اجتماع كارثي
استُقبلَ كبير الأساقفة والفتاة التي كان وصيًّا عليها من جانب رئيس أساقفة تريفيس شخصيًّا عند أبواب قلعة ستولزينفلز، وكانت حفاوة الاستقبال شديدة. كان هناك خدم كثيرون، رجالًا ونساءً، حول القلعة، بيد أنه لم يكن هناك أثر لرجال مسلَّحين.
اصطُحبت الكونتيسة إلى غرفةٍ أبهرتْها إطلالتُها. كانت الغرفة تشغل طابقًا بأكمله في برج مربع الشكل، وكانت ذات نوافذ مُطلَّة على الاتجاهات الأربعة الأساسية، ومن على هذا الارتفاع كان بإمكانها رؤيةُ نهر الراين وصولًا إلى قلعة ماركسبورج القديمة والحصينة، وفيما يتجاوز كوبلنتز وصولًا إلى مملكتها في ساين، التي كانت تُتاخم النهر، على الرغم من أن القلعة التي كانت تحكم منها هذه المنطقة كانت تختبئ بسبب التلال التي تنتهي في إرنبرايتشتاين.
حين نزلت عند استدعائها لتناول وجبة الغداء، جرى تقديمها إلى إحدى شقيقات رئيس أساقفة تريفيس، وهي سيدة كبيرة السن ووقور؛ وإلى ابنة أخت رئيس الأساقفة، وهي سيدة أكبر من هيلديجوندي بعشر سنوات. ولم يكن لدى أيٍّ من هاتين السيدتين النبيلتَين الكثير لقوله، وكان الحديث أثناء تناول الغداء مُقتصرًا على رئيسَي الأساقفة. بالطبع، لم تكن الكونتيسة تعلم أن حضورها كان سيتسبَّب في إحباط كبير للسيدتين النبيلتَين؛ لأن صلة القرابة الوثيقة بين الشابة الأصغر ورئيس أساقفة تريفيس جعلت من المستحيل أن تَحظى بالشرف الذي على وشك أن يكون من نصيب كونتيسة فون ساين الأصغر والأجمل.
تناول رئيس أساقفة ماينتس، في أصغر غرفة بالجناح المخصَّص له في القلعة، وجبةً خفيفةً قدَّمها له خَدَمه الخاصون، وأعدَّها له طباخه الخصوصي.
وحين وُضعت سمكة سالمون الراين الكبيرة، التي كان يتصاعد منها البخار، أغدق رئيس أساقفة كولونيا الثناء عليها، وحكى مرةً أخرى، لمُضيفه وأهل بيته، قصة الأميرة الإنجليزية التي تناولت سمكة مُماثلة، في هذه الغرفة نفسها بلا شك. وعلى الرغم من قائمة الطعام التاريخية، والسمات المنعشة لنبيذ أوبرفيزل الفاخر، الذي شبَّه رئيس الأساقفة المرهف الحس لونَه الأحمر الرقيق بحمرة الخجل التي تعلو وجه العروس، طغى الشعور الغامض بوجود خطر مُحْدِق على الجانب الاجتماعي لوجبة منتصف اليوم. وفي الحوار الودود على نحوٍ مُصطنَع لرئيسَي الأساقفة، كان هناك شيء غير طبيعي؛ سلوك المضيفة الأكبر سنًّا كان يكشف عن حزن شديد. فهي، بعد تبادُل بضعِ تحيات تقليدية مع ضيفتها الشابة، لم تتفوَّه بكلمة واحدة أثناء تناول الوجبة. وكانت ردود ابنتها، التي جلست إلى جوار الكونتيسة على الجهة المقابلة من المائدة لنيافة رئيس أساقفة كولونيا، مُقتصِرة على الإجابة ﺑ «نعم» أو «لا» على تعليقات سيدة ساين التي أثنَت على الموقع الرائع للقلعة، وسماتها المعمارية المتفرِّدة، والمنظر الرائع من أسوارها، ذلك المديح الذي بدأ بقدْر كافٍ من الحماس، ولكن في النهاية تلاشى في الصمت، وساده الفتور بسبب الاستقبال غير الودي تمامًا.
تأمَّلت الفتاة ما يَحدُث وشعرت بمزيد من عدم الراحة حين اتَّضحت أكثر الملامح الغريبة للوضع في ذهنها. فها هو ذا صديقها الموقَّر المُحب يَفرِض روحًا مرحة كانت تعلم أنه يعجز عن الشعور بها، ويتناول الطعام ويشرب النبيذ مع رفيقٍ بينما يقف ثلاثة آلاف رجل من رجاله المسلحين فوق السطح الذي يأويه، على استعدادٍ كامل بإشارة منه لاقتحام قلعة ستولزينفيلس كالطيور الجارحة، يأسِرون ويقتلون، إذا اقتضت الضرورة. تذكَّرت الهتافات الودية التي استقبلتْهما عند وصولهما مدينة كوبلنتز، رغم أن كل رجل حيَّاهما في صخب ولوَّح بقبعته في الهواء كان بلا شك عدوًّا لهما. زاد من شعورها بالاكتئاب أكثرَ فأكثرَ الطبيعةُ السرِّية والمجهولة للخطر المُحْدِق بها كلما فكَّرتْ فيه؛ الجنودُ الشرسون المُختبئون في الغابة، الذين على استعدادٍ للانقضاض في أيِّ لحظة، واضطرام النيران والقتل بإشارة خفية من أميرٍ ذي طابع ديني؛ والأسلحة الفتاكة المخبَّئة في إحدى الكنائس؛ كل هذا الواقع المُروِّع لمُعتقَد يحتلُّ لديها مكانة رفيعة لم تُشِر إليه قط الراهبات الرقيقات اللائي كانت تعيش وسطهن في سعادة بالغة أغلبَ فترات حياتها.
وفي النهاية، نهضَت مُضيفتها الكئيبة، وحَذَتْ هيلديجوندي حذوَها وهي تتنفس الصعداء. أزاح رئيس أساقفة كولونيا الستار الموجود عند المدخل بشهامة، وأحنى رأسه أثناء مرور السيدات الثلاث. قادت المضيفة الصامتة ضيفتها إلى رَدهة موجودة في نفس الطابق الذي تُوجد به غرفة الطعام؛ كانت الرَّدهة تُفضي إلى باب آخر يربطها بقاعة الفرسان الصغيرة التي من المنتظر أن يُعقد فيها الاجتماع الرسمي لرؤساء الأساقفة.
لم تَدخُل شقيقةُ رئيس الأساقفة الرَّدهة؛ حيث ودَّعت رسميًّا كونتيسةَ فون ساين التي استدارت لتتحدَّث إلى الشاغل الوحيد للغرفة، قريبها ومُستشارها، الأب أمبروز.
سألته قائلة: «ألم تجرِ دعوتُك لتناول الغداء معنا؟»
«بلى، ولكني رأيت من الأفضل أن أرفض الدعوة. أولًا: خشيت أن يكون لدى رؤساء الأساقفة الثلاثة شيء سرِّي يُريدون الحديث معك بشأنه، وثانيًا: أنا في أفضل الأحوال صُحبة سيئة على المأدبة.»
«بالتأكيد، لا داعي لأن تكون حسَّاسًا كهذا، أولًا: لم يكن هناك ثلاثة رؤساء أساقفة وإنما اثنان فقط، ولم يُوجِّه أيٌّ منهما لي كلامًا من المفترض ألا يسمعه العالم بأكمله، وثانيًا: باقي الصحبة، أخت رئيس أساقفة تريفيس وابنة أخته، كانت كئيبة للغاية لدرجة أنك كنتَ ستُثبت أنك صحبة مرحة مُقارنةً بهن. هل صرَّح لك وصيي بأي شيء أمس في فترةِ ما بعد الظهيرة يكشف عن هدف هذا الاجتماع المزمع؟»
«كلَّا ألبتة. دار حوارنا بأكمله حول أرضك وإدارتي لها. وتحدَّثنا عن المحاصيل والزراعة ومزارع الكروم.»
«أنت ليس لديك أدنى علم إذن بالسبب وراء استدعائنا إلى هنا؟»
«أنا مثلك تمامًا، يا هيلديجوندي، لا أعرف شيئًا عن هذا الأمر.»
