فلْيحيَ جلالة الإمبراطور والإمبراطورة!
لم يكن الرجل الأكثر شعورًا بالقلق في فرانكفورت بأكملها واحدًا من السادة العظماء الذين كانوا يَحكمون الإمبراطورية، أو التجار الذين يُتاجِرون فيها، أو العامة الذين تضوَّروا جوعًا أثناء انقطاع حركة التجارة. لقد كان ذلك الرجل هو السيد دورنبرج، مدير رومر؛ أي المسئول عن مبنى مجلس المدينة، وهو رجل نحيل، كثير التدقيق، يرى نفسه شخصًا ذا مكانة عظيمة، يتملَّق مَن هم أعلى منه شأنًا، ويحتقر مَن هم دونه. لقد كان القادة الذين عمل هذا المسئول البسيط تحت إمرتهم مُتغطرسين وغير عقلانيين. فكانوا لا يُفصِحون له عن نواياهم بنحوٍ كامل، ولكنهم كانوا يسحقونه بلا هوادة وكأنه حشرة، إن أخفق في أداء واجبه تجاههم بدقة.
يا لدورنبرج البائس! ففي كل صباح كان يتوقَّع انعقاد المجلس الانتخابي، ولكن كانت تصيبه خيبة الأمل في المساء. لقد اقتضَت مهمَّته الأولى تجهيز الطاولة الموجودة في تلك الغرفة الكبيرة، القاعة الإمبراطورية، وإعداد مأدبة عليها ليتناولها الإمبراطور الجديد والأمراء السبعة الناخبين الذين انتخبُوه. وكان من واجبه أيضًا تجهيز خزَّانين كبيرين من النبيذ، أحدهما يحتوي على النبيذ ذي اللون الياقوتي الذي يُعصَر في أسمانسهاوزن، والآخر على النبيذ الذي له لون القش، والذي اشتهرت به هوخهايم. وكان هذان الخزانان يتصلان عبر أنبوبين بنافورة بسيطة غير مُزركشة توجد أمام مقر مجلس المدينة في الميدان المسمَّى رومربيرج. وعندما تجري عملية الانتخاب، كان السيد دورنبرج سيوقف تدفُّق المياه من النافورة، ويفتح صنبور تدفُّق النبيذ، وهكذا لمدة ساعة ونصف كان سيتدفَّق نبيذ أسمانسهاوزن الأحمر الفاخر من الفوَّهة الشمالية ونبيذ هوخهايم الأبيض الرائع من الفوَّهة الجنوبية. إنَّ النبيذ لا يفسد ويبقى فترة طويلة، أما العشاء فلا؛ لذا كان دورنبرج البائس يُعدُّ المأدبة تلو الأخرى ولكن دون أن يمسَّها أحد.
في النهاية، ظن السيد دورنبرج أنه يوشك أن يُكافأ على يقظته. فقد ظهر شاب وشابة مُبتهجان، يبدو أنهما عاشقان، على الدَّرج العريض المتعرِّج جهة الممر المؤدي إلى البابين العظيمين للقاعة الإمبراطورية، وأخذ الشاب يطرق على لوحَي باب المبنى القويين بمقبض سيفه. وفتح السيد دورنبرج الباب بنفسه وقال بغطرسة:
«رومر مُغلَق، ولن يَفتح أبوابه للغرباء إلا بعد انتهاء عملية الانتخاب.»
«ورغم ذلك سندخل. أنا الأمير رولاند وقد أتيتُ للقاء هيئة المجلس الانتخابي التي ستَنعقِد ظهرًا في قاعة الانتخاب المُجاوِرة. وأنت يا رئيس رومر ستُخبِر أعضاء المجلس المبجلين بحضوري، وستقوم باستدعائي لمقابلتهم عندما يأمرونك بذلك.»
انحنى السيد دورنبرج بشدة حتى كاد رأسه يلامس الأرضية اللامعة، وانطلق ليفتح البابين وتراجع للخلف وقد ازداد انحناؤه وهو يُناشدهما بالدخول. أغلق دورنبرج النشيط البابين لأن الأمراء الناخبين سيصِلون إلى قاعة الانتخاب من طريقٍ خاص لا يسلُكه أحد سواهم، وأحضر مقعدَين ووضعهما في الواجهة إلى جوار النوافذ، ومرة أخرى خاطر بالسقوط على أنفه وهو ينحني أمام زائريه المبجَّلين طالبًا منهما الجلوس على المقعدين حيث يُمكنهما تسلية نفسَيهما بمُشاهدة الحشد الهائل الذي اكتظ به رومربيرج من أوله لآخره؛ إذ كانت فرانكفورت بأكملها على علمٍ بأن عملية الانتخاب وشيكة، وبعد المأدبة، وبعدما يبدأ النبيذ في التدفُّق في النافورة، كان سيظهر الإمبراطور الجديد مُعلنًا عن نفسه أمام شعبه بعدما يغادر القاعة الإمبراطورية ويُطلُّ من الشرفة التي أمامها.
