السر المخفي عن الكونتيسة
ثمَّة أماكن قليلة مُميَّزة تشغلها المياه الزرقاء والمروج الخضراء تزداد روعة بشروق الشمس في صباح يوم من أيام فترة مُنتصَف الصيف تتفوَّق في جمالها على جمال ذلك الجزء من نهر الراين القريب من كوبلنتز، وأثناء خُروج موكبنا الصغير من وادي ساينباخ، أعجب جميع أفراد الموكب بجمال الريف المنبسط عبر نهر الراين، الآخذ في النضوج والتحوُّل إلى محصول أصفر مغمورٍ بالأشعة الذهبية للشمس المُشرقة.
حاد طريقُهم إلى اليسار عند سفح التلال الشرقية، ولكنَّهم لم يصلُوا بعدُ على طول حافة النهر العظيم. ولكن بالتدريج أثناء ارتحالهم في اتجاه الجنوب، انعطَفَت بهم المناطق الجبلية غربًا حتى بقيا في النهاية مساحة ضيقة من الطريق بين الصخور والمياه. كان الظل يُصاحبهم دومًا، وهي ميزة مريحة لرحلة في فترة منتصف الصيف، ولكن سرعان ما فقدوا هذه الميزة حين عبروا نهر الراين بالمعدِّية إلى مدينة كوبلنتز. كانت المسافة من قلعة ساين إلى قصر ستولزينفلز أقل من أربعة فراسخ بقليل؛ ومن ثم البداية المبكِّرة للرحلة جعلتها ممتعة.
سار رئيس الأساقفة والكونتيسة بفريسهما جنبًا إلى جنب. تبعهما على بُعد مسافة قصيرة الأب أمبروز، وهو غارقٌ في تأمُّلاته، غير مُنتبه إلى الجواد الذي يَمتطيه، الذي هو بالتأكيد حيوان مُخلِص، يَعرف الطريق على نحوٍ أفضل من فارسه. وجاء في المؤخِّرة ستة جنود مُمتطين جيادهم ومسلَّحين بالحراب، اثنان يتبعهما اثنان، وكان هذا هو الموكب الصغير المُرافِق لشخص تحت إمرته ألوف مُؤَلَّفة من الرجال المسحلين.
قالت الكونتيسة: «كم هو مشهد رائع ويسودُه السلام!» وتابعت: «وما أجمل حقول سنابل القمح المتمايلة؛ ولونها يُخفِّفه اللون الأخضر العميق لكروم العنب المُتناثرة هنا وهناك، والمياه الصافية دون أيِّ أمواج، وكأنها بحيرة راكدة، لا نهرٌ عاصف! يبدو كأن الغضب والخلاف والنزاع لا يُمكن أن يُوجَدُوا في عالمٍ مبهج كهذا.»
علَّق رئيس الأساقفة بنبرة رصينة قائلًا: ««يبدو» هذه هي الكلمة التي يجب استخدامها، ولكن الهدوء المُتواصِل للنهر الذي تُكنِّين له إعجابًا شديدًا ما هو إلا سلام ينمُّ عن الهزيمة. أُفضِّل أن أرى فيضانه وقد عكَّر صفوه الزوارقُ المُتحرِّكة والحركة المُضطربة للتجارة. إنه السلام الذي يَعني الجوع والموت لعاصمتنا، وبالتأكيد، وإن كان بدرجة أقل، لمدينتي كولونيا، وكذلك لمدينة كوبلنتز، التي نَقترب من أبوابها.»
قالت الفتاة بإصرار: «ولكن بالتأكيد الوضع آخذٌ في التحسُّن؛ إذ أسافر أنا وأنت في حماية حَفنة من الرجال وحسب دون أن يتعرَّض لنا أحد. كان هناك وقت لا يسافر فيه أيُّ رئيس أساقفة عظيم وثري إلى الخارج إلا وفي موكبه ما لا يقل عن ألف رجل.»
ابتسم رئيس الأساقفة.
وقال: «أعتقد أن الأمور تتغيَّر مع تقدُّم المجتمع. عدد أفراد موكبي لا يتحدَّد وفقًا لتواضُعي؛ وإنما يُحدِّده مجلس الأساقفة. رئيس أساقفة ماينتس يُسافر عبر نهر الراين، ورئيس أساقفة تريفيس يُسافر عبر نهر موزيل، وكلٌّ منهما في رِكابه موكب مماثل.»
«سيدي، أنت مُتشائم في هذا الصباح العليل، ولن تعترف حتى بأن الدنيا جميلة.»
