(١) فضل سيزان The Debt to Sézanne
مع نضج سيزان
Cézanne ولدت حركةٌ فنية جديدة، هذا ما
لا يكاد يقدح فيه أي شخص قُدِّر له أن يُعمر إلى ما بعد التسعينيات،
١ وإنه لاحتمالٌ جديرٌ بالنقاش أن هذه الحركة هي بداية مُنحدَرٍ فني جديد،
وإذا أمكن أن يُقال إنَّ بوسع امرئٍ واحدٍ أن يُلهم عصرًا بكامله يكون سيزان قد ألهم
الحركة المعاصرة، غير أنه يقف مُنفردًا عنها بعض الشيء؛ لأنه أضخم من أن يُدرج في أي
مخطَّط للتطور التاريخي، إنه واحد من أولئك الأعلام الذين يَسودون عصرًا من العصور
ويتعذَّر حصرُهم في أي خانة من الخانات الصغيرة المُحكَمة التي يُنجزها لنا دعاة التطور
٢ بتعمُّلٍ فكريٍّ كبير.
قضى سيزان الشطر الأكبر من حياته غير معروف، وكاد أن يَنسلِخ منها دون أن يلفت إليه
الأنظار. ليس هناك، فيما يبدو، مَن كان يَحدس بما يجري، أما الآن فبميسورنا أن نُدرك
كم
نَدين لسيزان، في حين لا يَدين سيزان لأحد. إنَّ من اليسير علينا الآن أن نرى ما
استعاره منه جوجان وفان جوخ. أما في ١٨٩٠م، وهو العام الذي تُوفيَ فيه الأخير، فلم يكن
ذاك يسيرًا. إنها لأبصارٌ ثاقبةٌ حقًّا تلك التي استطاعَت أن تَلمح قبل بزوغ القرن
الجديد أن سيزان قد أسَّس حركة.
لا تزال تلك الحركة في طَور النشوء، غير أن بإمكانِنا فيما أرى أن نقول بثقة إنها
قد
أنتجَت من الفن الجيِّد ما يُعادِل سالفتها،
٣ لقد أبدعَ سيزان بالطبع أشياء أعظم كثيرًا من أي مصوِّر انطباعي، ويُعدُّ
جوجان وفان جوخ وماتيس وروسو وبيكاسو ودي فلامنك وديرين وهيربان ومارشاند وماركيه
ودونارد ودنكان جرانت وميلول ولويس وكندينسكي وبرنكوزي وفون أنرب وروجر فراي وفريز
وجونشاروفا ولوت؛ يعدُّ هؤلاء مقارعين أندادًا لأيَّة حقبةٍ فنية أخرى،
٤ صحيح أنهم ليسوا جميعًا فنانين عظامًا، ولكنهم جميعًا فنانون. فإذا كان
الانطباعيُّون قد رفَعوا نسبة الأعمال الفنية (الحقيقية) بين المُنتِج التصويري العام
من واحد في الخمسمائة ألف إلى واحد في المائة ألف؛ فإن ما بعد الانطباعيِّين (إذ من
المعقول على كل حالٍ أن نُطلق هذا الاسم على جماعة الفنانين ذوي الحيوية الذين تلَوا
الانطباعيِّين مباشرة) قد رفَعوا المعدَّل مرةً أخرى، وإنني لأجرُؤ على القول بأن
النِّسبة تبلغ اليوم واحدًا في العشرة آلاف، هذا في الحقيقة ما حَدا بالبعض إلى أن يرى
في الحركة الجديدة فجر عصر جديد؛ فليس هناك سمة أوثَقَ في تمييز حركة فنية «بدائية»
primitive٥ من وَفرة إنتاج الفن الأصيل وسعة انتشاره، وقشَّة أخرى يتشبَّث بها
المُتفائلون هي القدرة الفائقة على النموِّ، التي يتحلَّى بها الإلهام الجديد. إن
القاعدة هي أن تمييز حركةٍ فنية جديدة بوَصفِها حركةً هو حتفها، فما كاد الأحبار
يكتشفون «الانطباعية» بعد حوالَي عشرين عامًا من تجلِّيها الواضح حتى قنَّنوها
أكاديميًّا. لقد نصَبوا وجوههم حائلًا ضد أي نوع مِن النمو، واضطروا كل دارس فيه ذرةٌ
من الحيوية إما إلى التمرُّد وإما إلى الانتحار الفني، ولكن قبل أن تجد الرُّوح التي
بثَّها سيزان وقتًا تَخمد فيه وتبوخ كانت قد تلقَّفها رجالٌ من أمثال ماتيس وبيكاسو،
فصبغوها بصبغتهم وقَولَبُوها في أشكال تُناسب مزاجَهم المختلف، وهي اليوم تبدو بالفعل
وقد أخذت شكلًا متجدِّدًا لكي تُعبِّر عن الحساسية الخاصة بجيلٍ جديد.
٦
إن هذا مُرضٍ جدًّا، ولكنه لا يَكفي لإثبات أن الحركة الجديدة هي بداية منحدرٍ جديد،
إنه لا يُثبِت أننا نقف الآن حيث كان يَقف البيزنطيون الأوائل، وحطام حضارةٍ يُقعقِع
حول مسامعنا، وعيوننا شاخصةٌ إلى أفقٍ جديد، ليس هناك من حُجَجٍ صَلبة تؤيِّد هذا
الرأي، إلا أن هناك اعتبارات عامة جديرة بأن نَطرحها ونتأمَّلها، على ألا نُبالغ في
تقدير دلالتها والتحمُّس لها، فمَن يُرِد أن يقرأ طالع البشرية أو يُبصر بأي نشاط
إنساني، فإن عليه ألا يُغفل التاريخ وألا يبالغ أيضًا في الوثوق به؛ ومن المؤكد أن
إغفال التاريخ هو آخر خطأ يُحتمَل أن يقع فيه مُنَظرٌ حديث، لقد كانت المضاهاة بين
إنجلترا في العصر الفيكتوري وروما في عصر الإمبراطورية هو أُلهية أنصاف المتعلِّمين
إبان الخمسين سنةً الأخيرة،
Tu regere imperio populous, Romane,
momento (تذكَّر أيها الروماني أن تحكم الشعوب في الإمبراطورية)
تغدو هذه الآن تذكرةً للمُدرِّس العام بقدر ما كانت بالنسبة للأستاذ اللاتيني القديم،
وعلى المولَعين بالتاريخ أن يَمضوا بمقارنتهم أبعد من ذلك قليلًا (وللعلم فقد قام البعض
بذلك بحثًا عن حججٍ ضد الاشتراكية)، هنالك لن تفوتهم ملاحظة ما يتفشَّى في كلتا
الإمبراطوريتَين من ماديةٍ وحذقٍ آلي وإعلاءٍ من قيمة الرفاهية وحطٍّ من قيمة الصدق
والإخلاص، وتحالُفٍ غير مقدَّس بين السخرية (الكلبية)
cynicism٧ والابتذال العاطفي
sentimentality،
وتدنِّي الفن والدين إلى مرفقَين للوضاعة والدجل، وهي سماتٌ تومئ في كلتا
الإمبراطوريتين إلى النهاية المتعفِّنة لما كان يومًا ما فورةً حيوية.
ربما يكون في تشبيه الخرافات والمراسيم الحكومية في روما بما لدينا من تكريس وخدمة
رسميِّين، وتشبيه التماثيل النصفية الرُّومانية الدقيقة في المتحف البريطاني بتلك
المحاكاة الواقعية الناطقة التي تتمتَّع بها الصور المعروضة بالجاليري القومي
للبورتريه، وتشبيه النزعة الجمهورية republicanism
الأكاديمية لأشراف رُوما المثقفين بالليبرالية الإنجليزية، والإثارة التي كانت تَحفُل
بها الحلبة الرومانية بالإثارة التي تَحفل بها ملاعبنا. ربما يكون في تشبيه تلك الأحوال
الرومانية بأحوالنا الآن سلوى كبيرة لأيِّ صبي ألماني صغير وشفاءٌ لما في صدره، غير أني
لن أدع هذا الصبي يتمادى في تشفِّيه ويؤرِّخ للجسوة والتبجُّح والعسكرية المرتجفة
والثقافة السطحية والهوى السياسي الخبيث وجنون العظمة والولع بالانضواء مع الأغلبية،
ويُحدِّدها كخصالٍ مُشترَكة بين إمبراطورية رُوما وإمبراطورية إنجلترا، بل سأتساءل
بالأحرى إن كانت بقية أوروبا لا تُعاني هي أيضًا من عجزٍ مضرب الأمثال؛ هو عجز العائش
في بيتٍ من زجاج، فليست السياسة الإنجليزية وحدها هي ما يُذكِّرني بنهاية الإمبراطورية
الرومانية، بل الحضارة الغربية بأسرها.
إنَّ المطابقة أيسر مِن أن نَحشد لها التشابهات، فما أراني بحاجةٍ إلى مضاهاة الأستاذ
شو
Shaw بلوشن (لوسيان)
Lucian أو مُضاهاة اضطهاد المسيحيِّين بحملات
تجارنا ضد الفوضويِّين، على أن المرء قد يُلاحظ أن من المُحال أن يُحدِّد بدقة متى ومن
أين جاءت الروح الدينية التي قُيِّض لها أن تضع نهايةً لمادية الإغريقية-الرومانية، وأن
من المحال بنفس القدر أن يحدد مسقط رأسٍ للخميرة الرُّوحية التي تعمُّ أوروبا الحديثة،
فرغم أن بإمكاننا أن نُحدِّد تاريخًا لبلوغ سيزان مرحلة النُّضج الفني، ورغم أني
أُسلِّم بأن بإمكان فنٍّ عبقريٍّ واحد أن يصنع حركةً فنية؛ فحتى سيزان لن يَكفي لتعليل
ما يبدو أنه بداية مُنحدَرٍ فني ونهضة للرُّوح البشري، وقد يتردَّد المرء في تفسير
العصور المُظلِمة والوسطى بصور الفسيفساء في رافينا؛ فالرُّوح التي كُتب لها أن تبعَث
الحياة في العالم الرُّوماني الهاجع إنما أتَت من الشرق كما نعلم، وكانت تفعل فعلها قبل
أن يَفطِن العالم إلى وجودها، وربما يكون من المُحال كشف مصادرها القصية. إنَّ بوسعنا
اليوم أن نَذكر أسماء رُوَّادٍ، إلى جانب سيزان، في عالم الانفعال الجديد. لقد كان هناك
تولستوي، وكان هناك إبسن، ولكن مَن ذا الذي يُنكِر أنهما قد شرعا في البحث عن
إلدورادوس
Eldorados٨ من بعد أن سَمعا عنها حكايات من حكايا الرحالة؟ وقد كان رسكين
Ruskin للنظام القديم ضرباتٍ لها بعض التأثير، وهو إن
كان لم تتوافَر له رؤيةٌ واضحة لقيمة الأشياء فلقد نجح على الأقل في كشف تفاهة بعضها،
أما نيتشه فقد دحَض بهرائه العبثي هراءً آخر أكثر عبثيةً وأمعن دناءةً وفسادًا، غير أن
التنقيب عن المنشأ ليس مما يَعنيني، وثق أنه حالَما تتأسَّس الكنيسة فإن المجدِّدين من
كُتاب سير القدِّيسين سوف يتكفلَّون بإنصافِ شهدائها ومبشريها.
