا عاديًّا بدلًا من
القطعة غير المدرجة في الفهرس؛ ومن ثم يلتمس الجامع من يستطيع أن يزوِّده بدليل على
أصلية لوحته من ذلك الصنف الذي يُرضي حَكَمًا خاصًّا ويُحير تاجرًا مشتريًا، ويَضحك
مُقهقهًا على البرهان الفني في الدوريات الصغيرة والمجلدات الكبيرة. إن الدليل التوثيقي
هو ما يُفضله، غير أنه إذا افتقد هذا الدليل فإنه سيتحمَّل أي تلفيق ماكر للتواريخ
والعلامات المائية، والتوقيعات السرية، والتشقُّقات، وصدأ القِدَم، والخصائص الكيميائية
للدهان والخامة، والورق، والقماش، وكل ضروب البرهان غير المباشر، التاريخي والبيوجرافي،
والحيَل المكشوفة للفرشاة والقلم، ﻓ «الجامع» إنما يستدعي «الخبير» لكي يُقدِّم ويعرض
هذا الصنف من الأدلة.
وأيما شخصٍ قادته الصدفة أو سوء الحظ إلى أوكار الجامعين والخبراء سوف يُسلِّم بأنني
لم أبالغ في تصوير هول الأمراض التي ورثناها عن «النهضة الكلاسيكية»، وسيكون قد سمع
بقيمة لوحةٍ حُدِّدت بناءً على تفسير رسالة، وسيكون قد سمع باللوحة التي تُشرَح من جميع
وجهات النظر إلا وجهة ذلك الذي يحسُّ دلالتَها: مَن صنع هذه اللوحة؟ مَن دفع ثمنها؟ كم
دفع؟ عبر أي مجموعاتٍ مرَّت هذه اللوحة؟ ما هي أسماء الشخوص المصوَّرين فيها؟ ما هو
تاريخهم؟ ما هو طراز وقصة ستراتهم وبنطالاتهم ولِحاهم؟ كم ستُساوي في معرض كريستي؟ كل
هذه أسئلة للمناقشة، ولسوف تناقش في الحصة التعليمية، ولكن هل سمع أحدٌ في اجتماعات
الخبراء شيئًا قط عن المزايا الإستطيقية لرائعةٍ فنية يَتجاوز ما هو تعليقٌ باردٌ
وسخيف؟
لقد رأينا الأساتذة في شقاقٍ حول أصلية لوحةٍ في «الجاليري القومي»، يَندلع الخلاف
حول تفسير علاماتٍ معينة في زاوية القماشة، أهي توقيعٌ أم ليست توقيعًا؟ وأيًّا ما يكون
الحكم الأخير فاللوحة ستبقى هي اللوحة، غير أنه إن أمكن إثبات أن العلامات هي توقيع
التلميذ، ستكون اللوحة عديمة القيمة. إذا تكشَّف أن «فينوس» لفلاسكويز هي موديل إسبانية
من عمل دشل أمازو
Del Mazo فإني أجزم أن أولئك العظام
الذين يُرشدوننا ويُعلمون الناس أن تحبَّ الفن سوف ينظرون إلى اللوحة باعتبارها قد تدنت
إلى منزلةٍ مُتواضعةٍ تلائم صانعها، إنما هذا التحالف غير المقدَّس بين «الخبرة»
Expertise والسلطة
الرسمية
Officialdom هو ما يَهدر عشرين ألفًا على لوحة لفرانز هالز
Frans Hals مُعتمَدة لا شك فيها، وأربعين ألفًا
على لوحة لمابيوز
٣٥ لن يودَّ أي فنانٍ صغير أن يستدين من أجلها.
٣٦ كان بوسع المشتري الحصيف مقابل النقود أن يحوز واحدةً من أرقى المجموعات في
إنجلترا؛ فالمعروض كبير والأسماء غير تاريخية. إن التنفُّج يُسوِّغ صورة شخصية
(بورتريه) لسيدةٍ عظيمة وإن كانت من صنع بولديني
Boldini، وحتى السيد لارفي قد يُحتفى به إذا جاء بصورةٍ لملك، ولكن
أنى لمحتسبينا أن يعلموا ما إذا كانت صورةً لفرد من العامة، أو لشيءٍ غير حي وغير
مشهور، من صنع ديجا أو سيزان، ما إذا كانت جيدة أم رديئة، فما يُهمهم أن يعرفوا ما إذا
كانت لوحة لهالز جيدة، بل يهمهم أن يعرفوا أنها لهالز.
لن أعرض بأي تفصيل نهاية المنحدَر، من بداية القرن السابع عشر إلى وسط القرن التاسع
عشر، القرن السابع عشر غنيٌّ بالعبقريات الفردية، ولكنها فردية؛ فمُستوى الفن فيه هابطٌ
جدًّا والأسماء الكبيرة لإلجريكو
El Greco
ورمبرانت
Rembrandt وفلاسكويز
Velasquez وفيرمير
Vermeer
وروبنس
Rubens وجوردينس
Jordanes وبوسان
Poussin
وكلود
Claude، وكذلك رِن
Wren٣٧ وبرنيني
Bernini (كمعماريِّين)، هذه
الأسماء تبرز مُتفرِّدة، ولو أنهم عاشوا في القرن الحادي عشر فربما ضاعوا في حشدٍ من
الأكفاء المغمورين؛ فَرمبرانت مثلًا، وهو ربما يكون حقًّا الأنبغ بينهم جميعًا، هو
انهيارٌ صميمٌ لعصره؛ فباستثناء بضعةٍ من أعماله المتأخِّرة كان حسُّه بالشكل والتصميم
ضائعًا تمامًا في خليطٍ من الخطابة والرومانس والكياروسكيورو.
