انقسام في صفوف عصبة الحدادين
لطالَما عاش الأمير رولاند حياة هانئة دون مسئوليات تُثقِل كاهله، قبل تلك الليلة التي أُيقِظَ فيها في مُنتصَف الليل. وعلى الرغم من تلقيه التعليم الأساسي الذي يُفترض أن يليق بشاب في مكانته، فقد اقتصر شغفه على دراسة أمرَين أساسيَّين، ورغم أن كلًّا منهما كان يَتعارض مع الآخر، إن جاز التعبير، فإن ذلك كان لصالحه تمامًا. كان رولاند فتًى شديد الهدوء، ولأمِّه الفضل الأكبر في ذلك، في ظل عدم اكتراث والده المخمور دائمًا. وهي أيضًا مَن وجَّهته للاهتمام بأدب بلاده، فأصبح قارئًا نهِمًا لمخطوطات الرهبان القديمة التي كان يعجُّ بها القصر. ولكنه انشغل بوجه خاص بقصص وأساطير نهر الراين. وأصبح مفتونًا بمزيج التاريخ والخيال والخرافات الذي يراه منسوجًا بين سطور هذه الأوراق المنمقة بعناية والمزخرفة بأحرف أولى ذهبية وقرمزية وزرقاء اللون، وامتلأ شوقًا لرؤية تلك القلاع العاتية الواقعة على منحدرات الجبال على جانبي النهر، ما دفعه لاحقًا للارتحال إلى بون من إيرنفيلس، بعدما حرَّرته براعته وجشع حارسه من العبودية الهيِّنة جدًّا التي فرضها عليه رئيس أساقفة ماينتس.
ولو استحوذَت قراءة تلك المجلَّدات على اهتمامه بالكامل، لأصبح فقط قارئًا نهِمًا حالمًا، عقله متشبِّعًا بالتصوُّف الرُّومانسي والعاطفي الذي ظلَّ مُسيطرًا على ألمانيا حتى يومِنا هذا، ونظرًا لأنه لم يُبدِ اهتمامًا بأيٍّ من أنشطة الصِّبا، ربما كان سيُعاني جسده أثناء تطوُّر عقله.
ولكن لحسن لحظ، لم يحدث أيٌّ من هذا؛ فقد تولَّى رينالدو تعليمه، وهو أمهر مُعلِّم سيف أنجبتْه الأرض حتى هذه الفترة. كان رينالدو إيطاليًّا من ميلانو، أغرته الأموال بأن يَعبُر جبال الألب آتيًا إلى فرانكفورت لتولِّي مُهمة تعليم نجل الإمبراطور. كان رجلًا فاضلًا ومهذَّبًا وأحبَّه رولاند منذ الوهلة الأولى، وأظهر براعة في فنون المبارزة بالسيف مما دفع الإيطالي للافتخار به ليس فقط لما أثمَر عنه المجهود الذي بذلَه في تعليمه ولكنه أحب الشاب كابنه أيضًا.
عبَّر الإيطالي عن ازدرائه البالغ لصناعة السيوف في ألمانيا. وقال إنَّ الأسلحة الرديئة التي يصنعها الحدَّادون في فرانكفورت افتقَرت إلى القوة وليس المهارة في استخدامها. فالفارق بين الصناعة الإيطالية والألمانية أشبه بالفارق بين اصطياد أسماك السلمون بصنارة رقيقة وحشرة دقيقة وضرب الأسماك بالهراوات حتى الموت كما يفعل البحَّارة في منطقة اصطياد الأسماك المُسمَّاة واج على نهر الراين بالقرب من سانت جوار.
أنصت رولاند لحديثه باهتمامٍ بالِغ ولم يُهاجم الهِجاء اللاذع الذي نال من أسلحة بلاده واستخدام أهلها الأخرق لها، ولكن صمْته لم يكن تعبيرًا عن مُوافقته لهذا الرأي؛ فقد شكَّل آراءه الخاصة، مُعتقِدًا أن قوة السيف لها بعض المزايا التي تجاهَلَها الإيطالي؛ لذا، عندما اهتم بدراسة هذا الشأن استطاع أن يصنع سيفًا بنفسه، وتميَّز هذا السيف بالمتانة رغم افتقاره إلى صلابة السلاح الألماني، وكان سهل الاستخدام كالسيف الإيطالي، ولكنه ليس ضعيفًا مثله.
وهكذا حدث أن رحل الشاب رولاند من القصر وتعرَّف على صانعي السيوف. وقد سمحت له ممارسة المبارزة بتدريب كل عضلة في جسده، وجعلته حلقات التدريب المستمرة مع رينالدو متمرسًا في استخدام السلاح، وتميزت ذراعه اليمنى واليسرى بالقوة ذاتها؛ فأصبح رياضيًّا من الطراز الأول واتَّسم بالقوة والرشاقة، وتطوَّرت قُدراته الجسدية عمومًا، وليس في اتجاه واحد.
ولكن للأسف في هذه الأثناء ظلَّ رولاند جاهلًا بشئون البلاد، وهو الموضوع الذي لا تعلَم والدته عنه شيئًا. أما الإمبراطور فقد انشغل تمامًا بشرب الخمر بدلًا من تأدية واجبه المتمثِّل في أن يصبح معلِّمًا لولده، تاركًا الأمور تتَّخذ منحًى كارثيًّا، ومُرخيًا قبضته على السُّلطة، وأصبحت الدَّفة في أيدي رجال أقوياء ولكنَّهم ليسوا أهلًا للثقة. وتعلَّم رولاند القليل عن أمور السياسة خلال رحلاته السرِّية إلى المدينة للحديث مع صانعي السيوف؛ فقد ركَّزت محادثاته مع هؤلاء الحرفيين على أعمال الحدادة. وصادف رولاند بين الحين والآخر تمرُّد الغوغاء، لكنه لم يعلم سببًا لهذا التمرُّد، وبطبيعة الحال لم يكترث كثيرًا بالأمر، ولم يُدرك إلا كرهه المتزايد للمدينة واشمئزازه من سكانها. وقال لنفسه إنه ذات يوم حين يَمتلك زمام أمره سيتقاعَد في قلعة ريفية يمتلكها والده، وهناك سيُكرِّس حياته للعمل الذي يُوافق رغباته.
