«قد صدر الحكم: هيا، فلتستعدَّ!»
قال رولاند بهدوء مخاطبًا القبطان: «أيها القبطان، فلتُنزل طاقمك إلى الشاطئ، وعليكم إعادة هذه البالات إلى متن السفينة مرةً أخرى، بأقصى سرعة ممكنة.»
شرع البحَّارة في العمل فورًا وأفسدوا بأيديهم جهودهم السابقة.
صاح أحد الرجال المُقيَّدين متوسلًا إلى رولاند: «نناشدك بالرب، يا رولاند، أن تُمسك بسيفٍ وتُحرِّرنا من قيودنا.»
أجابه رولاند بقوله: «كل شيء يأتي في وقته المناسب. فالبالات أكثرُ أهمية لي منكم، ولدينا برميلا ذهبٍ عند حافة الجرف علينا إحضارهما، هذا إن لم يكونا قد غرقا بالفعل في نهر الراين. جريسل، هل لك أنت وإبرهارد أن تَصطحبا اثنين من الطاقم وتنطلقوا بالقارب الصغير وتُنقذوا البرميلين إن أمكنكم العثور عليهما؟»
تنهَّد رفاقه السابقون قائلين: «الرحمة يا رولاند! فلترحمنا!»
قال رولاند: «لقد بالغتُ في إهدار الرحمة عليكم بالفعل. فإن أنقذتُكم الآن فسأضطر إلى شَنقِكم في الصباح بصفتكم خارجين عن القانون؛ لذا يُمكنني ترككم حيث أنتم، والسماح للمارجريف الأحمر بتولِّي الأمر وإعفائي من تلك المشقة. فإن خسارته لقلعته لن تَجعله أكثر رحمة، لا سيما إن علم أنكم السبب في ذلك. أتوقَّع حينئذٍ أنكم ستَتجرَّعون عذابًا خالصًا؛ فلربما وافَقَني الرأي بأن الإعدام شنقًا هو العقاب الأمثل لكم. فلولا تمردكم لما أُحرقَت قلعتُه أبدًا.»
تأوَّه الرجال المُمدَّدون أرضًا ولكن دون إبداء مزيدٍ من التوسل. كان بعضهم فطنًا بما يكفي ليُدرك أن تغييرًا جللًا حلَّ بالشاب الذي ظنوا أنهم يعرفونه جيدًا؛ فها هو ذا يقف دون اكتراث، مُقترحًا بين الحين والآخر حلًّا أفضل في التعامل مع البالات؛ تلك الاقتراحات التي تَحمل بين طياتها سلطة تجعل مَن تُقال لهم يمتثلون لها فورًا. لم يعلموا أن هذا الشخص الذي ظنُّوه واحدًا منهم، وكان الأصغر من بينهم، وعاملوه على هذا الأساس، تلقَّى قبل يوم أو يومين تأكيدًا هائلًا، يكفي لتغيير طريقة تفكير أي فرد في العالم، كبيرًا كان أم صغيرًا؛ التأكيد بأنه سيَجري تتويجه الحاكم الأعلى لملايين المخلوقات أمثالهم؛ حاكمٌ قادرٌ بكلمة منه على مَحوِهم من على وجه الأرض.
ولكن يا لَغرابة طبيعة البشر؛ فعلى الرغم من أن عِلمَ رولاند بهذا كان يؤثِّر تدريجيًّا في شخصيته، فلم يكن تمرُّد الثمانية عشر رجلًا أو كلماتهم الثائرة هو ما جعله الآن قاسيًا تجاههم إلى هذا الحد. لقد كان السبب في ذلك هو الحقيقة البسيطة المتمثِّلة في أن أربعة منهم تجرءوا على الانقضاض عليه وتقييد ذراعَيه وقذف سيفه، الذي يُعد رمزًا لشرفه، عند قدمَي كورزبولد قائد العصيان.