٣٨ ولا يمكن أن نسامح القرن السابع عشر فيما فعله بعبقرية رمبرانت؛ فمن
مزاياها العظيمة على سلفه أن القرن السابع عشر كان قد كفَّ عن الاعتقاد بصدقٍ في أفكار
«النهضة الكلاسيكية»، لم يسَع المصورين أن يُكرِّسوا أنفسهم لاقتراح انفعالات الحياة
غير ذات الصلة لأنهم لم يشعروا بها،
٣٩ وبسبب افتقاد الانفعال البشري ارتدُّوا إلى الفن. لقد تحدَّثوا كثيرًا عن
الشهامة والنَّبالة غير أنهم كانوا يُفكِّرون أكثر في «التصميم الإنشائي»
Composition؛ فمثلًا في أفضل أعمال نيقولاس بوسان، الفنان
العظيم في ذلك العصر، ستلاحظ أن الشكل البشري يُعامل كشكلٍ قُدَّ من ورقٍ ملوَّنٍ لكي
يُدبس كما يشير التصميم الإنشائي. هذه هي الطريقة الصحيحة للتعامل مع الشكل البشري،
إنما يَكمن الخطأ في جعل هذه الأشكال تحتفظ بالإيماءات المميَّزة للبلاغة الكلاسيكية،
وبالطريقة نفسها تقريبًا يُعامِل كلود المعابد والقصور والأشجار والجبال والمواني
والبحيرات، مثلما يمكنك أن ترى في لوحاته الرفيعة بالجاليري القومي، وهي المعلَّقة
هناك، بجانب لوحات تيرنر. لعلَّ العالم يرى الفرق بين فنانٍ عظيم وشاعر ما بعد العشاء.
كان تيرنر
Turner مأخوذًا بملاحظاته وعواطفه بحيث
سجَّلها جميعًا دون حتى أن يُحاول أن يُنسِّقها في العمل الفني: من الواضح أنه لم يكن
يمكنه أن يفعل ذلك على أيِّ حال. تلك كانت فكرةً رخيصةً ومُضطَغِنة أملَتِ الفقرة التي
تقضي بأن لوحاته سوف تُعلَّق إلى الأبد إلى جانب لوحات كلود. لقد ودَّ أن يلفت الانتباه
إلى فرقٍ وقد نجح نجاحًا لم يكن يتوقعه؛ فاللعنات كالدجاج تأوي إلى البيت
لتَبيت.
في القرن الثامن عشر، حيث نَدرة العبقرية، نُدرك بوضوحٍ أكبر أننا على السهول، كان
شاردان هو الفنان العظيم الواحد، وكان أغلب الفنانين مُنجِدين للنبلاء والطبقة العليا؛
فالبعض يبتكر أثاثًا أنيقًا لغرفة الطعام، والبعض الآخر يَبتكر حُلًى صغيرةً أنيقةً
لمخادع السيدات، والكثير منشغلون على الدوام بتصوير عائلة جلالته أو جلالتها لكسب تبجيل
الأجيال القادمة. إن تصوير القرن الثامن عشر وسائل إيضاحٍ باهرةٌ لا تزال بها لمسةٌ
فنية؛ فعند واتو Watteau مثلًا وكاناليتو Canaletto وكروم Crome وكوتمان Cotman وجاردي Guardi ثمة بعض الفن، وبعض الألمعية، وكثيرٌ من الإيضاح
الجذاب. وعند تيبولو Tiepolo قلَّما نجد أي شيء عدا
الألمعية، ولا يدرك المرء وجود مزايا أخرى ما لم يضَع عمله بجانب عمل السيد سارجنت Sargent. وعند هوجارث Hogarth قلَّما نجد أي شيء عدا الإيضاح، ولا يُدرك المرءُ وجود مزايا
أخرى إلا إذا تذكَّر عمل «المبجل جون
كولير» Hon. John Collier. وإلى جانب المنجدين الذين يعملون للأرستقراطيين هناك فئة أخرى
يدعمها خبراء الذوق connoisseurs. هناك الثقلاء ذوو
الضمير الذين كان هدفهم المتواضع هو أن يصوِّروا ويرسموا بطريقة رفائيل وميكلانجلو. إن
هدفهم الأول هو الالتزام بالقواعد، والهدف الثاني أن يُبدوا بعض المهارة في هذا
الالتزام، وليس على المرء أن يَكترِث بهم.
قوة الخلق إذن مفقودةٌ تقريبًا، وعلى الرسامين أن يَقنعوا بنَسخِ أشياء جميلة. كان
العمودان التوءمان للتصوير في القرن الثامن عشر ما أسموه «الموضوع»
subject و«المعالجة»
treatment،
فلكي تَرسُم لوحة جميلة، لوحة مخدع، فعليك بامرأة جميلة، والْحَظ عنها ما قد يَلحظُه
رفيق عَشاء مُحتشِم ومُهذَّب، وسجِّل هذا في ألوانٍ زاهيةٍ وكتلٍ من الأبيض الصيني، ولك
أن تفعل الشيء نفسه بطاقم أدوات زينتها وأثوابها النزوانية وأسمار نزهتها. قم بمحاكاة
أي شيء جميل وثِق بفلاح عملك، ولكي تصنَع لوحةً نبيلة، قطعة غرفة طعام، فعليك أن تأخذ
نفس السيدة وتُلبِسها خيتونًا دوريًّا
٤٠ أو ديبلويدا وشملة دورية، أَعطِها كأسًا صغيرة ورقيبًا وكبش أضحية ومنظَرًا
بعيدًا لتيفولي،
٤١ دوِّر تخطيطك واجعل ضربات ريشَتِك طويلةً ومُنحنيةً قليلًا، عليك بالأصباغ
الهادئة والحارة نوعًا، وأَطلِق على الشيء النهائي «ديدو تصبُّ شرابًا لإلهة الحب.»