لكنه كان على وشك أن يتلقَّى درسًا قاسيًا مفاده أنه مهما بلغت مكانة المرء فليس بوسعه الانفصال عمَّن حوله. إنه لم يكن مدركًا للجلَبة التي دارت حول اسمه، ولا المصير القاتم الذي انتهى بشنق القادة الذين اختارُوه ليُصبح قائدهم الأعلى. وعندما كان نائمًا وغائبًا عن الوعي، أُيقِظ في منتصف الليل ليرى ثلاثة رجال مسلَّحين ملتفين حول سريره، وأيقظتْه الصدمة أكثر مما أيقظته قبضة الأيادي الغريبة التي أطبقَت على كتفه. وفي جولة القارب تلك الليلة لم يتفوَّه بكلمة وظلَّ غارقًا في أفكاره. لقد سمع والدته تتوسَّل من أجله ولكن رحلته لم تؤجَّل ولو دقيقة. كان جليًّا أنها لا حيلة لها. وحينها كانت هناك قوة تفوق قوة العرش. وسمعَت أمه كلماتٍ هدَّأت من مخاوفها؛ إذ سمحت له أخيرًا بالذهاب دون المزيد من الاعتراض، لكنها بكَت قليلًا واحتضنته بشدة. ولم يُعامله أولئك الذين اصطحبوه عبر رافد ماين وصولًا إلى نهر الراين وانتهاءً بإيرنفيلس محطتهم الأخيرة، بخُشونة أو وقاحة، بل عامَلُوه بكل لطف واحترام، إلا أن ذلك لم يُخرِج رولاند عن صمته على مدار الرحلة الطويلة؛ فقد أزعجته تلك السلطة الجديدة غير المرئية التي لا يمكن مقاومتها والتي كانت لديها القدرة على فعل ما تشاء معه.
وفي قلعة إيرنفيلس لم يَجِد أيَّ سجنٍ مُشدَّد في انتظاره. كانوا يُعاملونه كضيف مُرحَّب به لمضيف خفي. وكان لمُحادثاته مع حارسه الثرثار، الذي كان مُتابعًا جيدًا للأحداث التي تدور، الفضل في الإيقاظ التدريجي لوَعي الأمير الشاب وامتلاكه بعض الدراية بشئون البلاد. فهو الآن على علمٍ بالحالة المُزرية التي أصبحت عليها العاصمة، بسبب تصاعد عمليات الابتزاز التي يُديرها البارونات اللصوص على طول نهر الراين. سأل رولاند مُرشده عن السبب الذي جعل التجار لا يُرسلون بضائعهم عبر طريقٍ آخر، وهو تساؤل بديهي جدًّا، لكنه أخبره بعدم وجود طريق آخر. فهناك غابة ضَخمة تمتد أغلب الطريق بين فرانكفورت وكولونيا، ولا تتوافَر أيُّ طرُقٍ برية هناك، وحتى الطرق التي شيَّدها الرومان اندثرت ونبتَت فيها الأشجار العالية؛ فالطبيعة تُدمِّر صنيع الإنسان حين يُهمله، وتستعيد للغابة نفوذها.
تابع الحارس حديثه قائلًا: «في واقع الأمر، خلال السنوات العشر الماضية، أصبحت الأمور كارثية، لعدم وجود قبضة قوية للسيطرة على العاصمة. يحتاج النُّبلاء والخارجون عن القانون على حدٍّ سواء إلى قبضة قوية. نُريد فريدريك بربروسا آخر؛ فربما تكون الشُّعلة وحبل المشنقة في يد الجلاد، حال استخدامهما بحكمة، هما السبيل لإنقاذ البلاد.»
كانت إيرنفيلس تقع تحت سيطرة رئيس الأساقفة، ولم تكن وكرًا للقراصنة؛ لذا كان بإمكان الحارس أن يتحدَّث بهذا الأسلوب كما يحلُو له، ولو أنه أفصح عن هذه المشاعر على نقطةٍ أبعد على نهر الراين، لجرَّب بنفسِه حبل المشنقة. قال رولاند وكان قد تعرَّف بحلول ذلك الوقت على مَن يَحبسه:
«لماذا لا يضع رؤساء الأساقفة الثلاثة حدًّا لذلك؟ فهم يَمتلكُون السلطة.»
هزَّ السجان العجوز كتفيه.
ثم قال: «رئيس أساقفة ماينتس العظيم كان سيفعل ذلك فورًا لو كان بمُفرده، ولكن لطالَما كان رؤساء أساقفة تريفيس لصوصًا، وكولونيا وضعُها أفضل قليلًا؛ لذا يبقى الحال على ما هو عليه. لن يَسمح أيُّ اثنين منهم للثالث بفعل أي شيء خوفًا من أن يَنفرِد بالسلطة وتختلَّ بذلك توازُنات القوى، وهو ما أؤكد لجلالتك أنه تغيَّر بنحو كبير. فكل واحد من هؤلاء الثلاثة يَتظاهر بالولاء لأحد البارونات، وعلى الرغم من أن رؤساء الأساقفة لا يَفرضون بأنفسهم ضرائب مباشرة على التجار الناقلين بضائعهم عبر نهر الراين، فإن أنصارهم الطائشين هم مَن يفعلون ذلك، مما يَجعلُنا نصلُ إلى طريق مسدود.»
وهكذا تعلَّم رولاند ما لم يكن ليتعلَّمه في القصر، ودفَعَه مجرد سؤال عارض إلى التفكير كثيرًا والوصول لاستنتاجات معيَّنة. وتوصَّل إلى فكرة طموحة لفتح نهر الراين وقضى وقته في جمْع المعلومات ووضْع الخطط.
وبعد مضيِّ اثنتَي عشرة ساعة على تسلُّم الخمسمائة تالر من التاجر، أتى مرة أخرى إلى الباب الذي بات مألوفًا له الآن في شارع فارجاسه. وفي الغرفة الموجودة بالطابق الأول وجد السيد جوبل وبصُحبته رجلٌ قصير بدين، كثيف اللحية، مسفوع، والذي كان واقفًا وبيده قبَّعة، وكان التاجر يعطيه التعليمات النهائية.
صاح السيد جوبل بابتهاج قائلًا: «صباح الخير سيد رولاند.» ولم يُبدِ أيَّ استياء من معاملته ليلة أمس، ويبدو أن ضوء النهار تجدَّدت معه الثقة بأن الشاب ربما ينجح في مهمته. كان التاجر واثقًا ويقظًا وعازمًا، وبدا أن شعوره بانعدام الثقة قد تلاشى تمامًا. ثم قال: «هذا هو القبطان بلومنفيلس، الذي عيَّنتُه مسئولًا عن السفينة، والذي جمع رجال طاقمه الذين يُمكنه الاعتماد عليهم، ولكن بالطبع، يجب ألا تتوقَّع منهم القتال.»
أجاب رولاند قائلًا: «بالطبع لا، سأتولَّى أنا أمر هذا الجزء من المهمة.»
تابع السيد جوبل توجيهَ حديثه إلى القبطان بلومنفيلس قائلًا: «والآن، هذا الشاب الذي أمامك هو القائد. وعليك أن تُطيعه في أيِّ أمرٍ تمامًا كما تطيعني.»
أومأ القبطان برأسه دون أن يتفوه بكلمة.
وتابع التاجر قائلًا: «حسنًا أيها القبطان، لن أُبقيَك أكثر من ذلك؛ فلا بد أنك متشوِّق لرؤية البالات وهي تصطف على سفينتك كما تحب.»
هنا انصرف القبطان، وأدرك رولاند أنه أحب هذا البحَّار الفظَّ الكفْء لأداء هذا العمل؛ فمن الواضح أنه رجل أفعال لا أقوال.
وبعدها استدار السيد جوبل نحو رولاند.