كان يوشك أن يرى نفسه حاكمًا مُختارًا من الرب، على الرغم من أنه لم ينَلْ هذه المكانة المقدَّسة رسميًّا بعد. وكان يوشك أن يرى أنه إمبراطور دنيوي وخليفة الله على الأرض، كان مُقدَّرًا له أن تَقبض يدُه على السيف الخفي لانتقام القدير. وكانت أفعاله تُمثِّل تجسيدًا لكلمات الرب «أنا سأجازي». وكان يحرِّكه باعث دينيٌّ عميق على الرغم من صِغَر سنِّه، أو ربما لهذا السبب، وهو ما يُفسِّر، وليس الطموح، موافقته السريعة على مُقتَرَحات رؤساء الأساقفة.
إن الشخص الذي رآه الأسرى ماثلًا أمامهم على الحافة الصخرية في فورستنبرج يختلف كثيرًا عن الشاب الذي كان أحد رفاقهم الذين غادروا فرانكفورت برفقتهم. لقد تفحَّصُوه بوضوحٍ كافٍ، ولم تكن هناك حاجة لوجود مشاعل على طول الشاطئ؛ فقد كان الليل يتألَّق بلون قرمزي، وانبعثت أصوات هدير مُستمر من أسفل التل تُشبه تلك الصادرة عن شلال نهر الراين الذي يبعد سبعين فرسخًا.
واخترق هذا الوهج الأحمر القارب الصغير وركَّابه الأربعة، وعلَت الابتسامة وجه رولاند حين لاحظ وجود برميلين ممتلئين ضمن حمولة القارب. عادت البالات الآن على متن السفينة من جديد، ووجَّه القائد أمرًا لأفراد الطاقم بمساعدة الرجال الأربعة في القارب الصغير في حمل البرميلين الثقيلين. تسلَّق جريسل وإبرهارد من جانب القارب، ووصلا إلى الحافة حيث يقف رولاند، بينما تولَّى أفراد الطاقم دحرجة البرميلين إلى مقصورة القيادة.
تحدَّث رولاند مخاطبًا نائبَيه قائلًا: «اختارا من بين هذه الكومة فأسَين للقتال تتمتَّعان بالصلابة والقوة. اتبعا السلسلة لأعلى التل حتى تصلا إلى نقطة اتصالها بالحبل السميك. واقطعا الحبل بفأسَيكما واسحبا السلسلة معكما حتى نفسِح المجال للسفينة كي تعبر.»
اختار الرجلان فأسَي قتالٍ قويتين، ثم توجَّها إلى قائدهما.
وسألاه: «أليس من المفترض أن ننقل رجالنا إلى متن السفينة أولًا قبل تحريرها؟»
فأجابهما بقوله: «هؤلاء المتمردون أسرى للمارجريف الأحمر. وأمرُهم لا يخصني، بل يخصه هو. وسيَبقُون في مكانهم.»
اندفع النائبان في الوقت ذاته باتجاه قائدهما الذي استهجن فعلهما هذا. وانطلقت استغاثات بائسة من الرجال المُقيَّدين، أما كورزبولد فصاح قائلًا:
«فلتقضِ عليه يا إبرهارد وتُحرِّرنا. أناشدك باسم العُصبة أن تفعل شيئًا! إنه أعزل؛ فلتقضِ عليه! إنَّ ترْكَه لنا على هذا الحال لجريمة شنيعة!»
كانت الإطاحة برولاند أمرًا يسيرًا؛ فمنذ وقوع «التمرد» على السفينة وهو يقف أعزلَ بين ظهرانيهم. وعلى الرغم من خطورة الموقف والجدية الشديدة التي علت وجوه الجميع، ضحك إبرهارد المتفائل.
وقال: «أشكرك يا كورزبولد على اقتراحك. ولكنَّنا لم نتقدم لاستخدام القوة، وإنما لمحاولة إقناعه. رولاند، لا يُمكنك هجرُ الرجال الذين أخرجتهم من فرانكفورت وتركهم لكي يموتوا.»
