لغز الغابة
غادر رولاند القصر وعلى وجهه ترتسم أمارات نشوة لم يَعهدها من قبل، لكن ما لبث أن كبت هذا الشعور حين رأى مُلازم ليلة البارحة واقفًا وسط الميدان. أراد في البداية تجنُّبه، لكنه وبنحو غريزي التفت إليه وسار نحوه مباشرة، وعلى ما يبدو أن هذا أربك مبعوث ماينتس الشجاع.
بادره رولاند وكأنه في غاية سعادته لرؤيته قائلًا: «مساء الخير يا سيدي. هل تسمح لي بالحديث معك؟»
رد الملازم ردًّا مُقتضبًا قائلًا: «بخصوص ماذا؟»
«إن ورشة الحدادة الخاصة بي، التي كانت مظلمة وباردة لأيام طوال، قريبًا ستُنار وتعود دافئة من جديد. ما رأيك في هذا؟» وناول الملازم الأمر الذي صدر له بصناعة ألف سيف، فرأى الملازم أن هذا الأمر شيء جدير بالاهتمام في مجال التسليح سيقدِّره رئيسه.
«لم تُخبرني بالأمس عن التاجر الذي كنت تتمنى أن يموِّل مشروعك.»
كرَّر رولاند كلمته بعينين لامعتين قائلًا: «أتمنى؟ إنه أكثر من مجرَّد تمنٍّ، سيدي الملازم. إنه يُدعى جوبل، وهو واحد من أغنى وأمهر تجار فرانكفورت. يا إلهي، لقد صنعت ثروتي! اقرأ هذا، إنه مكتوب بخطِّ يده. وقد حصلتُ منه عليه قبل وقت الظهيرة، لمجرد أني قلت له إني واثق من صدور أمرٍ من سيادة رئيس الأساقفة.»
قال الملازم في فتور، بينما يعيد له الوثيقتَين: «هذا في واقع الأمر أمرٌ تُحسَد كثيرًا عليه.»
«نعم، ولكني ما زلت في البداية. فإذا أسديتَ لي معروفًا بتمهيد الطريق لي لدى سيادة رئيس أساقفة ماينتس، فسوف أقوم في المقابل ﺑ…»
«سحقًا لك أيها الوغد الوضيع المُحب للمال! هل تظنُّ أني، أنا الضابط، سأهين نفسي بمشاركة بائع متجول!»
وأدار الملازم ظهره له وغادَر. فواصل رولاند طريقه مُطأطئًا رأسه، وكأنما أصيب بصدمة لما سمع. وبالقرب من الجسر، رأى مجموعة من الناس يلتفون حول عربة فارغة، يقف بجوارها رجل بملابس رثة يُطلق اللعنات بقوة.
ظن للوهلة الأولى أن حادثًا قد وقع، لكن أغلب الناس كانوا يضحكون بصوتٍ عالٍ؛ لذا وقف بعيدًا عن بؤرة الأحداث وسأل عن أسباب عن هذا الاضطراب.
قال أحدهم: «إنه ليس سوى مُزارع أحمق، أتى من الريف بحمولة خضراوات. وإن الدخول إلى عرين الأسد دون سلاح أأمن من الدخول إلى فرانكفورت مُحمَّلًا بطعام والناس يتضوَّرون جوعًا. لقد نهبوا ما معه حتى آخر ثمرة.»
شقَّ رولاند طريقه وسط الجموع وربَّت على كتف الرجل المذعور.
وقال: «ما ثمن حمولتك؟»
«أخبَرَني كذَّاب أشر هذا الصباح بافتتاح سوق في فرانكفورت وبوجود الكثير من المال. وما إن دخلت المدينة حتى نُهب منِّي كلُّ ما كان معي.»
«نعم، نعم، أعرف هذا كله. الآن سؤالي هو: كم ثَمن بضاعتك؟»
«ثمنها؟ كنت أتوقَّع الحصول على ثلاثين تالرًا، والآن …»
قاطعه الأمير قائلًا: «ثلاثين تالرًا. ها هي ذي أموالك. اذهب وأخبِر جيرانك بوجود دفع فوري مُقابل كلِّ ما يمكنهم إحضاره من طعام.»
هدأ الرجل وكأنما أُلقي عليه دلو من الماء. وأخذ يعدُّ النقود بعناية فائقة، حتى إنه كان يَختبر كل عملة بين أسنانه ثم ركب عربته دون أن يتفوَّه بكلمة شكر، ورحل ليُصيب الحشد الغفير بخيبة الأمل. أما رولاند فقد ذهب متجهًا مباشرة إلى منزل السيد جوبل والغضب يتملَّكه، فوجد ذلك العجوز المسالم جالسًا إلى طاولته.
