كونتيسة فون ساين ورئيس أساقفة كولونيا
كان النهار قد انتصف حين وصل أمير الكنيسة العظيم، رئيس أساقفة كولونيا، إلى قلعة ساين، مع عدد قليل جدًّا من الأتباع، مما أوحى فيما يبدو بأنه لم يأتِ لمُتابعة أيِّ شأن من شئون الدولة؛ لأنه في مثل هذه المناسبات كان يقود جيشًا صغيرًا. كانت الكونتيسة الشابة الجميلة في انتظاره أعلى درج القلعة، فحيَّاها بكياسة تَليق بأكثر الرجال تهذيبًا في هذا العالم، وليس بالرصانة التي تَليق برجل كنيسة عظيم. بالطبع، بدا بالنسبة إلى إدراك الفتاة السريع بأنه حين رفَع يدها الجميلة إلى شفتَيه زاد انحناؤه إلى أسفل، بمزيد من الإجلال أكثرَ مما تَحتمل مكانتاهما المختلفان في الحياة.
ثم صافَح الأب أمبروز بأسلوب الصديق الذي يَدنو من صديقه المقرَّب، ولا شيء في تحيتِه كان يُوحي بأي نوع من الاستياء على خلفية أي أحداث.
ولعلَّ الشعور بعدم الارتياح الذي انتاب كلًّا من الأب أمبروز العجوز والكونتيسة الشابة هيلديجوندي في حُضور رئيس الأساقفة جاء من إدراكهم للمُؤامرة، مما أسفر عن الرحلة المشئومة إلى فرانكفورت. ورغم ذلك، ظلَّ الاثنان طوال عصر ذلك اليوم مُثقلَين بشبحِ وقوع خطرٍ وشيك، والحالة المزاجية الجيدة لرئيس الأساقفة بدت بالنسبة إليهما أنها مُنتحَلة لهذا الموقف، وبالطبع لم يكونا مُخطئين في هذا الصدد. كان نيافة رئيس أساقفة كولونيا شديد الانشغال باجتماعٍ مُهم سيُعقد في اليوم التالي، وحماسُ رجل جادٍّ بالأساس في مثل هذه الأزمة عُرضة للمُبالَغة فيه.
تلقَّى الأب أمبروز، الذي كان يعيش وسط الرفاهية والرخاء بزهدِ ناسك، ودائمًا ما يتناول وجبته الضئيلة بمفرده في حجرته، دعوةً من رئيس الأساقفة ليحظى بمقعد على المائدة في قاعة الطعام.
قال رئيس الأساقفة: «بما أنك لم تُسدِّد لي نظرةَ لوم على استمتاعي بأشهى مأكولات قصر ساين، وتَقديري للنبيذ المنقطع النظير الخاص به، فلن أُعلِّق على غدائك المُكوَّن من حبوب البازلاء الجافة وإبريق الماء غير المُبهرَج الخاص بك. علاوة على ذلك، أود أن أستشير أمبروز، أمين مكتبة قصر ساين، المسئول عن سجلات هذا القصر، لا أمبروز المشرف على المزارع، أو الأب أمبروز الراهب.»
وخلال وجبة منتصف النهار، أدار رئيس الأساقفة دفَّة الحديث، بل واحتكرها أحيانًا.
قال: «بينما كنتِ تحت رعاية الأخوات الصالحات في دير نونينويرث، يا هيلديجوندي، تحدَّث رئيس الدير مرارًا عن براعتك في الدراسات التاريخية. هل سبق لكِ أن وجَّهتِ انتباهكِ إلى السجلات الخاصة بقَصركِ؟»
«كلا، سيدي الوصي. مما سمعتُه بالصدفة من أسلافي، سجلُّ أفعالهم لن يكون من نوعية القراءات المُوصى بها لفتاة شابة.»
قال رئيس الأساقفة موافقًا رأيها: «أها، هذا صحيح تمامًا، صحيح تمامًا.» وتابع: «عاش بعض كونتات ساين حياةً مُضطربة، وكان من الصعب إقناعهم بعدم التعرُّض لبضائع جيرانهم والمنقولات الخاصة بهم إلا بالقوة. لقد كانوا شديدي العناد في تلك الأيام الخوالي؛ إلا أن الكثير من النبيلات قد زَينَّ قلعة ساين واللاتي تَبرُز حيواتهن كإلهام يناقض خلفية الأحداث السوداوية لاضطرابات القرون الوسطى. هل سمعتِ من قبلُ عن جدَّتك، الكونتيسة العطوفة ماتيلدا فون ساين، التي عاشت قبل مئات السنين؟ في واقع الأمر، الخطابات التي كنتُ أقرؤها والمكتوبة بخطِّ يدها المُنمَّق يعود تاريخها إلى منتصف القرن الثالث عشر تقريبًا. لم أستطِع التحقُّق مما إذا كانت أكبر أم أصغر من رئيس أساقفة كولونيا في تلك الحقبة؛ ولذا أتمنَّى حشد اهتمام الأب أمبروز للبحث في سجلات ساين عن أي شيء يخصُّها. لقد أرسلت الكونتيسة رسائل كثيرة إلى رئيس الأساقفة الذي حفظَها بعناية، في حين أن الوثائق الأكثر أهمية بالنسبة إلى الأسقفية قُدر لها الضياع.