«ولمَ لا يُمكنُني؟»
«قبل لحظة كنتُ سأقول إنك لن تفعل، ولكنَّني الآن أقول إنك لا تستطيع ذلك. لقد أظهر كورزبولد للتو جانبه الوحشي الذي لا يُمكنه التملُّص منه، ولكنك تمتلك معدنًا مختلفًا، ربما يكون ذلك شيئًا فطريًّا منذ الولادة أو لتدريبٍ خُضته أو لأي سبب آخر جعلك هكذا، ولهذا السبب لا يُمكنك تركه فريسة لانتقام ذلك الشيطان الأحمر أعلى التل.»
«إذا أنقذتُه الآن، فبعد ساعة من الآن سيُواجه مصير الشنق. أنا لست جلادًا على عكس المارجريف. وأنا أُفضِّل أن يتولَّى هو تلك الإعدامات.»
ضحك إبرهارد مجددًا.
«رولاند، لا فائدة من تظاهُرِك بالتخلِّي عنهم؛ لأنك لن تفعل. إنني أُفضِّل بشدة أن أتطوع لأكون الجلاد وأُنهي حياة كورزبولد وواحد أو اثنين من البقية، باستخدام فأسي هذه، ولكن دعِ الأمور تجري بنحوٍ لائق ومنظَّم، وليكن الإعدام اللائق نتاج محاكمة عادلة.»
صاح القبطان وهو على متن السفينة قائلًا: «أتوسَّل إليك أن تسرع أيها القائد. احترق الحبل المتصل بالقلعة، والسلسلة تُوشك أن تتحرَّر. التيار سريع والسفينة ثقيلة. سنَبتعد في غضون دقيقة.»
صاح رولاند: «اصطحب طاقمك إلى الشاطئ في الحال، ولتُلقُوا بهذه الحمولة الحقيرة من البشر على متن السفينة. ليُمسِك أحدُكم برأس أحدهم والآخر بقدميه ولتقذفوه إلى السفينة. هل لدينا متسع من الوقت أيها القبطان لنأخذ معنا هذه الكومة من الأسلحة كغنائم من المعركة؟»
أجاب القبطان: «أجل يُمكننا، إذا أسرعنا بفعل ذلك.»
قُذفت الحمولة البشرية المُنتحِبة من الحافة إلى السفينة، ولم يُخطئ البحَّارة الأقوياء المُعتادون على تلك المهمَّة؛ فلم يُسقطُوا أيًّا منهم في الماء. وبالسرعة ذاتها التقط آخرون كومة الأسلحة وألقَوا بها مُبعثَرةً على ظهر السفينة. ثم قفز الجميع على متن السفينة، وكان رولاند آخر مَن قفز لمقدمة السفينة بعد أن أشار لنائبَيه ليسبقاه.
تدحرجَت السلسلة فوق الحجارة مُحدِثة قعقعة كبيرة، وسقطت في النهر باندفاع شديد. تحرَّرت السفينة وأصبحت تتمايل ومؤخرتها في الأمام، وأمسك البحَّارة بمجاديفهم وبدءوا في التجديف، واستطاعوا الإبحار بسفينتهم تدريجيًّا بعيدًا عن الشاطئ. وعندما ابتعدت السفينة قليلًا عن المكان الذي رست فيه، استطاع أولئك الذين كانوا على ظهر السفينة النظر عكس التيار ورؤية مشهد مُتواصل للحريق الهائل. بدت القلعة الحجرية الضخمة وهي تتوهَّج بفعل نارٍ كبيرة. وتهاوى السقف واكتسى الليل بلون أحمر من وهج هذا السعير الملتهب. أصبح البرج الضخم كالشعلة المتوهِّجة التي يصل أجيجها عَنان السماء. وأصبحت قمة التل بالكامل أشبه بفوَّهة بركانٍ نَشِط. أثبتت الأرضيات والجدران الخشبية العتيقة أنها مادة خصبة للحرائق، وحتى الأحجار كانت تتفتَّت وتتهاوى في بحيرة من النيران، وتصاعد بركان هائل من الشرر بسقوط جزء تلوَ الآخر في هذا الجحيم الأرضي.