وحدَّثه قائلًا: «لقد طلبتُ بالات من القماش تتجاوز قيمتها أربعة آلاف تالر لوضعها في السفينة.» وأردف: «جميعها مُرقَّمة، وأعطيتُ القبطان بيانًا بأسعار كلٍّ منها. أفترض أنك تَحتقِر تجارتنا، وبالطبع لم أفكِّر في مطالبة شخص في مثل مكانتك ببيع بضائعي؛ لذلك سيُشرِف بلومنفيلس على البيع عندما تصلون كولونيا؛ أعني إذا تمكَّنتم من الوصول إلى هذه النقطة.»
«معذرة سيد جوبل، ولكن لديَّ خططي بشأن ترويج بضائعك. فأنا أنوي بيعها قبل الوصول إلى كولونيا بكثير. وبالطبع إذا نجحتُ فسيتَّجه قاربك جنوبًا استعدادًا لرحلة العودة قبل كوبلنتز بقليل.»
نظر إليه التاجر بدهشة.
ثم قال: «خُطتك مستحيلة. كوبلنتز هي أقرب مكان يُمكننا بيع القماش فيه. ما تقوله يشير إلى أنك على عدم دراية بالنهر.»
«لقد قطعت جانبي النهر بين إيرنفيلس وبون سيرًا على الأقدام. وهناك العديد من القلاع الثرية قبل كوبلنتز.»
«صحيح يا سيدي، ولكن هل تعلم كيف أصبحوا أثرياء؟ ببساطة عن طريق سرقة التجار. ألا تَعلم أن قُطَّاع الطريق من النبلاء هم مَن يَسكُنون هذه القلاع؟ أنت بالتأكيد لا تتوقَّع منِّي بيع أقمشتي إلى البارونات؟»
«ولمَ لا؟ تذكَّر آخر مرة أبحرَت فيها سفينة محملة بالأقمشة في نهر الراين. تأمَّل قليلًا الحياة الشاقة التي يعيشُها هؤلاء البارونات وهم يَصطادُون الخنازير والدببة والغزلان، ويُدمِّرون بتهوُّر الغابة والأراضي التي تُغطيها النباتات. ولا بد أن هؤلاء النبلاء يَرتدُون الآن ملابس ممزَّقة أو جلود الحيوانات التي يَصرعُونها! وسيَسعدون برؤية قطعة قماش منسوجة جيدًا مرة أخرى.»
لدقيقة كاملة شعر التاجر بالذهول من هذا الحديث غير المنطقي الذي عبَّر عنه الشاب بجدية، ثم ابتسم.
وقال: «حسنًا أيها الأمير رولاند، لقد بدأتُ أفهمك الآن. إنه المقلب الناجح ذاته الذي فعلته بي ليلة أمس. بالطبع، إنك تعلم مثلي تمامًا أن البارونات لن يَشترُوا شيئًا. إنهم سيَنهبون تلك البضاعة متى سنحَت لهم الفرصة. ما تقولُه لا يعني سوى قولك لي بأن بيعَ البضائع ليس من شأني ما دمتَ ستُعطيني أربعة آلاف تالر.»
«معذرة، إنها أربعة آلاف وخمسمائة تالر.»
«يكفيني الأربعة آلاف فقط، أما الخمسمائة الإضافية فإنها مُقابل الخدمات المقدَّمة. والآن، هل بوسعي فعل أي شيء آخر لمساعدتك؟»
«نعم. أتمنَّى أن تُرسل رجلًا على ظهر أحد الخيول إلى لورش ليكون هناك في انتظار السفينة. واختر رجلًا تَثق به تمامًا ويكون قليل الحديث كالقبطان؛ لأنني آمل أن أرسل معه الأربعة آلاف وخمسمائة تالر، بالإضافة إلى بعض الذهب الذي أرجو منك الاحتفاظ به من أجلي لحين عودتي.»
«لكن يا أمير رولاند أنا لا أنتظر ذهبًا في لورش.»
«أرسل رجلًا تأتمنُه في حال إذا تلقَّيت الأموال. سوف تكون متشوقًا لمعرفة إلى أيِّ مدًى حققنا نجاحًا، وسيُمكنني على الأقل تزويده بالأخبار كلها.»
«ولكن في حال وجود ذهب، فلن يُمكنه العودة به بأمان إلى فرانكفورت.»
«أوه، بلى يمكنه، إذا استمر على الضفة الشرقية لنهر الراين. لا وجود لقلاع بين لورش وفرانكفورت إلا في إيرنفيلس، وبما أنها داخل نطاق سلطة رئيس الأساقفة فيُمكنه إذن العبور بأمان.»
«جيد جدًّا. سيكون الرجل بانتظارك في لورش. اسأل عن السيد كروجر في حانة ميرجلر.»
في تلك الليلة، في قبو القيصر، حظيَ أعضاء عصبة الحدادين بعشاء فاخر آخر. وكان الأمر مبهجًا تمامًا مثلما حدث في مأدبة الليلة السابقة؛ وربما أكثر، فالآن الشباب الرياضيون، لأول مرة منذ شهور، يشعرون بالشِّبع وكان كلٌّ منهم معه أموال في محفظتِه. وكلٌّ منهم ارتدى ملابس جديدة. ولم تكن هناك محاولة لتوحيد الزي، لكن كان هناك فقط يوم واحد لإعادة ملء خزانة الثياب، والذي تضمَّن الحصول على قطع ثياب جاهزة. ولكن لم يكن هناك أي مشكلة في ذلك، فلكلِّ فرع من فروع الحدادين ملابسه المُتعارَف عليها، والتي كانت مُتوفِّرة بجميع المقاسات لدى العديد من التجار لتلبية احتياجات الحِرَفيِّين، ابتداءً من المتدربين وحتى مُحترفي هذه المهنة. والرائع في الأمر أن الملابس كانت تُصنع بنحو يلائم الغرض الذي صُنعت لأجله. لم تكن فيها أي بهرجة زائدة، ولأنها مصمَّمة لتكون فضفاضة أتاحت للأطراف القوية أن تتحرك بحرية. وللتعامل مع المعادن كان مُرتدو هذه الثياب بحاجة إلى أقمشة منسوجة بإحكام، يُشبه ملمسها الجلد قدرَ الإمكان، وكانت رحلة قُطاع الطريق القاسية لا يُناسبها أقل من درع من زرد، فإن لم يكن كذلك، فمن الجلد نفسه.
خرج رولاند وهو يرتدي زي صانع السيوف المكوَّن من سروال وصدرية، وهتف رفاقه بصوت عالٍ عندما خلع عباءته وبدا للمرة الأولى وكأنه واحدٌ منهم بالفعل. فقبل هذه اللحظة كان هناك ما يُميِّز ثيابه عن بقية رفاقه، أما الآن فلا يوجد ما يميِّزه بصفته قائدًا لهذه الفرقة، وهذا ما أسعد الحدَّادين الأحرار.