«هل تَشعُرين بالخجل تجاه مقابلة هذا الجمع العظيم؟ تذكَّري أنك تمتلكين على الأقل صديقَين صالحَين من بينهم.»
وضعت الفتاة يدها في يده، ونظرت إليه بحنان.
وقالت: «أنا لا أخشى شيئًا يا رولاند وأنت معي.»
«لولا وصيك لما طلبت منك تكبُّد هذه المشقة. ستكون دهشته صادقة وغير مُفتعلة عندما نعلن عن زواجنا، وهكذا لن يستطيع حتى رئيس أساقفة ماينتس المرتاب أن يتهمه بالتواطُؤ فيما فعلناه. لا شك أن قوة موقفِي تكمن في تنفيذي للطلب الرسمي لرؤساء الأساقفة الثلاثة؛ ذلك الطلب الذي لم يُعارض أبدًا.»
وقبل أن تتمكَّن من الرد عليه دقَّت الساعة معلنةً حلول الثانية عشرة. دخل السيد دورنبرج المهذَّب من قاعة الانتخاب واقترب منهما بهدوء.
وقال: «جلالتك، معالي الأمراء الناخبين يطلبون منك الحضور إلى قاعة الانتخاب.»
«كم عددهم، يا مدير رومر؟»
«أربعة، يا صاحب السمو؛ رؤساء الأساقفة الثلاثة وكونت بالاتين.»
تنفَّس رولاند بارتياح وقال: «حسنًا»، بعدما تبيَّن له أن رئيس أساقفة ماينتس لم يستدعِ الشخص البديل الذي سيَنتخبُه إمبراطورًا، وتأكَّد له الآن أن الأمير الناخب السابع لم يصل. ونظر إلى زوجته نظرةَ تشجيع وتوجَّه ليلتقي بالحضور.
كان السيد دورنبرج قلقًا بشأن النتيجة، وأظهر ميلًا لإغلاق الباب والبقاء بالداخل، ولكن رئيس أساقفة ماينتس أصدر له إشارة حاسِمة دفعت الرجل الطيب إلى البقاء في الخارج.
افتتح رئيس أساقفة ماينتس إجراءات الجلسة.
قال: «بالأمس تلقَّيتُ رسالة من جلالتك تطلب فيها منِّي عقد هذا المجلس. وأنا شأني شأن زملائي لا علمَ لي بما تودُّ طرْحه علينا. ولهذا أعلن لك أننا مستعدون للإنصات لما ستقوله.»
بدأ الأمير حديثه بهدوء شديد قائلًا: «أشكرك يا سيدي رئيس أساقفة ماينتس. عندما تشرفت بلقاء ثلاثتكم لأول مرة في قلعة إيرنفيلس، وقَّعت على وثائق محدَّدة، وتوصَّلت معكم إلى اتفاقات شفهية أخرى. أنا ما زلت شخصًا يفتقر إلى الخبرة، ولكني في ذلك الوقت، ورغم مرور أيام قليلة نسبيًّا، لم أكن إلا صبيًّا، يثق في حسن نوايا العالم أجمع، ولا يعلم شيئًا عن خداعه. ومنذ ذلك الحين وأنا أجتاز تجارب مريرة وأتعلم دروسًا قاسية، ولكن أيًّا من ذلك لم يُثبِّط من عزمي؛ ففي حين قابلت رجلًا ماكرًا ومُخادعًا، قابلت رجلين جديرين بالثقة.»
رد عليه رئيس أساقفة ماينتس، بتهذيب، قائلًا: «عذرًا، أنا لم أكن أعلم أن خطابك المُقترَح سيكون عظة. إن كنت تهدف إلى إلقاء محاضرة عن الأخلاق فأرجو منك ألا تنسى أن قاعة الانتخاب هذه ليست إلا مكانًا لإدارة الأعمال، وما تقوله يُناسب أكثر مصلًّى كنسيًّا أو حتى كنيسة وليس غرفة الانتخاب الخاصة بالإمبراطورية.»