طفت السفينة الطويلة بسلام في نهرٍ يُشبه الذهب المُنصهِر. وسادت السفينةَ حالةٌ من الفوضى، وتكدَّست فوقها بالات القماش التي لم توضع بعدُ في أماكنها، وتناثرت السيوف وفئوس القتال والرماح هنا وهناك. أما الرجال فكانوا عاجزين لا حيلة لهم، ولا يزالون في الأماكن التي قُذفوا فيها في السفينة، وكان بعضُهم مُلقًى على ظهره والبعض الآخر مُلقًى على وجهه. كان سطح السفينة مضيئًا كما لو أن شمس المغيب كانت تلقي بأشعتها الحمراء فوقها. جلس رولاند فوق إحدى البالات وتحدَّث إلى القبطان قائلًا:
«اجعل رءوس كل هؤلاء الرجال لأعلى»، وامتثل القبطان لأمره.
«إبرهارد، لقد قلتَ إنَّ الإعدام لا بد أن يُنفَّذ وفقًا لمحاكمة عادلة. لا داعيَ لاستدعاء الشهود أو الخضوع للشكليات القانونية الخاصة بالمحاكمة. أنتما الاثنان على دراية تامة بكل ما حدث، وهذه المعرفة لن تَدعمَها أو تَدحضها أيُّ شهادة. في البداية، خذ كورزبولد الرئيس الجديد ومُعاونه جينسبين، وافصلهما عن المجموعة. سيتولَّى تنفيذ هذا الأمر اثنان من أفراد الطاقم»، وجرت الأمور وفقًا لذلك.
نهض رولاند، وسار أمام صف المُمدَّدين أرضًا، واختار أربعة رجال آخرين، عشوائيًّا على ما يبدو، ثم خاطَبَ أفراد طاقمه قائلًا:
«ضعوا هؤلاء الرجال الأربعة إلى جانب قائدهم.» وأكمل حديثه مُخاطبًا نائبيه: «لو كان الأمر متروكًا لي، لكان عليَّ إعدام هؤلاء الستة. ولكنَّني لن يكون لي دور في ذلك. إنني أُعيِّنُكما يا جوزيف جريسل، وأنت يا جوتليب إبرهارد قاضيَين، ولكما سلطة البتِّ في مسألة إعدامهم من عدمها. إن حكمتما على أحد المتَّهمين، أو جميعهم، بالموت فلن أستخدم الفأس أو حبل المشنقة لقتلهم، بل أقترح قذفهم في النهر، وإن كتب الله لهم النجاة ووصلوا إلى الشاطئ أحياء، فلن تُشكِّل قيودهم عائقًا لهروبهم.»
تناوب كورزبولد ومعاونه على إطلاق اللعنات والاستغاثات وأكَّدا على عدم استبعاد جريسل وإبرهارد من العُصبة، وناشَدُوهما بقسم الأخوة التي تجمعُهم أن يُطلقُوا سراحهم بعد أن أصبحت لديهم السلطة لفعل ذلك. لم يردَّ القاضيان اللذان تقلَّدا منصبيهما للتو، على تلك الدعوات، ولم يُصدِر إبرهارد هذه المرة أي ضحكة.