صاح رولاند قائلًا: «آلاف اللعنات على كسَلِك! أين لجنتُك وأين المبعوثون المخوَّلون بتنفيذ مخطط الإغاثة الذي أمرت به؟»
صاح الرجل مُندهشًا: «لجنة؟ مبعوثون؟ لم يكن هناك أي وقت لذلك!»
«أي وقت أيها الأحمق غليظ الرأس! سأُعلِّقك على بابك الأمامي. لقد كان لديَّ وقت لإرسال رجالي إلى أنحاء البلاد؛ ووقتٌ لأحد المزارعين ليأتي راكبًا عربةً محمَّلة بالثمار، ووقت لكي يُسرَق ها هنا على مرأًى ومَسمع منك! وأنت أيها الملعون تجلس هنا، وتملأ بطنك وتَصيح ليس هناك وقت! لو لم أدفع إليه أمواله لعاد إلى بلدته ناشرًا أننا كلُّنا لصوص في فرانكفورت. والآن اسمعني جيدًا. لقد أشهرتُ سيفي بوجهك ذات مرة مازحًا. وإذا أشهرته للمرة الثانية فسوف أجعله يخترق جسدك الكسول هذا. إن لم يتوفَّر مُشترٍ عند كلِّ بوابة في فرانكفورت في غضون ساعتين لكي يشتريَ ما تحمله كل عربة محملة بالثمار ويدفع لصاحبها الثمن، وكذلك إن لم تأتِ بعدد من المرشدين ليدلُّوا المُزارعين على المكان الذي يوصلون فيه ثمارهم، فسوف أسلِّم مدينتك للجنود وآمُرُ بنهب منازل جميع التجار التي تقع بين أسوارها.»
قال التاجر لاهثًا، وهو يرتعد بينما ينهض على قدميه: «حسنًا سأنفِّذ الأمر؛ سأنفذ الأمر؛ سأنفذ الأمر!» وأخذ يُردِّدها كالببغاء بينما بتخبط من الذعر.
قال الأمير محاولًا تهدئته: «أنت مَدين لي بثلاثين تالرًا؛ أول ما دُفع من صندوق الإغاثة. فأعطني إياها.»
سلَّم السيد جوبل الأمير المال بيدَين مُرتعشتَين دون أن يرى أيَّ قدرٍ من المزاح في الأمر، فأخذها الأمير ودسَّها في محفظته.
كان الظلام قد حلَّ حين وصل في النهاية إلى غرفته في زاكسينهاوزن، وهناك وجد جوزيف جريسل ينتظرُه في مكانٍ شبه مظلم وتبدو عليه كآبة بالغة.
قال الزائر: «أدخلني مالك العقار.»
«عظيم! لم أتوقَّع عودتك بهذه السرعة. هل عاد الآخرون؟»
«لا أدري. لقد أتيتُ إلى هنا مباشرة. وأحمل أخبارًا سيئة للغاية، يا رولاند، عن كارثة وشيكة الحدوث في فرانكفورت.»
«كارثة أكبر مما تشهده الآن؟»
«حرب أهلية، وإطلاق نار، وسفك دماء. أغلِق الباب يا رولاند؛ فأنا مُنهَك ولا أريد أحدًا أن يسترق السمع.»
استجاب الأمير لطلبه وأغلق الباب، ثم اتجه نحو خزانة وأخرج منها إبريقًا كبيرًا من النبيذ وكوبًا صغيرًا، ووضعهما على طاولة صغيرة أمام جريسل، ثم ألقى بنفسه على الكرسي الوحيد ذي الذراعين الموجود في الغرفة. فملأ جريسل الكوب بالنبيذ وشربه في شربة واحدة دون أن يَلتقِط أنفاسه. ثم انهمك مباشرة في سرد قصته.