«الأمر كله يَعتمِد على وجهة النظر، يا هيلديجوندي. أنا أنظر إلى الدنيا بعينَي شخص في أرذل العمر، بينما أنتِ تَنظُرين إليها بعينَين ورديتَين لفتاة في مُقتبَل العمر، وجهتا النظر المُختلفتان تمامًا لرجل عجوز وفتاة شابة.»
«هذا هراء، أيها الوصي، أنت لستَ رجلًا عجوزًا. ورغم ذلك، أنا مُحبَطة جدًّا تجاه موقفك هذا الصباح. كنتُ أتوقَّع منكَ أن تمدحني.»
«ألا يُعبِّر سلوكي بأكمله عن المدح؟»
«أها، ولكنِّي أتوقُّع مديحًا معينًا اليوم!»
«ما الذي أغفلته؟»
«لقد أغفلتَ حقيقة إثارتك اهتمامي الشديد أمس بخصوص الرحلة التي نقطعها معًا الآن، والاجتماع الذي يتبعها. ورغم القلق الشديد لمعرفةِ ما الذي ينتظرني لم أطرح عليك سؤالًا واحدًا، ولم أُلمِّح حتى للموضوع حتى هذه اللحظة. والآن، أظن أنه ينبغي مكافآتي على التزامي الصمت.»
«أجل، أيتها الكونتيسة، أنتِ استثناء بين النساء، أنا فقط أمتنع عن التعبير عن المديح المُستحَق عن جدارة حتى يأتي الوقت الذي أستطيع فيه فتح الموضوع الذي يشغل بالك منذ أن تركنا القلعة. ونظرًا لشعوري بالإحراج كرجل، لم أكن أعرف كيف أبدأ الموضوع حتى طرحتِ أنتِ بلُطف الطريقة.»
«ربما، في النهاية، أقوم بادعاء كاذب، لأنني خمَّنت سرَّك؛ ومن ثمَّ من المفترض أن يكون هذا اهتمامي الشديد.»
تساءل رئيس الأساقفة، وقد اعترى وجهَه بعض القلق، قائلًا: «خمنتِ؟»
«أجل. قصتكَ عن رئيس الأساقفة السابق والكونتيسة ماتيلدا أوعزت إليَّ بفكرةٍ لحل اللغز. لقد اكتشفت وثيقةً تُثبِت ملكيتي لبلدة لينتس الواقعة على نهر الراين.»
أومأ رئيس الأساقفة برأسِه، ولكن لم ينبس ببنت شفة.
«إحساسكَ بالعدالة يحثُّكَ على تصحيح الأوضاع، ولكن مرور مثل هذه الفترة الطويلة على طلبي تَجعله طلبًا غير شرعي بلا شك، وأنت لا تَعرف تمامًا كيفية تنفيذ عملية الاستعادة. أظن أنك تشاورتَ مع أحد زميلَيك، رئيس أساقفة ماينتس أو تريفيس، أو ربما كليهما. لقد اعترضا على كرمك المُقترَح، وطرحا الحجة بأنك لستَ سوى وصيٍّ مؤقتٍ على أسقفية كولونيا؛ وأنه يجب عليك الحفاظ على حقوق خليفتك؛ وهذه الحقيقة البديهية لن يسعها إلا مناشَدة حسِّ العدالة الذي يُميزك؛ ومن ثمَّ جرت الدعوة لعقد اجتماع الأساقفة، والغالبية في ذلك المجلس ستُقرر ما إذا كانت بلدة لينتس ستعود إليَّ أم لا. وربما، سيَجري تقديم اقتراح بأن أترك الأوضاع كما هي عليه، وفي هذه الحالة سأَرفض قَبول بلدة لينتس. الآن، أيها الوصيُّ، إلى أي مدًى اقتربت من حل اللغز؟»
سارا معًا في صمت، كان رئيس الأساقفة يتفكَّر في معضلة تنويرها بمزيد من المعلومات. وفي النهاية قال:
«كولونيا تَخضع لحكم رئيس الأساقفة الخاص بها، بحكمة أو بغير ذلك حسبما يقتضيه الحال. ورئيس الأساقفة، بقدرٍ ما يَحترم رأي زميلَيه الكريمَين، لن يُعرِّضهما أبدًا لمأزق اتخاذ قرار بشأن مسألةٍ لا تخصهما. ومصير لينتس تحدِّد عندما اقتنعتُ بخطاب سَلَفي، أسقف عام ١٢٥٠ ميلاديًّا، بأن هذه المدينة الواقعة على نهر الراين تخصُّ آل بيت ساين. لقد نُفِّذت عملية الاستعادة بالفعل بشكلِها القانوني، وحين تمر الكونتيسة هيلديجوندي عبر لينتس، فإنها ستمرُّ عبر مدينتها.»
