زواج سري
طوبى لمن لا ينتظر شيئًا؛ فهو لن يتجرَّع كأس الخذلان أبدًا. مشى رولاند مع جريسل عبر الجسر وعبر الشوارع إلى أن وصلا إلى مدخل راينجولد فتوقفا عنده.
وقال: «لن أنزل معك. فقد منحتني الكثير لأفكِّر فيه، ولستُ في حالة مزاجية تسمح لي باجتماعٍ مَرِح. في الواقع، أخشى أن أُثبِّط روح الحماس عند الفتيان. واصِل عملك الناجح غدًا وأبلغني ما توصلت إليه في غرفتي.»
وعندئذٍ ودَّع رولاند جريسل وتمنَّى له قضاء ليلة سعيدة ومضى. أخذ يمشي ببطء شديد إلى أن وصل إلى الجسر، وهناك أسند ذراعيه إلى السور، ونظر إلى المياه الداكنة. فصعق حين أدرك كيف أنه لا يهتمُّ كثيرًا بأمر التخلي عن الإمبراطورية، وتذكَّر بشيء من البهجة حديثه الأخير مع هيلديجوندي في الحديقة، وتأكيدها أنها لا تطمح مطلقًا في أن تصبح السيدة الأولى في المنطقة ما داما سيعيشان هما الاثنان حياتهما معًا.
أيقظته أجراس فرانكفورت التي تعلن عن حلول الساعة العاشرة من أوهامه، وحوَّلت أفكاره من غيابات الأحلام السعيدة والرومانسية إلى عالم الواقع. فقد كانت الدقائق الثمينة تتفلَّت من رأسه بسرعة كما تنساب قطرات الماء تحت قدميه. ولم تكن هناك جدوى كبيرة من إطعام سكان فرانكفورت ما داموا سيتعرضون حتمًا للحرق والذبح.
لقد تملَّكه شعور بالفزع حين تذكَّر خيانة رئيس أساقفة ماينتس بدم بارد، برغبته في فرض أهوال الحرب الأهلية على مدينة منكوبة بالفعل ما دام هذا يخدم أغراضه الأنانية ويحقِّقها.
وقال في نفسه: «لكن حتمًا هذا الرجل بداخله خير. وددتُ لو عرفتُ ماضيه. فربما كان عليه أن يُحارب في كل خطوة يخطوها في هذا العالم. وربما هُزم بالخديعة؛ وجرى التغلُّب عليه بالغش حتى مات الإيمان بداخله. فقد كنتُ على وشك فقد إيماني لو أنني حين التقيت برئيس أساقفة ماينتس لم أَستشعِر في الوقت نفسه فضائلَ رئيس أساقفة كولونيا، وصدْقَ كونت بالاتين الشديد. ما أروع هذا العالم، لو أُزيل منه خداع أشباه كورزبولد وجينسبين واستبدل به الوفاء الشديد لأمثال جريسل وإبرهارد! هكذا يوازن الخير الشر، وبعد ذلك … وبعد ذلك، كم تضيء السماء الأرض بنظرة ملائكية من امرأة صالحة. فليَهدِني الله! فليهدني الله! وليُخمِد بداخلي كلَّ مشاعر الغضب والقسوة.»
وعبَر الجسر بسرعة باتجاه زاكسينهاوزن، مُتجاوزًا غرفته في زاوية الشارع، ثم تابع إلى أن وصل إلى دير البندكت، الذي يَفتح مُصلاه الصغير ليل نهار لكي يُصلي فيه مَن تُواجهه مشكلة أو يشعر بالحزن، والذي لا يسكنه سوى واحد من الإخوة الكبار الذي عند الحاجة يقدِّم النصيحة أو التشجيع أو المواساة الروحية. دخل الأمير إلى هناك خالعًا قبعته في صمت يمشي على أطراف أصابعه ثم جثا على ركبتيه أمام المذبح، داعيًا الله بقلب مخْلص أن يمنحه الهداية وأن يلهم عبده رئيس أساقفة ماينتس الصواب، وأن يوجِّه أفكاره نحو سبل السلام وإغاثة تلك المدينة التعيسة.