قال رولاند بتواضُع: «أعتذر يا سيدي إن لم تحظَ مقدِّمتي بقبولك. أؤكد لك أنني كنت أطمح إلى عكس ذلك تمامًا. كان غرضي أن أوضح لكم سبب التغيُّر الذي حدث لي، ولهذا …»
«يؤسفني مقاطعتك من جديد، ولكن أيًّا كان سبب تغيُّرك فهذا لا يهم كثيرًا أحدًا سواك. لقد بدأت حديثك بتوجيه اتهامات غامضة بالخداع والمكر وما إلى ذلك، تجاه شخص أو أشخاص مجهولين. هل لي أن أطلب منك أن تكون محددًا؟»
«هل سيادتك تطلُب منِّي أن أذكر أسماء؟»
بدت علامات الانزعاج على رئيس أساقفة كولونيا، وبدا رئيس أساقفة تريفيس في حيرة من أمره وهو ينقِّل نظره بين زميليه، أما كونت بالاتين فكان جالسًا ويتابع باهتمام، مُستندًا بمرفقيه إلى الطاولة وذقنه الكبير يستند إلى يديه الضخمتين.
قال رئيس أساقفة ماينتس بهدوء تام وكأنه لا يشعر بأي ارتباك: «إنك يا صاحب السمو خيرُ من يُقرِّر هل ينبغي ذكر أسماء أم لا. ولكن عليك إدراك أن تلميحاتك بالمؤامرة والخداع تجعلُنا بالتأكيد نتوصَّل لاستنتاجات محدَّدة. وحيث إنك لم تُتَح لك الفرصة لمقابلة أتباعك خلال الفترة التي تتحدَّث عنها؛ من ثمَّ فإن تلك الاستنتاجات تدفعنا للاستدلال بأنك تتحدَّث عن أحد الأشخاص الثلاثة الذين قابلتَهم. لذا أنصحك بالتوقُّف عن أسلوب التلميح الذي تستخدمه أو شرح مقصدك بوضوح.»
«أودُّ بشدة أن أنحني أمام سيادتك تعبيرًا عن تحيَّتي لقرارك الذي يتميز بالحكمة التي تصاحب كل كلمة تنطق بها نيافتك. لهذا سأذكر أسماء الرجال الصالحين والطالحين.»
نظر رئيس أساقفة ماينتس إلى الشاب في ذهول، ولكنه اكتفى بقوله:
«تابع، يا سيدي، طريقك المحفوف بالمخاطر.»
«إنني أتولَّى رئاسة جماعة من القراصنة. عندما غادر هؤلاء الرِّفاق فرانكفورت تحت قيادتي بدا أننا جميعًا على وفاق. تألَّفَت جماعتي بالكامل من الحدادين، وهم مجموعة من الرفاق الشباب الذين في حالة بدنية وذهنية ممتازة، ولكن قبل يوم واحد من الانطلاق في رحلتنا وجدتُ نفسي في مواجَهة تمرُّد. كان قائد هذا التمرد رجلًا يُدعى كورزبولد، وهو رجل حقير خائن حكمتُ عليه بالموت. أما الرجلان اللذان وقفا إلى جانبي فهما جريسل وإبرهارد، لذلك قلتُ إنني عندما واجهت شريرًا واحدًا قابلتُ رجلين جديرين بالثقة.»
سأله رئيس أساقفة ماينتس: «متى حدث ذلك؟ وماذا كان غرض مهمة القرصنة تلك؟»
صاح رئيس أساقفة كولونيا، بعد أن عجز عن تمالك نفسه وهو يرى المصير الكارثي الذي سيَئول إليه الأمير بسبب اعترافه، قائلًا: «يا إلهي، أيُّ جنون أصابك؟! ألا تلاحظ أثر تلك الاعترافات المقلِقة؟»
ابتسم الأمير وأجاب أولًا عن السؤال الأخير.
«إنه اعتراف صادق يا سيدي لما يُمكن اعتباره تصرُّفًا غير شريف. إنها أمور لا بد لك من الإحاطة بها قبل الجلوس لانتخاب إمبراطور.»
وتابع حديثه وهو يلتفت باتجاه رئيس المجلس قائلًا: «إنك تسألني عن توقيت حدوث ذلك يا رئيس أساقفة ماينتس. فقد وقع عندما كنت تظنُّ أنني سجينك في إيرنفيلس. فإنك لم تَحتجِزني هناك ولا ليوم واحد. فلقد استمتعت خلال هذه الفترة بالتجول في البلاد. ونجحت في إجراء فحص متأنٍّ لدفاعات كل قلعة تقريبًا على نهر الراين، بداية من مدينة بون وانتهاءً بمدينتك ماينتس. لقد سألتني عن غرض مهمتنا تلك، أليس كذلك؟ دعني أخبرك أن غرضَها كان سلب الكنوز المسروقة داخل قلاع اللصوص، وصادَفَ أن نتج عن ذلك دمار قلعة فورستنبرج بعد أن التهمتها النيران. وانتهت رحلة النهب في فالتس؛ حيث سلبتُ الفالتسجراف ثروته وحرَّرت كونتيسة فون ساين التي كانت مسجونة بنحوٍ غير قانوني بين جدران ذلك الحصن.»