وإذا أخذنا بالاعتبار أيضًا أن أي نهضة وجدانية عظيمة لا بد أن تكون مسبوقةً بحركةٍ
هدْميَّة فكرية، فكيف نُحدِّد نقطة بدايةٍ لهذه الحركة الهدْميَّة؟ إنني أفترض أن
بإمكاننا أن نُبرهِن على أنها بدأت مع فولتير والموسوعيِّين، ولعلَّ المؤرخ بعد إذ
أوغلنا في الماضي إلى هذا الحد أن يجد سببًا لأن يوغل أبعد من ذلك؛ فأنَّى له أن
يُبرِّر أي حدٍّ يَقف عنده؟ يُقال إن كل كائن حي يَحمل في داخله جرثومة فنائه، وربما
يكون من الحق أيضًا أن أي حضارة ما تكاد تنشأ حتى تبدأ في تخطيط نهايتِها، وشيئًا
فشيئًا تغدو أعراض المرض واضحةً للأطباء الثاقبي الملاحظة الذين يُصرِّحون بالنتيجة دون
أن يُدرِكوا السبب، ولا علينا من ذلك؛ فالجبرية الدائرية أمرٌ يبعث على البهجة قدرَ ما
يبعث على الحزن، ما دام الخير لا بد أن يَعقُب الشر كما أن الشر يَعقُب الخير بالضرورة.
لقد قلت ما فيه الكفاية على أية حال لأبين أنه إذا كانت أوروبا على أعتاب نقلةٍ جديدة،
وإذا كنا مشرفين على اتخاذ أولى الخطوات على مُنحدَرٍ جديد، فإن مؤرِّخي العصر الجديد
سيكون لديهم الكثير ليختصموا حوله.
في القرن التاسع عشر حظيَ النُّقاد الهدميون بنصيب من الفهم من جانب أهل عصرهم يفوق
ما حظيَ به الفنانون البنائيون؛ ربما لأن هذا القرن كان يُهيئ أوروبا لاستقبال حقبةٍ
جديدة، وعلى أية حال فقبل أن ينصرم هذا القرن كان قد أنجبَ واحدًا من أعظم الفنانين
البنائيين في العالم ولم يلفت إليه الانتباه،
٩ وسواء أكان سيزان يسمُ بداية مُنحدَر أم لم يكن، فمن المؤكد أنه يسم بداية
حركةٍ فنية سآخذ على عاتقي وصف خصائصها الرئيسية؛ فرغم أن التمييز بين حركةٍ فنيةٍ
وأخرى هو أمر لا يخلو من عبثية ما دامت جميع أعمال الفن على اختلاف عصورها هي في جوهرها
شيء واحد، إلا أن لتلك الفروق السطحية التي تُميِّز إحدى الحركات الفنية أهميةً خاصة،
ودورًا غير الدور التأريخي الذي نشك في أنها تضطلع به؛ ذلك أن الطرق الخاصة في خلق
الشكل والضروب الخاصة من الشكل التي يُؤثِرها جيلٌ من الفنانين لها وقعها إلهامٍ على
فنِّ الجيل الذي يليه؛ فبينما تسمح طرق جيلٍ ما وقوالبه بتطورٍ لا حد له، فإن ما يتبناه
جيلٌ آخر من طرقٍ وقوالب قد لا يسمح بغير الاحتذاء والتقليد؛ من ذلك مثلًا أن الحركة
الفنية التي بدأت مع ماساتشو
Masaccio وأتشيلو
Uccello وكاستانيو
Castagno في القرن الخامس عشر قد كشفت عن منجم ثري لمعدنٍ رديء بعض
الشيء، بينما كانت مدرسة رفائيل طريقًا مسدودًا، أما سيزان فقد اكتشف طرائق وقوالب
(أشكالًا) فتحت أفقًا من الاحتمالات لا يمكن لأحدٍ أن يرى نهايته. لقد ابتكر سيزان
لآلاف الفنانين الذين لم يُولدوا بعد قيثارةً يمكن لكل منهم أن يَعزف عليها نغماته
الخاصة.
ليس بوسعنا أن نحرز بما سيدين به المستقبل لسيزان، أما أفضال سيزان على الفن المعاصر
فتكاد لا تُحصى؛ فبدون سيزان ربما كان توقَّف الفنانون ذوو العبقرية والموهبة الذين
يُمتِّعوننا اليوم بدلالة أعمالهم وأصالتها، ولَبِثوا حبيسي المرفأ إلى الأبد لا
يتبيَّنون هدفهم، ولا يَملكون خريطةً ولا دفةً ولا بوصلة. إن سيزان هو كريستوفر كولمبس
لقارة شكلية جديدة. وُلد سيزان عام ١٨٣٩م في أكسان
بروفانس
Aix-en-Provence، وظلَّ أربعين سنة يَرسُم بدأب على طريقة أستاذه بيسارو
Pissaro، وبدا في نظر العالم حتى ذلك الحين، بقدر ما
بدا على الإطلاق، انطباعيًّا صغيرًا موقَّرًا، مُعجَبًا بمانيه
Manet، وصديقًا إن لم يكن تابعًا لزولا
Zola، وتلميذًا مخلصًا خامل الذِّكر، لقد وقف سيزان إلى الجانب
الصحيح، أعني بالطبع جانب الانطباعيَّة؛ أي جانب الفنانين الصادقين النُّزهاء، ضد
الآفات الأكاديمية الأدبية،
١٠ لقد اعتقد في فنِّ التصوير
painting،
واعتقد أنه يُمكِن أن يكون شيئًا أسمى من مجرَّد بديل مكلِّف للتصوير الفوتوغرافي، أو
رفيق متمِّم للشَّعر الرديء؛ لذا كان سيزان عام ١٨٧٠م واقفًا إلى جانب العلم ضد
الابتذال (الإسفاف) العاطفي
sentimentality.
غير أن العلم لن يَصنع فنانًا ولن يشفيَ غليله، ربما يكون سيزان قد رأى ما عجز
الانطباعيُّون عن رؤيته، فرغم أنهم كانوا لا يَزالون يَرسُمون لوحاتٍ أخَّاذة؛ فإن
نظرياتهم قد قادَت الفن إلى طريقٍ مسدود؛ لذا فبَينما كان يعمل في رُكنِه القصي في
بروفانس بمعزل عن النزعة الجمالية (المتطرِّفة)
aestheticism بباريس وعن البودليرية والويسلرية،
كان يبحث دائمًا عن شيءٍ ما يحلُّ محل العلم الزائف لكلود
مونيه C. Monet، ولقد عثر على هذا الشيء في مكانٍ ما حوالي عام ١٨٨٠م؛ إذ أتاه
في أكسان بروفانس إلهامٌ أسس فجوةً بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين؛ فبينما كان
سيزان يحدِّق في منظر طبيعي مألوف، تسنى له أن يفهم المنظر لا كأسلوبٍ ضوئي، ولا كلاعبٍ
في لعبة الحياة البشرية، بل كغايةٍ في ذاته، وموضوعٍ لانفعالٍ كثيف، وما من فنانٍ عظيم
إلا أبصر المنظر الطبيعي كغايةٍ في ذاته — كشكل خالص، وهذا يعني أن سيزان قد صنع جيلًا
من الفنانين يُحسُّون أن أي شيء عن المنظر الطبيعي هو لا شيء إذا قُورن بدلالته كغايةٍ
في ذاته، ومنذ ذلك الحين نذر سيزان نفسه لخلق الأشكال التي من شأنها أن تُعبِّر عن
الانفعال الذي كان يُحسُّه تجاه الأشياء التي تعلم كيف يراها، عندئذٍ أصبح العلم غير
ذي
صِلة، شأنه شأن موضوع اللوحة. إن بالإمكان أن نَنظر إلى كل شيء كشكلٍ خالص، ووراء الشكل
الخالص تَقبع الدَّلالة الباطنية التي تُثير النَّشوة، أما بقية حياة سيزان فهي محاولةٌ
مستمرة لاقتناص الدلالة الشكلية والتعبير عنها.
لقد حاولت أن أقولَ في موطنٍ آخر إن هناك أكثر من طريقٍ واحد لبلوغ الواقع reality؛ فبعض الفنانين قد بلَغوه فيما يبدو عن طريق
قوة الخيال المَحضة ولم يتَّكئوا في ذلك على غير أنفسهم، ولم يَحتاجوا إلى سلَّمٍ مادي
يُعينهم على تَخطِّي المادة، لقد تحدَّثوا مع الواقع عقلًا لعقل، وبثُّوا الرسالة على
هيئة أشكالٍ لا تَدين للعالَم الفيزيقي إلا بمحض الوجود. في هذا الفصيل يَندرِج أفضل
الموسيقيين والمعماريين، وفي هذا الفصيل لا يندرج سيزان؛ فقد ترحَّل سيزان صوب الواقع
عبر الطريق التقليدي لفن التصوير الأوربي. لقد كانت مرئيات العين هي ما اكتشف فيه سيزان
أسلوبًا بنائيًّا جليلًا يَسكنه «الكلي» Universal
الذي يجوهر كل «جزئي» Particular ويبثُّ فيه الرُّوح.