«كنت قد توغلتُ في الغابة مسافةً أقل من نصف فرسخ حين أوقفني رجل مسلَّح ظهر لي فجأة من خلف شجرة. وكان يَرتدي الزي الرسمي لرجال رئيس أساقفة ماينتس، وأعلن أني سأُسجَن. فرحت أشرح له مهمتي هنا، لكن دون جدوى. سألني إذا ما كنتُ سأذهب معه في هدوء أو سأضطرُّه لاستدعاء المساعدة. وبما أنني كنت قليل الحيلة، قلت له إني سأذهب معه في هدوء. لكنه مع ذلك كبَّل رسغي خلف ظهري ثم عصب عيني بقطعة قماش. بعدها سحبَني من ذراعي، وقادني عبر الغابة لمسافة لا يُمكنني حسابها. لكن أظن أننا مشينا مدة لا تزيد عن عشر دقائق. بعدها توقَّفنا وكانت هناك مُحادثات هامسة، ثم ساد صمتٌ بضعَ دقائق، ثم عادت المحادثات من جديد ولم أسمع سوى جزءٍ منها. فلم يكن القائد الذي يجب أن أمثِّل أمامه مُستعدًّا بعدُ لاستقبالي. فكان عليه أن يُودعني داخل خيمة وينصِّب عليَّ حارسًا.
جرى تنفيذ هذا. فطلبتُ فكَّ الحبل الذي جرح رسغيَّ، لكنه بدلًا من ذلك ربط كاحليَّ معًا فجلست هناك على الأرض مُستندًا إلى عمود في الجزء الخلفي من الخيمة. وهنا تركني مرافقي وسمعته يُعطي الأوامر لمن بالخارج بالحراسة المشدَّدة، لكن دون أدنى تواصُل معي.
استنتجتُ حينها أن الخيمة التي أشغلها تقع خلف خيمة القائد؛ لأني بعد مرور بعض الوقت سمعت أصواتًا وبدا لي أنها أصوات رجلَين من أصحاب السلطة. كانا قد اتجها نحو الجزء الخلفي من خيمتهما وكأنَّهما كانا يُريدان التحدث حديثًا سريًّا معًا، وكان صوتهما خافتًا لكن كان بإمكاني أن أسمعهما بوضوحٍ تام؛ إذ لم يكن يفصلني عنهما سوى مجرد قطعة قماش. فكان ما علمته هو الآتي. كانت توجد قوة قوامها سبعة آلاف جندي مختبئة في الغابة، على بُعد مسافة نصف ساعة من المشي السريع من البوابة الجنوبية. وهؤلاء الجنود ينتمون إلى رئيس أساقفة ماينتس الذي يقود ثلاثة آلاف جندي آخرين داخل أسوار فرانكفورت. كان رئيس أساقفة ماينتس يتحكم في البوابة الجنوبية، بينما كان رئيس أساقفة تريفيس يتحكَّم في البوابة الغربية، أما رئيس أساقفة كولونيا فكان يتحكَّم في البوابة الشمالية. يمكنك أن تتخيل في الحال ماذا يعني ذلك. بإمكان رئيس أساقفة ماينتس أن ينشر جنوده في فرانكفورت، لنَقُل، عند مُنتصَف الليل، وفي الصباح سيكون لديه عشرة آلاف جندي مقارنةً بثلاثة آلاف جندي لدى كلٍّ من رئيسَي أساقفة تريفيس وكولونيا. وهذا يعني حربًا أهلية والإطاحة الكاملة برئيسَي أساقفة الشمال.»
قال رولاند معلقًا: «أرى أنك تأخذ الأمر بجدية أكثر من اللازم. لا شكَّ أن رئيس أساقفة ماينتس رجل حاذق يأخذ كل احتياطاته حتى يتحقق له ما يريد. والسبب في عدم اندلاع حرب أهلية هو الآتي. لقد علمتُ من مصدرٍ له شأن عظيم أن رئيس أساقفة ماينتس له مكانة كبيرة في المجلس الانتخابي. فهو ليس بحاجةٍ لإخضاع رئيسَي أساقفة كولونيا وتريفيس بالقوة؛ لأنه بالفعل متفوق عليهما بذكائه في تدبير المكائد. إنه قائد بالفطرة وكل طُرقِه تحكمها الدبلوماسية لا القوة. وأستطيع القول إنه لو تطلَّب الأمر لوجدتَه يَضرب بسرعة وبقوة، لكن الأمر لا يستدعي. أنا واثق جدًّا من معلوماتي، وأعلم أن رؤساء الأساقفة الثلاثة معًا ومعهم كونت بالاتين الراين، متفقون جميعًا على انتخاب الأمير رولاند، إمبراطورًا لألمانيا.»
قال جريسل: «نعم، سمعتُ تلك الشائعة، وهي تتردَّد بوجه عام في أرجاء فرانكفورت. لكن الشائعات كالمعتاد تكون كاذبة.»