وحين همَّ بالوقوف على قدميه كان حملٌ قد وقع عن كاهله، وعاد مرحُ الشباب ليزيح عنه الكآبة التي تملَّكته لبعض الوقت لدى سماعه خبر الجيش الذي يهدِّد بالسيطرة على مدينة فرانكفورت. لقد كانت خططه صادقة، وأساليبه تهدف إلى الإصلاح، وقد أصبح الطريق أمامه واضحًا الآن. وعندئذٍ اقترب منه الراهب المسئول الذي كان راكعًا في زاوية مُظلمة بالقرب من الباب وقاطعه.
وقال: «هل ستنكر جلالتك نفسك في الكنيسة كما فعلت عند الجسر؟»
فتوقَّف رولاند. ولم يتمكَّن من التعرُّف على ذلك الأب وسط الظلام.
«كلا، أيها الأب أمبروز وأنا أفعل الآن ما كان عليَّ فعلُه حينها. أصلي لنيل بركتك في المغامَرة التي أُقدِم عليها.»
«لقد أعطيتُها طوعًا يا بُني، لعلي أستطيع التكفير بعض الشيء عن نسياني لكلمات الكتاب المقدس: «لا تَدِينُوا لِكَيْ لا تُدَانُوا». وأنا للأسف أسأت الظن بك، بناءً على ما سمعتُه من رئيس الأساقفة وإحدى قريباتي. أرجو أن تغفر لي.»
«سأُسامحك، أيها الأب أمبروز، إذا قدَّمت الكفارة كاملة وليس جزءًا منها. فقد ثبت أن عواقب الخطأ الذي ارتكبته وخيمة وبعيدة المدى. وأقل ما في هذه العواقب أنها كلَّفتني منصب الإمبراطور.»
تأوَّه الرجل الصالح وقال: «أوه، إنها غلطتي، إنها غلطتي! لا توجد كفارة يمكن أن تعوِّض تلك الكارثة.»
«أنت تلوم نفسك أكثرَ من اللازم أيها الأب الصالح. فالكفارة التي سأفرضها ستجعلني مدينًا لك بشدة. والآن لكي نَنطلِق من أبسط هذه النتائج ونصل إلى أعظمها، بالنسبة إليَّ، فإن زواجي من قريبتك التي شغفتني حبًّا أصبح على المحك. فمن خلال قناعتها بأني كنتُ لصًّا، تحدَّت رئيس أساقفة ماينتس فأمر بسجنها، والآن قرَّر سيادته أن يكون دوق هيس العظيم كارل هو الإمبراطور. ومن ثم نصل إلى أهم نتيجة أسفرت عنها غلطتك. فقد ينشب بين قوات رئيس أساقفة ماينتس العاتية وقوات رئيسَي أساقفة كولونيا وتريفيس غير الكافيتَين صراعٌ يتسبَّب في إراقة الدماء وسط شوارع فرانكفورت.»
تأوَّه الرجل التقي في حسرة.
فقال رولاند: «لديَّ خطة ستمنع حدوث ذلك. بعد غد، سأتخلَّى عن أيِّ مطالبة بالعرش؛ لكن بما أني أناني مثل الآخرين، فسأرفض التخلي عن مطالبتي بالسيدة التي اختارها رؤساء الأساقفة أنفسهم لي زوجة، ولن أسمح بترك المسألة لتحكُّم الظروف أكثر من ذلك. لقد اعترفت قريبتك ظهر اليوم بحبِّها لي وبتجاهلها التام لأي منصب قد أشغله في هذه المنطقة. والآن، أيها الأب أمبروز، سأسألك عدة أسئلة. هل يتوافق مع تعاليم الكنيسة أن تُقام مراسم زواج هنا في هذا المصلَّى الصغير؟»
«أجل.»