لقد حثَّ خطاه موغلًا أكثر فأكثر صوب إلهامٍ كامل بدلالة الشكل، ولكنه كان بحاجةٍ إلى
شيءٍ ما عينيٍّ وملموس ليكون نقطة انطلاقه، لم يكن أمام سيزان من سبيلٍ لبلوغ الواقع
غير ما تبصره عيناه؛ وهذا هو ما منعه أن يبتكر أشكالًا تامَّة التجريد، وقلَّما نجد بين
الفنانين العظام من فاق سيزان في الاهتمام بالأنموذج model والتعويل عليه، كانت كل لوحة يَرسمها تنقله خطوةً في اتجاه
هدفه؛ أي في اتجاه التعبير الكامل، وإذ كان ما يشغله هو التعبير عن إحساسه بدلالة الشكل
وليس صناعة لوحات بحد ذاتها، فما كاد يفرغ من التعبير عن كل ما أمكَنَه استيعابه حتى
فقد شغَفه بعمله. إن لوحات سيزان لم تكن بالنسبة إليه غير درجات في سلم يُرجى أن تفضي
ذروته إلى التعبير الكامل، وكانت كل حياته المتأخرة ارتقاءً صوب مثلٍ أعلى، كانت كل
لوحةٍ يرسمها هي بالنسبة إليه مجرد وسيلة، خطوة، عصا، دعامة، حجر يخطو عليه؛ كانت شيئًا
هو على استعداد للتخلي عنه بمجرد أن يؤدي غرضه. كانت اللوحات عنده تجارب، ولقد قذف بها
في الأحراج أو غادرها في الحقول المنبسطة لتكون من بعده حجر عثرةٍ لفصيلٍ من النقاد
الأشقياء.
إن سيزان نمطٌ من الفنان الكامل؛ وهو النقيض التام لمُحترِفي صناعة اللوحات، ومحترفي
صناعة القصائد، ومُحترفي صناعة الموسيقى، لقد كان يخلق الأشكال لا لشيءٍ إلا لأنه بهذا
الفعل وحده يُمكِنه أن يُحقِّق غاية وجوده؛ وهي التعبير عن إحساسه بدلالة الشكل، وعندما
نكون بصدد الحديث عن الإستطيقا، فإنَّ خير ما نفعله هو ألا نُبالي بكلِّ هذا، وأن
نَنصرِف فحسب إلى الموضوع وتأثيره الانفعالي علينا، ولكننا حين نُحاوِل أن نُفسِّر
التأثير الانفعالي للوحات؛ فإنَّنا نَلتفِت تلقائيًّا إلى أذهان الأشخاص الذين صنَعوها،
ونجد في قصة سيزان معينًا لا يَنضَب من الإلهام؛ فقد كانت حياته جهدًا متصلًا لخلق
الأشكال التي يسعها أن تعبِّر عما أحس به في لحظة الإلهام. إن فكرة فنٍّ بلا إلهام …
فكرة وصفةٍ لصنع اللوحات، كان لا بد أن تَبدو له ممتنعة، فلم يكن همُّ سيزان الحقيقي
في
حياته هو أن يصنع لوحاتٍ بل أن يصنع خَلاصه، ومن حسن حظنا أنه لم يُمكنه ذلك إلا بواسطة
الرسم. إنَّ أي لوحتين لسيزان من المتعين أن تَختلفا فيما بينهما اختلافًا بعيدًا؛ فلم
يَحلم سيزان قط بأن يُكرِّر نفسه، ولم يكن بإمكانه أن يتجمَّد في مكانه، وهذا هو السر
في أنه استطاع بأعماله أن يُلهِم جيلًا بكامله من الفنانين المُتباينين الذين لم
يتَّفقوا في شيء عدا استلهام سيزان؛ ولذا فلستُ أغضُّ من شأن أيٍّ من الفنانين الأحياء
حين أقول إنَّ السمة الرئيسية للحركة الفنية الجديدة هي أنها مُستمَدَّة من
سيزان.
لقد كان العالم الذي صادَفه سيزان ونشأ في كنفه هو عالم يعجُّ بالنزاع بين
الرومانسيِّين والواقعيِّين، وما النزاع بين الرومانسية والواقعية سوى نزاع بين أُناسٍ
يعزُّ عليهم أن يتَّفقوا حول مسألة هل تاريخ إسبانيا أم عدد البذر هو الأهم في شأن
برتقالة! لقد كان الرومانسيون والواقعيون أشبه بأناسٍ صمٍّ يختلفون حول صرير أحد
الخفافيش. دأب الرومانسي كلما سُئل عما يحسُّه تجاه أي شيء هو أن يتذكَّر تداعيات هذا
الشيء، فإذا كان بصدد وردة من الورود فهي تُذكِّره بما مرَّ به في سالف أيامه من جنائن
وفتيات، وتُذكِّره بإدموند
وولر E.
Waller وبالساعات الشمسية، وبألف شيء من الأشياء الطريفة والفاتنة التي
جرَت له أو لغيره في وقتٍ أو آخر، فهذه الوردة تمس من حياته ألف موضعٍ جميل، وهي طريفةٌ
لأنَّ لها ماضيًا، هكذا يتحدث الرومانسي، فيرد عليه الواقعي: «هُراء، سأُنبِّئك بما
تكونه الوردة؛ أي سأُقدِّم لك وصفًا مفصلًا لخواص الفصيلة النباتية المسماة «روزا
سيتيجيرا»، ولن أُغفل ذكرَ أنبوب الكأس الوعائي الشكل، أو الفصوص المتراكبة الخمسة، أو
التويج المَفتوح المكوَّن من خمس بتلات بيضاوية مقلوبة»، إن كل وصف من الوصفَين
(الرومانسي والواقعي) هو خارجٌ عن الموضوع قدر خروج الوصف الآخر؛ ذلك أن كلَيهما يُغفل
الشيء المهمَّ في الفن، وهو الشيء الذي اعتاد الفلاسفة أن يُسمُّوه «الشيء في ذاته» the thing in itself، وإخالهم الآن يُسمُّونه
«الواقع الماهوي» the essential reality، وإلا فما
هي الوردة على أيَّة حال؟ ما الشجرة، الكلب، الجدار، القارب؟ ما هي الدلالة الخاصة لأي
شيء من الأشياء؟ من المؤكَّد أن ماهية قاربٍ من القوارب ليست أنه يَستحضِر في الذهن
مشاهد أساطيل تجاريةٍ ذات أَشرِعة أُرجوانية، ولا أنه يَنقل الفحم إلى نيوكاسل،
ولتتخيَّل قاربًا في عزلةٍ تامة، وافصله عن الإنسان وأنشطته الملحَّة وتاريخه الخرافي،
فما الذي يتبقى؟ ما الذي نظلُّ نستجيب له انفعاليًّا؟ ماذا غير الشكل الخالص، وغير ذلك
الذي يكمن خلف الشكل الخالص ويهبه دلالته؟ فتجاه هذا الشيء كان سيزان يشعر بالانفعال
الذي صرف عمره في التعبير عنه.
أما السمة الثانية للحركة الجديدة فهي الولع المشبوب، الموروث عن سيزان، بالأشياء
مُعتبَرةً كغايةٍ في ذاتها، وحين أقول ذلك فإنني لا أَعدو أن أقول إنَّ مصوِّري الحركة
الجديدة قد قرَّروا عن وعيٍ أن يكونوا فنانين. إن التفرُّد يَقبع في الوعي؛ الوعي الذي
به نذَروا أنفسهم لنَبذِ كل ما يَحول بينهم وبين الأشكال الخالصة للأشياء. لقد أيقَنوا
أن بحسب المرء أن يكون فنانًا؛ فكم من موهوبٍ بل كم من عبقري قد فوَّت على نفسه أن يكون
فنانًا حقيقيًّا؛ لأنه سعى إلى أن يكون شيئًا آخر.
(٢) التبسيط
والتصميم Simplification and Design
أكرِّر، متجشِّمًا خطر الإملال، أن تصيُّد سماتٍ خاصة بفن اليوم أو فن الأمس أو فن
أي
فترة معيَّنة هو عمل لا يَبرأ من السخف؛ فالتمييز الوحيد الذي يهمُّ في الفن هو التمييز
بين الفن الجيد والفن الرديء؛ فكون هذا الإناء قد صُنع في بلاد الرافدين منذ حوالَي
أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وهذه اللوحة في باريس حوالي سنة ١٩١٣م بعد الميلاد، هو
أمرٌ ضئيل الأهمية إلى أبعد حد؛ إلا أنَّ من الممكن — رغم قلَّة جدواه — التمييز بين
الأعمال الفنية المتساوية الجودة التي أُنتِجَت في حقبتَين مختلفتَين ومكانين
متباعِدَين. ورغم أن عادة ربط الفن بالعصر الذي أُنتج فيه قد لا تعود بالنفع على الفن
أو الفنانين؛ فلستُ على ثقة من خلوها من كل ضروب النفع، فإذا صح أن الفن سجلٌّ للحالة
الروحية لعصرٍ من العصور، فإن بإمكان النظرة التاريخية للفن أن تُلقي بعض الضوء على
تاريخ الحضارة؛ ومن ثم فمن الجائز عقلًا أن تؤدِّي بنا دراسةٌ مقارنة للعهود الفنية إلى
تعديل تصوُّرنا عن التطور الإنساني، وتنقيح بعض نظرياتنا الاجتماعية والسياسية، ومهما
يكن وجه الصواب في هذا الأمر؛ فالذي لا شك فيه هو أن من يرغب في الاستدلال على حضارة
عصرٍ ما من خلال الفن الذي أنتجه ذلك العصر، فإن من المتعين عليه أن يمتلك القدرة على
التمييز بين الأعمال الفنية لهذا العصر والأعمال الفنية لجميع العصور الأخرى، ومن
المتعيَّن عليه أن يكون مُلمًّا بخصائص الحركة الفنية. وإنني أعتزم أن أبيِّن بعضًا من
الخصائص الأكثر وضوحًا للحركة الفنية المعاصرة.
ولكن كيف يتأتَّى أن يختلف الفن في أحد العصور عن الفن في عصرٍ آخر؟ فقد يبدو غريبًا
للوهلة الأولى أن يختلف الفن، وهو التعبير عن إحساس الإنسان بدلالة الشكل، من عصرٍ إلى
عصر ولو اختلافًا سطحيًّا، إلا أنَّ النظرة المتعمِّقة في هذا الأمر تدلُّنا على أن من
المتعيَّن على الفن أن يكون سطحه في تغيُّرٍ دائم مثلما هو من المتعين أن يكون جوهره
ثابتًا لا يتغير، فيبدو أن غريزة القرد في الإنسان مكينةٌ قويةٌ بحيث إنه لو لم يكن
الإنسان في تغيُّر مستمر لتوقَّف عن الإبداع وجعل يُقلِّد فحسب. إنه السؤال القديم
للمشكلة الفنية؛ فليس بمقدور الفنان أن يُذكي طاقاته حتى وهج الإبداع لو لم يَطرح على
نفسه مشكلات جديدة، ولا نهاية للأشكال التي يُمكن للفنانين أن يُعبِّروا بها عن أنفسهم،
ولا تزال رغبتهم في التعبير عن أنفسهم تكفُل للشكل الفني تغيُّرًا مستمرًّا وتفاعلًا
مطَّردًا.
لا يزال بالإنسان شيءٌ من أسلافه القِرَدة.