في الليلة الماضية، بعد تصفية فاتورة مالك الحانة بسخاء، حصل كل فرد على ما يَزيد عن ثلاثين تالرًا. ثم روى لهم رولاند مغامرته مع التاجر، ونتيجة مناورته بالسيف بالقرب من رقبة السيد جوبل. كان لرولاند مهارتان جعلتاه محبوبًا لدى رفاقه؛ الأولى، قدرته على غناء أغنية جيدة، والثانية موهبته في سرد حكاية مُثيرة، سواء كانت إحدى مغامراته التي خاضَها بنفسه أو إحدى أساطير نهر الراين، أو إحدى قصص الأقزام الخرافيين الذين، كما يعلم الجميع، يطوفون الغابات المُوحِشة في المناطق الجبلية. أثارت روايته للأمسية التي قضاها برفقة السيد جوبل الكثير من الضحك والتصفيق، وزادت فرحتهم عندما جرى توزيع الأموال التي جرى الحصول عليها نتيجة للقاء على أفراد العصبة.
وفي تلك الأمسية عزم على الإفصاح عن أمرٍ أكثر أهمية؛ لذا، بمجرد انتهائهم من تناول الطعام، وانصراف مالك الحانة بعد إعادة ملء كئوسهم، نهض صانع السيوف الحديث العهد الجالس على رأس الطاولة من مكانه واقفًا.
«أعيروني انتباهكم بضع دقائق. على الرغم من امتناعي عن الإفصاح عن خططي للسيد جوبل، فإنني أظن أنه من واجبي أن أُطلعَكم على ما ينتظرنا بالتحديد، وإذا تحدَّثتُ ببعض الجدية، فهذا لأنني أُدرك أننا ربما لن نجتمع مجددًا حول هذه الطاولة. إننا سنُغادر فرانكفورت غدًا في مهمة محفوفة بالمخاطرة، ومن المُحتمَل ألا يعود بعضنا.»
احتجَّ كونراد كورزبولد على ذلك بقوله: «أوه، مهلًا يا رولاند، لا تفسد هذه الأمسية المرحة بذكر المآسي. إنه فعل قبيح، كما تعلم.»
كان كورزبولد أحد صانعي السيوف الفعليِّين الثلاثة، وكان رئيسًا للعصبة حتى حل رولاند محلَّه. كان الأكبر سنًّا بين رفاقه، وكان رجلًا طموحًا ومُتحدثًا فصيحًا وله تأثير كبير على رفاقه، وكان من الطبيعي أن يُصبح قائدهم. وما قاله بوجهٍ عام كان يُمثِّل رأي الجميع.
ولكن رولاند أصرَّ أن يتابع حديثه قائلًا: «سامحني هذه المرة يا كورزبولد.» وأردف: «فلا بد في هذه الفرصة، الأخيرة، أن أفصح لكم عما أنوي فعله بالضبط. أنا شديد الحرص على عدم تهوين المخاطر. ولا أودُّ أن يَتبعني أي شخص وهو معصوب العينين؛ لذلك أتحدَّث في بداية الأمسية، حتى لا يتحمَّس أحدكم ويتخذ قرارًا تحت تأثير النبيذ. أتمنَّى أن يكون كل فرد منكم قادرًا على تقدير المخاطر ويتَّخذ قراره قبل أن نَفترق الليلة، ويُخبرني بقراره بالمشاركة في المهمة من عدمه.
إليكم الاتفاق الذي توصَّلت إليه أنا والسيد جوبل: لقد وعدته أنني، بمساعدة رفاقي، سأُحاول فتح نهر الراين أمام حركة البضائع التجارية. وعلى أساس هذا الوعد أعطاني الأموال.»
علَتْ جولة من التصفيق الهائل عقب هذا الإعلان، ومع صوت قرع كئوس النبيذ الموجودة على الطاولة، وصيحات الجميع، لم يكن بالإمكان سماع أي صوت سوى هذه الجلبة. كان هؤلاء الفِتيان عاجزين عن تصوُّر المخاطر التي سيواجهونها؛ وحده رولاند ظل هادئًا وأصبح أكثر جدية مع استمرار الضجة. وعندما عاد الهدوء أخيرًا تابع حديثه بجدية بالغة تُناقض حالة المرح التي سيطرت على الحضور، وقال:
«يملأ السيد جوبل أكبر سفينة لديه ببالات القماش، وقد عيَّن طاقمًا كُفئًا وقبطانًا ماهرًا سيتولى أمر الملاحة. وستُغادر السفينة ليلة الغد عبر رافد ماين وتبحر مغادرةً فرانكفورت، دون جلبة قدْر الإمكان، بينما نحن سنَقطع البلاد سيرًا إلى أسمانسهاوزن، وسنَلحق هناك بهذه السفينة. ومن الضروري ألا تَنتشِر أيُّ أحاديث في فرانكفورت المُحبة للقيل والقال عما ننوي فعله، وبهذا سيستطيع القبطان بلومنفيلس الإبحار بقاربه خارج المدينة دون أن ترصده الأعين وقبل أن يعلو القمر في كبد السماء، أريد منكم أن تُغادِروا غدًا فرادى من بوابات مُتفرِّقة، وسنَلتقي في هوكست على بُعد ما يزيد عن فرسخين على طول النهر. وأنا واثق أنكم جميعًا تعرفون قصر الأمير الناخب الذي يُعد برجه الجميل علامة مميزة في جميع أنحاء البلاد.»
احتجَّ كورزبولد قائلًا: «أعترض على مكان هذا اللقاء.» وأضاف: «اجعله في حانة ناسور هوف، يا رولاند. فسنكون جميعًا عطشى بعد مسيرة فرسخين.»
أجابه رولاند بقوله: «أرجو ألا يَحدُث ذلك في هذا الوقت من الصباح؛ لأنني سأنتظركم الساعة التاسعة في ظل البرج. يُمكن السماح للرجال بالشرب حتى الثمالة طوال الليل؛ لأنني أنوي قيادة مجموعة يقظة من هوكست في الغد.»
صاح جون جينسبين قائلًا: «أوه، إنك مُتفائل يا رولاند.» وأردف: «امنحنا مُهلة حتى الثانية عشرة حتى تهدأ رءوسنا.»
كرَّر رولاند كلامه قائلًا: «اشرب كلَّ ما تتمنَّاه هذا المساء، ولكن غدًا سنبدأ عملنا، وأمامنا مسيرة يوم طويل؛ لذا فإن التاسعة وقت مناسب جدًّا للانطلاق من هوكست.»
هبَّ كونراد كورزبولد واقفًا، وصاح قائلًا: «يكفي نبيذ اليوم هذا اليوم فقط.» وتابع: «النبيذ، هذا الشَّراب الميمون، لا يُعكِّر صفوه سوى أمر واحد، وهو أنه لا يمكن أن يدوم حتى اليوم التالي، ولا يبقى منه سوى ألم الرأس وجفاف الفم. فما نفع أن تعرض علينا أن نشرب ما يحلو لنا الليلة إن كان ذلك لن يستمر أثره في صباح الغد؟ بالنسبة لي، فأنا أُعلِمُك يا رولاند أنني سأتوجَّه مباشرةً إلى ناسور هوف، أو إلى شون أوسيشت، فلديهم أفضل أنواع النبيذ.»
تجاهَلَ رولاند هذا الكلام، ولم يَردَّ عليه وواصل شرح خطته.