ولكي ترسم لوحة معرض، وهو المفضَّل لدى خبراء الذوق الأكثر تشدُّدًا، تأكَّد من أنك لم
تضع أي علامة لا يمكنك أن تجد لها مسوَّغًا عند روبنس أو سارتو
Sarto أو جيدو رِنِي
Guido Reni أو
تيتيان أو تينتوريتو أو فيرونيز أو رفائيل أو ميكلانجلو أو عمود تراجان،
٤٢ ولمزيدٍ من المعلومات ارجع إلى «المقالات» لسير جوشو رينولدز
Sir Joshua
Reynolds، إدارة
الطرق العامة، الذي تتحلَّى وصفاته بميزةٍ قلَّما نُصادفها في أطباقه؛ السطوع.
٤٣
إنَّ رد الفعل من الكلاسيكي إلى الرومانسي مسجلٌ في حينه بتغيير الموضوع؛ فتُصبح
الأطلال والتاريخ القروسطي صيحةً رائجة، وبالنسبة للفن، الذي لا يكترث كثيرًا بالفقاعات
الأنيقة للقرن الثامن عشر ولا بالفيض المزبد للصحوة الرومانسية، فإن هذا التغير لا يعدو
أن يكون التأرجح الخاص ببندولٍ غير ذي صلة، غير أنَّ الأفكار الجديدة أدَّت بشكلٍ
محتِّم إلى النزعة الأثرية antiquarianism، ووجد
الأثريُّون شيئًا أثيرًا للغاية في أسوأ ما في الفن القوطي. الرسَّامون الطائعون اتبعوا
المُتعالِمين المغرورين، وهل لديهم شيء آخر لكي يتبعوه؟ وشاردون من عصر العقل أقعدوا
لكي يُجمِّلوا ملائكةً تتكلَّف الابتسام. لم يعد مسموحًا الاكتفاء بقواعد اللياقة أو
الوقار الشخصي؛ فمطلوبٌ منهم تحليَة لحمِهم البارد بأقصى قدرٍ من العواطف الغرامية
والدينية يمكنهم إفرازه، بينا الزملاء الجدد، الأقل صدقًا بكثيرٍ من القدامى، الذين لم
يُحِسُّوا شيئًا ولم يقولوا شيئًا، يبدءون في تكلُّف سيماء الفنانين، هؤلاء الفيكتوريون
لا يطاقون؛ فبعد أن فقدوا الحرفة القديمة لم تَعُد اللوحات التي يصنعونها عديمة الدلالة
بلطف، إنها لتخور خوارًا مُنكرًا.
وحوالَي منتصف القرن التاسع عشر كان الفنُّ ميتًا تقريبًا قدرَ ما يسَعُ الفن أن
يموت، كان الطريق يجري موحشًا خلال المُستنقَعات الواطئة، كان هناك بالطبع أناسٌ
يحسُّون أن المحاكاة (سواء محاكاة الطبيعة أو محاكاة عملٍ فني آخر) لا تَكفي، ويَشعرون
بالحنَق على تسمية المنتجات الرائجة ﻟ «الأربعينيات» و«الخمسينيات» فنًّا، غير أنهم
بعامةٍ كانوا أقل سطوةً من أن يَصنعوا احتجاجًا مؤثرًا، وحيث إن الفن لا يمكن أن يموت
موتًا تامًّا، وإنما يرقد عليلًا في كهوفٍ وقِباء، فقد كان هناك دائمًا واحدٌ أو اثنان
يحقُّ لهما أن يُسمِّيا نفسَيهما فنانَين؛ فها هو أنجر
Ingres٤٤ العظيم يتخطَّى كروم
Crome، وكورو
Corot ودومييه
Daumier
يَتخطَّيان أنجر، ثم يأتي «الانطباعيون»
Impressionists، إلا أن معظم التصوير والنَّحت كان قد ساخ في شيء لا
يَحلم شخصٌ ذكي ومثقف أن يُسمِّيَه فنًّا، وإنما في تلك الأيام تم اختراع السِّلعة التي
لا تزال المُنتَج الرائج للمَعارِض الرسمية في طول أوروبا وعرضها، وبوسعك أن ترى
أطنانًا منه كل صيف في برلنجتون هاوس وفي «الصالون»
The Salon. الحق أنك قلَّما ترى شيئًا غيره هناك، إنه لا يدَّعي أنه
فن، وإذا كان منتجوه يظنونه فنًّا في بعض الأحيان فإنهم يفعلون ذلك بكل
براءة؛ إذ ليس لدَيهم أي فكرة عما يكونه الفن؛ فكلمة
«الفن» إنما يَعنون بها محاكاة الأشياء، وحبذا لو كانت أشياء جميلة وشائقة، هكذا قال
المتحدِّثون بلسانهم مرارًا وتكرارًا. إن صنف الشيء الذي بدأ يقوم مقام الفن حوالي
١٨٤٠م، وما زال يُعتبر مرضيًا للطبقة المتوسطة الدنيا، كان قمينًا أن يكون غير متصوَّر
في أي وقت بين سقوط الإمبراطورية الرومانية ووفاة جورج الرابع، وحتى في القرن الثامن
عشر، عندما كانوا عاجزين عن خلق الشكل الدال، كانوا يعرفون أن المحاكاة الدقيقة لا جدوى
لها في ذاتها، وليس قبل أن يُمكِّن لنفسه التصوير الرسمي (والنحت والعمارة الرسميان)
ويُقبل كبديلٍ للفن. يمكننا أن نقول عن يقين إن المنحدر الطويل الذي بدأ مع البدائيين
البيزنطيين قد انتهى، غير أنَّنا وقد بلغنا هذه النقطة نعرف أننا لا يمكن أن نهبط أكثر
من ذلك.