صاح كونت بالاتين وهو يَضرب بقبضته على الطاولة وكأنها مطرقة ثقيلة، قائلًا: «بحق ملوك المجوس الثلاثة، إنك لرجلٌ بحق، وأنا أفتخر لأني سأحظى بشرف التصويت لك.»
تحدَّث رئيس أساقفة تريفيس للمرة الأولى قائلًا: «أتفق مع أخي رئيس أساقفة كولونيا في أن هذا الشاب لا يُدرك تمامًا الحجم الحقيقي للعواقب الحتمية لكلماته المروعة. بالطبع أنا وسيدي رئيس أساقفة ماينتس كنا سنَمنحه صوتَينا، ولكنَّ صوتَينا سيُعطَيان على مضضٍ لمن اعترف بأنه لصٌّ ومُخرِّب.»
أشار إليهما رئيس أساقفة ماينتس قائلًا: «لا تتسرَّعا أيها السيدان. فلسنا هنا للإدلاء بأصواتنا. لقد أعلنت منذ قليل عن عدم اهتمامي بقصتك، وها أنا ذا أعلن تراجعي عن ذلك. وبعد سماعك أوافقك الرأي على أن الكونتيسة سُجنت ظلمًا. فهي كانت دقيقة في تقديرها لشخصيتك.»
«أنا لا أُوافقك الرأي في ذلك يا سيدي؛ فأنا لا أعُدُّ نفسي لصًّا أو مُخرِّبًا أو سارقًا أو قرصانًا. بل أزعم أنني الشخص الذي استردَّ تلك الممتلكات المسروقة. وعلى الرغم من أن إراقة الدماء تُعد إحدى السمات المميزة للعمل الذي أديتُه، فإنني لم أُرِق أيَّ دماء. ولم يكن الحرق إلا حدثًا عارضًا اضطررت إليه بعد وقوع ثمانية عشر رجلًا من رجالي في أسْرِ المارجريف الأحمر وأمره لرجاله بشنقِهم. لقد شتتُّ انتباهه عن تنفيذ هذا الإعدام بتنفيذ أول فكرة خطرت ببالي وهي إحراق قلعته. سيدي، لقد وعدتك في رسالتي بالأمس أن أزيل بعض العقبات من طريقك. ولهذا فأنا أزيل إحداها بقولي إن أحد أهداف هذا المجلس هو إعلاني التخلِّي عن حكم الإمبراطورية، وعليه أشكر سيدي الكونت على الشرف الذي منَحني إياه، وأُطمئن سيدي رئيس أساقفة تريفيس بتأكيدي له أن تخلِّيَه عنِّي لن يصيبني بالذعر. والآن يا سيد ماينتس هل ستُنصِت جيدًا لاقتراحي؟»
رد رئيس الأساقفة بلهجةٍ يَشوبها اللطف: «أيها الأمير رولاند، أنا لم أستمِع من قبل لراوٍ يقصُّ حكاية مُفعَمة بالحياة مثلك. تابِع حكايتك أرجوك.»
«عندما انطلقت عصابتنا من فرانكفورت، ظنوا أننا سنَتقاسم الذهب فيما بيننا بالتساوي. ولكنَّني تعلمت من التمرد الذي واجهته استخدام فنون الدبلوماسية التي أحتقرها. كنتُ آمُل أن أحظى بسلطةٍ عليهم لإقناعهم بالموافقة على التخلي عن هذه الثروة لصالح فرانكفورت. يُسعدني القول بأنني حققتُ مرادي، وشاهدتُ بالأمس واليوم النتائج التي أثمرت عنها جهودي، وهي إغاثة مدينة أهلها يتضوَّرون جوعًا. أنا لم أفعل شيئًا سوى انتزاع الثروة من السارقين لصالح أولئك الذين تعرَّضوا للسرقة. وبمعرفة حقيقة المشاعر المتأجِّجة التي تُحرِّض أهل هذه المدينة ضد سيادتكم، فقد جعلت أتباعي يعلنون أن الفضل في هذه الإغاثة يرجع إلى رؤساء الأساقفة.