«سنَلحَق بالسفينة شمال أسمانسهاوزن، كما قُلت، ربما في الليل، وسنَعبُر النهر على الفور. القلعة الأولى التي أنوي اقتحامها هي مأوى اللصوص الشهير، راينستاين، الممتدة على ارتفاع مائتين وستين قدمًا فوق الماء. وعند نزول العصبة على بُعد فرسخ من راينستاين، سنتخفَّى جيدًا قبل الفجر في الغابة على مقربة من بوابات القلعة. وعندما تعلو الشمس في الأفق، سيُبحر القبطان بلومنفيلس بقاربه في النهر، وحين يقترب من راينستاين، ربما نَحظى بمتعة رؤية بوابات القلعة مفتوحةً على مصراعيها، مع نزول الرفاق من القلعة سريعًا إلى الماء. سنَغتنم فرصة نهبهم للسفينة وسننهب نحن القلعة، وسنُواجه مَن يقف في طريقنا، وفي مقابل القماش الذي سيَسرقونه سنَسرق ما نجده في الخزانة من ذهب أو فضة. ثم سنَسجنُهم جميعًا داخل القلعة، حتى لا يستطيعوا تحذير مَن بعدهم. وإذا أسرعنا يُمكننا حبسهم داخل الأقبية أو داخل الزنازين، وبعدها سنغادر القلعة ومعنا الغنائم، لكنِّي لا أنوي النزول إلى النهر حتى نجتاز فرسخًا أو أكثر من الغابة الجبلية، حيث يُمكننا الاختباء حتى تظهر السفينة، وحينها سنَلحق بها مرة أخرى.
القلعة الثانية هي قلعة فالكينبرج، والثالثة زونيك، وتقع كلتاهما على ضفة النهر ذاتها التي تقع عليها راينستاين، وعلى مسافة قصيرة من قلعتها، والخطة التي سنتبعها في كل قلعة منهما ستكون مُماثلة لما أوضحناه بالفعل؛ فلا داعيَ لتكرار ما قلته.»
صاح العديد منهم: «تدبير ممتاز»، ولكن جون جينسبين تحدَّث بلهجة ناقدة.
وتساءل قائلًا: «ألن يكون هناك قتال؟» وتابع: «توقعتُ أن تقول إننا بعدما سنحصل على الذهب، سننقضُّ على اللصوص ونسدد لهم الضربات.»
أجابه رولاند قائلًا: «مِن المُحتمَل أن ينشب القتال الذي تتمناه؛ فمسار مخططنا قد ينحرف في أي لحظة. أنا لا أنوي الهجوم، ولكنِّي أتوقَّع منكم أن تُقاتلوا قتال الأبطال إذا اضطررنا إلى الدفاع عن أنفسنا.»
وهنا نهَض كونراد كورزبولد وصاح قائلًا: «أنا أتفق مع السيد رولاند.» وتابع: «إن كنا نسعى لإكمال مسيرتنا إلى كولونيا فعلينا أن نتجنَّب البحث عن المتاعب؛ لأننا سنجد ما يكفي منها في انتظارنا في أي وقت. ولكن رولاند قطع حديثه عند أهم منعطف للأحداث. فما هي وجهة الذهب الذي سنَستولي عليه من القلاع؟»
«سيكون علينا أولًا دفع أربعة آلاف وخمسمائة تالر إلى السيد جوبل.»
صاح كونراد قائلًا: «أوه، اللعنة على هذا التاجر!» وأضاف: «إننا نُخاطر بحياتنا، ولا أفهم لماذا يجب أن يشاركنا الغنيمة. يكفيه ما سيجنيه من وراء جهودنا إذا فتحنا نهر الراين.»
«صحيح؛ لكن تلك هي الصفقة التي أبرمتُها معه. صحيح أننا نُخاطر بحياتنا، كما تقول، لكنه أيضًا يُخاطر ببضائعه، إلى جانب أنه وفَّر لنا السفينة والقبطان والطاقم. كما منحنا الخمسمائة تالر التي أصبحت في جيوبنا الآن. وعلينا أن نتعامل بنزاهة مع الرجل الذي دعمنا منذ البداية.»
صاح كورزبولد في غضب: «أوه، رائع للغاية، لتَفعل ما تراه مناسبًا؛ رغم أنني أرى أن التجار عليهم أن يُغدقوا علينا الأموال إذا نجحنا مكافأةً لنا على ما بذلناه. ولن أعارضك رغم استيائي الشديد. إلا أنني أودُّ التحدُّث إلى قائدنا بشأن أمرٍ واحد بدا أنه ليس من اللائق ذكْره بالأمس. لقد عرض عليه التاجر ألف تالر من الذهب، ولكنه أعاد نصفها إلى السيد جوبل، وهذا كرم بالغٌ منك، ولكنه جاء على حسابنا نحن. أعترف أنني أنفقتُ كل الأموال التي تلقيتها، وأصبحت الآن خالي الوفاض. وكنت سأسعد كثيرًا إن تسنَّى لي الحصول على هذا المبلغ (وعندما أتحدَّث فإنني أتحدَّث بالنيابة عن الجميع)، لو لم يكن إسراف قائدنا في غير محله، الذي على الرغم من أن المال كان بحوزته، لم يفكِّر في رفاقه، وأرجع الخمسمائة تالر لرجلٍ لم يرفض دفعها.»
أجابه رولاند ببعض الحدة: «سيد كورزبولد، تشهد هذه الغرفة على الليالي العديدة التي مرَّت علينا ونحن مُفلسون. وإن كنتَ أكثر خبرة مني في تدبير الأموال، فلمَ لم تفعل ذلك؟ أنا لا يسعني انتقاد رجل وضع ٣٠ تالرًا تحت تصرُّفي، دون أيِّ جهد مني.»
هنا ثارت ضجة كبيرة، وثار الجميع دفاعًا عن قائدهم، باستثناء كورزبولد الذي ظل واقفًا بعناد في مكانه، وجينسبين الذي كان جالسًا إلى جواره.
علا صوت إبرهارد فوق الضجيج، وصاح قائلًا: «أيُعقَل أن تُنفِق المال ثم تتذمر؟»
صاح كورزبولد: «أنا أتحدَّث لمصلحتنا جميعًا.» وأضاف: «ولمصلحة قائدنا، فشأنه من شأننا»، لكن تعالت أصوات الآخرين مجددًا ومنعوه من الحديث.
رفع رولاند يده اليُمنى تعبيرًا عن مطالبتهم بالصمت، وصمتوا بالفعل.
ثم قال: «يُسعدني إثارة هذا الجدال؛ لأننا لا نزال نمتلك الوقت الكافي لتعديل خططنا. موعد تحميل سفينة السيد جوبل بالبضائع لا يزال ليلة الغد، وبوسعنا إلغاء المهمة. لن أُطالب بالخمسمائة تالر التي تخصُّني، ولكن الخمسمائة تالر التي قدَّمها السيد جوبل لا بد أن تعود إليه إذا أجمعنا على ذلك.»
عند ذكر هذا الاقتراح، جلس كورزبولد في مكانه وبدا عليه بعض التفاجؤ.