علينا أن نَسِمَ النقطة التي بالقرب منها ماتت اندفاعةٌ ضخمة، ولكن ليس علينا أن
نتلكأ في المستنقعات الآسنة (أو علينا ألا نوغل فيها إلا لكي نقول كلمة عدل). لا تُقذِع
في لوم المصوِّرين الرسميِّين، أحياءً أو أمواتًا، ليس بوسعهم أن يضيروا الفن؛ لأنهم
لا
علاقة لهم بالفن؛ ليسوا فنانين. إذا لم يكن بدٌّ من اللوم فلْتَلُم هذا الجمهور الذي
بعد أن فقَد كل فكرةٍ عما يكونه الفن جعل يطلب، ولا يزال يطلب، بدلًا منه الشيء الذي
يمكن لهؤلاء المصوِّرين أن يُقدِّموه. التصوير الرسمي نتاج ظروفٍ اجتماعيةٍ لم تَزُل
بَعْد. آلاف الناس الذين لا يُهمُّهم الفن البتَّة لديهم القدرة على شراء لوحاتٍ
ويُمارسون عادة شراء اللوحات. إنهم يريدون خلفية، تمامًا مثلما كانت سيدات النظام
البائد وسادتُه يُريدون خلفية، لا فرق إلا في أن فكرتهم عما ينبغي أن تكون الخلفية
مختلفة؛ يُقدِّم رسام التجارة ما هو مطلوب، ولسذاجته يُسميه فنًّا، إنه ليس فنًّا، وليس
حتى سببًا من أسباب الراحة، غير أن هذا يجب ألا يُعميَنا عن حقيقة أنه منتجٌ صادق.
أعترف أن الرجل الذي ينتجه يُرضي ذوقًا سوقيًّا وغير مربح، كذلك يفعل التاجر الشديد
الاستقامة الذي يَدفع بهليون تَفِه لسوق الكريسماس. لن يكترث سير جورجيوس ميداس أبدًا
بالفن، ولكنه سوف يحتاج دائمًا لخلفية، وما لم يَعترِ الأشياء تغيُّرٌ مفاجئ فسوف يمر
وقتٌ قبل أن يفقد القدرة على الحصول على ما يريد، مقابل جائزة. ومهما تكن روعة وحيوية
الحركة الجديدة، فهي في تصوري لن تقضي وحدها على مهنة صناعة الصور. سوف تخبو التجارة
ولكني أشك أنها سوف تبقى حتى لا يكون ثمة من يقدر على اقتناء تنجيدٍ منظراني، حتى لا
يكون ثمة مشترون إلا أولئك الذين يُضحُّون عن طيب خاطرٍ من أجل فرحة امتلاك عملٍ
فني.
(٤) يُخرج الحي من الميت Alid Ex Alio٤٥
في القرن التاسع عشر بَدا أن الرُّوح تدخل فترة حضانة من تلك الفترات الاستثنائية
التي تُذكِّرنا على الفور بالعصر الذي شهد المرض الأخير للإمبراطورية الرُّومانية
وللحضارة الهليلينية. ثمَّة شيءٌ ما يَبعث على القلق بشأن الفيكتوريِّين والحركة
الفيكتورية، لكأنما المرء إذ رأى القرش وقد سقط «كتابة» يهمُّ فجأة أن يكشف النقاب عن
ظل «ملك»، لقد كان يسعك أن تُقسم أنه كان «مَلِك»، إنه شيء لا يهمُّ ولكنه مُقلِق،
وربما يهمُّ فعلًا بعد كل شيء. حين ينظرون من زوايا نائية يأخذ القضاة والوزراء
الفيكتوريون سيماء المتآمرين، ثمَّة شيء نبوئي في السيد جلادستون، أما في برنامج
نيوكاسل فثمة شيءٌ مُثير للشفقة. تؤخذ فرضيات مُحترَمة متضمِّنة أحقر النتائج، ومع ذلك
فالطبقات المحترمة تُنظِّر، بينما الأناركيون والسوبرمن مُروَّعون لا أكثر بلعب الورق
وشرب الشمبانيا من جانب مَن هم أغنى منهم، واللاأدريُّون يرون إصبع الرب في سقوط باريس
الملحدة، والفرديُّون يَصخبون من أجل قوة شرطية أكبر وأكثر يقظة.