سيدي رئيس أساقفة ماينتس، إنني عندما رأيتُك بالأمس تُطلُّ من شرفتك الخاصة، أدركت أنك أكثر شخصية قوية ومبجَّلة رأيتها في حياتي، وعندما سمعت الهتافات الرنانة ترحيبًا بكم، حينها فقط أدركت ما لم أُدركه من قبل، وهي عبقرية فخامتك، ولعنتُ حظي التَّعس الذي حرَمني من صداقتك. فما الذي لا يُمكننا تحقيقه للوطن معًا؟ أنا بشبابي وطاقتي تحت وصاية حِكمتك وخبرتك. لقد تذوقتَ هناك، ربما للمرة الأولى في حياتك، كأس الشعبية المسكِرة، ولكنها لم تؤثِّر فيك أكثر من تأثير شربك لكأس نبيذ من نافورة رومربيرج.
والآن، أيها السادة، إليكم ما أطلبه منكم، وسيتَّضح لكم إلى أيِّ مدًى كنتُ سأعتمد عليكم لو وقع عليَّ الاختيار لشغل المنصب الذي عرضتموه عليَّ في البداية. أطلب من سيادتك يا رئيس أساقفة تريفيس سحْب قواتك التي قوامها ثلاثة آلاف جندي إلى الجانب الآخر من نهر الراين.»
صاح رئيس أساقفة تريفيس مندهشًا من هذا الاقتراح السخيف قائلًا: «أنا لن أفعل شيئًا كهذا.»
تابع رولاند حديثه دون اكتراث:
«وأطلب منك يا رئيس أساقفة كولونيا السيرَ بقواتك إلى أسمانسهاوزن.»
صاح رئيس أساقفة كولونيا الغاضب قائلًا: «أنت حقًّا تثرثر كالصبي الذي أشرت إليه قبل قليل. فأنت لا تملك أيَّ فهم لفنون الحكم.»
لاحت ابتسامة خفيفة على الشفتَين الرفيعتين لرئيس أساقفة ماينتس، عندما لاحظ إخفاق زميلَيه في إخفاء خوفهما من تركه يتمتَّع بالسلطة الكاملة في فرانكفورت. فالاقتراح الساذَج الذي أغضب أخوَيه لم يتسبَّب إلا في إسعاد رئيس أساقفة ماينتس. فالعبثية التي أظهرها هذا الشاب كانت شيئًا رائعًا. ابتسم رولاند في تعاطُف وهو ينظر إليه، ولكن كلماته التالية نزعت أيَّ تعبير يوحي بالسعادة من وجه رئيس أساقفة ماينتس.
«أتمنى أن أنجح في كسب موافقتك يا سيدي. أنا أدرك بالطبع أنني لا أمتلك أيَّ صفة لدى هذا المجلس بعد رفضي للشرف الذي كنتُم تَنوون منحي إياه. أطلب منك تجنيد سبعة آلاف جندي في هذه المدينة»، ثم صمت قليلًا وأضاف: «السبعة آلاف جندي لن يَخرُجوا من المدينة يا سيدي.»
لمح رولاند نظرةَ خوف في عينَي رئيس الأساقفة، ولكنه أخفاها سريعًا، ولكن كانت نبرة سيادته ثابتة كعهده دائمًا، حين سأله:
«ماذا تقصد بقولك ذلك؟»
«أقصد أن مدينة ماينتس أقرب إلى فرانكفورت من كولونيا أو تريفيس.»
«لا يُمكن إنكار تلك المعلومة الجغرافية. ولكن ماذا سأفعل بعشرة آلاف رجل بمجرَّد وجودهم هنا؟»
«سيدي، إنني معجب بالانضباط الصارم الذي يتمتَّع به رجالُك، وفي تقديري أن عبقرية التنظيم التي يتمتعون بها يستمدونها من تلك الخاصة بضُباطك، والذين بدورهم، حسبما أعتقد، يستمدُّونها من عبقريتك التنظيمية. فأنا أفضل مَن يعلم حالة الارتباك التي جلبتها جهود الإغاثة هذه على المدينة. وأقترح أن يقسِّم ضباطك الأكفاء هذه المدينةَ إلى أقاليم ويُعلنوا الأحكام العرفية، ويُقدِّموا لكل مواطن حصصَ الطعام وكأن كل رجل وامرأة وطفل ينتمون لأفراد جيشك. وفي غضون ذلك يجب إعفاء التجار من تلك المهمة لأنَّهم أثبتوا أنهم ليسوا أهلًا لها، وليُركِّزوا جهودهم على التجارة. ففي أفضل الأحوال لا بد أن تكون تلك الجهود الإغاثية مؤقتة. المهمة الأساسية التي لا غِنى عنها الآن هي فتح نهر الراين. سيتولى التجار تحميل كل السفن التي ترسو فوق النهر بالبضائع، وسيُرافق جيشا تريفيس وكولونيا هذا الأسطول إلى المدينة الأخيرة بأمان. وفي أثناء عبورهما سيقدِّمان إنذارًا لمُلَّاك كل قلعة يأمرانهم فيه بالمشاركة بالأموال التي يملكونها للمساهمة في المزيد من جهود الإغاثة لفرانكفورت حتى تنتعش التجارة من جديد، وسيُؤكدان على كلٍّ منهم أنه حال اعتدائه على تلك التجارة ستُصادَر قلعته وسيكون مصيره السجن أو الشنق.»