عكسَت خطاباتها إخلاصًا شديدًا للكنيسة، وعطفًا بالغًا تجاه أكبر رموزها في ذلك الوقت، رئيس أساقفة كولونيا آنذاك. ومن الواضح أنها كانت أعزَّ مُستشاريه، وفي أوقات العسر أبرزت مشورتها رجاحة عقلِ الرجال؛ هذا بالإضافة إلى الرقة وإحساس العدالة اللائق تمامًا بالنساء. لم أكن أتخيَّل مُطلقًا أن نجاح هذا الأسقف العظيم في منصبه كان إلى حدٍّ كبير بسبب المشورة النزيهة لهذه السيدة النبيلة. من الواضح أن الكونتيسة كانت تُمثل القوة الراشدة وراء نجاحه، وقد راقبت تقدُّمه المستمر بحبٍّ يُشبه ذلك الحب الذي يُغمَر به الابن الأثير. ومن حينٍ لآخر، كانت كتاباتها تُظهر عاطفة حانية جدًّا تُشبه عاطفة الأم لدرجةٍ جعلتني أعتقد بأنها أكبر بكثير من رجل الكنيسة العظيم؛ ولكن ثمة حقيقة بأنها عاشت بعده فترةً طويلة؛ ولذا من المُحتمل أن تكون أصغر منه سنًّا.»
«هل أنت بصدد نسج قصة رومانسية من أجلنا، يا سيدي؟»
ابتسم رئيس الأساقفة، وظلَّ للحظة واضعًا يده فوق يديها المُستقرة على المائدة بجواره.
وتابع قائلًا: «ربما قصة رومانسية، بيني وبين الكونتيسة التي من عصور سحيقة؛ إذ إنني حين أقرأ هذه الخطابات أستعين بالكثير من محتوياتها لإرشادي في حياتي، وأجد نصائحها حكيمة اليوم كما كانت في عام ١٢٥٠، وبالنسبة إليَّ … بالنسبة إليَّ …» — تنهَّد رئيس الأساقفة قائلًا — «تبدو أنها عادَت إلى الحياة مرة أخرى. أجل، أعترف باحترامي الشديد لها، وإذا كنتِ تُسمِّين ذلك قصة رومانسية، فهي بالتأكيد ذات طبيعة بريئة للغاية.»
«ولكن ماذا عن رئيس الأساقفة؟ سلَفُكَ، صديق ماتيلدا؛ ماذا حلَّ به؟»
«ليس لديَّ الكثير من الأدلة بخصوص هذا، يا هيلديجوندي؛ فخطاباته، إن كانت موجودة، مُخبَّأةٌ في مكانٍ ما بسجلات قلعة ساين.»
صاحت الفتاة قائلة: «غدًا، سأَرتدي أقدمَ الثياب التي أمتلكُها، وأُفتِّش في تلك السجلات المُغطَّاة بالأتربة حتى أعثر على الخطابات الخاصة بهذا الشخص الذي كان رئيس الأساقفة عام ١٢٥٠.»
«لقد أسندتُ تلك المهمة لشخصٍ أقل اندفاعًا. الأب أمبروز سيكون هو الباحث، سأتشارك معه حكمة الرءوس المُشتعلة شيبًا للتشاور بخصوصها قبل أن نعهد بقراءتها إلى الشابة النبيلة المتهوِّرة، الكونتيسة الحالية لقصر ساين.»
وضعت الشخصية المتهوِّرة المُشار إليها يدها بضربة حاسمة على المائدة، وصاحت بنبرة قاطعة قائلة:
«سيدي رئيس الأساقفة، سأقرأ تلك الخطابات غدًا.»
وضع رئيس الأساقفة يده على يدَيها مرة أخرى، ولكن هذه المرة تشابكت يده بقوة بيدها. كان وجهه خاليًا من أيِّ ابتسامة حين قال بنبرة رزينة:
«سيدتي، غدًا ستُواجهين ثلاثة رؤساء أساقفة على قيد الحياة، والذين ربما يكون التعامل معهم أصعب من التعامل مع مَن صار ترابًا.»