تمتمَت الكونتيسة قائلة: «لا أظنُّ أنني جاهلة تمامًا، رغم أنني لا أعرف شيئًا محددًا.»
«هل تظنِّين، رغم إنكار وصيك، أن الاجتماع يتعلَّق باستعادتك بلدة لينتس؟»
«ربما، لكن ليس هذا احتمالًا كبيرًا. هل قلت أي شيء بخصوص رحلتك إلى فرانكفورت؟»
«لم أنبس بكلمة. فهمتُ منكِ أنه لا ينبغي ذكر أي شيء عن زيارتي هذه ما لم يسأل قداسته أسئلة تُثبت أنه يعلم الأمر، وحينها سيتعيَّن عليَّ قول الحقيقة.»
«أنت مُحقٌّ تمامًا، أيها الأب. هل طلب منك وصيي المَجيء معنا إلى ستولزينفيلس؟»
«بالتأكيد؛ وإلا ما ينبغي لي أن أفعل.»
«ما الأسباب التي أعطاها إياك لذلك، وما التعليمات التي قالها لك؟»
«هو يرى أنه ينبغي أن يكون بجانبك قريب لك. وكانت تعليماته بألا أقدِّم تحت أي ظرف أيَّ تعليق على ما يَجري. في واقع الأمر، أنا غير مسموح لي بالحديث إلا للإجابة عن سؤال موجَّه لي مباشرة، وبأقل عدد مُمكن من الكلمات.»
توقَّفت هيلديجوندي عن استجوابها، وجلست بجوار نافذة مُطلَّة على جانب الجبل المنحدر خلف القلعة، حيث عرفت أن رجال وصيِّها يقفون في الانتظار مُحتمين بالغابة الكثيفة والمُظلمة. ارتجفت قليلًا، وهي تتساءل في نفسها عن المقصود من هذه الاستعدادات، ولاحظت في ظل الصمت الشديد تسارع نبضات قلبها. شعرت بقليل من الاطمئنان بحضور قريبها، الذي كانت شَفتاه تتحركان بلا همهمة، وبدت عيناه الرزينتان مُركَّزتين على المستقبل، تتأملان لغز العالم الآخر، وتتجاهلان تمامًا حقائق الأرض التي يعيش عليها.
حوَّلت نظرتها المُضطربة مرة أخرى إلى الغابة الخضراء، وبعد مرور فترة زمنية طويلة، قطع تأمل الثنائي دخول موظَّف يرتدي ملابس فخمة. انحنى هذا الموظف وقال بنبرة إجلال عظيمة:
«سيدتي، رؤساء الأساقفة في انتظارك.»
•••
كانت قاعة الفرسان الصغيرة تشغل موقعًا رائعًا من الجهة المطلَّة على النهر من قلعة ستولزينفيلس، وكانت نوافذها تُطل على نهر الراين، مع ظهور القلعة لانيك الحصينة فوق مصبِّ رافد لان، وقلعة مارتينسبورج الأكثر زخرفة عند الطرف العلوي لمدينة أوبرلنتشاين. والصرح الأخير، الذي بناه الأمير الناخب السابق لماينتس، كان نادرًا ما يقيم فيه رئيس الأساقفة الحالي، ولكن نظرًا لأنه يجلس على الكرسي الأوسط للمجلس، فكان يتمتع بميزة القدرة على النظر عبر النهر إلى منزله الخاص، هذا إذا رغب في القيام بذلك.
كان رؤساء الأساقفة الثلاثة يقفون وراء الطاولة الطويلة حين دخلت الكونتيسة؛ إذ أدركوا أن مَن جاءت إلى حضرتهم، تلك الفتاة الجميلة والصغيرة في السن، سيدة عظيمة للغاية بحقِّ النَّسب والمكانة. وقد ردَّت على هذا التصرُّف اللطيف بإيماءة رشيقة برأسها، ورد عليها كل أمير من أمراء الكنيسة الثلاثة بإيماءة، وكانت إيماءة رئيس أساقفة ماينتس بالكاد محسوسة، وإيماءة رئيس أساقفة تريفيس تنم عن الاحترام واللطف، وإيماءة رئيس أساقفة كولونيا يصحبها ابتسامة تشجيعية ودودة.
وفي منتصف القاعة في مقابل الطاولة الطويلة وُضع مقعد ضخم، مأخوذ من قاعة الفرسان الكبيرة، وكان مزدانًا بنقوش ذهبية ومُغطًّى بقماش مخملي إيطالي ذي ألوان زاهية. كان المقعد أشبه بكرسي عرش، وكان يُستخدم، بطبيعة الحال، فقط في المناسبات التي يزور فيها أحد أفراد العائلة الإمبراطورية القلعة. وإلى هذا المقعد الفخم، اقتاد الموظف — الذي لا يقلُّ روعة — الفتاةَ، وحين أخذت مقعدها، جلس رؤساء الأساقفة الثلاثة. ثم انحنى الموظف المبجل حتى كادت أن تلمس جبهته الأرض، ثم غادر في صمت. وقف الأب أمبروز في تواضُع، بثيابه الخشنة والرثة ذات اللون الوقور التي تتناقض على نحوٍ صارخٍ مع ثراء الملابس التي يرتديها الآخرون، بجوار المقعد الذي تجلس عليه قريبته.
سدَّدت الكونتيسة نظرةً سريعة إلى رئيس أساقفة ماينتس، ثم أخفضت عينيها. لقد كانت تعرف رئيس أساقفة كولونيا طوال حياتها؛ أما رئيس أساقفة تريفيس فقد التقته ذلك اليوم؛ وأُعجبت به، بالرغم من أنها كانت تشعر بأنها لا تستطيع أن تُجلَّه مثل وصيِّها؛ أما الرجل الجالس في المنتصف، فقد انتابها شعور بالخوف بعد نظرتها السريعة إليه.
قالت في نفسها: «إن له وجهًا ينمُّ عن قوة بالغة، ولكن شفتاه الرفيعتان والمستقيمتان، والمزمومتان بإحكام، تبدو عليهما القسوة وكذلك التصميم.» وفي لحظة خاطفة من الإدراك، فهمت الآن تحذير وصيها بعدم معارضته. وكان من السهل التصديق على الحقيقة المعروفة بأنَّ لهذا الرجل اليد العليا على الرجلين الآخرين. ورغم ذلك، حين تكلم كان صوته لطيفًا على نحو مدهش.
قال: «سيدتي، إننا نجتمع هنا في ساعةٍ يعمُّها قلق عارم. الآن، يرقد الإمبراطور، الذي يُعاني المرضَ منذ وقت طويل، على فراش الموت، والأطباء الذين يباشرون حالته أخبروني بأنه ربما يَجري استدعاؤنا في أيِّ لحظة لانتخاب خليفته. ولقد وقع الاختيار بالفعل على هذا الخليفة؛ ولعلني أضيف قائلًا بأنه اختير بطريقة غير رسمية؛ ولكن لن يجري التراجُع عن اختياره على الأرجح، إلا بتصرف من جانبه قد يتسبَّب في جعلنا نُعيد التفكير في قرارنا. ولقد اتخذنا قرارنا مؤخرًا في قلعتي إيرنفيلس، ونحن نجتمع مرة أخرى في قلعة أخي رئيس أساقفة تريفيس، ليس بصفتنا الدينية باعتبارنا رؤساء أساقفة، ولكن بصفتنا الدنيوية باعتبارنا أمراء ناخبين للإمبراطورية، لتحديد مسألةٍ نراها على قدْر متساوٍ من الأهمية. إنه لشرف لنا أن نَمنحك أعلى درجات السمو والشرف التي قد تُمنح لأيِّ امرأة في البلاد؛ ألا وهو منصب الإمبراطورة.
وحين تُعبِّرين عن قبولك لهذه المرتبة العظيمة، يجب أن أطرح عليكِ عدة أسئلة بخصوص واجباتكِ المستقبلية تجاه البلاد، وهذه الأسئلة موضَّحة في وثيقة سيُطلب منكِ التوقيع عليها.»