هكذا يبدو لنا القرن التاسع عشر، معظم الجبال تتمخَّض عن فئران مزرية، ولكن الأجزاء
ترتجُّ بزوابع في فناجين ذهنية، و«قبل
الرفائيليين»
Pre-Raffaelites يعترضون على تقليد النهضة الكلاسيكية كله، ويُضيفون بضعة
أسماء إلى القائمة الثقيلة للمصوِّرين المعروفين برداءتهم، و«الانطباعيون الفرنسيون»
يدَّعون أنهم لا يفعلون أكثر من دفع نظرية التمثيل السائدة إلى نهايتها المنطقية، وفي
ممارستهم يصوِّرون بعض اللوحات المجيدة. ليس هذا فحسب بل يزلزلون الموروث المهلك
ويُذكِّرون الشطر الأذكى من العالم أن الفن البصري لا علاقة له بالأدب من قريبٍ أو
بعيد، ويرسم ويسلر
Whistler جزءًا فحسب من الدرس
الصحيح، وآه لو كان فنانًا أعظم مما هو، غير أنه كان فنانًا على كل حال. وحوالَي سنة
١٨٨٠م انقرضت السلالة تقريبًا في هذا البلد.
٤٦
وخلال ضباب القرن التاسع عشر، الذي بدأ في ١٨٣٠م، تلوح نذرٌ عملاقة؛ فجميع الشخصيات
الكبرى تُنذر بسوء، فهم إذا كانوا لا ينتمون إلى النظام الجديد فإنهم يجعلون النظام
القديم مستحيلًا، كارليل Carlyle وديكنز Dickens وفيكتور
هوجو Victor Hugo، نتاج العصر ومحبوه بعنف. فلوبير Flaubert يشير بإصبع الازدراء. إبسن Ibsen، أحد بدائيي العالم الجديد، يكشف الصدوع في جدران القديم.
تولستوي قانعٌ بألا يكون أكثر من بدائيٍّ حتى أصبح مجرَّد شخص ممل. وبانشغاله بعمله
الخاص وضع دارون عمل كل شخصٍ آخر موضع التساؤل. وبإحداث ومضاتٍ جديدة من آلةٍ قديمة كشف
فاجنر جوانب القصور في الموسيقى الأدبية. وفي مُستهلِّ القرن العشرين برز سؤالٌ كان حتى
الثورة الفرنسية سؤالًا أكاديميًّا متحفَّظًا فيه، وشق طريقه إلى داخل السياسة: «لماذا
يُعد هذا خيرًا؟» وبفضل الجماليِّين (المتطرفين)
Aesthetes والانطباعيين الفرنسيين بصفة رئيسية
استيقظ ضميرٌ إستطيقي كان هاجعًا منذ ما قبل أيام «النهضة»، وشرع يَصيح: «هل هذا
فن؟»
ومن الطريف أن نتذكَّر أن أول ضجة متفق عليها أثيرت ضد «النهضة» وعقابيلها الصارخة
كانت في إنجلترا؛ فالحركة الرومانسية، التي كانت فرنسية وألمانية بقدر ما هي إنجليزية،
كانت مجرد ردِّ فعلٍ من كلاسيكية القرن الثامن عشر، ولم تُهاجم الاستبداد السائد إلا
قليلًا، ولم تنبذه إلا أقلَّ القليل. إن من حقِّنا أن نبتهج بحركة «قبل الرفائيليين» Pre-Raffaelite كشاهدٍ للتفوق الحاسم
لإنجلترا في الاستقلالية وعدم التقليدية في التفكير، يبدأ الإحباط عندما يتعيَّن أن
نعترف بأن الثورة لم تُفضِ إلا إلى عددٍ هائل من اللوحات الرديئة وإلى عاطفة هزيلة
ضئيلة، كان «قبل الرفائيليين» أهل ذوقٍ أحسُّوا عمومية «النهضة العالية» The High Renaissance وتَميُّز ما أسموه
«الفن البدائي» الذي عَنوا به فنَّ القرنَين الخامس عشر والرابع عشر. لقد رأوا أن
المصوِّرين منذ «النهضة» كانوا يحاولون أن يفعلوا شيئًا مختلفًا عما فعله البدائيُّون،
ولكنهم لم يُمكنهم أن يروا في حياتهم ما هو ذلك الذي فعله البدائيون. كانت ذائقتهم
تُفضل جوتو على رفائيل، ولكن السبب الوحيد الذي أمكنهم أن يُقدِّموه لتفضيلهم هو أنهم
يُحسُّون أن رفائيل سوقي، وهو سببٌ وجيهٌ، ولكن ليس أساسيًّا؛ ومن ثم بدءوا يَخترعون
أسبابًا أخرى، واكتشفوا في البدائيِّين إخلاصًا شديدًا للطبيعة وتقوى عالية وحياةً
عفيفة. وقد ظهر بُعدهم الشديد عن الحدس بسرِّ الفن البدائي عندما بدءوا هم أنفسهم
يَرسمون لوحات: سر الفن البدائي هو سرُّ كل فن، في كل زمان، وفي كل مكان — الحساسية
للدلالة العميقة للشكل وقوة الخلق. لكليهما تفتقر عصبة الإخوة السعداء، ولذا فلا عجب
أنهم تعين أن يجدوا المادة في أفعال التقوى وفي الأساطير والرموز، ويجدوا في الكهنوت
الصحيح الجوهر نفسه للفن القروسطي، ومن أجل إلهامهم نظروا إلى الماضي بدلًا من أن
ينظروا حولهم، وبدلًا من أن يغوصوا التماسًا للحقيقة فقد التمسوها على السطح. الحق أن
«قبل الرفائيليِّين» لم يكونوا فنانين بل أركيولوجيين يُحاولون أن يجعلوا الفضول الذكي
يقوم بعمل التأمل المشبوب العاطفة، وهم كفنانين لا يختلفون اختلافًا جوهريًّا عن حشد
المصورين الفيكتوريين، ولسوف يعيدون إنتاج الزخرف البراق للفن القوطي المتأخر بالتزامٍ
عبودي مثلما يُعيد الأكاديمي الصارم إنتاج نفطات برتقالة، وإذا حاوَلوا فعلًا أن
يُبسِّطوا — إذ إن بعضهم لاحظ تبسيط البدائيين — فقد فعلوا ذلك لا بروح فنانٍ بل بروح
قردٍ مجتهد.