«هل أنت مُخوَّل بأداء هذه المراسم؟»
«نعم.»
«وهل يُمكن إقامة هذه المراسم غدًا؟»
«نعم.»
«هل ستتعهَّد إذن بالقيام بالأمور التمهيدية اللازمة التي أجهلها تمامًا، وتخبرني في أي ساعة يُمكنني أنا والكونتيسة الحضور إلى هنا؟»
«لكن رئيس أساقفة كولونيا هو وصيُّ سيادتها. فهلا تأتيني بموافقته؟»
«أوه، أيها الأب، هنا تكمن المشكلة. لا شك لديَّ أن رئيس الأساقفة هو أقل الرجال طموحًا، لكنه في أمر زواج صانع سيوف ممَّن تخضع لوصايته، أخشى أنه سيَرفض العرض الذي سأقدِّمه للزواج منها والذي كان سيقبله بكل سرور لو قدَّمه إمبراطور.»
أخفض الراهب رأسه وأخذ يتأمَّل هذا الطرح. ثم قال أخيرًا:
«ولمَ لا تطلب موافقة سيدي رئيس الأساقفة؟»
«أنا لا أجرؤ على هذا. أمور كثيرة في خطر. فقد تُنفى إلى أيِّ قلعة في ألمانيا. وتذكَّر أن رئيس أساقفة كولونيا رضَخ لسجنها بالفعل، ولم يأتِ بي لبابِ سجنِها سوى تلك السلسلة الحديدية في سجن الفالتسجراف، هل قلت السلسلة الحديدية؟ بل كانت يد الله التي جمعتْني بها، والآن، وبمعاونة الرب الذي يُرشدني، لن يحُول كلُّ رؤساء أساقفة المسيحية دون هذا الزواج ولو اجتمعوا على ذلك. كلَّا، أيها الأب أمبروز، قم بكل أشكال الكفارات التي لا طائل منها. وستجد أنها لن تُجديَ نفعًا في التكفير عن الخطأ الذي ارتكبته. والآن ليلة سعيدة لقداستك!»
واتَّجه الشاب نحو الباب.
فناداه صوت القس الخافت: «يا بني، ألم تكن جاثيًا الآن على ركبتَيك تدعو الله أن يرفع عنك الغضب؟»
فاستدار رولاند.
وقال: «إنها غلطتي، كما قلت الآن لتوِّك. سامحني أيها الأب أمبروز. فقد استغللتُ غلطتك بطريقةٍ مُجحفة لإكراهك. وقد كنتَ على صواب في سردِ ما رأته عيناك هنا في فرانكفورت، وبالرغم من أن الاستنتاج الذي جرى التوصُّل إليه كان غلطتي، فلست الملام في ذلك. فأنا أدرك مخاوفك، لكني مع ذلك أزعم أنني أملك موافقة رئيس الأساقفة بالفعل، والتي لم يَسحبها يومًا.»
«أيها الأمير رولاند، إذا أحضرت كونتيسة فون ساين غدًا عصرًا، عندما تُعلن الأجراس عن حلول الساعة الثالثة، فسأزوجكما، وسأتقبَّل أية عقوبة تُفرض عليَّ بصدر رحب. أخشى أن رداء الراهب لم يمحُ الاندفاع الشديد الذي يتصف به آل ساين. فربما أخفاه فقط في حالتي تلك. والآن، أتمنى ليلة سعيدة لك ولتحلَّ عليك بركات السماء أنت ومَن ستكون زوجتك.»