لم تَرفع الكونتيسة عينيها. وبينما كان رئيس الأساقفة يتحدث، تخضَّبت وجنتاها بالحمرة، ولكن وجهها شحب مرةً أخرى، ولاحظ وصيُّها، الذي كان يراقبها باهتمام شديد عبر الطاولة، أن وجهها صار شاحبًا جدًّا لدرجة أنه كان يخشى من أنها كانت على وشك أن تَفقد وعيها. رغم ذلك، استجمعت قواها، وأخيرًا، نظرت لأعلى، لا إلى المتحدث إليها المتجهم، وإنما إلى رئيس أساقفة كولونيا.
وقالت بصوت مسموع بالكاد: «هل لي أن أعرف مَن يكون زوجي المستقبلي؟»
أجاب وصيها بنبرة مهدئة: «بالطبع، بالطبع، ولكن أمير ماينتس هو المتحدث الرسمي بالنيابة عنَّا، ويجب أن توجهي سؤالك إلى سموه.»
هنا حوَّلت عينَيها الخائفتين إلى رئيس أساقفة ماينتس، الذي قطَّب جبينَه قليلًا بسبب هذه المقاطعة، والذي أطبق شفتيه بإحكام أكثر. جلس في مكانه رابط الجأش، رافضًا التضرُّع الذي في عينَيها؛ ومن ثمَّ أجبرها على إعادة طرح سؤالها، الذي عندما وُجِّه إليه اتخذ شكلًا آخر.
«سيدي، مَن سيكون الإمبراطور القادم؟»
«كونتيسة فون ساين، أخشى أنني قُدتُك إلى فهْم خاطئ من خلال تعديل أسلوب خطابي الافتتاحي ليتناسب مع فهْم فتاةٍ خرجت توًّا من حياة الدير. مجلس الأمراء الناخبين لم يُعقد بهدف الحصول على مُوافقتكِ، وإنما بهدف فرض تنفيذ الأمر عليكِ. ليس مسموحًا لكِ أن تطرحي الأسئلة، وإنما لتُجيبي عنها.»
«تقصد أنني سأتزوَّج هذا الرجل المجهول، سواء وافقت أم رفضت؟»
«هذا مقصدي.»
استندت الفتاة بظهرها إلى كرسيِّها، واختفت النداوة التي اجتمعت في عينيها كما لو أن اللهب الضئيل الذي أُضرم بداخلهما قد جفَّفهما.
وقالت: «عظيم!» ثم أضافت: «سل أسئلتك، وسأُجيب عنها.»
«قبل أن أطرح أسئلتي، يجب أن أحصل على موافقتكِ على طلبي الأول.»
«هذا غير ضروري على الإطلاق، يا سيدي. عندما تَسمع إجاباتي عن أسئلتك، ستَسحب طلبك بسرعة بالغة.»
مال أمير تريفيس، الذي كان يتقلقل في كرسيِّه، إلى الأمام وتحدَّث بأسلوبٍ متملق.
«أيتها الكونتيسة، أنتِ جارة لي، على الرغم من أنك تعيشين على الجهة المقابلة من النهر، ولي الشرف أن أستقبلك باعتبارك ضيفة لي. وباعتبارك ضيفة وجارة، أُناشدك بالنيابة عنَّا أن تتأكَّدي من أننا لا نتمنَّى شيئًا سوى مصلحتك وسعادتك.» تلاشى البريق الذي كان في عينَيها، ونظرت بلطف إلى الأمير الناخب المتودد. وواصل الرجل حديثه قائلًا: «إن أمامكِ ثلاثة رجال عُزاب شيوخ، جاهلين تمامًا بطرق النساء. وإذا كان قد قيل أيُّ شيء أساء إليك، فأرجوكِ اغفري لنا تقصيرنا؛ فأنا أؤكِّد لكِ، بالنيابة عن زميليَّ وبالأصالة عن نفسي، أن أي شخص منَّا سيَندم أشد الندم على التفوه ولو بكلمة واحدة قد تتسبَّب في إزعاجكِ.»
«إزعاجي، يا سيدي، جاء من رفضِ الإفصاح عن الاسم الوحيد الذي سألتُ عنه. هل أنا فتاة قروية يَجري تسليمُها إلى الشخص الذي يقدِّم أعلى عرض؟»
«كلَّا ألبتَّة. لم ترِد على خواطرنا فكرةٌ كهذه. بالطبع، الاسم في اللحظة الراهنة سرٌّ، وأقدِّر جدًّا عدم رغبة نيافة رئيس أساقفة ماينتس في ذكر الاسم، ولكن أظنُّ في هذه اللحظة أننا يُمكننا القيام باستثناء على نحوٍ آمن، ولذا أناشد نيافته الآن أن يُعلم الكونتيسة بما تُريد معرفته.»
رد رئيس أساقفة ماينتس بلا مبالاة:
«لا أتَّفق معك، ولكن نحن — الأمراء الناخبين الثلاثة — نتمتَّع هنا بسلطة مُتساوية؛ لذا صوتان يُمكن أن يَغلبا صوتًا واحدًا دومًا.»
ابتسم الأمير الناخب الخاص بكولونيا ابتسامةً بسيطة؛ فقد رأى من قبلُ هذه الكوميديا المتجسِّدة، ولم يعترض عليها قط. وقد كان تعبير رئيس أساقفة تريفيس عن وجهة نظر مخالفة لرئيسِه في أمورٍ غير مُهمة يُعطيه شعورًا معينًا بالاستقلالية.
قال رئيس أساقفة تريفيس، وهو يَميل إلى الأمام ويُخاطب الرجل الموجود عند الطرف الآخر للطاولة: «قداسة رئيس أساقفة كولونيا، ألا تتفق معي؟»
أجاب رئيس أساقفة كولونيا بشيء من الاختصار قائلًا: «بالتأكيد.»
استطرد رئيس أساقفة تريفيس قائلًا: «في هذه الحالة، آخُذ على عاتقي إعلامَكِ، يا سيدتي، بأن الشاب المختار ليكون الحاكم المستقبلي هو الأمير رولاند، الابن الوحيد للإمبراطور المُحتضَر.»
أمسكت الكونتيسة بعصبية بالمخمل الناعم لذراعي كرسيها.
وقالت وهي تُخاطب رئيس أساقفة تريفيس، وتتحدَّث بنبرة هادئة كما لو أنها رئيس أساقفة ماينتس نفسه: «شكرًا لك.» وأردفت: «ولكن هل لي أن أسأل ما إذا كانت هذه الزيجة قد عُرضت على الشاب؟»
نظر رئيس أساقفة تريفيس في توتُّر إلى وجه رئيس أساقفة ماينتس الصارم، الذي أومأ إليه، وكأنما يقول له:
«أنتَ تُبلي بلاءً حسنًا؛ استمر.»
رد رئيس أساقفة تريفيس: «أجل.»
«هل أُخفيَ اسمي عنه؟»
«كلا.»
«هل سمع عنِّي من قبل؟»
أجاب رئيس أساقفة تريفيس اللبِق قائلًا: «بالتأكيد؛ فشهرةُ كونتيسة فون ساين تتخطَّى الآفاق لأبعد مما يسمح به تواضعها.»
«وهل وافق؟»
«على الفور، وعلى نحوٍ مُبتهِج، فيما بدا لي.»
استطردت الكونتيسة قائلة: «على أيِّ حال، هو لم يرَني مُطلقًا.» ثم تابعت: «هل طرح أيَّ أسئلة، بخصوص ما إذا كنتُ طويلة أم قصيرة، كبيرة في السن أم صغيرة، غنية أم فقيرة، جميلة أم قبيحة؟»
«بدا أنه راضٍ تمامًا باختيارنا.»
وضع رئيس أساقفة تريفيس مرفقَيه على الطاولة، ومال إلى الأمام وأسند ذقنه على راحتي يديه المفتوحتين. لقد تحدث طوال الوقت بأكثر الطرق تقديرًا، وكانت نبرته لطيفة ومعسولة. كان من الواضح أنه راضٍ تمامًا عن دبلوماسيته لدرجةِ أنَّ عين رئيس أساقفة ماينتس الجادة طرفَت على نحوٍ خبيث حين التفتت الفتاة بتهور نحو الطرف الآخر من الطاولة، وصاحت قائلة:
«أخبِرني بالحقيقة، أيها الوصيُّ! علمتُ أن هذا الشاب قَبلَ بي كما لو أنني جوال حبوب، فذهنُه مُركَّز على شيء واحد فقط؛ ألا وهو تأمين منصب الإمبراطور لنفسه. أليس الأمر كذلك؟»
قال رئيس أساقفة كولونيا بنبرة رصينة: «الأمر ليس كذلك، أيتها الكونتيسة.»