ليس هذا فحسب، بل إن به خصلةً مُتبقيةً من أسلافه الخراف.
١١ ثمة صيحاتٌ (موضات) في الأشكال والألوان وعلاقات الأشكال والألوان، أو لنقل
بطريقةٍ أكثر تلطُّفًا وإنصافًا إن الحساسية الفنية للناس في كل عصر تتَّسم بقدرٍ من
الاتفاق يكفي لإحداث تشابُه معين في الأشكال، والأمر يبدو كما لو أن هناك قوى غريبة
مُتفشيَة لا يَسع أي إنسان أن يتجنَّبها كل التجنُّب، ونحن نُطلِق على هذه القوى أسماء
أثيرة؛ مثل «حركات»، «قُوى»، «اتجاهات»، «مؤثِّرات»، «رُوح العصر»، غير أننا لا نفهمها
على الإطلاق. إن علينا ألا نَرتَعِب منها وألا نتملَّقها أيضًا بتصنُّع الإلمام بها،
وهو تظاهرٌ لا يَنطلي على غير العامة، بيد أنها موجودة، ولو لم تكن موجودة لوجَب علينا
أن نخترعها، وإلا فكيف نُفسِّر حقيقة أن فناني كل حِقبة يُؤثِرون أنواعًا معيَّنةً من
الأشكال، وحقيقة أنه حتى المشاهدون من كل جيل يَبدو كأنهم وُلدوا بحساسيةٍ مهيَّئة
بشكلٍ خاص بحيث تستميلها هذه الأشكال الجديدة؟ ومن المُمكن في هذا العصر أن نلوذ
بالكلمة السحرية «سيزان»، فنستطيع أن نقول إن سيزان قد فرض قوالبَه على الرسامين
الجورجيِّين وعلى العامة، تمامًا مثلما فرض فاجنر قوالبَه على الموسيقيِّين
والمُستمِعين الإدوارديِّين. إنَّ هذا التفسير يبدو لي قاصرًا، وهو على كل حال لا
يُفسِّر سيطرة صيحاتٍ شكلية في عصور مُقفِرة من أي عبقري مسيطر. إن رُوح أي عصر فني،
في
ظني، هي مُركَّب يتحدَّى التحليل الكامل، تُشكِّل أعمال أحد العقول الكبيرة جزءًا منه
في عامة الأحوال، وتُشكِّل آثار عصرٍ سابقٍ معيَّن جزءًا آخر في أحوال كثيرة. وقد كانت
المُكتَشَفات التِّقنية تؤدي أحيانًا إلى تغيُّرات فنية؛ من ذلك أن اختراع القماش
canvas قد أوحى إلى أولئك الذين اعتادوا الرسم على
الخشب بكل أصناف التجديد الأخاذ، كما أن هناك تغيُّرًا مُستمرًّا في مظهر تلك الأشياء
المألوفة التي تُشكِّل المادة الخام لمعظم الفنانين البصريِّين؛ ولذا فرغم أن الصفة الماهوية
١٢ — الدلالة — هي صفة ثابتة، فهناك تغيُّر دائم في اختيار الأشكال، ويبدو أن
هذه التغيرات تَتحرَّك على هيئة تحليقاتٍ طويلة أو قفزاتٍ أقصر؛ بحيث نستطيع أن نضع
أيدينا بشيء من الدقة على نقطتَين يحصران فيما بينهما قدرًا معينًا من الفن الذي يحوز
سمات مشتركة محدَّدة. يُطلِق المؤرِّخون على ذلك الأمد الذي يقع بين هاتَين النقطتين
اسم «عهد» أو «حركة».
إنَّ العهد الذي نجد أنفسنا في كنَفِه الآن (١٩١٣م) يبدأ تاريخُه مع نضج سيزان (حوالي
١٨٨٥م)؛ ومِن ثمَّ فهو يتداخل مع الحركة الانطباعية التي من المُتيقَّن أنها قد بقي بها
رمقٌ من الحياة حتى نهاية القرن التاسع عشر، فهل ستَتلاشى «ما بعد الانطباعية» وتَهِنُ
مثلما وهَنت الانطباعية، أم أنها باكورة إزهارٍ لحيويةٍ فنية جديدة سبقتْها قرونٌ من
النمو؟ تلك مسألةٌ قد اعترضت بأنها تَستند إلى الحدس والتخمين، أما ما يبدو لي يقينيًّا
فهو أن الذين سيَجيئون من بعدنا ويُتاح لهم أن يتأملوا عصرنا كشيءٍ مكتمل وحقبةٍ من
تاريخ الفن، أولئك لن يَدروا شيئًا عن أهل الصنعة الذين ما يزالون بيننا يَخلُقون
الإيهام ويتخاطبون ويتنازعون بطريقة الفيكتوريِّين، ولن يَذكُروا من مصوِّري بدايات
القرن العشرين إلا الفنانين الذين حاوَلوا خلق الشكل. أما الصناع الذين سعوا إلى خلق
الإيهام فسوف يُعفي عليهم الزمان ويُدرجون في زوايا النسيان. سيَذكر القادمون مَن عُني
بالحاضر لا بالماضي، وأنا من أجل ذلك لن أذكر غيرهم حين أَعمد إلى وَصف الحركة الفنية
المعاصرة.
١٣
لقد ذكرتُ آنفًا سمتَين من سمات الحركة، فقلت إنَّ معظم الفنانين المعاصِرين ذوي
الحيوية قد تأثَّروا بدرجة أو بأخرى بسيزان في اختيارهم للأشكال والألوان، وإنَّ سيزان
قد بثَّ فيهم العزيمة والإصرار على تنقية فنِّهم من الطُّفيليات الأدبية والعلمية،
وأحسب أنَّنا إذا سألنا معظم الناس أن يَذكروا سمةً ثالثةً للحركة لأجابوا على الفور:
«التبسيط» Simplification، وقد يبدو غريبًا أن
نَفرد «التبسيط» كسِمَةٍ مميَّزةٍ لفن أي عصرٍ بعينه ما دام التبسيط شيئًا أساسيًّا لكل
فن وبدونه لا يُمكن للفن أن يوجد؛ فالفن هو خلق الشكل الدال، والتبسيط يعني تصفية ما
هو
دال مما لا دلالة له، ومع ذلك فقد بلَغ الفن في القرن التاسع عشر من الهبوط والتدنِّي
بحيث بدا الجُرم الأكبر الذي ارتكبه ويسلر Whistler
والانطباعيُّون في نظر الدهماء هو إلحاحهم العنيف على التبسيط، ونحن لم نتخلَّص بعد من
الطابع الفيكتوري ولم نَنسلِخ من جلده، والشمعة المُستهلَكة لا تزال تُدخِّن بإنتانٍ
إلى الفجر، وبحسبك أن تُلقي نظرةً على أي بناء حديث تقريبًا لترى حشدًا من التعقيد
والتفصيل لا يُشكل جزءًا من أي تصميم ولا يخدم أي غرضٍ نافع، فلا شيء يبدو أكثر
افتقارًا إلى التبسيط من المعمار، ولن تجد أحدًا يفزع من التبسيط ويَمقُته قدر ما يفعل
المعماريُّون. طُف بشوارع لندن، ولسوف ترى في كل صوبٍ كتلًا ضخمةً من الزخرف الجاهز
وأعمدةً وأروقة مُعمَّدة وأفاريز وواجهات، تُرفع على الأوناش لكي تتدلَّى من حوائط
الأسمنت المسلَّح، المباني العامة غدت أضحوكةً عامة، إنها فارغةٌ من المعنى مثل ركام
الخبَث وأقل منه جمالًا بكثير، ولن نشهد مبنًى يتمتَّع بأي قيمة إلا حيثما دفعت
الاعتبارات الاقتصادية إلى الاستغناء عن المعماري. إنَّ المهندسين (الذين لديهم على
الأقل مشكلةٌ علميةٌ ليَحلُّوها) يخلقون في المصانع وجسور السكة الحديدية أبهى آثارنا
الباقية وأجدَرَها بالإكبار؛ إنهم على الأقل غير خَجِلين من بنائهم، وهم على أية حال
غير مسموح لهم بأن يَخترِقوه بالجمال بواقع ثلاثين شلنًا لكل قدم. ولن يكون لدينا
معمارٌ في أوروبا حتى يعيَ المعماريون أن كل هذه الزوائد المُبهرَجة يجب أن تُقصى
بعيدًا لتحلَّ البساطة محلها، وحتى ينصرفوا إلى التعبير عن أنفسهم بموادِّ عصرهم —
الأسمنت المسلح والزجاج — ويَخلُقوا بهذه الوسائط الرائعة أشكالًا شاسعةً وبسيطةً
ودالة.
لقد أمعنت الحركة المعاصرة في التبسيط وبلَغت به شأوًا أبعد بكثير مما بلغه
مانيه Manet ورفاقه، وبذلك ميَّزت نفسها وافترقت
عن أي شيء شهدناه منذ القرن الثاني عشر؛ فمنذ القرن الثاني عشر في فنون النحت والزجاج،
ومنذ القرن الثالث عشر في فنون التصوير والرسم؛ أخذ التحوُّل يَنحو إلى الواقعية وينأى
عن الفن، وإن جوهر الواقعية هو التفصيل، فمنذ زولا Zola أدرك كلُّ روائي أن لا شيء يُضفي على العمل صبغةً واقعيةً جليلة
مثل أن تدفع فيه بحشدٍ من الوقائع الطُّفَيلية (الخارجة عن الموضوع)، وقلَّما نجد من
الروائيِّين مَن حادَ عن هذه الطريقة وحاول أن يحذو حذوًا آخر؛ فالتفصيل هو في الصميم
من الواقعية، وهو الانحلال الدهني fatty degeneration
للفن، أما الحركة المعاصرة فقد اتَّجهَت إلى التبسيط وإلى التخلص من كل هذه الفوضى من
التفاصيل التي أقحمها الرسامون في لوحاتهم من أجل إثبات الوقائع وتقريرها، غير أن
المهمَّة كانت أكبر من ذلك؛ فقد كانت هناك عناصر خارجة عن الموضوع يُقحِمها الرسامون
في
لوحاتهم لأغراضٍ أخرى غير تقرير الوقائع، من هذه الأغراض الاستعراض التكنيكي؛ فمنذ
القرن الثاني عشر أخذت التعقيدات التكنيكية في التوسُّع المطَّرد، وأخَذ الكُتَّاب
الذين ليس لديهم ما يقولونه يَعتبرون التلاعب بالألفاظ كغايةٍ في ذاته؛ فهم أشبه
بطُهاةٍ ليس لديهم بيضٌ فجعَلوا يَعتبرون وتيرة صنع العجة كفنٍّ جميل؛ خلط التوابل وفرم
الأعشاب وإحماء النار وتهيئة الطواقي البيضاء، أما البَيض فما لنا وما له، هذا أمر
الله، ومَن ذا يريد العجة حين يكون بوسعه أن يمارس الطهي؟ لقد بسَّطت الحركة الجديدة
هذه الأمور واختزلت عدة الطهي، وعمدت إلى أنَّ تطهُّر العمل الفني من أي عنصر لا يعدو
أن يكون عرَضًا لحِرفية الصانع.