تابع رولاند حديثه: «لقد غادرتُ هذه الغرفة على وعدٍ مني بتدبير الأموال في غضون أسبوع واحد، ولكني أخبرتكم بأن لديَّ شرطًا واحدًا وهو الحصول على دعمكم. لقد تعهَّدتُهم لي بأن تبذل جماعتنا أقصى ما بوسعها وتكون على قلب رجل واحد. وإن لم تُحافظوا على هذا العهد قولًا وفعلًا، فسأتنحَّى عن منصبي الحالي، ويُمكنكم انتخاب كونراد كورزبولد، أو جون جينسبين، أو أي شخص آخر تَرتضونه بدلًا منِّي. ولكن اسمحوا لي أولًا أن أعيد أموال السيد جوبل كاملة، وبعدها كما أوضحتُ يُمكن لكونراد كورزبولد التواصُل معه وعقد اتفاق أفضل من ذلك الذي توصلت إليه معه.»
تعالت صيحات تهتف: «هُراء! هراء»، «لا يمكنك التعامل مع معارضة بسيطة بهذا الأسلوب، يا رولاند»، «إننا جميعًا رفاق ولا يوجد تحفُّظ في حديثنا، كما تعلم»، «أنت قائدُنا ويجب أن تظلَّ كذلك».
هبَّ كورزبولد واقفًا للمرة الثالثة.
وقال: «لقد وضعتَني في موقف محرج يا صديقي رولاند، حقيقة ومجازًا؛ فجيوبي فارغة، ويستحيل أن أردَّ ما حصلت عليه. والحقيقة أنني أظن أننا جميعًا على الحال نفسه تقريبًا؛ لأننا كنا بحاجة لشراء المُعدات وغيرها من الأمور.»
قال أحدهم: «ونبيذ هوخهايم أيضًا»، مما أثار ضحك الجميع؛ فهم يعلمون عشق كورزبولد للنبيذ الفاخر. حتى هذه اللحظة كان رولاند يَحظى بتأييد الجمع، لكنه الآن سيتفوَّه بعبارة غير محسوبة ستغيِّر على الفور رأي جميع مَن بالغرفة.
فقال: «يُدهشني اعتراضكم على معاملتي للسيد جوبل بنزاهة؛ فجميعُكم تَنتمون لطبقة التجار، ومن المفترض أن تَنصُروه لأنه واحد منكم.»
لم يستطِع إكمال حديثه. وظلَّ واقفًا في مكانه، شاحبًا ومُصمِّمًا، وببساطة في حالة غضب شديد. إنَّ جهله بالأمور، وهو ما نبَّهه إليه التاجر نفسه أكثر من مرة، دفعه إلى جرح كبرياء مُستمعيه دون وعي منه. كان جون جينسبين هو مَن بدأ بالحديث معبِّرًا عن مشاعر الغضب التي سيطرت على الحشد.
بدأ حديثه قائلًا: «أودُّ أن أَعرف إلى أيِّ طبقة تنتمي أنت؟ هل تدَّعي أنك تنتمي لطبقة التجار؟ إن كنتَ كذلك، فأنتَ لست بقائدنا. دعني أخبرك يا سيدي بأننا حرفيُّون مهرة، ونَمتلك صنعةً تُمكِّننا من إنتاج أعمال رائعة، بينما التجار مجرد بائعين لمنتجاتنا. مَن إذن يَحظى بمكانة أعلى في المجتمع، ويستحقُّها عن جدارة، مَن يمتلك حسًّا فنيًّا ويستغلُّ عقله ويده لإنتاج أدوات جميلة ومفيدة في آنٍ واحد، أم البائع الذي يقف خلف منضدة البيع ويسعى للحصول على أعلى مُقابل مادي نظير بيعه الإبداعات التي نصنعها بأيدينا؟»
كان رولاند بنظرته الأرستقراطية يظنُّ أن أولئك الذين لا تسري في عروقهم دماء نبيلة يقفون على قدم المساواة، وأصابتْه الدهشة حين رأى شخصًا عاديًّا يدَّعي أفضليته على غيره. وهو نفسه شعر بأنه أرفع مكانة بكثير من الحاضرين، وبأن هناك فجوة بينه وبينهم لا يستطيع سَبر غورها، وأنه ربما ينزل إلى مستواهم استجابةً لرغبة لديه، ولكن عندما تتلاشى تلك الرغبة؛ فهو يعلم جيدًا أنهم سيكونون أول مَن يعترف بهذا الفارق فور علمهم بمكانته الحقيقية.
مرَّت عليه لحظات أوشك فيها على كشف هويته، والإطاحة بهم جميعًا معلنًا عن أحقيته بالعرش، ولكنه أدرك مدى تصميمه وعناده، وعزم على استجماع قوَّته والثبات على موقفه.
فقال حينما هدأت الأصوات واستطاع أن يُعيد الانتباه إليه: «أتراجع عما قلته.» وأضاف: «بل وأعتذر لكم عن الحماقة التي دفعتْني لقولِ ما قلته. لقد كان طيشًا مني، وأتمنَّى أن يسعني كرمكم وتنسوا هذا الكلام وكأنه لم يكن.»
مرةً أخرى عاد ثمانية عشر رجلًا إلى صفِّه من أصل عشرين رجلًا. ووجَّه رولاند اهتمامه إلى كونراد كورزبولد، مُتجاهلًا جون جينسبين، الذي جلس متوردًا بعد خطابه، مُندهشًا من قابلية تغيُّر مشاعر العديد من الحاضرين وكأنهم أمام كوريولانوس.
قال رولاند لكورزبولد بصرامة: «سيد كورزبولد، هل لديك أي ملاحظة نقدية أخرى؟»
فأجابه: «لا؛ ولكني مُتمسِّك بما قلتُه للتو.»
«حسنًا، أشكرك على تعبيرك الصادق عن تمسُّكك برأيك، ولكنِّي أود أن أعلن أنه لن يمكنك أن تصحبنا في مهمتنا تلك.»
ومن جديد فقَد رولاند ثقةَ مَن حوله، وسرعان ما جعلوه يدرك حقيقة الأمر.
وهنا تحدَّث إبرهارد قائلًا: «هذا استبداد.» وتابع: «إن لم يستطِع المرء البوح بما يجول في خاطره دون الخوف من استبعاده، فلا معنى لرفقتنا، وأنا أرى أن حسن الرفقة هي الضلع الأساسي الذي تَرتكِز عليه جماعتنا. ولا أذكر أننا مَنحنا من قبل أيَّ رئيس لجماعتنا السلطةَ التي تُخوِّله أن يستبعد أحد رفاقنا بمجرد كلمة منه. وأود أن أخبرك أيضًا يا رولاند بأنك تحمل أفكارًا غريبة عن المكانة والنفوذ. لقد كنتُ أحد أفراد هذه العصبة لفترة أطول منك، وربما يكون لديَّ فهمٌ أفضل للغرض منها. إننا لا نختار قائدًا يحكم مجموعة من الأتباع. في واقع الأمر، العكس هو الصحيح، وأصدقائي يُمكن أن يُصحِّحوا ما أقول إن أخطأت. فقائدنا هو خادمنا، ولا بد أن يتصرف وفقًا لمطالبنا. وليس له أن يضع لنا قوانين حاكمة، بل تحكمنا القوانين التي تُقرها العصبة وتتفق عليها غالبيتنا، أيًّا كانت هذه القوانين، والحمد لله أننا لا نملك الكثير منها.»