التبسيط هو تحويل التفصيل غير ذي الصلة إلى شكلٍ دال. كان بوسع واحدٍ من «قبل
البرفائيليين» شديد الجرأة أن يُمثِّل قوس قُزَح بواسطة ورقتَي نجيلٍ دقيقتَين دقة
بالغة، غير أن ورقتَي نجيل بالغتَي الدقة هما خارجتان عن الموضوع خروج مليونَي ورقة،
إنما الدلالة الشكلية لورقة النجيل أو قوس قُزَح هي ما يعني الفنان. إن منهج قبل
الرفائيليين هو في أفضل الأحوال رمزية وفي أسوئها سخفٌ محضٌ، ولو كان «قبل الرفائيليين»
ينعمون بعقول عميقة التخيُّل لكانوا استردُّوا رُوح العصور الوسطى بدلًا من تقليد
مظاهرها الأقل دلالة، ولكنهم لو كانوا فنانين عظامًا لما رغبوا في استرداد أي شيء، بل
ابتكروا أشكالًا لأنفسهم أو استقُوها من محيطهم، تمامًا كما فعل فنَّانو القرون الوسطى،
الفنانون العظام لا ينظرون وراءهم البتَّة.
عندما يُشرف الفن على الموت كما كان في منتصَف القرن التاسع عشر، يُنظر للدقة العلمية
على أنها الغاية الصحيحة للتصوير، يقول «الانطباعيون الأكاديميُّون» حسنٌ جدًّا، كن
دقيقًا، كن علميًّا، في أفضل الأحوال يُسجِّل المصور الأكاديمي تصوُّراته، ولكن تصوُّره
ليس واقعًا علميًّا، يُنبئنا أهل العلم أن الواقع المرئي للعالم هو اهتزازات ضوء،
فلنتمثَّل الأشياء كما هي علميًّا، لنمثِّل الضوء، لنرسم ما نراه، لا البناء الفوقي
الذي نشيده فوق إحساساتنا. كانت تلك هي النظريَّة، ولو كانت غاية الفن هي التمثيل لكانت
صحيحة بدرجة كافية، غير أن غاية الفن ليست التمثيل، كما عرَف الانطباعيُّون العظام
رانوار Renoir وديجا Degas ومانيه Manet (اثنان منهما لا
يَزالان يُعرفان لحسن الحظ) في اللحظة التي أقلعوا فيها عن الجدل وأرتجُوا باب الأستديو
على ذلك المُنظِّر النابغ كلود مونيه Claude Monet.
واعلم أن بعضهم (مونيه قرب النهاية مثلًا) صنع مخططاتٍ متعدِّدة الألوان فاجعة البلادة،
ولم يُنتج «الانطباعيون
الجُدد» Neo-Impressionists سورا Seurat وسينياك Signac وكروس Cross
شيئًا آخر، كان بمكنة أي «انطباعي»، تحت تأثير مونيه و«وتو» Watteaw، أن يصنع شيئًا هزيلًا رخوًا لا شكل له، غير أن الأغلب حدوثًا
هو أن الأساتذة الانطباعيِّين، في سعيهم الخيالي والفاشل تمامًا إلى الصدق العلمي،
خلقوا أعمالًا فنيةً مقبولة من حيث التصميم ومجيدة من حيث اللون، هذه الواحة في صحراء
أواسط القرن أبهجت، بطبيعة الحال، الأشخاص الغريبي الأطوار الذين يهتمُّون بالفن، ولقد
تظاهَروا في البداية بأنهم مُستغرِقون في الدقة العلمية للشيء، ولكن لم يمضِ وقتٌ طويل
حتى أدركوا أنهم يَخدعون أنفسهم وكفُّوا عن الادِّعاء؛ ذلك أنهم رأوا بوضوحٍ شديد أن
هذه اللوحات تختلف اختلافًا عميقًا جدًّا عن النجاحات النادرة لوِرَش العمل الفيكتورية،
لا في احترامها المقدَّر للنظرية العلمية، بل في حقيقة أنها، رغم انصرافها الكبير أو
التام عن اهتمامات الحياة العادية، تُثير انفعالًا أقوى وأعمق بكثير، وبرغم النظريات
العلمية، أثار الانطباعيون انفعالًا يُثيره كل فنٍّ عظيم، انفعالًا لم يكن معظم الفنيين
والنقاد الفيكتوريين، لأسبابٍ واضحة، قادرين على الاعتقاد في وجوده. لم تَعتمِد ميزة
هذه الصور الانطباعية، أيًّا ما كانت، على العالم الخارجي، ماذا عساها أن تكون؟ قال
المُشاهِدون المسحورون «الجمال المحض»، ولم يكونوا بعيدين كثيرًا عن الصواب.