من دواعي الحسرة رغم ذلك أن الحياة والفن يتكشَّف دائمًا أنهما أعقد مما نحتسب
ونتمنَّى، فلكي نفهم ما يعنيه التبسيط على وجه الدقة فإنَّ علينا أن نغوص أبعد من ذلك
في أعماق الأسرار. إن من السهل أن نقول للفنان تخلَّص من التفاصيل الخارجة عن الموضوع،
فما هي التفاصيل غير الخارجة عن الموضوع؟ في أي عمل فني، لا شيء يتصل بالموضوع إلا ما
يسهم في الدلالة الشكلية؛ ومِن ثمَّ فكل عنصر إرشادي أو إخباري هو عنصر خارج عن الموضوع
ويتعيَّن إقصاؤه. غير أنَّ ما ينبغي على معظم الفنانين أن يُعبِّروا عنه هو أشياء لا
يمكن أن تصاغ إلا في تصميماتٍ بالغة التعقيد والدقة بحيث تغدو غير مفهومة ما لم
يزوِّدنا الفنان بمفتاحٍ ما يفتح لنا مغاليق العمل ويُظهِرنا على جليَّته؛ فهناك مثلًا
تصميماتٌ كثيرة لا يمكن أن يفهمها المُشاهِد ما لم يَنظُر إليها من زاويةٍ معينة؛ فمن
الأعمال ما يَحسُن أن تُرى من أعلى إلى أسفل أو العكس، يؤيد ذلك ما نراه من أن ذوي
الحساسية المرهَفة من الناس بمقدورهم دائمًا أن يَكتشِفوا من التصميم نفسه كيف يَنبغي
أن يُبصِروه، وبمقدورهم دون كثير عناءٍ أن يضعوا وضعًا صحيحًا قطعةً من شريط زينة أو
من
شيء مطرَّز لا يَتضمَّن أي مفتاحٍ إرشادي يَدلُّهم، ورغم ذلك فعندما يصنع فنانٌ تصميمًا
معقَّدًا يجد في نفسه رغبةً مغرية، ومعقولة حقًّا، في أن يُدخل في تصميمِه شيئًا ما
مألوفًا؛ شجرةً مثلًا أو هيئةً شخصية. فعندما ينتهي الفنان من وضع عدد من العلاقات
البالغة الدقة بين أشكالٍ بالغة التعقيد، فقد يُسائل نفسه إن كان بقدرة أي شخص آخر أن
يُدركها، ألا يليق به عندئذٍ أن يُقدِّم إشارةً ضئيلة تُلمِّح إلى طبيعة تكوينه وتمهِّد
السبيل لانفعالاتنا الإستطيقية؟ ألا يُيسِّر فهمنا للعلاقات الإستطيقية للأشكال التي
خلقها في تصميمه أن يَمنح هذه الأشكال قدرًا من الشبه بأشكال الحياة العادية يُتيح لنا
أن نردَّها للتوِّ إلى ما عهدناه وأَلِفْناه؟ ردِّي على ذلك أن لا بأس بأن تَدخُل من
الباب الخلفي للتمثيل representation الذي يتَّصف به
مفتاح مُرشد إلى طبيعة العمل، فليس لديَّ اعتراضٌ على وجوده، كل ما أريد أن أؤكده هو
أن
العنصر التمثيلي يجب أن يكون مُدمَجًا في التصميم كيلا يفسد اللوحة بوصفها عملًا
فنيًّا. إن على العنصر التمثيلي مُهمةً مزدوجة؛ فإلى جانب تقديم معلومات فلا بد له
أيضًا أن يخلق انفعالًا إستطيقيًّا؛ أي لا بد أن يُبسَّط إلى شكلٍ دال.
لنتقصَّ هذه المسألة ولا ندع فيها منفذًا للخطأ. لقد أردنا أن نساعد المُشاهِد على
إدراك تصميمنا فأدخلنا في لوحتنا عنصرًا تمثيليًّا أو معرفيًّا، هذا العنصر لا شأن له
بالفن من قريب أو بعيد؛ فتمييز التطابق بين أشكال العمل الفني والأشكال المألوفة في
الحياة لا يمكن أن يثير انفعالًا إستطيقيًّا البتة، فليس غير الشكلِ الدالِّ ما يقدر
على ذلك، وليس ما يَمنع بطبيعة الحال أن تكون الأشكالُ الواقعية دالةً إستطيقيًّا، وأن
يخلق منها الفنَّان عملًا رائعًا، غير أن ما يَعنينا منها عندئذٍ هو قيمتها الإستطيقية
لا قيمتها المعرفية؛ فبإمكان العُنصر المَعرفي أو التمثيلي في العمل الفني أن يكون
مفيدًا كوسيلة إلى إدراك العلاقات الشَّكلية وليس بأي طريقة أخرى؛ إنه ذو قيمة
للمُشاهد، ولكن لا قيمة له بالنِّسبة للعمل الفني، أو لنَقُل إنه ذو قيمة للعمل الفني
مِثلما أنَّ بوق الأذن ذو قيمة لمن يودُّ الحديث مع شخصٍ أصم؛ إذ بإمكان المُتحدِّث أن
يَتكلَّم بنفس الكفاءة بدون البوق، ولكن هذا ليس بإمكان المُستمِع، كذلك بإمكان العُنصر
التمثيلي أن يُعين المشاهد، غير أنه لا يجدي اللوحةَ شيئًا، وقد يضرُّها؛ فهو قد يُفسد
التصميم؛ أي أنه قد يُجرِّد الصورة من قيمتها بوصفها كُلًّا، وإنما بوصفه كُلًّا
وبوَصفِه تنظيمًا للأشكال يُثير العمل الفني الانفعالات الأشد وقعًا ورَوعة.
من وجهة نظر المُشاهِد كان فنَّانو «ما بعد الانطباعية» موفَّقين بشكلٍ خاصٍّ في
تبسيطهم؛ فمِن المُمكن، كما نعلم، أن يتكوَّن التصميم من أشكالٍ واقعية كما أنه مِن
الممكن أن يتكوَّن من أشكالٍ مخترعة، غير أن التصميم الجميل المكوَّن من أشكال واقعية
مُعرَّضٌ بدرجة كبيرة لخطر التدنِّي الإستطيقي؛ إذ يَستلفِت العنصر التمثيلي فيه نظرَنا
على الفور فتفوتُنا دلالته الشكلية. إن من العسير جدًّا أن نُدرك بالنظرة الأولى تصميم
لوحةٍ لفنانٍ شديد الواقعية، أنجر Ingres على سبيل
المثال؛ ذلك أن فضولنا البشري يُغشي انفعالاتنا الإستطيقية، ولا نعود نرى الصور بوصفها
أشكالًا لأننا سرعان ما نتأمَّلها بوصفها أشخاصًا، وفي المقابل فإن التصميم المكوَّن
من
أشكال تخيُّلية خالصة خلوٌ من أي مفتاح معرفي (سجادة فارسية مثلًا) حريٌّ، إذا كان شديد
التركب والتعقيد، أن يُربك المُشاهِدين ذوي الحساسية المحدودة. أما الفنانون بعد
الانطباعيِّين فإنهم باستخدامهم أشكالًا محرَّفة بحيث تُحبط وتُحيِّر الاهتمام والفضول
البشريَّين، وتمثيلية رغم ذلك بحيث تَسترعي الانتباه المُباشر إلى طبيعة التصميم، قد
وجَدُوا طريقًا مختصرة إلى انفعالاتنا الإستطيقية. إن هذا لا يجعل اللوحات بعد
الانطباعية أفضل من غيرها ولا أسوأ، بل يجعلها أيسرَ في إدراكها كأعمالٍ فنية، ربما
سيظلُّ صعبًا دائمًا على أغلب الناس أن يتأمَّلوا الصور كأعمالٍ فنية. غير أن اللوحات
بعد الانطباعية ستكون في ذلك أقل عسرًا من اللوحات الواقعية، بينما هم إذا كفُّوا عن
تأمل الأشياء غير المزوَّدة بمفاتيح تمثيلية (مثل بعض أعمال النسيج الشرقي) بوصفها
آثارًا تاريخية، فقد يَجِدون من العسير عليهم أن يتأملوها على الإطلاق.
لكي يُبرز الفنان تصميمَه فإنه يجعل همَّه الأول أن يُبسِّط، غير أن مجرَّد التبسيط؛
أي التخلُّص من التفاصيل، لا يكفي؛ إذ لا بد للأشكال الإخبارية المُتبقيَة أن تكون
دالة، ولا بد للعنصر التمثيلي لكي لا يُفسد التصميم أن يُصبح جزءًا منه، ويتعيَّن عليه
إلى جانب تقديم المعلومات أن يُثير انفعالًا إستطيقيًّا، وها هنا الموطن الذي تَفشل فيه
الرمزية. إنَّ الرمزيَّ يَتخلَّص ولكنه لا يَهضم ويتمثَّل، ورموزه، في عامة الأحوال،
ليست أشكالًا دالة بل ناقلات خبرٍ شكلية؛ فالرموز ليست أجزاءً مُدمَجةً لتصورٍ تشكيلي،
وإنما هي اختصارات فكرية، والرموز لا يبثُّها انفعالُ الفنان بل يَخترعها فكرُه. إنها
مادةٌ ميتة في كائنٍ عضوي حي، وهي جاسئة
١٤ مُغلقة لأنها غير مغمورة في إيقاع التصميم، وليست الأساطير الشارحة التي
اعتاد رسَّامو الصور التوضيحية أن يضعوها على أفواه شخصياتهم بأدخل على الفن البصري من
الأشكال الرمزية التي أفسد بها كثيرٌ من الرسامين القديرين تصاميمَهم. لقد تمكن
دورر
Dürer في لوحته الشهيرة «ميلانكوليا» وتمكَّن
إلى حدٍّ ما في نقوش أخرى قليلة مثل «القديس يوستيس» و«العذراء والطفل» (المتحف
البريطاني
B. 34.) من أن يُحوِّل كتلة من التفاصيل إلى
شكل مقبول الدلالة، غير أننا في الشطر الأكبر من أعماله (مثل «الفارس» و«القديس جيروم»)
نجد أن التصور الجميل قد أفسدته كتلةٌ من الرموز غير المهضومة وأتت عليه.