صاحت في اندهاش وقد أزعج عينَيها الجميلتَين بعضُ التوجُّس قائلة: «ثلاثة!» رئيسا أساقفة ماينتس، وتريفيس، وسيادتك؟ هل سيأتون إلى هنا؟»
«سيُعقد اجتماعٌ سرِّي لرؤساء الأساقفة في قلعةِ ستولزينفلز، مقرِّ أخي رئيس أساقفة تريفيس على نهر الراين.»
«ما سبب انعقاد هذا الاجتماع؟»
«هذا سيَشرحه لكِ، يا هيلديجوندي، سموُّه رئيس أساقفة ماينتس. لم أكن أنوي التحدُّث عن هذا حتى وقتٍ لاحق؛ ولذا سأقول فقط لا داعي للخوف. ونظرًا لأنني الوصيُّ عليكِ، فأنا مُرسَل لمرافقتك إلى ستولزينفلز، ونظرًا لأننا سنُسافر معًا أود أن أطرح عليكِ بعض الاقتراحات التي ربما تُفيدك أثناء عقد الاجتماع.»
«سأتبع بإخلاص أيَّ نصيحة تُسديها إليَّ، يا سيدي.»
«أنا متأكد من ذلك، يا هيلديجوندي، ويجب أن تتذكَّري أنني أتحدَّث باعتباري وصيًّا، لا مُستشارًا للدولة. ستكون مُلاحظاتي اقتراحات لا أوامر. كما تلاحظين، لقد عكسنا أدوارنا مع سلَفي والكونتيسة ماتيلدا. كانت هي دومًا مَن يُقدِّم النصيحة، التي كان يَقبلها هو باستمرار. الآن، يجب أن ألعب دور الناصح؛ ولذا سنُبدِّل أنا وأنتِ الأدوار التي لعبَها رئيس أساقفة كولونيا السابق وكونتيسة فون ساين الراحلة، التي يُؤسفني أن أشير إلى أنكِ نسيتِها تمامًا بإعلاني السابق لأوانه بخصوص زيارة رؤساء الأساقفة الثلاثة الأحياء.»
«أوه، كلَّا على الإطلاق، كلَّا على الإطلاق! ما زلت أفكِّر في هذَين الاثنين. هلا تخبرني بكلِّ ما تعرفُه عنهما؟»
«أنا لا أعرف الكثير. وعلى الرغم من أنني عجزت عن تكوين صورة كاملة عن صداقتهما بسبب عدم وجود خطابات رئيس الأساقفة، فإنه مع ذلك دوَّن ملاحظات من وقتٍ لآخر عن المراسلات التي تلقَّاها من الكونتيسة. وعلى مدار الخطابات، وُضع صليب بجوار فقرات مُعيَّنة، كما لو أنها علامة لإعادة قراءتها بتمعُّن، وهذه الفقرات مكتوبة بدقة بالغة وعذوبة شديدة. إلا أنني سأتطرق هنا إلى آخر وثيقة مهمة، الوثيقة الوحيدة التي جرى الاحتفاظ بنسخة منها، والمكتوبة بخط يد رئيس الأساقفة بنفسه.
في عام ١٢٥٠، تنازلت له كونتيسة فون ساين عن بلدة لينتس الواقعة على نهر الراين. ويبدو أن بلدة لينتس كانت إقطاعية مُتمرِّدة ومُزعِجة، احتفظ بها آل قلعة ساين بقوة السلاح. وعندما أصبحت في حوزة رئيس الأساقفة، انفجر سكان البلدة الحَمقى، مُتذكِّرين أن كولونيا تَبعُد عنهم بمسافة طويلة على طول النهر مقارنةً برحلة قصيرة أعلى النهر إلى ساين، في ثورة كبيرة. أرسل رئيس الأساقفة جيشَه، وكبح هذه الثورة بفعالية كبيرة، مُوقعًا عقوبةً شديدة على المتمردين. وعاد من هذه البلدة المهزومة إلى مدينته كولونيا، وأُصيب بمرض، سواء أكان بسبب الحَملة القصيرة أم لأسباب أخرى، ثم تُوفي بعد فترة وجيزة.
عُيِّن رئيس الأساقفة الجديد، ومرَّ عامان تقريبًا، على حدِّ علمي، قبل أن تُطالب الكونتيسة ماتيلدا بأنه ينبغي إعادة بلدة لينتس إلى دائرة ولايتها مرةً أخرى، مُصرِّحة بأن هذا الاسترداد وعدها به رئيس الأساقفة الراحل. إلا أن خليفته شكَّ في هذا الطلب. وقال إنَّ لديه سندًا للهِبة وتسليم بلدة لينتس إلى سلفه، وهذه الوثيقة كانت محدَّدة بالدرجة الكافية، وإذا كانت نية رئيس الأساقفة الراحل إعادة البلدة إلى آل قصر ساين، فلا شك أن الكونتيسة لديها وثيقة بهذا المضمون، وفي هذه الحالة فإنه يود أن يعرف فحواها.