«أرى أنها خطة جيدة يا صاحب السمو، وأنا أُؤيدها عن طيب خاطر إن ضمنت لي دعم زميليَّ، اللذين أرى أنهما رفضاها بالفعل للأسف.»
نظر سيادته إلى كلٍّ منهما، لكن لم يرجع أيٌّ منهما عن قراره.
تابع رئيس أساقفة ماينتس قائلًا: «أيها الأمير رولاند، يبدو أننا وصلنا إلى طريق مسدود، وأخشى أن سبب ذلك هو عدم ثقة أيِّ إنسان في أخيه الإنسان، وهو ما كنت تأسف له قبل قليل. ولكنَّني أعترف بأنني سعيد جدًّا بأسلوب تفكيرك الذي اتضح في أثناء حديثك معنا، والآن بعد أن دفعتنا نوايانا الطيبة المتبادَلة إلى طريق مسدود، أرغب في معرفة المقترحات الأخرى التي تحرص على تقديمها.»
«بكل سرور يا سيدي. أنا أقترح أن تشرعوا على الفور في إجراءات انتخاب الإمبراطور؛ لأن التأخير في اختياره قد تسبَّب بالفعل في قلق وتوتر يهدِّد سلام هذا الوطن.»
«أها، الكلام أسهل من الفعل، يا صاحب السمو. فبعد استبعادك للشخص الذي أجمعنا عليه سابقًا، أرى أنه يجب عليك على الأقل اقتراح بديل.»
«مرة أخرى يسعدني ذلك يا سيدي. يجب عليكم اختيار رجلٍ هادئ ومُعتدلٍ، وإن أمكن، شخص معروف جيدًا لدى مُواطني فرانكفورت ويحظى بتقدير الجميع في كل مكان. ويجب أن يكون رجلًا في منتصف العمر …» بدأت عينا رئيس أساقفة ماينتس تضيق من جديد وشفتاه تطبقان. فأردف رولاند قائلًا: «وإن كانت لديه خبرة في شئون الحكم فسيكون ذلك أفضل. والشخص المتزوِّج بالفعل سيكون أفضل من الأعزب، وهكذا لن تُثار أيُّ اعتراضات تخصُّ المرأة التي سيتزوجها؛ فأنا لست بحاجة لتذكيركم بالاعتراضات التي أُثيرت في حالتي. يجب اختيار رجل ذي عقل راجح، لن يُجازف بالعبث بالمُثُل العليا للشعب الألماني، مثلما قد يفعل شابٌّ أصغر وأقل اتزانًا. ولا شك أنه يجب أن يكون أحد أبناء الكنيسة الصالحين …»
صاح رئيس أساقفة ماينتس بصرامة قائلًا: «حسبك! حسبك! إننا مرة أخرى بصدد نموذجٍ أخلاقيٍّ يستحيل تجسيده. هل هناك شخص كهذا في ذهنك أو أنك تمنحنا فقط مشورة مثالية؟»
قال رولاند: «على الرغم من تشاؤمي، فأنا ما زلت أُحسن الظن بأبناء وطني وأومن بأن الكثيرين منهم تَنطبِق عليهم هذه الأوصاف. ولا يسعني تقديم أيِّ توصية لمن هم أفضل منِّي في الحُكم على الآخرين، ولكن كمثال فقط، يُمكنني ذكر كارل دوق هيس العظيم؛ فهو يَستوفي جميع الشروط التي ذكرتُها.»