ذهب رولاند مباشرة من المصلى إلى غرفته الخاصة التي نام فيها نومةَ مَن حسم أمره. إلا أنه لم يكن نومًا خاليًا من الأحلام؛ إذ إنه طوال الليلة بدا وكأنه يسمع جلبة الجيوش المسلَّحة تجوب فرانكفورت الغارقة في سباتها، وقد كان هذا الصوت مستمرًّا دون توقُّف حتى إنه استيقظ أخيرًا ولا يزال الصوت مستمرًّا. فنهض في هلعٍ وفتح شيش نافذته، فذُهل حين رأى الشمس قد أشرقت بالفعل فيما كان الصوت الذي أزعجه ناتجًا عن جلبة موكب من الخيول الثقيلة الحركة، التي تجرُّ عرباتٍ محمَّلة بالمنتجات الزراعية فوق الطُّرق المعبَّدة بالأحجار.
سيدي رئيس الأساقفة، هناك بعض المُقترحات المهمة التي أودُّ طرحها على الأمراء الناخبين، ونظرًا لأنني لا ينبغي عليَّ التواصل معهم بنحوٍ مُنفرد، فأرجو منك أن تعقد اجتماعًا في الغد، في قاعة الانتخاب، في وقت الظهيرة. وربما يحق لي أن أُضيف، إلى معلوماتك، أنه بالرغم من أن المقترح الأبرز يتعلَّق بإغاثة فرانكفورت، فإن المقترحات الصغيرة التي سأطرحها سيكون لها تأثير في تذليل العقبات التي تَعترِض طريقك في الوقت الحالي، وأزعم أن ما سأقوله سيلقى قبولًا شديدًا لديك.
لقد كان من الضروري جدًّا أن يصل هذا الخطاب إلى رئيس الأساقفة في أسرعِ وقت ممكن حتى إن رولاند كان هو الرسول، وقد أوصل الخطاب بنفسه إلى قصر رئيس الأساقفة. وبينما كان يهمُّ بالذَّهاب، إذ أفزعتْه يدٌ تُوضع على كتفه وثقلُها يوحي بأنها عملية اعتقال لا تحية ودودة. فالتفت بسرعة ورأى الملازم الذي عامله بنحو فظٍّ في الميدان. إلا أنه لم تكن هناك أيُّ بوادر سيئة على وجه الضابط.
«أما زلت تُشهر سيفك في أوجه الناس؟»
«نعم، أيها الملازم وبلا أي ضرر يُذكر. تلك معركة غير دموية أخوضها. أنا أُثني على صنعه، وأترك للعظماء أمثالك، يا سيدي، أمر إثبات جودته.»
«أنت شابٌّ مُفعَم بالحيوية، ونحن رجال ماينتس تُعجبنا الكفاءة، سواء أظهرها حرفي أم نبيل. هل الخطاب الذي سلمتَه للتوِّ كان موجَّهًا لسيادته؟»
«أجل أيها الملازم.»
«لن تكون له فائدة تُذْكر.»
«يؤسفني أن أسمع منك هذا يا سيدي.»
«خذ نصيحتي، ولا تبذل أيَّ مجهود لمقابلة رئيس الأساقفة إلى أن تنتهي عملية الانتخاب. أرى أنك شابٌّ عاقل ورصين، وأعترف أني مُعجَب بك. فأنت الرجل الوحيد في فرانكفورت الذي أخبرني بالحقيقة كاملة بلا تردُّد، ولم أُفِق بعدُ من دهشتي. والآن، عندما تعود إلى غرفتك المتواضعة في زاكسينهاوزن، فلا تُحاول الوصول إليها صاعدًا السلالم في خطوة واحدة؟»
«بالتأكيد، أيها الملازم.»
«عظيم جدًّا. بعد تحديد الإمبراطور، تعالَ إليَّ. وسوف أُقدِّمك لرئيسي وإذا أعجبه السلاح الذي تصنعه، فسوف تتقدَّم خطوة لأعلى، ومن ثم ستظل تصعد إلى أن تصل إلى ضابطٍ يُمكنه إصدار أمر مدهش من أجلك.»
«أشكرك أيها الملازم، وأتمنَّى أن أستفيد من معروفك في وقت لاحق.»