ردَّت الكونتيسة بأن ثمَّة تفاهمًا كان بينها وبين رئيس الأساقفة الراحل بخصوص إخضاع بلدة لينتس وإعادتها لها بعد قمع المُتمرِّدين. وأضافت أنها لم تشكَّ بأنه كان سيفي بالجزئية الخاصة به من الاتفاقية، لولا وفاته المفاجئة. ورغم ذلك، قالت إنَّ لديها وثيقة، مكتوبة بخط يد الراحل، تُحدِّد شروط اتفاقيتهما، وإنها سترسل نسخة منها.
قال رئيس الأساقفة الماكر، دون أن يُبدي الشك في صحة هذه النسخة، إن التصرُّف بناءً عليها بالطبع ليس قانونيًّا. يجب أن يحصل على الوثيقة الأصلية. وردَّت ماتيلدا، بدهاء شديد، بأنها من جانبها لا يُمكنها التخلي عن حيازة الوثيقة الأصلية؛ لأن حقوق ملكيتها لبلدة لينتس تَستنِد عليها. ومع ذلك، ستعرض هذه الوثيقة على أيِّ لجنة كنَسية ربما يُعيِّنها مراسلها، وينبغي أن يكون أعضاء اللجنة المختارة رجالًا على معرفة جيدة بخط رئيس الأساقفة الراحل وتوقيعه. وردًّا عليها، اعتذر رئيس الأساقفة عن عدم قدرته على قبول اقتراحها. واتَّفق أهل كولونيا، إيمانًا منهم بأن حاكمهم حصل على بلدة لينتس عن استحقاق، على الدفاع عن أرضهم من خلال خوض معركة؛ ومن ثم، يكونون قد اشتروا البلدة بدمائهم، إذا جاز لنا التعبير، وبالتأكيد، هذه تضحية مؤسِفة بالحياة، وستكون مغامرة خطيرة أن يتخلَّوا عن البلدة ما لم تُقدَّم أدلة وثائقية توضِّح أن الأسقف الراحل أبرم هذه الصفقة.
ولكن قبل المضيِّ قُدمًا أكثر في هذا الأمر، سأل الكونتيسة ما إذا كانت على استعداد لأداء القسَم بأن النسخة المُرسَلة إليه هي نسخة كاملة وحقيقية من الأصل. هل كانت تحتوي على كل كلمة كتبها رئيس الأساقفة الراحل في ذلك الخطاب؟
لم تردَّ الكونتيسة على هذا، وتخلَّت عن أيِّ أحقية لها فيما يتعلق ببلدة لينتس.»
صاحت الفتاة بنبرة ساخطة: «أظن أنَّ جدتي كانت على حق، رافضة بذلك استمرار التواصُل مع رجل الكنيسة الدنيء هذا الذي تجرَّأ على الطعن في صدقها.»
ابتسم رئيس الأساقفة من اندفاعها.
«لن أحاول الدفاع عن سلفي الماكر. لنَفترض أن رُوح الطمع سيطرت على جسده الفاني، ولكن ما قولكِ إذا كانت تلميحاتُه بخصوص صدق الكونتيسة ماتيلدا لها مبرراتها؟»
«هل تقصد أن النسخة التي أرسلتها من خطاب رئيس الأساقفة كانت مُزيَّفة؟ لا يُمكنني تصديق ذلك.»
«ليست مزيفة. بدا أن نسختها كانت مثالية الصياغة. رغم أنها تغاضَت عن إضافة جملة أخيرة وآثرَت عدم الإعلان عنها؛ ومن ثمَّ التخلي عن حقها في المطالبة بملكية عظيمة. أما بخصوص مراسلات رئيس الأساقفة معها فقد بقيت في سجلاتنا نسخة من هذه الرسالة الأخيرة المكتوبة بخط يده. ولا يُمكنني تخيُّل لماذا أضاف هاتين الجملتين الأخيرتين لما بدا أنه إحدى المراسلات المُهمة. ربما يكون الهاجس الذي عبَّر عنه جعل أفكاره تتطرق لأمور لا صلة لها بهذا العالم، ولكن لا شكَّ أنه اعتقد بأنه سيعيش طويلًا بما يَكفي لقمع المُتمرِّدين في لينتس، وإعادة ملكيتها إلى الكونتيسة. وهذا ما كتبه ورفضت هي نشره:
ماتيلدا، أشعر بأن أيامي معدودات، وأنها باتَت قليلة جدًّا. بالنسبة إلى العالم أجمعه، تبدو حياتي ناجحة وتتخطَّى ما يتمنَّاه الإنسان الفاني، ولكنها بالنسبة إليَّ كانت فشلًا ذريعًا؛ إذ رحلت عنها كرئيس أساقفة كولونيا الأعزب، وأنتِ كونتيسة فون ساين العانس.»