أخذ الرجل العجوز الجالس في مقعده والشاب الواقف يُحدِّق كلٌّ منهما في الآخر باهتمام شديد، لفترة بدا في أنظار مراقبيهما أنه كان يسودُها التوتُّر والإثارة. عرف رئيس أساقفة ماينتس على الفور أنَّ الأمير قد علم بنواياه، ولكنه كان يَجهل كيف علم بذلك، وبأن جلالته هو الشخص الوحيد الذي يعلم سبب تأجيل الانتخابات، إلا أن الأمير نقل هذه المعلومات مُباشرة إلى أكثر شخص معنيٍّ بالأمر من بين الحضور، والذي أرادَهم أن يظلُّوا على جهلهم بما يدور، دون أدنى تلميح بالوضع الفعلي للأمور.
تأكَّد إلى حد كبير الانطباع الأول الإيجابي الذي شكَّله رئيس الأساقفة عن رولاند في إيرنفيلس خلال هذا الاجتماع. وحتى أكثر الرجال صرامة يتأثَّر بنحوٍ أو بآخر بالإطراء، إلا أن رولاند في إطرائه نجح في توضيح صدقه في هذا الثناء.
تحدَّث رئيس أساقفة ماينتس أخيرًا قائلًا: «فلنفترض أننا انتخبنا الدوق العظيم كارل إمبراطورًا. فماذا بعد؟»
«لا داعيَ للسؤال يا سيدي، ستنسحِب قوات الجيش الثلاث المتنازِعة التي تحتل فرانكفورت حاليًّا، وسينتقل خط الخطر إلى الجانب الأيمن.»
حينئذٍ طرح رئيس أساقفة ماينتس السؤال الذي كان يراه مُهمًّا. وحاول من جديد دفع الشاب للإفصاح بوضوح عما يعرفه بالفعل.
«هل لسموِّك أن تمنَحنا سببًا يجعلك تخشى الخطر من وجود القوات التي يقودها ثلاثة رجال ودودون مثلي أنا وزميلاي؟»
«ما أخشاه هو اضطرار أيٍّ منكم لاستخدام سُلطته مُكرهًا، ويُمكنني تفسير مخاوفي بنحوٍ أفضل من خلال الاستشهاد بحادثٍ أشرت إليه بالفعل. لم يكن لديَّ أيُّ نية لحرق قلعة فورستنبرج، ولكنَّني اضطررتُ لذلك فجأة. لقد كنت مسئولًا عن سلامة رجالي. ولم أتردَّد لحظة واحدة في إحراق القلعة. لا مجال للشك في النوايا الطيبة لمعالي رؤساء الأساقفة الثلاثة، ولكن في أيِّ لحظة قد يؤدي شجار في الشارع بين جنود، لِنقُل رئيسَي أساقفة كولونيا وتريفيس، إلى اندلاع أزمةٍ لا يُمكن قمعها إلا بإراقة الدماء. هل اتضحت لك وجهة نظري؟»
«أجل يا صاحب السمو، اتضحت، ووجهةُ نظرِك معقولة. إنني سأمنح كامل ثقتي لإمبراطورنا القادم بحيث سأسحب قواتي طواعية من فرانكفورت على الفور. علاوة على ذلك، سأفتح نهر الراين بأن أُرسل على ضفتَيه الإنذار الذي اقترحته، ليس بدعم من جيشي وإنما باسم رئيس أساقفة ماينتس، وسأكون مُهتمًّا بمعرفة أيُّ بارونات نهر الراين سيتجرأ على الاستهزاء بهذا الاسم. هل ستَقبل مساعدتي أيها الأمير رولاند؟»
«أقبلُها يا سيدي بامتنان عميق، وأعلم أنها ستثبت نفعها.»
نهض سيادته واقفًا في مكانه.
«لقد قلتُ بأن هذا ليس مجلسًا انتخابيًّا. ها أنا ذا أقف لأُعلن أنني كنت مخطئًا. لقد اجتمعنا، نحن الأمراء الناخبين، هنا ونحن نشكِّل أغلبية المجلس. لذا أقترح عليكم انتخاب الأمير رولاند، نجل إمبراطورنا الراحل.»
صاح رولاند رافعًا يده معترضًا: «سيدي، انتظر، أنت لا تعرف كلَّ شيء بعد.»
هتف رئيس الأساقفة منزعجًا: «ليُلهمني الله الصبر! إننا لسنا بكهنة اعتراف. فلا تخبرنا الآن بأنك ارتكبت جريمة قتل!»
«لا، يا سيدي، ولكن لا بد أن تَعلم أنني تزوجتُ السيدة هيلديجوندي، كونتيسة فون ساين، التي رفضتَ سيادتُك بالفعل أن تصبح إمبراطورة.»
«حسنًا، إن وافقتَ على السيدة، فلا بأس. أظن أنك اتخذتَ قرارًا ممتازًا.»
حان الآن دور رئيس أساقفة كولونيا المذهول ليهبَّ واقفًا.