أما الأربعة الآخرون فوجَّهُوا استغاثتهم إلى رولاند نفسه. وصاحوا بأنهم وقعوا ضحية للتضليل، وأنهم نادمون بشدة على ما فعلوا. لقد عانَوا بالفعل عقابًا شديدًا يفوق طاقة البشر، وكانوا يخشون أن تنكسر عظامهم إثر الضرب بالهراوات ومنذ ذلك الحين والقيود تُؤلمهم بشدة. أقسَمَ جميعهم بأنهم تغيَّرُوا، ونظرًا لأنَّ قائدهم المتجهِّم ظل صامتًا، سألوه كيف يَزيد ما اقترفُوه عما اقترفه الاثنا عشر الآخرون، الذين يبدو أنه سيَصفَح عنهم. وأخيرًا أجابهم رولاند.
قال رولاند بصرامة: «لقد تجرَّأتُم أنتم الأربعة على مُهاجمتي؛ ولهذا أطالب القاضيَين بإصدار حكم بالإعدام عليكم.»
نظر إليه نائباه في دهشة، وبدا لهما أنه بالغ في ردَّة فعله تجاه ما عايشاه بنفسَيهما، ولم يتفوَّه أيٌّ منهما بأيِّ شكوى تجاهه. من المؤكَّد أن مهاجمتهم، حتى وإن كانت فيها غِلظة ووقاحة شديدة، ليس عقوبتُها الإعدام، ولكن رغم دهشتهما أدركا أن رولاند كان جادًّا للغاية.
نظر إليهم رولاند بوجه هادئ مُتسائلًا عن سبب تحديقهما به، ولكنه بدا عابسًا.
وقال: «اعملا ما دام هناك نورٌ ساطع. أيها القاضيان فكِّرا في قراركما وأصدرا حكمكما.»
أدار جريسل وإبرهارد ظهريهما للبقية، وسارا ببطء باتجاه مؤخِّرة السفينة، ونزلا إلى المقصورة. وعاد رولاند إلى جِلسته فوق بالة القماش مُستندًا بمرفقيه على ركبتيه وواضعًا وجهه بين كفَّيه. خمدت جميع النداءات وساد صمتٌ تامٌّ من جديد، وعانى جميع مَن على متن السفينة مِن حالة توتُّر مُزعجة. خفتت النيران المشتعلة في القلعة البعيدة شيئًا فشيئًا، وأظلم سطح السفينة من جديد. وأخيرًا خرج القاضيان من المقصورة وتقدَّما ببطء.
كان جريسل هو المتحدث.
وقال: «هل هؤلاء الستة فقط هم الذين قيد المحاكمة؟»
أجاب رولاند: «نعم، هؤلاء الستة فقط.»
قال جريسل: «حُكمنا هو الموت. سيُقذف كورزبولد وجينسبين في نهر الراين على الوضعية التي هم عليها، ولكن سيحصل الأربعة الآخرون على فرصة للعيش؛ إذ ستُفكُّ قيودُهم وتُحرَّر أطرافهم.»
لم يُثِر إبداء تلك الرحمة أيَّ عزاء للرجال الأربعة؛ فقد أعلن كلٌّ منهم في أسف أنه لا يستطيع السباحة.
قال رولاند: «أشكركما على حُكمكما، الذي أثق أنكما اتخذتماه بعد تردُّد هائل. والآن بعد أن أثبتُّما أنكما قاضيان ممتازان، فلا شك لديَّ أنكما ستُظهران حكمة مُماثلة كمُستشارَين. لقد تفوَّهتَ بكلمات يا إبرهارد تأبى أن تغيب عن ذهني، رغم كل جهودي لطردها. لقد رددت شيئًا عند الحافة الصخرية مفاده أننا غادَرنا فرانكفورت معًا كرفاق. هذا صحيح تمامًا، وما لم تعترضا على قراري، أرى أنه إن كان الموت هو مصير أيٍّ منا، فأحد غيري هو مَن عليه تولي تنفيذ هذه العقوبة. إن الاثنَي عشر رجلًا الراقدين هنا ليسوا أقل ذنبًا من الستة المحكوم عليهم الآن، ولهذا أقترح أن نَضع كورزبولد وجينسبين على الضفة الشرقية؛ فأحدهما مارق والآخر أحمق. أما الستة عشر رجلًا الباقون، فقد أثبتوا بجدارة أنهم ليسوا إلا مغفَّلين، وأنا واثق أنهم لن يَستاءوا من نعتي لهم بهذا الوصف. ولكن إن تخلَّوا عن ادعاءات الرفاق التي يتغنَّون بها كثيرًا، وأقسموا بملوك المجوس الثلاثة على أن يَتبعوني ويمتثلوا لكلِّ ما أقوله دون تردد أو جدال، ففي هذه الحالة سأصفح عنهم، ولكن عند ظهور بادرة تمرُّد منهم، فسيتأكَّد لي وقتها أن رأفتي بهم كانت في غير محلِّها، ويُمكن أن أؤكد لهم أنها لن تتكرَّر ثانية. أيها القبطان، إن رجالَك يُجيدُون التعامل مع الحبال المعقودة. أطلقُوا سراح جميع هؤلاء الرجال ما عدا الستة المحكوم عليهم.»