الجمال هو الصفة الجوهرية الوحيدة في العمل الفني، هذا مذهبٌ اقترن بشدة باسم ويسلر،
الذي لم يكن أول ولا آخر ولا أقدر دُعاته بل الأوضح فحسب في عصره. أن يقرأ أي شخص
«الساعة العاشرة» لويسلر لن يضيره أي ضرر ولن يفيده كثيرًا؛ فهو عملٌ ليس بالغ الروعة
وليس عميقًا على الإطلاق، غير أنه في الاتجاه الصحيح. يَنبغي ألا يقارن ويسلر بكبار
المجادلين أكثر مما ينبغي أن يقارن بكبار الفنانين؛ فأن تضع the Gentle
Art بجانب «أطروحة في رسائل فالاريس»، أو دفاع جيبون، أو جدليات
فولتير، سيكون ظُلمًا، مثله مثل أن تعلق Cremorne
Gardens في الأرينا شابل، لم يكن ويسلر زعيم العالم الفيكتوري
المتأخِّر، غير أنه بين اللنديين في «الثمانينيات» يعدُّ شخصيةً لامعة، في معرفته بما
يكونه الفن وفي خَلقِ الفن سواء بسواء، هذا ما يعطي كل لمحاته ومعاركه قوةً ولذعًا
خاصًّا. ثمَّةَ شرفٌ في وقاحته؛ فهو يستعمل مهارته الواضحة نوعًا ليقاتل من أجل شيء أعز
من الخُيلاء. إنه فنانٌ وحيدٌ يقف ويَضرب تحت الحزام من أجل الفن. لقد كان بغيضًا
للنقاد والمصوِّرين ووجوه عصره لأنه كان فنانًا، وكان مزعجًا لأنه كان يعلم أن أوثانهم
احتيالاتٌ وخُدع، فكان عليه أن يُعاني فظاظةَ، وخبثَ، أقسى زمرة من السفاحين على
الإطلاق تسلقت إلى مقعد السلطة، وكان عليه أيضًا أن يَعرف أنه لا أحد منهم كان يُمكن
بأي حال أن يتفهَّم كلمةً واحدةً مما قاله جادًّا. تفحَّصِ النقد الفني الإنجليزي لتلك
الفترة، بدءًا من البلاغة الغامضة لرسكن إلى الابتذال الصحفي ﻟ
Arry، ولن يتسنَّى لك أن تجد جملةً واحدةً تدعم
فرضية أن الكاتب يَعلم ما هو الفن مثلما يُظن. يقول
Arry في التايمز: «السلسلة كما ألمعنا لا تُمثِّل
أي فينيسا يهمنا كثيرًا أن نتذكرها؛ فمن ذا الذي يريد أن يتذكر تدني ما كان نبيلًا،
وفساد ما كان جميلًا؟» لقد بات على الفنان بغير شك ألا يردَّ على أيِّ نقد، وإنه ليكون
من الحماقة لدى تلميذِ مدرسةٍ أن يستاء من كلامٍ من هذا الصنف. ردَّ ويسلر «على النقد»،
وفي ردوده على الجهل والبلادة تمرَّسَ بالخبث، يُقال إنه كان فظًّا وسافلًا، نعم ولكنه
في هذا الصدد لا يُضاهي أشرف خصومه، وفي فظاظته وغلظته وفرادته تقريبًا كان يُدافع عن
الفن، في الوقت الذي كانوا فيه يتملقون كل ما هو تافه رديء في النزعة
الفيكتورية.
وكما حاولتُ أن أبيِّن في موضعٍ آخر فليس من الصعب أن نجد خطأً في النظرية القائلة
بأن الجمال هو الصفة الجوهرية في العمل الفني؛ أي إذا كانت كلمة «جمال» تُستعمل، كما
يبدو أن ويسلر وتابعيه قد استعمَلوها، لتعني الجمال غير الدالِّ؛ إذ يبدو أن الجمال
الذي كانوا يتحدَّثون عنه هو جمال زهرة أو جمال فراشة. أما إنني قلَّما قابلت شخصًا
حساسًا للفن لم يوافق في النهاية على أن العمل الفني يُحرِّكه بطريقة مختلفة تمامًا،
وأعمق بكثير، من الطريقة التي تُحرِّكه بها زهرةٌ أو فراشة؛ ولذا فإذا شئت أن تسمي
الصفة الجوهرية في العمل الفني «جمالًا» فإن عليك أن تميِّز بعناية بين جمال عملٍ من
أعمال الفن وجمال زهرة، أو، على أية حال، بين الجمال الذي يدركه أولئك الذين ليسوا
فنانين عظامًا من بيننا في عملٍ فني وبين ما يدركه نفس الأشخاص في زهرة، ألا يكون من
الأبسط أن نستخدم كلماتٍ مختلفة؟ التمييز على أية حال هو تمييزٌ حقيقي؛ قارن بين بهجتك
بزهرةٍ أو جوهرة، وبين ما تشعر به إزاء عملٍ فني عظيم، ولن تجد صعوبةً، فيما أرى، في
الاختلاف عن ويسلر.