«ما يقوله سموُّه مستحيل. كانت سيدة ساين في رعايتي منذ دخولها فرانكفورت، وأقسم بأنها لم تُغادِر قصري أبدًا!»
«لقد تزوَّجنا بالأمس في الساعة الثالثة، في كنيسة الآباء البندكت، وبحضور أربعة منهم. لقد غادرنا قصرك، يا سيدي، من بابٍ في سور حديقتك بالقرب من المنزل الصيفي، وزوجتي موجودة في الغرفة المجاورة لتلتمسَ عفوَك.»
سقط رئيس أساقفة كولونيا في مقعده ومرَّر يده فوق جبينه وبدا حائرًا. وبدا أن الوضع يروق لرئيس أساقفة ماينتس.
«تمنَّيت لو لم تَبُح سموك بهذه المعلومة حتى أتأكد من أن أخي رئيس أساقفة تريفيس سيُصوِّت معي كما وعدني. أخي رئيس أساقفة تريفيس، لقد سمعتَ اقتراحي. هل يمكنني الاعتماد على موافقتك؟»
لقد انهارت كل خطط رئيس أساقفة تريفيس فجأة، لدرجةِ أنه لم يستطِع فعْل أي شيء في مواجهة نظرة رئيس أساقفة ماينتس الملحَّة سوى التلعثم معلنًا إذعانه له.
وقال بصوتٍ لا يكاد يُسمع: «أمنح صوتي للأمير.»
«وأنت يا معالي رئيس أساقفة كولونيا؟»
فأجاب بفظاظة قائلًا: «أوافق.»
«وكونت بالاتين؟»
رد الأخير بصوتٍ مُدوٍّ: «أوافق. إنه خيار يحظى بموافقتي التامة، وأنا أتحدث الآن عن الإمبراطورة والإمبراطور معًا.»
صاح رئيس أساقفة ماينتس مُناديًا: «دورنبرج!»
فُتحت الأبواب على الفور وظهر رئيس رومر الخاضع.
«هل المأدبة جاهزة؟»
«جاهزة وفي انتظار وضعها على الطاولة يا سيدي.»
«ونبيذا النافورة؟»
«لا يَنقص سوى فتح الصنبور يا سيدي.»
«أعِدَّ المأدبة، وافتح الصنبور؛ وبما أن الإمبراطور الجديد غير معروف للعامة، فلتأمر الرسل بالانطلاق في البلاد ومعهم الأبواق ليُعلنوا انتخاب رولاند أمير فرانكفورت إمبراطورًا.»
«سمعًا وطاعة، يا سيدي.»
قادهم رئيس أساقفة ماينتس متجهًا إلى القاعة الإمبراطورية الكبرى، ونهضت الإمبراطورة الجديدة من مقعدها ووقفت في مكانها، وكان وجهها الأبيض الشاحب يُشبه الزي الذي ترتديه. تقدَّم إليها رئيس أساقفة ماينتس وانحنى برأسه الأشيب فوق يدَيها التي أمسكها بين يديه.
وأعطاها أول تلميحٍ بما آلت إليه الأمور، فقد قال بنبرة جادة: «جلالة الإمبراطورة، أُهنِّئك على زواجك، فقد هنأتُ زوجك بالفعل.»
قالت بنبرة متردِّدة: «سيدي رئيس الأساقفة، لا يُمكنك أن تلومني على طاعتي لك.»
«أعتقد أن أوامري البائسة كانت ستُصبح في مهبِّ الريح لولا العون الذي قدَّمه لي جلالته.»
وتوارت التحيات التي قدَّمها الباقون وسط هتافات الحشود الهائلة التي ملأت رومربيرج. بدأ النبيذ الأحمر والأبيض في التدفُّق، وعلم العامة بما حدث. وفي الفترات الفاصلة بين صخب الأبواق، سمعوا أن أمير مدينتهم انتُخب إمبراطورًا، فتوجَّهت أنظار الجميع إلى رومر، وعلت الصيحات التي تهتف باسم الإمبراطور الصادرة من الجميع. شعر الحشود بأن عهدًا جديدًا قد أشرق.
قال رئيس أساقفة ماينتس: «أظنُّ أنه حتى يومنا هذا لم يظهر من تلك الشرفة إلا الإمبراطور، ولكنني أقترح اليوم أمرًا لم يَسبق له مثيل. دعِ الإمبراطور والإمبراطورة يظهران أمام العامة.»
أشار إلى السيد دورنبرج، وفتَح الأخير النوافذ الطويلة، ثم أمسك رولاند بيد زوجته وخرجا إلى الشرفة.