هتف الحشد بالإجماع: «هذا صحيح! هذا صحيح!» وعندما جلس إبرهارد جلس الجميع باستثناء رولاند، الذي ظلَّ واقفًا عند طرف الطاولة بوجهٍ شاحب وشفتين مَزْمُومتين.
وقال: «إننا على وشك مواجَهة بارونات نهر الراين القابعين داخل قلاعهم الحصينة. وحتى الآن نجح هؤلاء الرجال بالكامل في تحدِّي الحكومة والعوام على حدٍّ سواء. وكنتُ آمل أن نَعكِس هذا الوضع. والآن، ليذكر لي الأخ إبرهارد بارونًا واحدًا، على طول نهر الراين بأكمله، يَسمح لواحد من رجاله بالنقاش معه حول أيِّ موضوع أيًّا كان.»
أجاب إبرهارد: «أرجو ألا نتَّخذ سلوك هؤلاء اللصوص قدوةً لنا.»
«أود أن أُوضِّح لك يا إبرهارد أن هؤلاء اللصوص ناجحون. والنجاح هو ما نسعى إليه، وكذلك نسعى وراء جزء من هذا الذهب الذي أعلنَ السيد كورزبولد على نحوٍ مُثير للشفقة حاجته إليه.»
«إذن هل يعني هذا أنك تنظر إلينا بصفتنا جنودًا مثل جنود بارونات نهر الراين؟»
«بالتأكيد.»
«هل تدَّعي امتلاكك حق استبعاد مَن تشاء؟»
«نعم؛ أزعُم أنني أمتلك حق شنقِ أيٍّ منكم إن وجدت أن الأمر يقتضي ذلك.»
صاح إبرهارد وهو يجلس وقد هاله ما سمع: «أوه، يا إلهي!» وقال وهو يحدِّق في الجالسين: «أترك الأمر بين أيديكم، أيها السادة.»
وجاءت تعبيرات الجمع مُعبِّرة عن موافقتهم لإبرهارد.
قال رولاند: «أيها السادة، أصرُّ على أن يعتذر لي كونراد كورزبولد عما قاله، وأن يَعدني بعدم الإساءة على نحوٍ مُماثل مجددًا.»
أكد كورزبولد بحزم مماثل: «لن أفعل شيئًا من هذا القبيل.»
صاح رولاند قائلًا: «في هذه الحالة، سأُعلِن التنحي عن منصبي، وأطلب منكم تخويلي بإعادة المال الذي حصلتُ عليه من السيد جوبل. أنا أستقيل من منصب القيادة المزعومة.»
حينئذٍ أخرج الجميع محافظهم ووضعوها على الطاولة، ولكن بدا أنها لا تحوي الكثير. وجلس غالبيتهم في صمت وانتبهوا للأزمة التي حلَّت عليهم دون سابق إنذار. وهنا انتفض جوزيف جريسل بعد أن لاحظ أن أحدًا لم يفعل شيئًا، وبدأ يتحدَّث ببطء. فلطالما كان رجلًا قليل الكلام ويسمع أكثر مما يتحدث، ويثق رولاند فيه بشدة، ثقة بأنه الشخص الذي سينصره في وقت الأزمة، وكان عازمًا على تعيينه مساعدًا له وقت تنفيذ المهمة التي فشلت قبل أن تبدأ.
قال جريسل بحزن: «أصدقائي، لقد وصلنا إلى طريق مسدود، ولا يسعني الحديث، ولكنِّي لم أرَ أيَّ شخص آخر يُبادر لتقديم اقتراح. لا أدعي أنني غير متحيِّز في هذه المسألة. لقد نشأت هذه الأزمة بلا داعي بسببٍ ما أؤكد على أنه هجوم دنيء للغاية من جانب كونراد كورزبولد.»
تعالت الصيحات المُعارضة، لكن جريسل واصل حديثه بثبات دون الالتفات لهم.
«لا أحد ينكر أن كورزبولد تلقَّى المال من رولاند ليلة أمس وأنفقه اليوم، وها هو ذا الآن أصبح مُفلسًا وعاجزًا تمامًا عن رد الأموال بعد الوضع الذي آلت إليه الأمور نتيجة ملاحظاته الجائرة. فهو أشبه بالرجل الذي يراهن رغم علمه بأنه لا يملك مالًا لدفعه حال خسارته للرهان. إذا تنحَّى رولاند عن قيادة هذه العصبة، فسأتنحى أنا أيضًا، خجلًا من أن أظلَّ برفقة رجال يُؤيدون خدعة حاكها مقامر مُفلِس.»
صاح إبرهارد وهو يَنهض ضاحكًا: «عزيزي جوزيف، لقد أخطئوا في تسميتك صغيرًا. كان يجب أن تحمل اسم هيرودس حتى تُبرِّر قتلنا نحن الأبرياء.»
أجابه جريسل: «أنا أقف إلى جانب الرئيس، الأصغر سنًّا والأكثر كفاءة بيننا؛ مَن جلب لنا المال بينما لم نَفعل نحن شيئًا سوى الثرثرة.»
خاطبه إبرهارد وهو لا يزال يحاول تخفيف حدة الموقف بابتسامة قائلًا: «جوزيف، أنت لم تتحدَّث قط قبل الآن، وما تقوله ليس فقط بالغ القسوة وإنما هو كلام قائم على أسس خاطئة كما سأبين لك. إننا لم، ولا، نؤيد كورنراد كورزبولد فيما قاله في البداية. والآن أنت ترانا وكأنَّنا لسنا أفضل حالًا من اللصوص. ودعوتنا بالمقامرين المخادعين، والله وحده يعلم ماذا هنالك أكثر من ذلك، وبعدها تهدِّد بالانسحاب. دعني أصارحك بأن خطبتك اللاذعة ليست في محلها تمامًا. إننا جميعًا نُدين كورزبولد لانتقاده الكرم الذي أظهره رولاند في تعامله مع التاجر، وجميعنا دعمنا رولاند في تصرُّفه هذا وعبَّرنا عن ذلك بوضوح تام. لكن ما نَستنكرُه حقًّا هو أن ينسب رولاند لنفسه سلطة ليست له، فلا يحقُّ له استبعاد أي فرد يخالفه الرأي. وبالتأكيد أنت لا يمكنك تأييده في هذا الأمر مثلنا تمامًا.»
استأنف جريسل حديثه قائلًا: «لنُناقش الأمور واحدًا تلو الآخر، ودعونا لا نغفل نقطة بدء هذه المناوشات. أنا أعي تمامًا الموقف الذي نحن فيه الآن. لذا أُلقي باللوم على كونراد كورزبولد بسبب هجومه غير المبرَّر على رئيسنا فيما يتعلق بالاتفاق الذي عقده مع السيد جوبل.»
أجابه إبرهارد قائلًا: «وأنا أؤيد ذلك بسرور بالغ.»