بدأ البحَّارة بسرور بالغ في تحرير الأسرى المُنبطحين أرضًا وفك قيودهم، ولكن بعض المتمرِّدين عانوا من ضربهم بالهراوات بقسوة بالغة، وكان من الضروري مساندتهم حتى يقفوا على أقدامهم. كان فجرُ أحد أيام الصيف المبكِّر على وشك البزوغ، وقد بشَّر باقترابه بداية انقشاع الظلام الذي أحاط بهم، وبدأ لونٌ رمادي باهت هائل يُغطِّي سطحَ النهر الشاسع. وأسفلَ التيارِ من جهة الغرب، كان يمكن من بعيدٍ تمييزُ أبراج باخاراخ التي تبدو كأنها مدينة الأحلام، وقد انتشرت نقاط النور هنا وهناك لتبدِّد الكآبةَ البسيطة التي سادت المكان، والتي أشار كلٌّ منها إلى شخصٍ نهض مبكرًا.
وقفت مجموعة صامتة يعتريها الغم الشديد وسط ذلك النور الخافت الغريب، في انتظار معرفة آخر الأفكار التي توصَّل إليها بشأنهم رولاند الأصغرُ سنًّا بين جماعتهم، الهادئ الذي لا يُظهِر أيَّ عاطفة، والذي لم تَعُد هيمنته موضعًا للخلاف لدى أيٍّ منهم.
تابع رولاند كلامه قائلًا: «أيها القبطان، فلتُبحر باتجاه الشاطئ الشرقي. أعلم أن باخاراخ هي أعظم أسواق النبيذ على نهر الراين، وأنها حفظت جيدًا صيت الإله المخمور الذي سُميت باسمه، إلا أننا سنتجاوَزُها. هناك جزيرة ممتدة في الجهة المقابلة للمدينة ولكنها تقع على مسافة أبعد قليلًا. لا بد أنك تعرفها جيدًا. اجعل هذه الجزيرة بيننا وبين باخاراخ، ولترسو على اليابسة بعيدًا عن معقل باخوس. إنه إله مُضلِّل لن نتعامل معه ثانية.»
«والآن، يا جوزيف جريسل وجوتليب إبرهارد هل ستتولَّيان مهمة قسَمِ هؤلاء الرجال الاثنَي عشر بملوك المجوس الثلاثة على الطاعة؟ ولكن قبل ذلك امنحاهم جميعًا الخيار، واسمحا لهم بالإفصاح عما إذا كانوا سيَتبعون كورزبولد على اليابسة، أم أنهم سيُطيعونني في الماء.»