ابتسم الأمير لرفيقه المتشائم؛ إذ كان ذلك الرفيق يتحدَّث إلى الرجل العالم ببواطن الأمور؛ ومع ذلك كان يُنصت في صبر؛ لأنه بالطبع لم يكن ليظهر حقيقته لمساعده الكئيب الذي واصل روايته قائلًا:
«تحدَّث الرجلان عن الأمير السيئ الحظ الذي لا يزال، في اعتقادي، سجينًا في إيرنفيلس.»
وهنا انفجَر رولاند بالضحك.
وقال: «عزيزي جريسل، أنت مُخطئ تمامًا. فالأمير لم يكن سجينًا بمعنى الكلمة يومًا، وهو الآن في فرانكفورت يتصرَّف بحرية ويفعل ما يشاء مثلي تمامًا.»
رد جريسل قائلًا: «للأسف، أنت لم تُدرك بعدُ مدى جدية الموقف، لكني لم آتِ بعد إلى الجزء المحوري منه، بالرغم من أني ظننتُ أن حقيقة وجود سبعة آلاف جندي يُهاجمون فرانكفورت ستفاجئك.»
قال رولاند: «لقد فاجأتَني بالفعل يا جريسل»، وتذكَّر عدم ثقة الكونتيسة ووصيها في رئيس أساقفة ماينتس، وكذلك الحراسة الشديدة التي يَفرضها سيادته على فرانكفورت، كما اتضح من خلال زيارة أحد الضباط له في هذا المكان. فقال بمزيد من الرصانة: «واصل حديثك يا جريسل. لن أقاطعك مرة أخرى.»
«لقد علمت أنه وقع الاختيار على الأمير رولاند بالفعل، لكن ثمة تعقيدات حدثت لم أفهمها تمامًا. وهذه التعقيدات مُرتبطة بامرأة أو امرأتين؛ كلتاهما تُعارض رئيس أساقفة ماينتس بنفس القدر. وكان من المُفترَض أن تتزوج إحداهما الإمبراطور الجديد، لكن بدلًا من أن يحدث ذلك، قرَّر رئيس أساقفة ماينتس انتخاب شخص آخر بخلاف الأمير رولاند، والسبب هو خشيتُه من أن تكون إحدى السيدتين تحت تأثير رئيس أساقفة كولونيا بالكامل إن وقع عليها الاختيار، فيما ستَقع الأخرى تحت إمرة رئيس أساقفة تريفيس. ومن ثمَّ فسيادته الماكر أراد يخدع كلا الأميرَين الناخبين. فطلب من رئيس أساقفة كولونيا إحضار السيدة التي تحت إمرته إلى فرانكفورت؛ لذا فإنه يتوهَّم أن رئيس أساقفة ماينتس ليس لديه مشكلة معها. وكذلك طلب من رئيس أساقفة تريفيس إحضار السيدة التي تحت إمرته والتي هي قريبتُه إلى فرانكفورت أيضًا، وصدَّق تريفيس أن هذا القائد يدعمها.
والحق أن رئيس أساقفة ماينتس لن يُرشِّح أيًّا منهما، لكنه قرَّر أن يُعلن للمجلس الانتخابي في اللحظة الأخيرة ترشيحه لكارل دوق هيس، وهو رجل في منتصف العمر مُتزوِّج بالفعل ويخضع تمامًا لسيطرة نيافة رئيس أساقفة ماينتس.»
«معذرة يا جريسل، يجب أن أُقاطعك هنا برغم وعدي لك. فما تقوله يبدو في غاية الذكاء ولكن لا يُمكن تنفيذه. فقد تعهَّد رئيس أساقفة كولونيا وكونت بالاتين ورئيس أساقفة تريفيس بالفعل بالتصويت للأمير رولاند، وكذلك رئيس أساقفة ماينتس نفسه، وكونه يُغيِّر وجهته في اللحظة الأخيرة فإنه بذلك يحنث بوعده ويخون زملاءه. كما أنه لا يمكنه التخلي عن صوت واحد، وأرى أن رئيس أساقفة كولونيا سيُصوِّت للأمير رولاند بكلِّ ما أوتي من قوة. وأرى أن الحال كذلك بالنسبة إلى كونت بالاتين. أما رئيس أساقفة تريفيس فهو بالطبع دائم التردُّد والشك، لكنك تعلم أن تصويت رئيس أساقفة كولونيا السلبي سيجعل رئيس أساقفة ماينتس قليل الحيلة ويجعل الانتخاب مُستحيلًا.»