تابع جريسل حديثه قائلًا: «والآن بما أننا لا نستطيع أن نطلب من قائدنا طرح هذا الاقتراح، فاسمحوا لي أن أقدِّمه بنفسي.» وأضاف: «أنا أقترح على مَن يتفق معي فيما قلته بشأن مَن يستحق اللوم على الموقف السابق أن يتفضَّل بالوقوف.»
وهنا نهض الجميع باستثناء رولاند وجينسبين وكورزبولد.
«حسنًا، بذلك نكون قد أزلنا العقبة التي تُعيق فهمنا الجيد للمسألة، وقبل أن أعلن رسميًّا إلقاء اللوم على السيد كورزبولد، أود منه إعادة النظر في موقفه وتصرُّفه بذكر حديث لا طائل منه.»
وإن كان رولاند يزعم أنه يمتلك سلطة استبعاد مَن يشاء من هذه العصبة، فأنا لن أدعمه.»
صاح الكثيرون: «إنه كذلك! إنه كذلك!»
تابع جريسل حديثه قائلًا: «معذرة يا رفاق، اسمحوا لي بالحديث.» وأضاف: «أنا لا أحاول إلقاء خطبة، وإنما أُحاول فضَّ الاشتباك الذي وقعنا فيه. وأتمنى ألا أسمع أي تصفيق أو همهمات حتى أنتهي من حل هذا الأمر. إنكم تقولون إن هذا هو الوضع. وأنا أقول إنه ليس كذلك. فقد منح رولاند للسيد كورزبولد الخيار إما أن يعتذر وإما أن يُعيد المال حتى يستطيع ردَّه للتاجر. ومن فهمي للموقف، أرى أن رئيسنا لم يُصرَّ على تنحية كورزبولد من العصبة؛ بل أعلن فقط عن تنحِّيه هو عن رئاستها. لقد منحتم كورزبولد الفرصة بأن يَدفعكم لموضع تكونون مُجبَرين فيه على الاختيار بينه وبين رولاند. وإن كنتم عقلاء فلا يُمكنكم إلقاء اللوم على كورزبولد وستختارونه بعدها بدلًا من رولاند. لهذا أدعوكم لتجديد الثقة في رئيسنا؛ ذلك الرجل الذي جلب لنا المال، ألف تالر كاملة، نصفُها كانت له، لكنه وزَّعها بيننا بالتساوي، بعد أن دفع الفاتورة لمالك الحانة ولم يَحجب تالرًا واحدًا، ولم يكن مُتعجرفًا لينسب — أعتقد أن تلك هي الكلمة التي استخدمتَها عزيزي إبرهارد — لنفسه قدرًا أكبر من المال. فقد قدَّم رولاند لنا نموذجًا رائعًا للصداقة الحقيقية بينما اكتفى كورزبولد بالثرثرة فقط، وأرى أنه يستحق منَّا جزيل الشكر والدعم التام. لذا دعوني أعرض عليكم الاقتراح الآتي: أرى أنه يجب أن يتقدَّم هذا الجمع بجزيل الشكر للرئيس تقديرًا لجهوده الأخيرة باسم العصبة، ونرجوه أن يبذل قصارى جهده لمساعدتنا في تنفيذ المهمة التي تنتظرنا الليلة.»
نهض إبرهارد وهو يضحك ضحكته المعتادة وقال: «جوزيف، إنك رجل حاد الذكاء، رغم محاولاتك المتكررة لإخفاء ذلك. أود أن أعبِّر عن إعجابي بحديثك، وعليه فأنا أؤيد اقتراحك.»
قال جريسل: «والآن أودُّ أن أطرح عليكم الاقتراح الذي سمعتموه جميعًا، وأطلب ممن يؤيدونه أن يتفضلوا بالوقوف.»
وقف الجميع على الفور باستثناء المتمردَين الاثنين، اللذين بدا أحدهما، وكان جون جينسبين، متردِّدًا ومُرتبكًا. وكاد أن يقف ولكنه جلس مرةً أخرى، ثم استقام واقفًا بعد أن حثَّه الرجل الذي بجانبه على ما يبدو، وقد بدا في حيرة من أمره. وحينئذٍ وجد كورزبولد نفسه وحيدًا فضحك ونهض ليُصبح التصويت بالإجماع. وعندما جلس الرِّفاق تحوَّل جريسل إلى الرئيس مخاطبًا إياه:
«سيدي، يقال إن الأمور بخواتيمها. يُسعدني أن أعلن لك أن تصويتنا بالإجماع يعبِّر عن ثقة عصبة الحدادين وشكرهم لجهودك، وقبل أن أدعوك لتقديم أي رد إن كنت ترغب في ذلك، فأنا أود أن أطلب من كونراد كورزبولد أن يلقي بضع كلمات، وأنا واثق بأننا جميعًا سنَسعد بسماع كلمته.»
نهض كورزبولد بشجاعة بالغة، على الرغم من أن دبلوماسية جوزيف جريسل أحدثت شقاقًا كاملًا بينه وبين الآخرين.
بدأ الحديث بنبرة غير مبالية قائلًا: «أود أن أقول إنني عندما ذكرتُ المال للمرة الأولى لم يكن ذلك إلا مزاحًا. ولكن صديقي رولاند أخذ ملاحظاتي على محمل الجد، ولم يَجدُر بي بالطبع إبداء استيائي، ولا داعيَ لإعادة سردِ ما تلا ذلك من أحداث. ولكن بالنظر إلى أن كلامي جاء مسيئًا وهو ما لم أقصده، فلا يسعني سوى الاعتذار عما قلته، والتراجع عن الأحكام السيئة التي أصدرتُها. فلا أحد هنا يشعر بالامتنان تجاه رئيسنا مثلي، وآمُلُ أن يقبل اعتذاري بنفس السماحة التي قدمتُ بها هذا الاعتذار.»
وهنا بدأ جريسل بالحديث قائلًا: «الآن حان دور رئيس العصبة»، وذهبت الكلمة مرة أخرى لرولاند.
فقال: «لا يسعني سوى التوجُّه إليكم بالشكر. الخصوم الذين نأمُل لقاءهم هم رجال شجعان وحازمون ولا يَرحمون. وإن كان منكم مَن يحمل لي ضغينة، فليُوجِّهها إلى هؤلاء البارونات، ويُعاقبني بعد انتهاء مهمتنا. دعونا نتغاضى عن أي خلافات عند مواجهتنا للخصم.»
أخذ الشاب عباءته وسيفه من على المشجب الذي عُلِّقا عليه، واتجه ناحية الطاولة ومد يدًا مُصافحًا كورزبولد، الذي صافحه بحرارة. وعند وصول رولاند إلى باب الغرفة استدار.
وقال: «أتمنى لكم ليلة سعيدة، أنا ذاهب للقاء القبطان بلومنفيلس، وسأعطيه التعليمات الأخيرة بشأن لقائنا عند نهر الراين. آمُل أن ألتقي بكم جميعًا في ظل برج الأمير الناخب في هوكست في التاسعة من صباح الغد»، وهكذا غادر الرئيس، ونظرًا لخبرته المحدودة، فهو لم يكن يعلم أن الكلمات المعسولة لا تكفي لإزاحة الغضب، وأن التمرد نادرًا ما تَقمعه المصافحة.