ربَّت الملازم على كتفِه وتمنى له التوفيق. وبينما كان رولاند يشق طريقه عبر الناس، قال لنفسه في حسرة:
«أشعر بالندم لتخليَّ عن منصب الإمبراطور، إن لم يكن فقط من أجل الشباب الطيبين من أمثال هذا.»
تحولت فرانكفورت وكأنَّما حرَّك ساحر عصاه فوقها. فقد كانت الشوارع تضج بالبشر. وعربات المزارعين من كل نوع زادت المشهد عبثية، فيما شعر رولاند بالأسى وعبس وجهه حين لاحظ مدى سوء تنظيم الاستعدادات من أجل التعامل مع التدفُّق المفاجئ للطعام، لكنه كان يرى أيضًا أن رجال رئيس أساقفة ماينتس كانت لهم يد في تنظيم الأمور، وكانوا سرعان ما يتدخلون للتخلص من الفوضى. أما الزي الرسمي لرجال تريفيس وكولونيا فقلَّما كان يُرى في المكان، في حين كان جنود ماينتس الهادئون والحازمون في الوقت نفسه مُنتشِرين في كل مكان يأمرون بعودة مَن حصلوا على الطعام بالفعل إلى منازلهم، لكي يُفسِحوا الطريق لمن لم يحصل بعدُ على الطعام.
وفي النهاية، وصل رولاند إلى قصر كولونيا، عبر ميدانٍ يعجُّ بالناس. وهناك وجد أمَّه والكونتيسة، جالستَين في غرفةٍ نوافذُها تُطلُّ على الميدان، تراقبان المشهد المثير أمامهما. وبعد أن حيَّا أمَّه، وجَّه التحية إلى الفتاة مصحوبة بضغطة خفيفة على يدها.
سألت الإمبراطورة: «ما سبب كل هذا الصخب؟»
ربَّت رولاند على صدره.
وقال: «أنا السبب يا أمي»، وروى لهما حكاية لجنة الإغاثة، وإذا كان التقدير يحمل بين طياته المكافأة، فقد كانت مكافأته تكمن في معرفته أن كلتا السيدتين اتفقت على كونه أروع الرجال.
وتابع رولاند: «لكن في الحقيقة يا أمي، الفضل في هذا يرجع إليك. فقد كانت بداية هذا كله في الواقع هديتك لي المتمثِّلة في الخمسمائة تالر، عندما أتيتُ إليكِ لأطلب مساعدتك في الحصول على تلك الوثيقة التي ما زلت أحملها، ولولا وجود أموالك وهذه الوثيقة ما كان لهذا أن يحدث أبدًا. فكما ترَين، لقد كَثُرَت وفاضت كالخمسة أرغفة والسمكتين المذكورة في الكتاب المقدس، وهكذا أطعمت الكثيرين.»
ابتسمت جلالتها ونهضت.
وقالت بينما كانت تقبِّله: «أوه، يا رولاند، أنت دائمًا تَنسب لأمك فضلًا أكثر من الذي تستحقه. لقد انفطر قلبي حينها لأنَّني كنتُ مُعدِمة.» ثم غادرت الغرفة مدعية الشعور بالتعب.
صاح الشاب قائلًا: «هيلدا، عندما أناقش معك أيَّ أمر يصير هذا الأمر حقيقة. بالأمس اتفقنا على أن عرش الإمبراطور لم يكن مدعاة للحسد كأي كرسي بجوار مدفأة المنزل. واليوم أقترح ضمان الكرسي المجاور للمَوقد، وغدًا سأتخلَّى بكامل إرادتي عن العرش الإمبراطوري.»
أطلقت الفتاة صيحةَ تعجُّب بدت وكأنها موافقة ومستاءة في آنٍ واحد، لكنها لم تنبس ببنت شفة، وأخذت تُحدق فيه عن كثب وهو يغدو في الغرفة ويروح، وتستمع إليه باهتمام وحماس. أخذ رولاند يذرع الغرفة جَيئة وذهابًا ويبدو عليه الحماس، ثم فصَّل الموقف بنحوٍ واضح للغاية كما عرفه من جريسل.