«لا شك أن ما تقوله صحيح، وأنت الآن قد وضعت يدَك على النقطة المهمة. لماذا أُجلت عملية الانتخاب في سابقة لم تحدث من قبل؟»
رد رولاند: «هذا ما لا أعرفه.»
«إذن سأُخبرك أنا. لقد أرسل رئيس أساقفة ماينتس أوامر صارمة للأمراء الناخبين الثلاثة الآخرين الذين قيل عنهم إنهم لا يعتنون بالشئون الإمبراطورية، ولا يبالون بشخص الإمبراطور القادم. غير أنه لا يوجد من بين هؤلاء الأمراء الناخبين الثلاثة مَن يَجرُؤ على مناطحة رجل قوي كرئيس أساقفة ماينتس. فإذا كان بإمكان رئيس الأساقفة أن يؤثِّر على زميلَيه المكافِئَين له اسميًّا في المنصب، واللذين لكلٍّ منهما جيش، ففي رأيك كيف يُمكن للنبلاء الثلاثة الصغار هؤلاء الذين ليس لديهم جنود تحت إمرتهم رفض أيِّ طلب له والذي يَصدُر بطريقة أنيقة لا شك، لكن يكمن خلفه تهديد قويٌّ لهم؟»
تمتم رولاند: «صحيح، معك حق.»
«لقد وصل اثنان من هؤلاء النبلاء بالفعل، وجرت استضافتهم من قِبل رئيس أساقفة ماينتس. ويتوقَّع وصول الثالث إلى هنا في غضون ثلاثة أيام؛ أو أربعة على الأكثر. وحينها سوف يقيم رئيس أساقفة ماينتس المجلس الانتخابي على الفور وقد يندهش كونت بالاتين ومعه رئيسا الأساقفة الآخران حين يَجدُون لأول مرة في التاريخ الأمراء الناخبين السبعة كلهم حاضرين في قاعة الانتخاب. وسوف يطلب رئيس أساقفة ماينتس من رئيس أساقفة كولونيا تقديم ترشيحه، وسيَطرح اسم الأمير رولاند. وأي تصويت سيُجرى حينئذٍ لن يكون في صالح الأمير. وبعدها سيرفع رئيس أساقفة ماينتس يده ليرشح الدوق كارل، الذي ستَنتخبُه الأغلبية. ومن ثم ستحدث ضجة واتهامات بسوء النية لكن تذكَّر أن رئيسَي أساقفة كولونيا وتريفيس سيُكونان متفاجئين تمامًا بما يحدث. ولا يُمكنهما التواصل مع قائدَي جيشَيهما؛ إذ إن القوات التي يصل عددها إلى ثلاثة آلاف التي نشرها رئيس أساقفة ماينتس بالفعل في أنحاء فرانكفورت ستُحاصر بهدوء مجلس المدينة الذي توجد به قاعة الانتخابات، كما أن رجال ماينتس السبعة آلاف القادمين من الغابة سيَنتشرُون عبر البوابة الجنوبية في المدينة، ويذهبون مُباشرة إلى مبنى مجلس المدينة، الذي يُسمى رومر. أما الدوق كارل الذي يَعرفه العامة في فرانكفورت، فسيظهر في شرفة القاعة الإمبراطورية وقد أعلن كونه الإمبراطور الجديد.»
«أها، سامحني يا جريسل على شكِّي. الأمر اتضح الآن وضوح الشمس. لكن مع ذلك لن تحدث حرب أهلية. فسوف يَجمع رئيسا أساقفة كولونيا وتريفيس جنودهما ويعودان من حيث جاءا، ليتجرَّعا كأس الهزيمة مرةً أخرى على يد رجل يفوقهما معًا ذكاءً وخسة. إنهما ليسا سوى طفلين صغيرين بين يديه.»
تساءل جريسل: «هل لديك أيُّ اقتراح؟»
«كلا؛ لا يوجد ما يُمكن القيام به. فكما تعرف، إن الأمير الشاب ليس له أتباع. إنه ليس معروفًا على الإطلاق في فرانكفورت. واسمُه لا يثير أيَّ حماس، وبوجه عام هذا يبدو لي شيئًا جيدًا للغاية. أما الدوق كارل فهو شخص معروف وأرى أنه سيكون إمبراطورًا جيدًا جدًّا.»