من هنا يتوجب أن يكون كلُّ شكل في العمل الفني ذا دلالة إستطيقية، وأن يكون أيضًا
جزءًا من كلٍّ ذي دلالة؛ لأنَّ قيمة الأجزاء المتضامنة في كل، كما يحدث دائمًا، هي أكبر
بكثير من قيمة المجموع الجبري للأجزاء، يُطلق على هذا التنظيم الذي يسلك الأشكال في كل
ذي دلالة اسم «التصميم» Design. إن الإلحاح على
التصميم، ولعلَّ البعض يقول الإلحاح المفرط، هو السمة الرابعة للحركة المعاصرة. لا شكَّ
أن هذا الإصرار، وهذا الإيمان الراسخ بأن العمل يجب أن يكون جيدًا لا «على الكل» بل
«ككل» هو إلى حدٍّ ما رد فعل تجاه المنقَبة السهلة التي كان يتحلَّى بها بعض الفنانين
الانطباعيِّين، أولئك الذين كانوا قانعين بأن يُفعموا قماش لوحاتهم بأشكالٍ وألوان
أخاذة، دون أن يشغلهم كثيرًا هل هي مُتناسقة أو كيف. كانت هذه بالقطع نقطة ضعف في
الانطباعية — وإن لم تشمل بحالٍ جميع الأساتذة الانطباعيِّين — لأن من المؤكد أيضًا أن
الفنان لا يسعه أن يُعبِّر عن نفسه على نحوٍ تامٍّ إلا في هذه التضافُرات
المنظمة.
يبدو أن الفنان يَخلُق تصميمًا جيدًا عندما يتسنى له، بعد أن يَستحوِذ عليه تصورٌ
انفعالي حقيقي، أن يَقبض على هذا التصور ويُترجمه، وأحسب أننا نتَّفق جميعًا على أن
الفنان ما لم تُواتِه لحظة الرُّؤية الانفعالية فلن يتسنَّى له أن يأتي بعمل فني ذي
شأن، بل سيظل غير متيقن إن كانت لديه القدرة على الإمساك بالرُّؤية التي رآها وأحسَّها،
أو إن كانت لديه المهارة الكفيلة بترجمتها. وبطبيعة الحال يعود فشلُ التصميم في
الغالبية العظمى من اللوحات إلى أنها لا تُطابق أي رؤية انفعالية، ولكن حالاتُ الفشل
المثيرة للاهتمام هي تلك الحالات التي سنَحت فيها الرُّؤية للفنان غير أنه لم يَقبض
عليها كما يجب ولم يُحقِّقها تحقيقًا كاملًا. إن الفنانين الذين فشلوا في تسجيل ما
أحسُّوه واستوعبوه بسبب افتقارهم للمهارة التكنيكية يُمكن أن يُحصَوا على أصابع اليد
الواحدة — إن كان هناك من أحد حقًّا لكي يُحصَى، ولكن أينما توجَّهنا نجد لوحات شائقة
تبدو بها الثغرات في تصور الفنان واضحة جلية، لقد واتته الرؤية ذات مرة، تامةً
مُكتمِلة، غير أنه عاجزٌ عن استردادِها؛ فالوجد لن يعود، والقوة الإبداعية العُليا
مفقودة. إنَّ هناك ثغرات وعليه أن يسدَّها بالمعجون، المعجون نعرفه جميعًا عندما تقع
عليه أعيننا — عندما نُحسُّه، فهو مادةٌ ميتة — نسخٌ حرفي من الطبيعة، آليةٌ فكرية،
أشكالٌ لا يُناظرها شيءٌ تمَّ إدراكه انفعاليًّا، أشكالٌ لم يُوقِدها الإيقاع الذي
تراعش خلال الرؤية الأولى ﻟ «كلٍّ ذي دلالة».
يتحلَّى كلُّ تصميم جيِّد بضرورةٍ مُطلَقة، تنبع من تصوري من حقيقة أن طبيعة كل شكل
وعلاقته بجميع الأشكال الأخرى هي أمرٌ تُحدِّده حاجة الفنان إلى التعبير بدقة عما
أحسُّه، ومن الجائز بالطبع ألا يتحقَّق التطابُق التامِّ بين التعبير والتصور في
المحاولة الأولى أو الثانية، ولكن إذا كان العمل مقدَّرًا له أن يكون عملًا ناجحًا فسوف
تأتي لحظةٌ يتمكَّن فيها الفنان من الإمساك التام بساعة إلهامه أو دقيقته، والتعبير
الكامل عنها، وإذا لم تأتِ هذه اللحظة فسوف يَفتقِر التصميم إلى الضرورة؛ فرغم أن
الحسَّ الإستطيقي للفنان يُمكِّنه، كما سنرى، من أن يقول ما إذا كان تصميمٌ ما صحيحًا
أم خاطئًا، فليس غير هذه القُدرة البارعة على الإمساك برُؤيته والقبض عليها ما يُمكنه
من أن يصنع تصميمه على النحو الصحيح. إنَّ التصميم الرديء يَفتقِر إلى الترابط،
والتصميم الجيِّد يتحلَّى به، وإذا كنتُ أحدس بأن سرَّ الترابُط هو التحقيق الكامل لتلك
الهزَّة التي تغشى الفنان عندما يُدرك عمله بوصفه كُلًّا، فسوف لا أنسى أن ذلك حدس،
ولكن ليس حدسًا أن أقول إننا عندما نصف تصميمًا ما بالجودة فإننا نَعني أنه، بوصفه
كُلًّا، يُثير انفعالًا إستطيقيًّا، وأنَّ التصميم الرديء هو كومةٌ من خطوطٍ وألوان قد
تكون مُرضيةً إذا أُخذت على حِدَة، ولكنها لا تُحرِّك مشاعرنا بوصفها كُلًّا.
ذلك أنه ليس بإمكان المُشاهد في النهاية أن يُحدِّد إن كان تصميمٌ ما جيدًا أم رديئًا
إلا باكتشاف ما إذا كان التصميم يُحرِّك مشاعره أم لا، وإن بوسع المشاهد بعد أن يقوم
بهذا الكشف أن يَمضيَ قدمًا ليَنقُد العمل بالتفصيل، غير أن نقطة البداية لكل حكم
إستطيقي ولكل نقد هي الأفعال، فبعد أن يَتركني العمل باردًا خليًّا من الانفعال، هنالك
أبدأ في ملاحظة ذلك التنظيم القاصر للأشكال الذي أسميه تصميمًا رديئًا، وهنا، في أحكامي
حول تصميمات معيَّنة، لا أزال واقفًا على أرضية ثابتة، ولا أشرع في الدخول إلى عالم
الحدس والتخمين إلا عندما أحاول أن أُعلِّل للقوة المحرِّكة للمشاعر التي تتحلى بها
تجمُّعات معينة، ورغم ذلك فإنني أعتقد أن حدوسي عن الحقيقة ليست بعيدة، وأن بإمكاننا
استنادًا إلى الفرضية نفسها أن نُفسِّر الفرق بين الرسم الجيد والرسم الرديء.
إن التصميم هو تنظيم الأشكال، والرسم هو صوغ الأشكال ذاتها، ومن الواضح أن هناك نقطة
يمتزج عندها الاثنان، ولكن هذا أمر لا يُهمنا الآن. عندما أقول إن الرسم رديء فإنني
أعني أنني لم أهتز لحدود الأشكال التي تُكوِّن العمل الفني، وباعتقادي أن أسباب رداءة
الرسم مماثلة لأسباب رداءة التصميم، تأتي رداءة الرسم عندما لا يتطابق الشكل المرسوم
مع
جزء من تصورٍ انفعالي؛ فالهيئة التي يتخذها كل شكل في العمل الفني يجب أن يمليها
الإلهام ويفرضها. وأرى أن يد الرسام يجب أن تقودها ضرورة التعبير عن شيء ما قد أحسه لا
إحساسًا شديدًا فقط بل إحساسًا محددًا أيضًا. إن على الرسام أن يعرف مهمته، ومهمته إن
كنت صائبًا هي أن يترجم إلى شكلٍ مادي شيئًا ما قد أحسَّ به في نوبةٍ من النشوة؛ ولذا
فإن الأشكال التي لا تُرسم إلا لملء فجواتٍ هي أشكالٌ رديئة الرسم، وإن الأشكال التي
تنتج عن نظرية في فن الرسم أو عن تقليد الأشياء الطَّبيعيَّة أو تقليد أشكال الأعمال
الفنية الأخرى؛ كل هذه أشكالٌ لا قيمة لها، إنما يجب أن يكون الرسم ملهمًا، وأن يكون
تجليًا طبيعيًّا لتلك الهزة التي تصاحب الفهم الانفعالي للشكل.
وتبقى كلمةٌ نختم بها هذا الحديث، ليس هناك ناقد بلَغت به الغفلة أن يعني بالرسم
الرديء ذلك الرسم الذي لا يُمثِّل الأنموذج تمثيلًا صحيحًا. إن آلهة المدارس الفنية من
أمثال ميكلانجلو Michelanglo ومانتنيا Mantegna ورفائيل Raffael قد تلاعبوا بالتشريح أغرب تلاعُب، وكلُّنا يَعرف أن شخوص
جوتو Giotto أقل دقةً في الرسم من شخوص
سير إدوار بوينتر Sir E.
Poynter،
وما من أحد يَزعم أنها ليست أجودَ رسمًا. إنَّنا نملك بالفعل معيارًا نستطيع به أن
نَحكُم على الرسم، ولا يُمكِن لهذا المعيار أن تكون له علاقةً بالصدق حيالَ الطبيعة.
إنَّنا نحكم على الرسم بأن نُركِّز حساسيتَنا الإستطيقية على جزءٍ معيَّن من التصميم،
وما نعنيه حين نتحدَّث عن «رسم جيد» و«رسم رديء» هو شيءٌ لا لبس فيه. إننا نعني «مثير
إستطيقيًّا» و«غير دالٍّ إستطيقيًّا»، أما لماذا يُحرك مشاعرنا بعض الرسم ولا يحركها
البعض الآخر فهو سؤالٌ جدُّ مختلف. لقد طرحتُ فرضيةً أمكنني أن أكتب فيها نقدًا نافذًا
إلى حدٍّ ما، ورغم ذلك فإنني أترك هذه المهمة لأقلام أكثر استعدادًا، وأكتفي هنا بقولي
إنه مثلما يَعرف الموسيقيُّ القدير عن يقينٍ متى تكون آلةٌ ما ناشزةً عن التناغم برغم
أن المعيار لا يُقيم إلا في حساسيته الخاصة، كذلك يُمكن لناقدٍ مُرهَف للفنِّ البصري
أن
يكشف الخطوط والألوان التي تفتقر إلى الحيوية، وسواء كان ينظر إلى مخطط زخرفي أو إلى
دراسة تشريحية دقيقة، فإنَّ المهمة دائمًا واحدة؛ لأن المعيار دائمًا واحد؛ فالذي يجب
عليه أن يقضي به هو ما إذا كان الرسم دالًّا إستطيقيًّا أم غير دال.