«والآن، كما ترَين، يا عزيزتي إن أيَّ معارضة لرئيس أساقفة ماينتس تعني نشوب صراع، وبفرض انتصار أصدقائنا في هذا الصراع، فإنَّ هذا الانتصار نادرًا ما يكون أقل كارثية من الهزيمة. لقد اتخذت قراري في الحال، والذي دعَّمه معرفتي برأيك في هذا الموضوع، بأنني لن أكون سببًا في أيِّ صراع مدني وإن كان هذا من أجل كل ممالك العالم.»
ردَّت الفتاة في أول كلمات لها: «يا له من قرار نبيل وحكيم!»
وقف الشاب أمامها وأخذ يروي لها بنبرة هادئة ما حدث وما قيل له في كنيسة الإخوة البندكت. كانت تنظر إليه بوجهٍ مُفعَم بالبهجة أثناء الجزء الأول من روايته، وكانت شمس ابتسامتها تشرق بين الحين والآخر على جوانب ثغرها؛ إذ كانت تتلمَّس رأي قريبها في تكرار حبيبها لكلماته، لكن حين تطرَّق الأمر لمسألة الزواج، شخصت ببصرها إلى الأرض ولم تجرؤ على رفعه مرة أخرى.
ثم قال في النهاية: «حسنًا يا هيلدا، هل تملكين شجاعة الذهاب معي، دونما رفيق أو وليِّ أمر، إلى الكنيسة عصرًا في الساعة الثالثة؟»
نهضت ببطء، ولا تزال عيناها في الأرض، ثم وضعت يديها على كتفيه، ثم طوَّقت بهما عنقه واضعة خدَّها مُلامسًا لخده.
وقالت هامسة: «الذَّهاب إلى أيِّ مكان معك لا يحتاج إلى شجاعة يا رولاند. أحتاج إلى استجماع شجاعتي فقط حين أفكِّر مُرتعدة في الافتراق عنك.»
ومر بضع دقائق قبل استئناف الحديث.
سأل رولاند متأخرًا بعد أن تذكَّر مُضيفه: «أين رئيس الأساقفة؟»
«خرج مع كونت بالاتين منذ نحو ساعة. أظن أنهما منزعجان قليلًا من هذه الجلبة غير المعتادة، ويَرغبان في معرفة معناها. هل تريد الحديث مع وصيي؟»
«ليس قبل أن تُخبريني برغبتك في أن أفعل.»
«أنا لا أريد إلا ما تُريد، يا رولاند.»
«أنا سعيد لعدم وجود سيادته يا هيلدا. لنذهب إلى الحديقة يا هيلدا ونبحث عن مخرج هادئ إذا استطعنا.»
عثرا على باب متين في الحائط من جهة الخلف، يكاد يُخفيه تكاثف الشجيرات حوله. كانت الأقفال قوية وصدئة، لكن براعة رولاند تغلَّبت عليها، واستطاع أن يفتح الباب بنحو جزئي. وكان الباب مطلًّا على زقاقٍ ضيق أمامه حائط آخر مرتفع. فنظر رولاند إلى بداية الممر ونهايته، فعلم أنه مهجور تمامًا.
فقال بينما يُغلق الباب مرة أخرى، لكن دون إعادة الأقفال إلى الوضع الذي كانت عليه: «هذا سينجح بامتياز.» ثم أخذ يديها بين يديه.
وقال: «أنت أغلى الفتيات وأنبلهن وأجملهن! يجب أن أتركك الآن. انتظريني هنا في تمام الواحدة والنصف. وسوف أخرج من هذا الباب؛ إذ من الضروري أن أعرف بالضبط أين يلتقي هذا الزقاق بالشارع الرئيسي. وسوف يكون من المحرِج جدًّا أن تبقَي هنا واقفة ويبحث الأب أمبروز عنَّا في الكنيسة، بينما أبحث أنا عن الزقاق عن كثب ولم أجده.»