«صحيح أن الأمير رولاند لم يُعلِّق بأي شيء بخصوصكِ.»
«أنا متأكِّدة أنه لم يفعل. وأيُّ فتاة في ألمانيا كانت ستَفعل مثله تمامًا. لقد كنتُ مجرد جزء من الصفقة التي كان مضطرًّا لإبرامها معكم، وأنا الآن أعلن للمجلس أنه لا توجد قوة على الأرض يُمكن أن تُرغمني على الزواج من الأمير رولاند. وأطالب بحقِّي كأنثى ألا أتزوج إلا بالشخص الذي أحبه ويحبني!»
عبَّر رئيس أساقفة ماينتس عن تعجُّبه بصيحة يُمكن وصفها على نحو فظٍّ بكونها نخرة ازدراء. وكان الأمير الناخب لتريفيس يَميل إلى الخلف في كرسيه مُستاءً من تغيُّر نبرة حديثها المُفاجئ تجاهه. ومال الأمير الناخب لكولونيا الآن إلى الأمام، وقد فزع من تحوُّل الأمور عن مسارها، وظهر قلق عميق على جبهته.
وبدأ كلامه بأن خاطبها بلقبِها مما جعلها تُدرك مدى عمق الخطأ الذي ارتكبتْه، ثم أضاف: «أنا في حياتي كلها لم أُقابل مُطلقًا شابًّا أثار إعجابي بشدة مثلما فعل الأمير رولاند، أمير ألمانيا. وإذا كان لديَّ ابنةٌ أحبُّها كثيرًا، فلن أتمنَّى لها حظًّا أفضل من الزواج بشاب أمين مثله. والنقطة التي تأخُذينها عليه لا بد أن تكون في صالحه بقوة من وجهة نظر أيِّ فتاة شابة. إن قراءتي لشخصيته بخصوص الحب الذي تحدثتِ عنه، تقول لي إنه لا يعرف الكثير عنه مثلكِ تمامًا، ولهذا وافَق على عرضنا على نحوٍ ينمُّ عن لا مبالاة في ظاهره، الأمر الذي تُخطئين في تقديره تمامًا. إذن، إذا كنتِ تؤمنين بحسن نوايايَ تجاهك، وفي اهتمامي الشديد براحتك وسعادتك، فأرجوكِ أن تُوافقي على الاقتراح الذي تقدَّم به نيافة رئيس أساقفة ماينتس. أنتِ تتحدَّثين عن الحب ولا تعرفين شيئًا عنه. وأودُّ منكِ أن تتذكَّري حقيقة أن سيدة نبيلة من عشيرتك ربما أضاعت فرصة السعادة التي قد يجلبها الحب، رغبة منها في التضحية من أجل شخص أحبته بصدق، لدرجةِ أنها اختارت أن يقودها نداء الواجب الأكثر قسوة. لقد عُرضت عليك المسألة، يا عزيزتي، بطريقة مختلفة، وأنا متيقن من أن الواجب والحب سيجتمعان معًا.»
بينما كان رئيس الأساقفة المبجَّل يتحدَّث بمثل هذه الجدية العميقة، بصوتٍ أحبته للغاية، دفنت الفتاة وجهها في يدَيها، واستطاع أن يرى الدموع تتساقط من بين أصابعها. وتبع الصمت حديث وصيِّها، ولم يَقطعه سوى الأنفاس المهتاجة لهيلديجوندي.
قطع الصوت الصارم للأمير الناخب لماينتس حاجز الصمت، وكأنه نَفَس من نهر جليدي، والذي قال:
«هل تَقبلين، يا سيدتي؟»
قالت الفتاة وهي تلهث، وكتفاها ترتجفان من الانفعال، ولكن دون أن تنظر إلى أعلى: «أجل.»
«أخشى أن يُنسى الهدف من هذا الاجتماع في خضمِّ تدفُّق المشاعر من كلا جانبَي. هذا اجتماع عمل، لا وليمة محبة. هلا تتكرَّمين يا سيدتي، برفع رأسك والإجابة عن سؤالي؟»
انهمرت الدموع من عينَي الفتاة، واعتدلت في جِلستها، وهي تُمسك ذراعي كرسي العرش بيدَين مُتوتِّرتَين، كما لو أنها كانت تُثبت نفسها في مواجهة المحنة القادمة.
«لم أكد أسمع ما قُلتِه. هل تقبلين الزواج من الأمير رولاند، أمير ألمانيا؟»
أجابت في حزم: «أقبل.»
«هل ستستغلين تأثيرك عليه لكي يُنفِّذ أوامر رؤساء الأساقفة الثلاثة؟»
«أجل، إذا كانت الأوامر لصالح البلاد.»
«لا أستطيع القبول بأي شروط؛ ومن ثمَّ سأكرِّر سؤالي. هل ستستغلين تأثيرك عليه لكي يُنفِّذ أوامر رؤساء الأساقفة الثلاثة؟»
«من المُمكن ألا يكون لي أيُّ تأثير على هذا الرجل.»
«أجيبي عن هذا السؤال، يا سيدتي.»
قال رئيس أساقفة كولونيا مُتوسلًا: «قولي نعم، يا هيلديجوندي.»
نظرت إليه بعينَيها اللتين تغمرهما الدموع.
وصاحت قائلة: «أوه، أيها الوصيُّ، أيها الوصيُّ!» وتابعت: «لقد فعلت كلَّ ما بوسعي، وكل هذا من أجلك، من أجلك أنت. لا أستطيع أن أتحمَّل المزيد. هذا تعذيب بالنسبة إليَّ. دعني أعود إلى المنزل، وسأجيب عن أسئلتك في يوم آخر حين أكون أهدأ حالًا!»
جلس رئيس الأساقفة المُتحيِّر مرةً أخرى بتنهيدة عميقة. وعلى نحوٍ مُذهِل تبدَّد الجهل بالنساء الذي وصف ثلاثتهم به زميله رئيس أساقفة ماينتس. لم يَستطِع فهم السبب الذي يجعل هذه الفتاة تُظهر هذه المشاعر تجاه فكرة الزواج من وريث العرش، في حين أن الشاب كان يُمثِّل كل ما تطمح إليه أيُّ فتاة عاقلة.
قال رئيس أساقفة ماينتس بنبرة صوت خالية من العاطفة: «سيدتي، أرجوكِ أن توليني انتباهك.» ثم أضاف: «لقد استمعت إلى حوارك مع زميليَّ، وأتمنَّى أن تُقدِّري ما تحلَّيتُ به من صبر. هذه مسألة عمل — وأكَّد على الكلمة الأخيرة — يجب أن تُسوَّى اليوم، ولإزالة أيِّ سوء فهم، أودُّ أن أقول إنَّ وصيَّك ليس له تأثير في هذه المسألة. لقد حُسم الأمر قبل دخولكِ إلى هذه القاعة. مسموح لكِ أن تختاري أمرًا من اثنين؛ الأول: الزواج من الأمير رولاند، والثاني: السجن في قلعة فالتس الواقعة وسط نهر الراين.»
تساءلت الكونتيسة: «ماذا تقول؟»
«لقد سئمتُ من تَكرار عباراتي.»
«هل ستَسجنُونني، أنا، كونتيسة فون ساين؟»
مرةً أخرى تبخرت الدموع من عينيها، وحلَّ محلَّها النار المتأججة التي ورثتها عن أجدادها الصليبيين، وكذلك سارقي نهر الراين؛ إن كان ولا بد ذكر الحقيقة كاملة.
«أجل، يا سيدتي. ذات مرة شنَقَ أحد أسلافي واحدًا من أجدادك.»
صاحت الفتاة في غضب جامح: «هذا غير صحيح.» وأضافت: «كان الإمبراطور رودولف هو مَن شنَقَه؛ إنه هو نفس الإمبراطور الذي عاقب رئيس أساقفة ماينتس، وأتى به جاثيًا على ركبتَيه يتوسَّل العفو، والذي منحه الإمبراطور إياه بكلِّ ازدراء. أنت لا تجرُؤ على سجني!»