عندئذٍ انفجر كورزبولد مرةً أخرى في نوبة غضب مرتعدة، وقال:
«إن إنصافك المزعوم ليس إلا خدعة، وخيارك الزائف جزء من تضليلك المُستتر. ما الفرصة التي نملكها، نحن أبناء القرى، حين تضعنا على الشاطئ مُفلسين، وسط برية مجهولة بعيدًا عن أيِّ مكان يسكنه البشر، ونحن لا نَعلم شيئًا عن طريق العودة إلى فرانكفورت؟ إن رأفتك المخادعة تُنقذنا من الغرق فقط لتحكم علينا بالموت جوعًا.»
بزغ ضوء النهار وسطع للحدِّ الذي أتاح للجميع رؤية الابتسامة اللطيفة تَرتسِم على شفتي رولاند، واللمعان الذي يُومض في عينيه وهو ينظر إلى كورزبولد الغاضب.
«إنك لأذكى زعيم لهؤلاء الرجال يا سيد كونراد. أظن أن هؤلاء الاثني عشر رجلًا سيتدافعون للانضمام إلى قيادتك. لا بد أنهم فخورون بك حقًّا بعد أن علموا الحقيقة. سأُقدِّم لكل واحدٍ منكم، من مُستودعي الخاص من الذهب الذي جئنا به من القلعة التي هاجمتموها بشجاعة الليلة السابقة، نصف المبلغ المستحق له. سيَبلُغ ذلك أكثر من أيِّ مالٍ امتلَكَه أحدكم من قبل؛ الحقيقة أن نصيب كل فرد منكم يتجاوز إجمالي ما جمعتمُوه أنتم الثمانية عشر جميعًا طوال حياتكم. يُمكنني بسهولة منحكم حصصكم دون انتقاص الأموال التي انتزعها ثلاثتنا من خزائن المارجريف الأحمر دون مساعدة. والسبب في عدم دفعي حصصكم كاملة هو الآتي. إنني لا بد أن أضمن أنكم عندما تصِلون إلى فرانكفورت ستصونون ألسنتكم الحمقاء بالصمت. وإذا تحدَّث أي رجل عن أعمالنا فسيبلغني ذلك عند عودتي، وسيتكبَّد هذا الرجل خسارة نصف حصته المتبقية.
يؤسفني أن أفضح جهلك يا كورزبولد، ولكني سأُودِعُك الشاطئ وأنت مزوَّد بمالٍ وفير، وأنت بالكاد تَبعُد مسافة فرسخين من لورش، حيث قضيت أمسية مُمتعة للغاية، وهناك لن يسع المرء الذي يَحمل ذهبًا في جيبه الخوف من الجوع والعطش. يمكنك الوصول إلى لورش في أقل من نصف ساعة من المشي المتمهِّل، وبالكاد تبعُد أسمانسهاوزن فرسخين عن هذه البقعة، وأنت بالتأكيد تعرف الطريق من مخزن النبيذ الأحمر هذا إلى العاصمة فرانكفورت بعد أن اجتزته مرة من قبل. إن طفلًا في السادسة سيكون في أمان على هذا الشاطئ حيث ستطأ قدمك. لذلك أيها النائبان احرِصا على أن يعلم كلُّ رجل بأنه سيحصل على كيس من النقود، وأن بإمكانهم مرافقة كورزبولد الشجاع والذكي إلى البر دون مضايقة.»
عندما أنهى خطابه، الذي تسبَّب في ضحك حتى بعض المحاربين المهزومين على زعيمهم، أصبحت السفينة بمحاذاة الساحل، بعيدًا عن أنظار باخاراخ. أقسم الاثنا عشر رجلًا جميعهم بملوك المجوس الثلاثة وهو القسَم الذي لا يجوز الحنث به، على أن يُصبحوا تابعين مطيعين لرولاند.
قال رولاند: «يمكنكم الانصراف إلى المقصورة حيث سيُقدَّم لكلٍّ منكم إبريق نبيذ، وكذلك وجبة فطور مبكِّرة. بعد ذلك سيُسمح لكم بالاستلقاء وإرخاء أطرافكم المتورِّمة، ولتتأملوا في مُقتطَف الكتاب المقدَّس الذي يذكر مصير العميان عندما يقودُهم أعمى مثلهم.»