وقبل الموعد المحدَّد بقليل، حافظ الشاب المتلهِّف على موعده وعندما ظهرت الكونتيسة في الموعد المنتظَر بالضبط، فتح لها الباب، ثم أغلقه من خلفها وخرجا معًا متجهين إلى مدينة فرانكفورت. وكان رولاند يشعر بسعادة غامرة حتى إنه بالكاد كان يَمنع نفسه من الرقص بجانبها.
وقال: «أود أن أمسك يدك وأُؤرجحها بين يديَّ وأُريك معالم المدينة كما لو كنا شابَّين ينتميان إليها.»
قالت الكونتيسة: «أنا فتاة ريفية، أرجوك ألا تنسَ هذا. فأنا لا أعلم شيئًا عن فرانكفورت ولا أيِّ مدينة كبرى غيرها في الحقيقة.»
«أنا سعيد بهذا؛ لأن هناك الكثير الذي يجب أن تريه في فرانكفورت. وسوف نذهب إلى الكاتدرائية؛ ذلك المبنى الأحمر الجميل، الذي تُميِّزه الروعة والضخامة، والذي كان من المفترض أن نتزوَّج فيه ونُقيم حفلًا كبيرًا عديم الفائدة لو أنني تُوِّجت إمبراطورًا. لكني على ثقة بأن الكنيسة البسيطة التي تقع في بلدة العمال زاكسينهاوزن ستُناسب صانع السيوف وعروسه أكثر.»
وصَل الآن الشابان إلى الشارع المزدحم، الذي بدا أكثر ازدحامًا من أيِّ وقتٍ مضى. وفي طريقهما للكاتدرائية، اشتد الزحام أكثر فأكثر حتى إن التقدُّم خطوات بات صعبًا. بدا التدفُّق متجهًا نحو اتجاه واحد، وجرفهما معه. أمسكت هيلديجوندي بذراع الشاب، وتشبَّثت به بشدة.
صاح رولاند، بينما كانت تَتعالى الهتافات لتصل إلى عَنان السماء: «إنهم يجرفوننا معهم شئنا أم أبينا نحو عدوِّنا القديم، كبير أساقفة ماينتس. ها هو ذا قصره المواجه للميدان. وثمة شيء يحدث أشبه بالمظاهرة. كم يبدو القصر ساكنًا وكئيبًا، فهو مُغلَق الأبواب والنوافذ وكأنه منزل أموات! إنه يذكِّرني بمالكه بطريقةٍ ما. فقد تصوَّرته يسكن في منزل تُخيِّم عليه الكآبة مثل هذا.»
قالت الفتاة متسائلة: «هل تَعتقد أننا مُعرَّضان لأي خطر؟ فالناس يبدون هادرين للغاية.»
«كلا، لا يوجد أيُّ خطر على الإطلاق. فهذه الحشود في أفضل حالاتها المزاجية. أنصتي لهتافاتهم المليئة بالحماس! لقد حصل الناس على الطعام؛ وهذا هو سبب الهتاف.»
«أهذا هو سبب الهتاف؟ يبدو أنه احتفاء بكبير الأساقفة! استمع إليهم: «يحيا ماينتس! بارك الله في ماينتس!» لا يُوجد تذمُّر في هذا الهتاف.»