قال رئيس الأساقفة بهدوء بالغ: «ارفُضي الزواج من الأمير رولاند، وستعرفين إن كنتُ كذلك أم لا.»
هبَّت الفتاة واقفة على قدميها، وهي تَرتجِف من الغضب.
«أنا أرفُض قطعًا! لقد خدع الأمير رولاند ثلاثتكم بمظهره الكاذب! إنه فاسق ومتهور، ويَختلط بأحقر الطبقات في حانات فرانكفورت، وهو كاذب وسارق؛ بل إنه ليس بسارق شُجاع؛ وإنما سفاح يَرفع سيفه إلى صدر تاجرٍ أعزل بينما يسرق منه أمواله. بالإضافة إلى ذلك، فهو سكِّير مثل والده؛ وفوق كل ذلك، مُنافق، على عكس والده، ورغم هذا وذاك فهو ماهر بالدرجة الكافية؛ فمع كل مساوئه هذه، خدع ثلاثة رجال دمَّر حكمُهم الفاسد فرانكفورت»، وأضافت وهي تشير بيدها نحو النهر الخالي: «وحرم نهر الراين الشاسع من حركة التجارة التي كانت تجعله ينبض بالحياة.»
كان رئيس أساقفة كولونيا أول مَن هب واقفًا في ذعر.
وتمتم قائلًا: «لقد جُنَّت الفتاة!»
وقف رئيس أساقفة تريفيس أيضًا، ولكن ظلَّ رئيس أساقفة ماينتس جالسًا، وعلى شفتَيه ابتسامة مريرة، ورغم ذلك كان في عينيه بريق إعجاب.
صاحت وهي تُحدِّق فيه بابتسامة، وقد اختفى غضبها بسرعة تمامًا مثلما أُثير، قائلة: «كلا، وصيي المسكين، أنا لست مجنونة.» وأضافت: «ما أقوله هو الحقيقة، وربما يكون اجتماعنا مُضطربًا، ولكنه قد يمنعكم من ارتكاب خطأ عظيم. الرجل الذي من شأنكم أن ترفعُوه إلى العرش ليس كما تظنون.»
صاح رئيس أساقفة كولونيا قائلًا: «فتاتي العزيزة! كيف يتسنَّى لكِ توجيه مثل هذه الاتهامات إليه؟ كيف يُمكن لفتاة تعيش في عزلة مثلك أن تعرف ماذا يجري في فرانكفورت؟»
«الأمر يبدو غريبًا، أيها الوصيُّ، ولكنه حقيقي. اجلس مرةً أخرى، أتوسَّل إليك، أنت ورئيس أساقفة تريفيس. أظنُّ أن حتى قداسة رئيس أساقفة ماينتس سيتفهم شعوري بالاستياء عندما قُدم لي مثل هذا العرض، وآمُلُ أن تَغفر لي، يا سيدي، نوبة غضبي.»
سمعت رئيس أساقفة تريفيس المرتجف يتمتم قائلًا:
«رئيس أساقفة ماينتس لا يغفر أبدًا.»
«الآن، تفضَّل، أيها الأب أمبروز.»
تساءل أمبروز وقد استفاق من حالة الاستغراق في التفكير: «لماذا؟»
«أخبِرْهم عن تجربتك في فرانكفورت.»
اعترض الراهب قائلًا: «أنا غير مسموح لي بالحديث.»
صاح رئيس أساقفة كولونيا: «تحدث! تحدث!» ثم أضاف: «ما علاقتك، يا سيدي، بما تقوله هذه الفتاة؟»
قال لقريبتِه بنبرةٍ مُرتبكة: «ظننت أنه ينبغي ألا أذكر زيارتي إلى فرانكفورت ما لم يُثِر قداسة رئيس الأساقفة هذا الموضوع.»
قالت الفتاة بنفاد صبر: «ألم تَستمِع إلى ما حدث؟» ثم تابعت: «لقد أُثير الموضوع أمام رؤساء الأساقفة الثلاثة، وليس واحدًا منهم فقط. أخبِر قداستهم بما تعرفه عن الأمير رولاند.»
بدأ الأب أمبروز، بتنهيدة عميقة، في سرده، الذي استمع إليه رئيسا أساقفة تريفيس وكولونيا بدهشة متزايدة، بينما تراجع رئيس أساقفة ماينتس متجهمًا في كرسيه، وبوجه هادئ، لكنَّ شفتيه الرفيعتين كانتا تزمَّان أكثر فأكثر أثناء مواصلة الحكي.
وحين انتهى السرد، كان قداسة رئيس أساقفة كولونيا هو أول مَن تحدَّث:
«بحق السماء، لماذا لم تُخبرني بكل هذا أمس؟»
نظر الأب أمبروز في قلة حيلة إلى قريبته، ولكن لم يردَّ.
قالت الفتاة في إباء، ولأول مرة تُخاطبه بلقب رسمي، كما لو أنه من الآن فصاعدًا سيُحسَب في عداد أعدائها: «أنا منعته، يا سيدي.» وأضافت: «أنا الوحيدة المسئولة عن رحلته إلى فرانكفورت وتبِعاتها، أيًّا ما كانت. أنت أقسمت الآن، يا سيدي، بحق السماء، وأودُّ منك أن تَعرف أنني مقتنعة بأن السماء نفسها تدخَّلت بالنيابة عنِّي لكشف الشخصية الحقيقية للأمير رولاند، الذي نجح في خداع ثلاثة رجال مثلكم، من المُفترَض أن يكونوا مخضرمين!»
تحوَّل رئيس الأساقفة إلى عينَيها الحزينتين، مرتبكًا ولكنه ما زال لطيفًا.
وقال: «عزيزتي الكونتيسة، أنا لم أسعَ لتوبيخك؛ رغم أنني، أو بالأحرى كنتُ، وصيَّك، وأظن أنه ينبغي استشارتي قبل أن تقومي بتصرُّف يُهدد خططنا.»
ردَّت الفتاة، بالأسلوب المتعجرف الذي استخدمته مؤخرًا:
«أنا لا أجادل في أمر وصايتي، ولقد شكرتُك أكثر من مرة على رعايتك لي، ولكنَّك في أزمة حياتي هذه — الأزمة التي حوَّلتني من فتاة إلى سيدة — خذلتَني، بأن تخلَّيتَ عنِّي هنا. تمنَّيتُ أن أقضي شهرًا أو شهرين في العاصمة، ولكن قبل أن أزعجك بمثل هذا الطلب قرَّرت أن أعرف ما إذا كان وضع فرانكفورت مضطربًا مثلما تزعم الشائعات أم لا. وما إن وجدت أن الأمور ميئوس منها، حتى تخلَّيت عن مشروع الزيارة، وما كنت أعلم شيئًا عن الشرف الذي سيُمنح للأمير رولاند؛ ولذا ظننت أنه من الأفضل إبقاء ما جرى اكتشافه بخصوص شخصيته سرًّا بيني وبين الأب المبجل. وأجرؤ على القول بأن ثمة مُحاوَلة ستجري للتشكيك في قصة الأب المبجل، وقد يُقنع قضاتي الثلاثة أنفسهم بكذبها، ولكنهم لن يستطيعوا إقناعي بذلك، وأقول لكم في النهاية وبصفة رسمية إنه لا توجد قوة على الأرض يُمكن أن تُجبرَني على الزواج من لص وسارق!»
أسكتَ تمامًا هذا الإعلانُ الصديقَ الوحيد لها بين الثلاثة. أدار رئيس أساقفة ماينتس رأسه، ونظر إلى زميله الجالس على يمينه، وكأنه يقول: «هل ترغب في إضافة نصيبك لهذا الكلام غير المنطقي؟»
مال رئيس أساقفة تريفيس إلى الأمام، في خضمِّ هذا الصمت، وتحدَّث إلى الراهب المرتبك، الذي عرف، بطريقةٍ ما لم يتفهَّمْها تمامًا، أن الأمور تَنجرِف نحو كارثة.
بدأ رئيس أساقفة تريفيس حديثه قائلًا: «الأب أمبروز، هلا تتكرم بإخبارنا بالتاريخ الدقيق الذي حدث فيه هذا اللقاء على الجسر؟»
أجاب الأب أمبروز قائلًا: «عيد القديس كيرلس.»