«أنت تقصد يا رولاند أن رئيس أساقفة ماينتس سيكون حاكمًا جيدًا جدًّا لأنه سيكون الإمبراطور الحقيقي؟»
«حسنًا، يا جوزيف، في النهاية هناك الكثير الذي يُمكن قوله في صالح ماينتس. إنه رجل يعرف ما يريد، بل والأهم أنه يحصل عليه، وهذا، في النهاية، هو أهم ما في الحياة. فإن استطاع أحدهم أن يؤثِّر على رئيس الأساقفة لدرجةٍ تجعله يستغل مواهبه الفذَّة في منفعة البلاد، بدلًا من التفكير في نفسه فقط، فما أعظمه من انتصار! بحق ملوك المجوس الثلاثة، إني أودُّ أن أفعلها! فأنا مُعجَب به. وإذا وجدت فرصة وكان بإمكاني أن أُقنعه بالانضمام إلينا في إغاثة فرانكفورت، وفي فتح نهر الراين أمام التجارة، فسوف نُلقِّن هؤلاء التجار الصعاليك درسًا في التنظيم.»
قام جريسل من كرسيه وسكب كوبًا آخر من الإبريق وشربه عن آخره.
وقال: «يجب أن أنصرف الآن وأقابل المجموعة. فأنا لم آكل شيئًا طوال اليوم وأشعر بجوع شديد كذئب شارد في البرية.»
«أوه، بالمناسبة، كيف هربت؟»
«لم أهرُب. لقد قادُوني معصوبَ العينين إلى خيمة، وأزالوا عني فيها العصابة وهناك سألني رجل بملابس عادية عن غرضي من دخول الغابة. فأخبرته بالحقيقة كاملة، وشرحتُ له ما نُحاول فعْله في فرانكفورت. يُمكنني القول إني بدوتُ صادقًا وغبيًّا نوعًا ما. سألني متى انطلقتَ ومن أيِّ اتجاه أتيت؛ لكنه كان يسألني بقدرٍ كبير من اللامبالاة؛ وأراد أن يعرف ما إذا كنتُ قد التقيت بعدة أشخاص، وأخبرته بمنتهى الصدق أني لم أقابل سوى الرجل الذي فهمت أنه حرَّاج؛ أو حارس بحسب افتراضي.»
قال: «يوجد عدد منا يصطاد الخنازير البرية، ونحن لا نَرغب في أن نُعكر صفو حياة الحيوانات في هذه الغابة. نحن لن نَمكُث هنا أكثر من أسبوع واحد، لكني أنصحك أن تبحث عن مكان آخر يُمكن أن تجد فيه الأخشاب التي تحتاج إليها.»
سألني أخيرًا عما إذا كان هناك أشخاص في فرانكفورت قد علموا بقدومي إلى الغابة، وأجبت أن مجموعة من عشرين رجلًا تعرف وأننا جميعًا كنا بصدد الاجتماع الليلة في حانة راينجولد للإبلاغ عما قمنا به. توقَّف قليلًا عند هذه العبارة، وأعتقد أنه توصَّل لاستنتاج مفاده أنني لو لم أرجع إلى فرانكفورت، فقد تنطلق هذه المجموعة في الصباح للبحث عني؛ فمن المعروف جيدًا أن الغابة خطرة لوجود الخنازير البرية. ولذلك، وكأنَّ هذا لم يكن له أيُّ تأثير، عصب عينيَّ من جديد واعتذر بنحو خاص على فعل هذا، قائلًا إنه لم يكن هناك أيُّ داعٍ في المقام الأول، لكن نظرًا لأن الحارس قد فعل هذا، فلم يكن يرغب في توجيه اللوم إليه ضمنيًّا.
فأجبت بأن هذا الأمر لا يهم، لكني كنت أرغب في أن يُصدر أمرًا بتحرير رسغيَّ وهذا ما حدث بالضبط.
علَّق رولاند قائلًا: «يجب أن أقول إن رئيس أساقفة ماينتس لديه ضباط جيدون. فقد كان الضابط الذي حقَّق معك رجلًا حكيمًا.»
رد جريسل: «نعم، ولكنِّي أخبرتُه بقصتي هنا في فرانكفورت.»
«لا فرق في ذلك؛ لأنه، كما قلت من قبل، ليس بإمكاننا أن نفعل شيئًا. لكن الشيء الجيد أن الرجل الذي حقَّق معك لم يُخمِّن ما سمعته خلسةً في الخيمة الأخرى. فقد تركك ترحل ظنًّا منه أنك لم ترَ أو تسمع أي شيء؛ ومن ثم تجنَّب القيام بعملية تفتيش جماعية غدًا.»