ولأي شخص تُهمُّه النظرية أكثر مما تُهمُّه الحقيقة مطلق الحرية في أن يقول إن فن
«الانطباعيِّين»، بأفكاره الباطلة عن التمثيل العلمي، هو فطرٌ جميلٌ ينمو بطريقةٍ
طبيعيةٍ تمامًا على خرائب المُنحدَر المسيحي، ولا يصحُّ أن يُقال الشيء نفسه عن ويسلر،
الذي كان بالتأكيد في ثورةٍ ضد نظرية عصره؛ إذ يَنبغي ألا ننسى أبدًا أن التمثيل الدقيق
لما يحسب البقال أنه يَراه كان هو الدوجما المركزية للفن الفيكتوري. إنَّ القبول العام
لهذا الرأي — أن المحاكاة الدقيقة للأشياء صفة جوهرية للعمل الفني — والعجز العام عن
خلق، أو حتى عن تمييز، كيفياتٍ إستطيقية، هو ما يَسِم القرن التاسع عشر بوصفه نهاية
مُنحدَر، وإذا استثنَيت فنَّانين متفرِّقين وهواةً مُنعزلين فقد يَسعُك أن تقول إنه في
منتصف القرن التاسع عشر لم يَعُد للفن وجود، وها هنا أهمية الفن الرسمي والأكاديمي لذلك
العصر. إنه يُثبِت لنا أننا قد لمسْنا القعر وبلَغْنا الحضيض، إن له أهمية الوثيقة
التاريخية. في القرن الثامن عشر كان لا يزال هناك موروثٌ فني. ما مِن مُصوِّرٍ رسميٍّ
وأكاديمي، حتى في نهاية القرن الثامن عشر، معروف الاسم لدى عامة المثقَّفين ومرعيةٍ
أعماله من قِبَل الجامعين، إلا ويعلم جيدًا جدًّا أن غاية الفن ليست المحاكاة، وأن
الأشكال يحب أن تحوز بعض الدلالة الإستطيقية. أما أخلافُهم في القرن التاسع عشر فلم
يَعلموا، حتى الموروثُ مات. يعني ذلك أنه بصفة عامة وبصفة رسمية كان الفن ميتًا، ولقد
رأيناه يموت، وقد أُخذت «الأكاديمية الملَكية» و«الصالون» على تأدية غرضهما التاريخي
المفيد، ولسنا بحاجة إلى أن نقول المزيد عنهما. وماذا عن تلك الزمرة الفنية بالتأكيد
للقرن التاسع عشر، أولئك الذين جعَلوا الشكل وسيلةً إلى الانفعال الإستطيقي وليس وسيلةً
لذِكرِ الحقائق ونقل الأفكار؛ أعني «الانطباعيين» و«الجماليين» (المتطرفين)
Aesthetes مانيه ورينوار وويسلر وكوندر Conder و… و… أنعتبرهم زهورًا عرضيَّة تتفتَّح على قبرٍ
أم بشاراتٍ بعصرٍ جديد؟ ذاك شيءٌ يتوقَّف على مزاج من يعتبرهم.
ولكن مخطَّطًا للمُنحدَر المسيحي قد يَحسُن أن ينتهي ﺑ «الانطباعيِّين»؛ فالنظرية
الانطباعية طريقٌ مسدود، ومآلها المنطقي الوحيد هو «آلة
فن» art-machine، آلة لتأسيس القيم على نحوٍ صحيح، وتحديد ما تراه العين على نحوٍ
عِلمي، جاعلةً إنتاج الفن بذلك يقينًا ميكانيكيًّا، وقد أُنبئت أن مثل هذه الآلة قد
اخترَعها رجلٌ إنجليزي، أما لو أن آلة الصلاة هي حقًّا النقلة الأخيرة لديانةٍ شائخة،
فإن آلة جلب القيمة هي حقًّا بمثابة حادي رُوح الفن إلى عالم الموتى. لقد مر الفن من
الخَلق البدائي للشكل الدالِّ إلى التقرير الشديد التحضُّر للحقيقة العِلمية، وأعتقد
أن
هذه الآلة، التي هي النهاية الذكية والمحترمة، ينبغي الاحتفاظ بها، إذا كانت لا تزال
موجودة، في سوث كنسينجتون أو في اللوفر، إلى جانب الآثار الأقدم للمنحدر المسيحي. أما
عن تلك النهائية غير الشائقة وغير المحترمة — أي الفن الرسمي للقرن التاسع عشر —
فيُمكِن أن تُدرس في مائة جاليري عام وفي مَعارض سنوية عبر العالم. إنها النهاية
المتعفِّنة، والواضحة بالتالي. إن الرُّوح التي وُلدت مع انتصار الفن على الواقعية
الإغريقية-الرومانية تموت مع إزاحة الفن وحلول الصورة التجارية محله.
ولكن إذا كان «الانطباعيُّون»، بعدتهم العِلمية، وتكنيكهم المدهش، ونزعتهم الذهنية،
يُسمَّون نهاية حقبة، أليسوا مُرهِصين بمجيء حقبةٍ أخرى؟ ثمة اليوم قلقٌ بالتأكيد في
مختبر الزمن السري، ثمة شيءٌ مات، ولكن كما لاحظ ذلك الروماني الحكيم:
٤٧ «لا شيء يَفنى حقًّا من الأشياء المنظورة، إنما يجبل الشيء من الشيء،
والطبيعة لا تسمح بخلقٍ جديدٍ إلا بثمنٍ من الموت.»
ألا يَحمل «الانطباعيون»، بقدرتهم على خلق أعمالٍ فنية تقف على أقدامها الخاصة، ألا
يحملون على أذرعهم عصرًا جديدًا؟ فإذا كان الذنب المُغتفَر للانطباعية هو نظرية شائهة،
وشفيعها هو ممارسة مجيدة، فإنَّ أهميتها التاريخية تتمثَّل في أنها قد علَّمت الناس أن
تلتمس دلالة الفن في العمل ذاته، بدلًا من التفتيش عنها في انفعالات العالم الخارجي
واهتماماته.