«وأثناء ليلة ذلك اليوم كنت محبوسًا في القبو وسط براميل النبيذ؟»
«أجل، يا سيدي.»
«هل ستَندهِش، أيها الأب أمبروز، حين تعلم، أنه أثناء عيد القديس كيرلس، وقبل ذلك التاريخ بعدة أيام، كان الأمير رولاند سجينًا تحت الحراسة المشددة في قلعة إيرنفيلس المنيعة الخاصَّة بقَداسة رئيس أساقفة ماينتس، وأنه من المُستحيل تمامًا أن تَلتقيَ به في فرانكفورت، أو في أي مكان آخر؟»
قال الأب أمبروز، في عنادٍ هادئ لرجل دمث، بإصرار: «ورغم ذلك، التقيتُ به.»
ابتسم رئيس أساقفة تريفيس.
«أين نزلتَ في فرانكفورت، أيها الأب؟»
«في دير البندكت في زاكسينهاوزن.»
«هل يُقدِّم الإخوة الصالحون لضيوفهم نبيذًا قويًّا؟ تُعد فرانكفورت، ولطالَما كانت دومًا، سوقًا رئيسية لهذا المشروب المنعِش، والمسبب الهلاوسَ في نفس الوقت.»
تخضَّبَت وجنتا الكونتيسة خجلًا من هذا التلميح الذي يَنال من رصانة قريبها. واستقرت يد الراهب العجوز على ذراع كرسيِّها، ووضعت يدها على يده وكأنها تشجِّعه على التعبير عن الاستياء من التشويه الضِّمني لسمعته. ففي النهاية، كان كلاهما، وهما ينتميان إلى ساين، يتعرَّضان إلى ضغوط شديدة من قِبَل هؤلاء الحكام القُساة. ولكن رد أمبروز بلطف قائلًا:
«لعلَّ الدير يَحتوي على نبيذ، يا سيدي، ولا شك أنه نبيذ جيد، ولكني لم أتذوقه أثناء زيارتي هذه.»
وفي نهاية الاستجواب، تحدَّث رئيس أساقفة ماينتس بصوتٍ أعلى من الهمس بقليل، وقد بدا بعض الإرهاق في أسلوبه.
قال: «سيديَّ، لقد ابتعدنا عن الموضوع. المغامرة التي قام بها الأب أمبروز مُثيرة لكن ليست ذات أهمية، وبعيدة تمامًا عن النقطة الأساسية. وحتى الطفل الصغير يمكن أن يفهم ما حدث، لأنه مجرَّد خطأ في تحديد الهوية، وأنا مُتعاطف تمامًا مع الشخص المجهول؛ فهو رجل حازم، شعر بالغضب على نحوٍ طبيعي من إصرار أحدهم على التدخل ومن دون دعوة منه؛ ومن ثمَّ حبَسَ المتطفل على نحوٍ مُستحق وسط البراميل، وهو على الأرجح داهية بالدرجة الكافية ليرى أن هذا الشخص الذي لا يُدمن الخمر لن يمسَّ تلك البراميل بسوء.
سيدتي، قفي!»
بدَت الكونتيسة ميَّالة إلى رفض هذا الأمر المقتضب، ولكن نظرة التوسُّل التي رأتها في عينَي وصيها المذعور تمامًا الآن غيَّرت نيتها، وهبَّت واقفة على قدميها.
«سيدتي، عُرض عليك أعظم شرف يُمكن أن تناله أيُّ امرأة في نطاق سلطة هذه الإمبراطورية، ورُفض بغضب غير مبرَّر. ولذا، أود أن أبلغكِ بأنكِ، في ضوء هذا الاجتماع، لا تُعدِّين جديرة بهذا المنصب الرفيع، الذي كان من المقرَّر أن تشغليه قبل معرفة شخصيتك الحقيقية. كما أنَّ الافتراءات الكثيرة التي صببتِها فوق رأس الأمير رولاند البريئة تصلُ إلى حدِّ تُهمة الخيانة العظمى.»
صاح رئيس أساقفة كولونيا قائلًا: «معذرة، يا سيدي! زعمك لا أساس له من الصحة سواء من الناحية القانونية أو الناحية الفعلية. الخيانة العظمى هي جريمة يُمكن ارتكابها فقط ضد المملكة ككل، أو ضد الحاكم بصفة شخصية. الأمير رولاند لا يُعدُّ إمبراطورَ ألمانيا بعدُ، ورغم أننا ربما نأسف على اللغة المستخدَمة للنَّيل منه، فلقد كان هذا بسبب سوء تفاهم واضح جدًّا لنا جميعًا. إن رجلًا صالحًا، لكنه حالم، ارتكب خطأً، ورغم فظاعته، فقد طرَحَه بصدق لا يُمكن لأحدٍ منَّا أن يُشكِّك فيه؛ بالطبع كانت نية الأب أمبروز أن يُبقيَ معرفته المفترَضة سرًّا، ولقد لاحظ كلاكما مدى تردُّده الواضح حين طلب منه زميلي رئيس أساقفة تريفيس التحدُّث. وبصرف النظر عن مدى العدالة في تأديب الأب أمبروز، فلا لوم أبدًا على سيدتي، كونتيسة فون ساين، وقبل إلقاء المزيد من اللوم، أتوسَّل إلى قداستك أن تضع في الاعتبار ملابسات المسألة، التي استُدعيَت إليها فجأةً شابَّةٌ، دون إنذار سابق أو إعداد، لتأخذ أهم قرار في حياتها. أقول إنه لأمر يُحسب لها أن تَرفُض أعلى منصب في البلاد في سبيلِ ما تَفترضه، ولو على سبيل الخطأ، بأن يكون بسبب الصدق والرصانة، ولعلَّني أضيف أيضًا، تعاليم المسيحية؛ وهي سمات ينبغي علينا نحن الثلاثة أن ندعمها.»
اعترض رئيس أساقفة تريفيس قائلًا: «سيدي، نحن نَلتقي هنا باعتبارنا أمراء دنيويين، لا رؤساء أساقفة الكنيسة.»
«أعرف هذا، أخي رئيس أساقفة تريفيس، وأحتكم إلى القانون الدنيوي. والأمير رولاند، رغم نسبه العالي المقام، هو مجرَّد مواطن في الإمبراطورية، ونجل جلالة الإمبراطور. ولهذا السبب من المستحيل أن تُرتكَب جريمة الخيانة العظمى ضده.»
وأثناء هذا الاعتراض والمناقشة، مال رئيس أساقفة ماينتس إلى الوراء مرةً أخرى بموقفه المعتاد من اللامبالاة؛ وعيناه الثاقبتان شبه مغلقتَين. وعندما تحدَّث لم يُشِر إلى أيٍّ مما قاله زميلاه.
قال دون أن يَرفع صوته: «سيدتي، قرار هذا المجلس هو سجنُك، للمدة التي تتراءى لنا، بقلعة فالتسجرافينشتاين، الموجودة على صخرة وسط نهر الراين. وتحت حراسة الفالتسجراف فون شتاليك، الذي سيكون مسئولًا عن الحفاظ على سلامتك، وأتمنى أن تُنصتي إلى النصائح المُخلِصة لزوجته الصالحة بحيث عندما تَحين المرة التالية التي يُتاح لكِ فيها شرف حضور اجتماع عالي المستوى كهذا تَعرفين على نحوٍ أفضل اللغة التي يجب أن تستخدميها. يُسمَح لكِ باصطحاب خادمتَين، تختارينهما بنفسك من أهل بيتك، ولكن يُمنع أيُّ تواصل مع العالم الخارجي منعًا باتًّا. لقد قلتِ ما مفاده أنه لا يجرؤ القائمون على هذا المجلس أن يتَّخذُوا هذا الحكم ضدك؛ ولكن إذا كنتِ تَمتلكين الحكمة التي يتَّضح جدًّا افتقارك إليها، لعلك كنتِ ستعتقدين أن السلطة التي تتجرأ على سجن الإمبراطور المُستقبَلي لهذه البلاد لن تتردَّد في وضع كونتيسة فون ساين قيد السجن.»
أحنَت الكونتيسة رأسها قليلًا، وجلست مرة أخرى دون أن تُبدي أي اعتراض. وقف رئيس أساقفة كولونيا.
وقال: «سيدي، لقد أثَّرت المسألة القانونية هذه وقد جرى تجاهلها تمامًا.»