ربما يكون الإلحاح على التصميم هو أكثر خصائص الحركة وضوحًا؛ فالكل يألف تلك الخطوط
السوداء المحيطة التي قُصد بها أن تَمنح الأشكال تحديدًا وتُبرز بنية اللوحة؛ ذلك أن
جميع الفنانين الشُّبان تقريبًا — وإن يكن بونارد Bonnard استثناءً واضحًا — يَتبنون هذه الطريقة المعمارية في التصميم،
والتي غدت حقًّا الطريقة المفضلة لدى عامة الفنانين الأوربيين. والفرق بين «التصميم المعماري» architectural design وما أسميه
«التصميم المُقحَم» imposed design سيتَّضِح لكلِّ
من يقارن بين لوحة لسيزان ولوحة لويسلر. والأفضل بعد أن تُقارن بين أي لوحة فلورنسية
من
المرتبة الأولى من لوحات القرن الرابع عشر أو الخامس عشر وبين لوحة من عهد أسرة
سُنج Sung، فها هما طريقتان لبلوغ الهدف نفسه،
متساويتان في الجودة، حسبما يسعُني أن أحكم، ومختلفتان غاية الاختلاف. إننا لنَشعُر نحو
لوحةٍ لسيزان أو ماساتشو أو جوتو مثلما نشعر نحو كنيسة رومانسكية؛ فالتصميم يبدو كأنه
يَشرئبُّ إلى أعلى، والكتلة تركم نفسها على الكتلة، والأشكال يُوازن بعضها بعضًا
كالمبنى، ثمَّة إحساس بالتوتُّر وبالقدرة على احتمال التوتر. تحوَّلِ الآن إلى لوحة
صينية، تَجدِ الأشكال كأنها مشبوكةٌ بالقماشة الحريرية بدبوس، أو معلَّقة من أعلى، ليس
ثمة إحساس بالضغط أو التوتُّر، بل حشد هدبي لضربٍ ما من النبات المُعترِش لا ندري أين
جذوره يَلصِق نفسه على طول الجدار في هيئة أحبال أنيقة من زهور، ورغم أن التصميم
المعماري سمةٌ دائمة للفن الغربي، فثمة أربعة عهود أرى أن التصميم المعماري هو سمة
طاغية فيها بحيث يحقُّ أن نقول إنها سمتُها المميَّزة، وهذه العهود هي: العهد البيزنطي
في القرن السادس، والعهد البيزنطي من القرن التاسع حتى القرن الثالث عشر، والعهد
الفلورنسي في القرن الرابع عشر والخامس عشر، والحركة المعاصرة.
حين نقول إنَّ فناني الحركة يُلحُّون على التصميم، فإن هذا لا يَنفي أن بعضهم
ملوَّنون مُمتازون بدرجةٍ استثنائية. إنَّ سيزان مثلًا واحد من أعظم الملوِّنين الذين
شهدتهم الدنيا، وهنري ماتيس ملونٌ عظيم، إلا أن كلهم، أو كلهم تقريبًا، يستخدمون اللون
كحالةٍ للشكل، إنهم يُصمِّمون باللون؛ أي يَجبلون تصميمهم في هيئة أشكال ملوَّنة،
وقليلٌ جدًّا من وقع منهم في خطأ اعتبار اللون غايةً في ذاته أو اعتباره شيئًا مختلفًا
عن الشكل. إن اللون في حد ذاته قليل الدلالة أو لا دلالة له على الإطلاق، ومجرَّد رصف
درجات اللون بعضها بجوار بعض لا يكاد يُحرِّك فينا ساكنًا، أو كما يحلو للملوِّنين
أنفسهم أن يقولوا «إن المقادير هي ما يُهمُّ.» إنما نميِّز الملوِّن لا بمزجه الألوان
واختيارها، بل بالأشكال التي تتخذها ألوانه وتضافُرات تلك الأشكال، ولا يصبح اللون
دالًّا إلا عندما يصبح شكلًا. وإنه لمن مناقب الفنانين المعاصرين أنهم ناهَضوا بشدةٍ
عادة رصف بقعٍ جميلة من اللون دون كثير اعتبارٍ لعلاقاتها الشكلية، وأنهم سعوا إلى أن
يُنظِّموا درجات اللون بحيث تسمو بالشكل إلى أعلى دلالة له. ولكن ليس من المستغرب أن
جيلًا من الملوِّنين الفائقي البراعة والجاذبية على افتقارهم الشكلي لا بد أن يصدمهم
إقحام تلك الخطوط السوداء التي تبدو كأنها تغتصب حبيبتهم! إنهم يَتأذون من اللوحات التي
تخلو من السحر العارض للتحدُّر اللوني الرقيق والتوزُّع الموفَّق للضوء والظل
(الكياروسكيورو chiaroscuro)، ولا يروقهم العزم
الصارم لهؤلاء الشبان على جعل عملهم مستقلًّا ومتكئًا على ذاته وغير مدين بالفضل لحلًى
خارجية، وهم عاجزون عن فهم هذا الولوع بالأعمال التي تروق بوصفها كلًّا. وهذا الإلحاح
العنيف على التصميم، وهذا الاستعداد لترك البناء عاريًا إذا كان من شأن ذلك أن يُعين
المشاهد على تصور الخطة. إن نقاد العصر الانطباعي مُحنقون من جراء تلك العظام والعضلات
العارية بلوحات ما بعد الانطباعية، إلا أنني من جانبي، ورغم إصرار هؤلاء الفنانين
الشبَّان على تبنِّي شكل عاطلٍ أجرد يفوق كل ما وقعت عليه أبصارنا، فليس لي أن ألوم
زمرةً من المتنسِّكين الزاهدين في عصر الطلاوة غير المُشكَّلة؛ إذ يصرُّون على الأهمية
الكبرى للتصميم.
(٣) المغالطة الوجدانية (التشخيص) The Pathetic Fallacy١٥
أتصور أنه لو سُئل العديد من أولئك المتحمسين للحركة الجديدة عما يعتبرونه أهم
خصائصها لأجابوا: التعبير عن وجهة نظر جديدة ومُتفرِّدة. ولقد سمعتُ أناسًا يقولون «ما
بعد الانطباعية هي تعبير عن الأفكار والمشاعر الخاصة بتلك النهضة الرُّوحية التي تتنامى
الآن إلى ثورةٍ مشبوبة.» وهذا بالطبع ما لا يُمكنني أن أوافق عليه، فإذا كان الفن
تعبيرًا عن أي شيءٍ فهو تعبيرٌ عن انفعالٍ عميقٍ وعام وشائع (أو على الأقل ممكن) في
جميع العصور وليس مميِّزًا لأي عصر، ولكن إذا كان هؤلاء المتعاطفون مع الحركة الجديدة
يَعنون (كما أظن) أن فنَّ هذه الحركة هو مظهرٌ لشيءٍ ما مختلف عنها (سيقولون أكبر
منها)، لثورةٍ رُوحية في الحقيقة، فلن أختلف معهم في ذلك. إن الفن مؤشرٌ أمين للحالة
الرُّوحية لهذا العصر مثلما هو لغَيره. وفي محاولة الفنانين تخليص فنِّ التصوير مما
يَعلق به من تقاليد الماضي القريب واستخدامه كوسيلة لا ترمي إلا إلى أسمى الانفعالات،
فقد نقرأ دلائل عصر يستحوذ عليه حسٌّ جديد بالقيم ويتوق إلى استغلال هذا الاستحواذ
استغلالًا صالحًا. إن من غير المُمكن أن نزور معرضًا حديثًا جيد المستوى دون أن نُحسَّ
أننا قد رُدِدنا إلى عالمٍ لا يَخلو من شبه بذلك العالم الذي أنتج لنا الفن البدائي،
فها هم أناسٌ يأخذون الفن مأخذ الجد، وربما يأخذون الحياة أيضًا مأخذ الجد. ولكنهم إن
كانوا يُكبِرون الحياة فلا لشيءٍ إلا لأن بها أشياء (كالنشوة الإستطيقية مثلًا) جديرة
بالإكبار. إن بوسعهم في الحياة أن يُميِّزوا بين الغابة وبين بضع الشجرات الجميلة، أما
الفن فإنهم يعرفون انه أمرٌ أجلُّ من أن يكون نقدًا للحياة. لن يزعم هؤلاء أن الفن
تجارة في أسباب الراحة المنزلية؛ فهم يعرفون أنه ضرورةٌ رُوحية. إنهم لا يَنجرون أثاثًا
جميلًا ولا يصوغون حليًّا صغيرة تافهة ولا تذكارات رائقة، إنهم يخلقون أشكالًا تُثير
أروع الانفعالات وأعجبها.