حين انصرف الاثنا عشر رجلًا، التفتَ الرئيس إلى سجنائه.
«أشعر بالاستياء تجاهكم أنتم الأربعة، وأشعر أنني لا أستطيع التخلُّص من هذا الاستياء إلا باستبعادِكم، ولكن عندما فكَّرت تبيَّن لي أنكم تصرَّفتُم بناءً على تعليمات هذا القائد الأحمق الذي اخترتُموه؛ ومن ثمَّ أرى أن اللوم الأكبر يقع على مَن أصدر الأمر، لا على المُكلَّف بتنفيذه. لذا أمنحكم الخيار ذاته الذي منحته للبقية. فكَّ قيودهم أيها القبطان، وفي أثناء ذلك فلتُحضِر يا جريسل حقيبتين فارغتين من الخزانة، وافتح أحد البرميلَين، وضع في كل حقيبة مبلغًا تُقدِّره بأنه نصف الحصة المستحقة لكورزبولد.»
نهض الرجال الأربعة وأقسموا اليمين على طاعة رولاند، وشكروه على إظهاره الرحمة لهم، وأسرعوا بإشارة منه لتناول الخبز والنبيذ.
بعد انصرافهم، صاح رولاند قائلًا: «أرسلوا إلى هنا رجلين ممَّن استعادوا نشاطهم، وليأتِ كلٌّ منهما ومعه رغيف خبز وإبريق نبيذ مُمتلئ. والآن أيها القبطان فلتُطلق سراح كورزبولد وجينسبين.»
عندما وقف هذان الاثنان وتمدَّدا، جاءهما حاملا الخبز والنبيذ وقدماهما لهما، وبعد أن تناولاهما، أعطى جريسل كيسًا من الذهب لكلٍّ منهما، والذي ربطاه بحزاميهما دون أن يتفوَّه أيٌّ منهما بكلمة، بينما انتظرا جريسل وإبرهارد ليرافقوهما إلى اليابسة.
قال كورزبولد متجهمًا: «إننا نريد سيفينا.»
نظر إبرهارد إلى رئيسه ولكن الأخير هزَّ رأسه نافيًا.
وقال: «لقد أهانا سيفَيهما، وهما الآن تعود ملكيتُهما للمارجريف هيرمان فون كاتزنلينبوجينشتاليك. أنزِلهما إلى الشاطئ أيها النائب.»
كان ضوء النهار ساطعًا، وصعد جميع الرجال من المقصورة، ووقفوا في تجمُّع صامت في مؤخرة السفينة. كان كورزبولد على الضفة تتصاعَد رغوة من فمه من الغضب، وأخذ يُلوِّح بقبضته تجاههم وهو يزأر غاضبًا:
«جبناء! خنازير! حمقى! أغبياء! رعاديد!»
لم يردَّ عليه أحد من الرجال، ولكن دوَّت ضحكة إبرهارد العالية عبر الغابة.
وقال: «لقد أعطيتنا ألقابك يا كورزبولد. ابعث لنا عنوانك وقتما يصبح لك عنوان!»
قال رولاند مخاطبًا القبطان: «أبحر. تحرَّك باتجاه هذا الجانب من الجزيرة، وأحكِم وثاق السفينة فسنَبقى هناك طوال اليوم. عيِّن أحد الرجال للحراسة، وامنح الحارس راحة كل ساعتين. لقد قضَينا ليلةً مُثيرة وسننام حتى المساء.»
«سيدي، هل يُمكنني أولًا إزاحة تلك البالات وفئوس القتال والرماح والسيوف العريضة حتى أُخليَ سطح السفينة؟»
«يُمكنك فعل ذلك أيها القبطان عند غروب الشمس. أما بالنسبة للبالات فإنها تصنع أريكة مريحة جدًّا وإنني أنوي الاستلقاء فوقها.»