رد رئيس أساقفة ماينتس قائلًا: «هذا هو الوقت المناسب لإثارتها، وستكون راضيًا على الفور. هذا المجلس مؤهَّل لاتخاذ قرار بشأن أيِّ مسألة قانونية. وإذا كان قداسة رئيس أساقفة تريفيس متَّفقًا معي، فإن اعتراضك مرفوض.»
قال رئيس أساقفة تريفيس: «أنا متفق معك.»
قال رئيس أساقفة ماينتس وهو يَستدير نحو الشخص الذي كان يتحدث معه: «قداسة رئيس أساقفة كولونيا، قرار المجلس يَرفُض اعتراضك.»
كانت هيلديجوندي تتعلم درسًا بالفعل. ورغم أنها صُعقَت من القرار، فإنه لم يسعها سوى الإعجاب بنبرة النقاش الهادئة بين الثلاثة رجال أمامها، مقارنة بفورة غضبها السابقة.
قال رئيس أساقفة كولونيا: «قرار المجلس كان متوقَّعًا، ويُؤسفني أنني مجبر على الطعن عليه.»
تساءل رئيس أساقفة ماينتس بنبرة لطيفة: «إلى مَن ستتقدَّم بالطعن؟ الإمبراطور كما تعلم غير مؤهَّل تمامًا للقيام بالعمل العام، وحتى إن كان الأمر غير ذلك، فسوف يتردَّد في الاعتراض على قرارٍ اتخذته أغلبية هذا المجلس.»
قال رئيس أساقفة كولونيا: «سأتقدَّم لسُلطةٍ يتوجَّب حتى على الأباطرة أنفسهم الانصياع لها؛ ألا وهي سلطة القوة الجسدية.»
قال رئيس أساقفة ماينتس في أسًى: «تقصد الثلاثة آلاف رجل المختبئين في الغابة وراء هذه القلعة التي تحلُّ عليها ضيفًا؟»
تفاجأ رئيس أساقفة كولونيا بهذا الرد الشبه الهامس لدرجةِ أنه عجز عن الكلام للحظات. اجتاح شحوب مُفاجئ وجهه المتورِّد عادة. أمال قداسة رئيس أساقفة ماينتس برفق رأسه كما لو أنه كان يَنتظر ردًّا، وحين لم يأتِ الرد، استطرد دون انفعال:
«دعْني أخبرك، يا سيدي، بأن جيشي يحتلُّ العاصمة فرانكفورت، وهو قادر على قمع أيِّ اضطرابات قد تنجم عن إعلان وفاة الإمبراطور ومُستعدٌّ لذلك، ولكن لا يزال هناك عدد كبير من القوات المدرَّبة التي على استعداد لدعم قرارات هذا المجلس. فبينما كان جواسيسك يجوبون البلاد عبر الغابات وعلى طول النهر وصولًا إلى بوابات مدينة ماينتس، يبدو أنهم كانوا واقعين تحت وهم أن قُدراتي تقتصر على تحريك جنودي برًّا فقط. وبطبيعة الحال، لم يتلقَّوا أيَّ إشارة على وقوع مثل هذا الأمر، نظرًا لأنني استوليت على مائة سفينة وجدتُها خالية في رافد ماين بالقرب من فرانكفورت. وهذه السفن أبحرت على طول رافد ماين وصولًا إلى مدينة ماينتس، وهناك استقبل كلٌّ منها مائة رجل. وفي الليل الدامس، أبحرتُ على طول نهر الراين، حسبما يبدو، دون أن يلاحظها أحد، وهي الآن مُختبئة عند مصبِّ رافد لان في مقابل هذه القلعة مباشرة.
وعندما يُرفَع علمي على سارية علم البرج الرئيسي، سيَرسو هذا الأسطول أسفلنا في غضون نصف ساعة. ولا شك أنكَ قمت بترتيبات مُماثلة لتأتي بالثلاثة آلاف رجل من رجالك إلى حصن ستولزينفيلس، ولكن بوابات هذه القلعة مُغلقة الآن. بالطبع، وضعت قلعة ستولزينفيلس في وضع مقاوَمة الحصار بعد مرور فترة قصيرة جدًّا من دخولك أنت والفتاة، ويَحرُسها مائتا مُقاتل، وفَّرهم ليَ أخي رئيس أساقفة تريفيس بناءً على طلبي. وأشكُّ أنه يمكن الاستيلاء عليها، حتى لو منحت الإشارة لذلك، وهو ما لن نسمح به. وبالطبع، خطَّتك لتَأسرَني أنا ورئيس أساقفة تريفيس كانت جيدة لو كان بالإمكان تنفيذها، ونظرًا لأن أيَّ رجل يُواجه مأزقًا سيتنازل دومًا، ولأني أرى أنك في هذا الموقف، لذا سأسعَد بمعرفةِ ما الترتيب الذي تقترحه.»
لم يردَّ رئيس أساقفة كولونيا، ولكنه وقف مُحنيًا رأسه ومُقطِّبًا جبينه. كانت كونتيسة فون ساين هي مَن وقفت لتتحدث:
قالت: «قداسة رئيس أساقفة ماينتس، لن أغفر لنفسي أبدًا إذا تسبَّب تصرُّفي في حدوث صراع مهلك بين بني وطني. لا أرغب في لعب دور هيلين في حرب طروادة. ومن ثم، فأنا مُستعدَّة وراغبة في أن أُسجن أو أن أتزوَّج الأمير رولاند الفرانكفورتي، ما دام لن يُلحِق أيَّ أذًى بصديقي، قداسة رئيس أساقفة كولونيا.»
قال رئيس أساقفة ماينتس بلباقة: «سيدتي، لا يُوجد «الآن» خياران، كما تفترضين.»
«في هذه الحالة، سموك، سأتَّجه فورًا إلى قلعة فالتس، وأطلُب أن يُسمح لوصيِّي بمصاحبتي في هذه الرحلة.»
«سيدتي، جرَت الموافقة على قرارك، ولُبِّي طلبُكِ، ولكن نظرًا لأن المهمة التي اجتمع من أجلها رؤساء الأساقفة الثلاثة لم تُنجَز بعد، أطلب منكِ الانسحاب حتى يَجريَ التوصُّل إلى اتفاق. ويُسمح للأب أمبروز أن يصحبكِ.»
هبَّ رئيس أساقفة تريفيس الشهم واقفًا على قدميه فورًا، للحصول على شرف قيادة الكونتيسة إلى جناح شقيقته وابنتها. وحين فُتح الباب المؤدِّي لغرفة الانتظار، لم يغفل رئيس أساقفة كولونيا، الذي تابعت عيناه الفتاةَ المغادِرة، ملاحظةً أن الرَّدهة كانت مليئة بالرجال المدجَّجين بالسلاح، وقد أدرك الآن، إن لم يكن قد فعل ذلك من ملاحظة رئيس أساقفة ماينتس، كيف أنه كان مُحاصَرًا تمامًا. وحتى وإن كان مائة ألف من جنوده يقفون على استعداد تام فوق التلال، كان يستحيل عليه أن يُعطيهم الإشارة ليأتوا إلى نجدته.
وبعد مرور بضع دقائق، عاد رئيس أساقفة تريفيس، وأخذ مكانه على يمين رئيس أساقفة ماينتس. تحدَّث الأخير كما لو أن الاجتماع قد ساده الاتفاق في الرأي والود.
قال: «الآن، وبما أننا نحن الثلاثة بمفردنا، أظن أن بإمكاننا مناقشة المشكلات في ظل غياب الشعور بالخوف إذا طُلب من الجيش الصغير المترصد في الغابة الرحيل إلى كولونيا.» وأردف ملتفتًا إلى رئيس أساقفة كولونيا: «ونظرًا لأن هذا هو الحال، هلا تتكرَّم بكتابة أمر بهذا المعنى إلى قائدك؟ أَخبِره بأننا — نحن الأمراء الناخبين الثلاثة — نتمنى أن نَستعرض قواتك العسكرية من الشرفة الشمالية، ونطلب منهم التقدم عبر التلال إلى طريق النهر. وقل لهم إن عليهم عبور نهر موزيل عبر الجسر القديم، ثم العودة إلى مدينتك. ولعلَّك ستتعهَّد بعدم إصدار أية إشارة إلى ضباطك أثناء مرورهم بنا. وأنا أتقدَّم بهذا الطلب وكُلِّي ثقة بأنك مدرك تمامًا بأن الثلاثمائة رجل سيُدمِّرون أنفسهم في أي محاولة للاستيلاء على هذه القلعة؛ لأن هناك جيشًا قوامه عشرة آلاف رجل سيطوِّقهم ويُبيدُهم. هل توافق على ذلك؟»
أجاب رئيس أساقفة كولونيا: «موافق.»