مثل هذا الفن يُغري بأن نفترض أنه يتضمَّن موقفًا ما تجاه الحياة، فهو يَنطوي فيما
يبدو على اعتقاد بأن المستقبل لن يكون مجرَّد تكرار للماضي، بل سيَنتزِع لهم، بفضل
أناسٍ مُريدين فاعلين، حياةً تحقق فيها مطالب الرُّوح والعاطفة وبعض التقدم ضد ضروريات
الوجود المادي. أقول «فيما يبدو»، غير أن من التهور أن نَعتبِر أي شيء من هذا أمرًا
مفروغًا منه، ومن جهتي فإنني أشكُّ في أن يكون الفنان الجيد مُكترثًا بالمستقبل أكثر
من
الماضي، فلماذا يتعيَّن على الفنانين أن يكترثوا بمصير الإنسانية؟ إذا كان الفن لا يبرر
نفسه فإن النشوة الروحية تبرِّر نفسها، أما هل قُدر لهذه النشوة أن تَستشعرها أجيال
المستقبل من الصانعين الفضلاء والقانعين، فتلك مسألة ليس لها أهمية نظرية: النشوة تكفي،
وليس لدى الفنان حاجة إلى الاكتراث بالآتي أكثر مما لدى العاشق بين ذراعَي حبيبته، ثمة
لحظاتٌ في الحياة هي غاياتٌ ليس بالكثير عليها أن يكون تاريخ البشرية بأسره وسيلةً
إليها، من بين هذه اللحظات، لحظات النشوة الإستطيقية، ومن العبث أن تتصوَّر أن الفنان
يقوم بعمله وإحدى عينَيه مصوَّبة إلى الدولة العظمى المستقبلية، مثلما هو من العبث أن
تلتمس في فنِّه تعبيرًا عن الآراء السياسية أو الاجتماعية. ليس موقف هؤلاء الفنانين
تجاه الدولة أو تجاه الحياة هو ما يجعل الحركة الجديدة معبِّرة عن العصر، بل موقفهم
الخالص والجاد تجاه فنِّهم، إنهم أناس يرفضون أي تنازل، ولا يقبلون أن يتخذوا موقفًا
وسطًا بين ما يعتقدونه وما يريده الجمهور، أناس يرفضون تمامًا، وبحدةٍ زائدةٍ أحيانًا،
أن يشغلوا أنفسهم أقل شغل بما يَرونه تافهًا غير ذي بال. إنَّ من السخف أن نُسمِّي فن
الحركة الجديدة فنًّا ديمقراطيًّا كما فعل البعض؛ فجميع الفنانين أرستقراطيون بمعنًى
معيَّن؛ إذ ليس هناك فنان يَعتقد في المساواة البشرية اعتقادًا صادقًا، أما أن نَنعت
فنانًا بأنه أرستقراطي أو ديمقراطي بأي معنى آخر فهو بمثابة أن نَنعته بشيء غير ذي صلة
أو بشيء مُهين. إنَّ من يَخلق الفن خصيصًا لكي يُحرِّكَ مشاعر الفقراء، أو لكي يسرَّ
الأغنياء، إنما هو عاهرٌ مهما حاز من فضائل، وكم من فنان عطَّل نفسه أو دمرها حين زعم
أنه إلى جانب التمييز بين الفن الجيد والفن الرديء هناك تمييز آخر بين الفن الأرستقراطي
والفن العامي. إن كل فن هو فوضوي بمعنًى ما، فمن يأخذ الفن بجدية لا يسعُه أن يأخذ
التقاليد والمبادئ التي تقوم عليها المجتمعات مأخذ الجد، ولنا أن نقول دون أن ننأى
كثيرًا عن الصواب إنَّ ما بعد الانطباعية هي حركة فوضوية بشكلٍ خاص؛ لأنها تؤكد بإصرارٍ
شديد على ما هو جوهري وتتحدَّى بعنفٍ شديد التعاليمَ التقليدية للفن، مما يتضمن في
افتراضي تحديًا للتصور التقليدي للحياة، وهي برفعها الفن إلى أعلى مكانة، إنما تحطُّ
من
شأن الحضارة الصناعية وتُنزلها أدنى منزلة؛ ومن ثم فهي قد تتَّفق هنا مع الروح الأشمل
والأخفى للعصر. إن محاولة إنتاج فنٍّ جادٍّ قد تكون مؤشِّرًا على وجود تملمُلٍ تحتي
وسأمٍ من النزعة المادية المُتغطرِسة وتصوُّرٍ للحياة أكثر عمقًا وروحية. إن فن الحركة
الجديدة، بوصفه فنًّا، لا يُعبِّر عن أي شيء زماني أو محلي، ولكنه قد يكون تجليًا لشيءٍ
ما يحدث هنا والآن، شيءٍ لا يزال صعبًا فيما يبدو على غالبية البشر أن يعوه.
ينصرف النساء والرجال الذين اهتزُّوا من فورهم للدلالة الإستطيقية الخالصة لأحد
الأعمال الفنية، ويَمضون إلى الحياة الخارجية وهم في حالة من الإثارة والطرب تجعلهم
أكثر حساسيةً لكلِّ ما يجري حولهم. وهكذا يُدركون بحدةٍ زائدة معنى الحياة وإمكانها،
وليس من المستغرب أنهم لا بد أن يتأوَّلوا هذا الحس الجديد بالحياة ويقرءوه في ذلك
الشيء الذي أنتجه، لا بأس بذلك الفعل على الإطلاق ولن أنازعهم في شأنه؛ فأن تتحرَّك
مشاعرك للفن أهم بكثيرٍ من أن تعرف على وجه التحديد ما الذي يُحرِّكها، فقط أريد أن
أُذكِّرهم رغم ذلك بأنه إذا كان الفن لا يعدو ما يتخيَّلون أحيانًا أنه الفن، لما كان
له أن يُحرِّك مشاعرهم بهذه الطريقة. إذا كان الفن مجرد إيعاز بمشاعر الحياة فلن يمنح
العمل الفني لكل شخص أكثر مما جلبه كل شخص معه، إنما يحركنا الفن بهذا العمق وهذه
السرية لأنه يُضيف إلى خبرتنا الانفعالية شيئًا ما جديدًا، شيئًا يأتي لا من الحياة
البشرية بل من الشكل الخالص. أما أن الفن بالنسبة للكثيرين لا يَكتفي بإضافة شيء جديد
بل يَبدو أنه يغير القديم ويُثريه؛ فهو أمرٌ مؤكد ولا يدعو إلى أدنى ابتئاس.
والحق أن هذا الفن المتقد والصارم للحركة المعاصرة ليس دليلًا على الخميرة العامة
فحسب، إنه أيضًا الإلهام، بل والمعيار، لجيلٍ شابٍّ وعنيف وقوي. إنه المظهر الأكثر
بروزًا ونجاحًا لإرادتهم، أو هو ذلك في نظرهم. إن الإصلاح السياسي والإصلاح الاجتماعي،
وحتى الأدب، يتحرَّك ببطء، سائخًا في النزعة المادية والتقليد المائع، يدَّعي
الاشتراكيُّون، وإن كانت لهم مبرراتهم، أن الليبراليين يمتطون جيادهم ولا يزال الفوارس
يلبسون الأزرق والسترة العسكرية، ويقف مستر لويد جورج بلا ثبات على كتفَي مستر
جلادستون، بينما يتعلَّق معظم زملائه بظهره، فلو أننا جعلنا الأدب محكَّ الاختبار
لتمنَّينا من فورنا أن نرد إلى القرن التاسع عشر، فليس هناك روائي من الطبقة الأولى في
أوروبا (إلا أن يكون توماس هاردي)، وليس هناك شاعر من الطبقة الأولى، ودون غضٍّ من شأن
دانزيو وشو وكلوديل يُمكننا أن نقول إن إبسن هو أعظمهم. ومنذ موزار لم تتخلَّص الموسيقى
تمامًا من الواقعية والرومانسية والميلودراما. ويبدو أن الموسيقى تقف الآن حيث كان
التصوير في زمن كوربيه
Courbet، إنها تَنتقِل الآن
خلال عقلانية معقَّدة وواقعية مسخطة براقة، لكي تصل، فيما آمل، إلى درجة أكبر من الخلوص.
١٦ لعلَّ فن التصوير المعاصر هو النصر الوحيد الظاهر للعصر الجديد، ولا يجرؤ
أحد، حتى أكبر الناس سنًّا وحكمة، على الاستخفاف به. إن أولئك الذين يعجزون عن حب سيزان
وماتيس فهم يبغضونهما، وهم لا يقولون ذلك فحسب بل يَجأرون به، ليس بدعًا إذن أن يكون
الفن البصري، الذي يبدو للكثيرين مرآةً يرون فيها مُثُلهم العليا الخاصة متحقِّقة، قد
أصبح لدى البعض دينًا جديدًا؛ فهؤلاء لا يكتفون من الفن بدلالته الإستطيقية فيلتمسون
فيه ملهمًا للحياة كلها. إن بعضنا يعدُّ الدلالة الإستطيقية إلهامًا كافيًا، أما
الآخرون فلن أُغلِّظ لهم القول؛ إنهم إلى الفن يأتون معهم بأعمق انفعالاتهم وأخفاها،
وأنبل أفكارهم وأعز أمانيهم، ومن الفن يجلبون عاطفةً وطربًا خصبَين نقيَّين ومصادر
جديدة للعاطفة والطرب، وفي الفن يتصوَّرون أنهم يجدون تعبيرًا عن أوثق مشاعرهم وأخفاها.
ورغم أن هؤلاء يفوتهم (إلى حدٍّ ما) أفضل الذي يمنحه الفن، فليس لي عليهم لومٌ إذا
جعلوا من الفن دينًا.
في عهد ألكسندر سفيروس Alexander Severus كان يعيش
في روما عبدٌ يوناني معتَّق، وإذ كان الرجل صانعًا ماهرًا فلم يكن مُقتَّرًا عليه في
الرزق. لقد كان آمنًا في نفسه ضامنًا لقمته مشغولَ اليد والذهن بما يُرضي ويَسُر، وكان
يعيش وسط أناسٍ أذكياء وأشياء جميلة، ويُرخي لعواطفه العنان بالقدر المعقول الذي أوصى
به أستاذه أبيقور، وكان يستيقظ كل صباح ليَستقبِل يومًا هادئًا يتوزَّع بين الإشباع
المقدَّر، والضريبة المفروضة من عملٍ غير قاس، وقليل من المتعة الجسدية، وقليل من
المحادثة العقلانية، وجدل هادئ، وإدراك حصيف لكل ما هو بوسع الفكر أن يعيَه. وفجأة في
هذا الوجود برز مُتعصِّبٌ نزقٌ بديانة، بالنسبة لليوناني، بدا أن نفسًا من الحياة قد
سرى خلال الشوارع الجهمة للإمبراطورية، ومع ذلك لم يتغيَّر شيءٌ في روما، باستثناء نفسٍ
واحدةٍ خالدة، أو فانية؛ العيون ذاتها تَنفتِح على الأشياء ذاتها، إلا أنَّ كل شيءٍ كان
قد تغيَّر، كل شيء صار مشحونًا بالمعنى، أشياء جديدة وُجدت، كل شيء غدا ذا شأنٍ وقيمة،
وفي غمرة المساواة الشاملة للعاطفة الدينية نسيَ اليوناني وضعه وقوميته، صارت حياته
معجزةً ونشوة، ومثلما يَستَيقِظ المحب العاشق، كان يقوم من نومه ليَستقبِل يومًا مفعمًا
بالدهش والبهجة. لقد تعلم أن يشعر، ولكي يشعر المرء يتوجب أن يعيش؛ ولذلك فقد كان من
الخير أن يكون حيًّا.
أعرف رجلًا واسع الاطلاع ذكيًّا، رجلًا لم تكن حياته الجافة أفضل من نزلة بردٍ طويلةٍ
بالرأس، رجلًا لم يدخر ذلك الممسوس فان جوخ جهدًا لإنقاذه.