ومع هذا فقد اتخذ نيافة كبير أساقفة ماينتس كل احتياطاته. فقد كانت أبواب ونوافذ القصر محكمة الغلق، وفي الجهة الأمامية للمبنى كان يصطف صفان من الجنود تحت القيادة الصامتة لضباطهم. كانوا واقفين أمام كاتدرائية بلا حراك وفي سكون تام وكأن على رءوسهم الطير. استمرَّت الهتافات بلا انقطاع. ثم فجأة، وكأن القصرَ المشئوم فَتح إحدى عينيه، فُتح مصراع إحدى النوافذ الكبيرة المطلة على الرواق فوق الباب. وبعدها فُتحت النافذة تمامًا. فتوقَّفت الهتافات، وفي وسط الصمت الذي خيَّم على المكان، خرج من قلب الظلام عجوز يَكسُوه الوقار، يَرتدي رداء عمله الرسمي الطويل، وفوق رأسه الذكي قبعة رئيس الأساقفة الأنيقة. وبعد صمت دام للحظات علت الهتافات من جديد حتى بلغت عَنان السماء، لكن العجوز لم يحرِّك ساكنًا ولم يبدُ على وجهه الشاحب أيُّ تأثُّر.
همس رولاند أثناء فترة هدوء مؤقتة قائلًا: «بحق ملوك المجوس الثلاثة، يا له من رجل! القوة مُتجسِّدة فيه، لكني أزعم أن تلك هي المرة الأولى التي يَلمس فيها شعبيته. أنا سعيد برؤية هذا المشهد، الشعب مع سيده. ما أسرع إدراك الناس لمن هو حاكم ألمانيا الحقيقي! وددتُ لو كان صديقي!»
رفع رئيس الأساقفة ببطء يديه المفتوحتين عاليًا بضع لحظات ليمنح الجماهير بركتَه. فخمدت الهتافات من جديد وانحنت الرءوس، ثم غادر رئيس الأساقفة المكان. وأغلقت أيادٍ خفية النوافذ، وبعد لحظات أُوصدت مصاريعها. بدأت الجموع تتشتت، ووجد الرفيقان الطريق يفسح أمامهما شيئًا فشيئًا.
دخلا معًا الكاتدرائية الحمراء الخالية وجلسا جاثيَين في إحدى زواياها المنعزلة. وبعد بضع دقائق تذكَّر رولاند أن الساعة دقت الثانية بينما كانا يُحدِّقان في رئيس الأساقفة. فلمس يد رفيقته برفق. وقاما وسارا ببُطء عبر الكنيسة العظيمة.
قال هامسًا: «هنا يُتوَّج الإمبراطور. دائمًا ما يتزعم رئيس أساقفة ماينتس هذه المراسم؛ ومن ثمَّ ففي النهاية هناك بعض المبرِّرات لهذه الزعامة التي يدعيها لنفسه.»
سار الرفيقان مرة أخرى إلى الخارج ومشيا إلى فارجاسه، ثم إلى الجسر؛ حيث توقَّفت الكونتيسة تعبيرًا عن بهجتها لجمال المدينة المطلة على الماء، التي تمجِّدها الشمس الغربية. وبعد أن عبرا النهر ونزلا إلى بروكنستراس بزاكسينهاوزن، قال رولاند:
«بالإشارة إلى مَن هم ليسوا بأباطرة، تلك هي غرفتي التي في الزاوية؛ حيث كنت أعيش حين كان من المفترض أن أكون في السجن.»
قالت الفتاة: «هل كنتَ تَصنع السيوف هناك؟»
«كلا؛ توجد ورشتي أنا وجريسل بعيدًا على طول الشارع الجانبي هذا. إنها ورشة مُتواضعة لا أهمية لها، لكن هنا على الجانب الآخر، يوجد صرح مهم. إن هذا المبنى المنخفض هو دير البندكت، وهذا هو مُصلاه الصغير.»
لم تُبدِ الكونتيسة أيَّ تعليق، لكنها وقفت تحدِّق في الكنيسة بضع لحظات إلى أن قطعت أفكارها الأصواتُ الرصينة لجرسٍ أعلن عن حلول الساعة الثالثة. صعد رولاند والفتاة الدَّرج وفتح الباب وأمسك به حتى دخلت ثم نزع قبَّعته وتبِعها.