كتب الأمر المطلوب، وسلَّمه إلى رئيس أساقفة ماينتس، الذي تفحَّص الوثيقة بإمعان قبل أن يمررها إلى رئيس أساقفة تريفيس. وخاطب رئيس أساقفة ماينتس رئيس أساقفة كولونيا بألطف نبرات صوته:
«هلا تتكرم بتوجيه زميلنا كيف يُمكن أن تصل هذه الرسالة بأمان إلى قائدك؟»
«إذا تمكَّن من إرسالها إلى رئيس حرسي القليلين هنا، آمرًا إياه بأخذِها مباشرة أعلى التل خلف هذه القلعة حتى يصل إلى جنودي، الذين يعرفهم بصفة شخصية، سيَسمحون له بالمرور، وتوصيل أمري المكتوب إلى الضابط المسئول.»
وما إن أُنجز ذلك، وعاد رئيس أساقفة تريفيس مرة أخرى، حتى قال رئيس أساقفة ماينتس:
«أنا متأكِّد من أننا جميعًا نُدرك أن كونتيسة فون ساين، حتى وإن كانت مثيرة للإعجاب من نواحٍ أخرى، تمتلك عقلًا مستقلًّا وإرادة صلبة تجعلها غير مناسبة تمامًا للمنصب الذي كنَّا نعتزم أن تشغله. أظن أن وصيَّها لا بد أن يكون قد اقتنع الآن، على الرغم من أنه كان يُساوره بعض الشكوك حيال ذلك من قبلُ، بأن هذه السيدة لن يسهل التأثير عليها بأي اعتبارات قد نُشير عليها بها. والوقائع المؤسفة التي حدثت في هذا الاجتماع قد غرست على الأرجح في ذهنها تحاملًا معينًا تجاهنا.»
وهنا، ولأول مرة، ضحك رئيس أساقفة كولونيا.
وقال: «هذا مُحتمل جدًّا، يا سيدي، وقطعًا أسلوبك الرزين في طرح الأمر مقنع. لن تخضع سموُّها كإمبراطورة لنا. ولهذا، أتقدم باقتراح بقدر من الثقة، وأنا متأكد من أنه سيُرضي كليكما. دعني أرشِّح لكما السيدة الرزينة والصامتة جدًّا ابنة أخت أخي رئيس أساقفة تريفيس لمنصب الإمبراطورة.»
كتم رئيس أساقفة تريفيس شهقة في مَهدِها، ولكنه لم يستطِع أن يُطفئ بريق الطموح الذي قفز فجأة إلى عينيه. إن ارتقاء ابنة شقيقته الأرملة إلى العرش الإمبراطوري لهو ميزة هائلة جدًّا، وقد جاءت هذه الفرصة على نحوٍ غير مُتوقَّع تمامًا، لدرجة أن ذهنه البطيء قد توقَّف أمام هذا الاحتمال الرائع في تلك اللحظة. وبدا أنه لا يمكن تصديق أن رئيس أساقفة كولونيا تقدَّم بمثل هذا المقترح فعلًا.
ضاقت عينا رئيس أساقفة ماينتس حتى كادتا تنغلقان، بيد أنه لم يكن هناك أيُّ وسيلة أخرى سواها لتُبين انفعالاته. وكومضةٍ رأى بذهنه اليقظ فتيل القنبلة التي ألقاها رئيس أساقفة كولونيا بلا مُبالاة بينه وبين تابعه المخلص. فرئيس أساقفة كولونيا، بعد أن فقد كل شيء، قد أظهر براعة كافية بحيث يتسبَّب في خصومة بين من أجمعا على معارضته وإبطال نفوذه. إذا نُصِّبَت هذه الفتاةُ إمبراطورةً، فسوف تكون تحت تأثيرِ خالِها تمامًا؛ فقد كانت منذ طفولتها مُطيعةً جدًّا في أسْرَته. ولكن ما الذي على رئيس أساقفة ماينتس القيام به؟ لو اعترض على هذا الترشيح، فسوف يخسر على الفور ولاء رئيس أساقفة تريفيس الشديد له، وإذا حدث هذا، فإن رئيسي أساقفة تريفيس وكولونيا، مجتمعَين، سيَغلبانه في التصويت، وسيكون اعتراضه بلا جدوى. إنه سيُغضب رئيس أساقفة تريفيس دون أن يحقق ما يُريد، وهو يعرف أنه يشغل منصبه فقط بسبب أن الرجل الأضعف يُبدي إخلاصًا شديدًا له. ازداد الغضب تدريجيًّا في قلبه بينما كان يتخيَّل الوضع في المستقبل. إن التأثير الذي كان يسعى لممارسته على الإمبراطور بالمساعَدة غير المباشرة للإمبراطورة، يجب أن يحدث من خلال موافقة رئيس أساقفة تريفيس، الذي سيقدِّر تدريجيًّا أهميته المتزايدة.
كل هذا طرأ على ذهن رئيس أساقفة ماينتس، وقد توصَّل إلى قراره قبل أن يستعيد رئيس أساقفة تريفيس رباطة جأشه.
قال رئيس أساقفة ماينتس، وهو يُحاول جاهدًا أن يقمع نظرة الحقد نحو الرجل الجالس على يساره: «إنه لمن دواعي سروري … إنه لمن دواعي سروري العظيم جدًّا في واقع الأمر أن أؤيد هذا الترشيح المثير للإعجاب، لدرجة أنني أتوجَّه بالتهنئة إلى زميل مُحترم وصديق عزيز. قداسة رئيس أساقفة تريفيس، أنا واثق من أنك ستؤيد هذا الترشيح؛ إذ لسعادتي قد توقَّع قداسة رئيس أساقفة كولونيا، قبل بضع دقائق، المقترح الذي كنت بصدد تقديمه إليك.»
رد رئيس أساقفة تريفيس متمتمًا، وقد وجد صعوبة في التحدث، قائلًا: «سيدي، أنا … أنا … بالطبع، سأوافق على أي قرار يتوصل إليه المجلس. وأنا … أنا أشكرك يا سيدي، وأنت أيضًا، أخي رئيس أساقفة كولونيا.»
ثم صاح رئيس أساقفة ماينتس، بنبرة مبتهجة: «إذن، أُنجزَت المهمة التي اجتمعنا من أجلها، وأُعلنُ انتهاء الاجتماع.»
ثم قام من على كرسيِّه. لم يفكِّر رئيس الأساقفة الجالس على يمينه الذي كاد يطير فرحًا في حقيقة أن رئيسهما لم يستدعِ السيدة التي ستُنفِّذ قرار الاجتماع السرِّي وتُجيب عن الأسئلة التي ستُطرح عليها، ولكن رئيس أساقفة كولونيا لاحظ هذا، وعرف منذ تلك اللحظة أن رئيس أساقفة ماينتس سيَحشُد براعته ليُبطل الترشيح. وعلى الرغم من أن قنبلته لم تَنفجِر، وأن رئيسَي الأساقفة الآخرَين يبدوان الآن صديقين عظيمين أكثر من أي وقت مضى؛ فقد حقَّق رئيس أساقفة كولونيا هدفه المباشر وشعر بالرضا.
وجاء عبر النوافذ المفتوحة الصوتُ المنتظم للخطوات الثابتة للجنود، وصوت اصطدام الأسلحة والأذرع أثناء عبورهم.
صاح رئيس أساقفة ماينتس قائلًا: «والآن، دعونا نَستمتع باستعراض القوات الشجاعة التابعة لرئيس أساقفة كولونيا. قُدِ المسيرة، يا قداسة رئيس أساقفة تريفيس. أنت تعرف القلعة على نحو أفضل منا.»
قاد رئيس أساقفة تريفيس الفخور، وهو يتبختر، ضيفيه إلى الشرفة الشمالية.