«لن أقبل ذلك مُطلقًا، مُطلقًا، أيها الوصيُّ.»
«إنها ملككِ الآن، أيتها الكونتيسة. إذا كنتِ لا تَرغبين في الاحتفاظ بالمدينة، استغلِّيها كهدية للرجل المحظوظ الذي ستتزوَّجين منه. والآن، يا هيلديجوندي، يجب أن أُسديَ إليكِ النصيحة المؤجَّلة التي أودُّ أن ألفتَ انتباهك إليها؛ نظرًا لأننا نقترب من المعَدِّية التي ستأخذنا إلى مدينة كوبلنتز، وربما نحظى برفقة في المسافة بين تلك المدينة وقصر ستولزينفلز. فمِن رؤساء الأساقفة الثلاثة الذين ستُقابلينهم اليوم، هناك واحد فقط يجب أن تُركِّزي عليه.»
صاحت الفتاة قائلة: «أوه، أعرف ذلك، إنه نيافة رئيس أساقفة كولونيا!»
ابتسم رئيس الأساقفة، ولكنه استطرد بجدية قائلًا:
«حين يجتمع رجلان أو ثلاثة معًا، لا بدَّ أن يكون أحدهم القائد. في حالتنا، قائد الثلاثي المفترض أن يكونوا سواسية هو سمو رئيس أساقفة ماينتس. أتظاهر أنا ورئيس أساقفة تريفيس بأننا لسْنا تحت إمرته؛ ولكنَّنا كذلك؛ بمعنى، رئيس أساقفة تريفيس يعتقد أنني تحت إمرته، وأنا أعتقد أن رئيس أساقفة تريفيس تحت إمرته؛ ومن ثمَّ حين يتفق أحدنا مع رئيس أساقفة ماينتس، فهذا يعني وجود أغلبية في المجلس، ويكون العضو الثالث مغلوبًا على أمره.»
«ولكن لماذا لا تتَّفق أنت ورئيس أساقفة تريفيس معًا؟»
«لأن كلًّا منَّا يَعتقِد أن الآخر جبان، ولا شك أننا نحن الاثنين على حق. مربط الفرس هو أن رئيس أساقفة ماينتس هو الرجل الحديدي للمجموعة؛ ولذا أرجوكِ أن تَحذري منه، كما أوصيكِ بأن توافقي على العرض الذي سيُقدِّمه إليك. إنه سيكون ذا فائدة بالغة بالنسبة إليكِ.»
«في تلك الحالة، يا سيدي، كيف لي أن أرفض؟»
«أتمنَّى ألا تَفعلي، يا صغيرتي، ولكن إذا كان يَنبغي عليك الاعتراض، اعترضي بكلِّ ما تملكين من لباقة. والأفضل أن تَمتنعي تمامًا عن الاعتراض إذا أمكنكِ، واطلبي وقتًا للتفكير، بحيث يُمكننا أنا وأنتِ أن نتشاوَر معًا؛ ومن ثمَّ تُتيحي لي فرصة تقديم حجج ربما تُؤثِّر على قرارك.»
«وصيِّي العزيز، أنت تُخيفني بطريقة حديثك المقلقة. ما الاختيار المصيري الذي بانتظار؟»
«لا أُريد إخافتك، يا بُنيتي، وبالتأكيد، لا أتوقَّع خلافًا في هذا الاجتماع. أردتُ فقط أن تفهمي شيئًا بخصوص رئيس أساقفة ماينتس. هو رجل ربما تقود مُعارضته إلى الهلاك؛ ونظرًا لأنه رجل اعتاد أن يسحق مَن يُخالفه الرأي، بدلًا من الانتصار عليه بطرق دبلوماسية أكثر، فأنا قلق من أن تَبدين على أيِّ نحوٍ وكأنَّكِ تُخالفين ما يُريد. وبالاتفاق بيني وبين رئيس أساقفة ماينتس ورئيس أساقفة تريفيس، غير مَسموح لي أن أُفصح لكِ عن المسألة ذات الصلة. ولعلَّني أشدِّد على نقطة الاتفاق في الرأي هذه قليلًا حين أحاول تَحذيرك. إذا أردتِ بضع دقائق للتفكير، في أيِّ مرحلة من مراحل النقاش، فانظري لي عبر الطاولة، وسأتدخَّل على الفور وأقاطع الحديث بشيء يحتاج للتشاور مع الأعضاء الثلاثة للمجلس. بالطبع، سأفعل كلَّ ما بوسعي لأحميكِ إذا ما فقد صديقنا المقيت، رئيس أساقفة ماينتس، أعصابه، كما هو متوقَّع أن يحدث إذا عارضتِه.»
«ولماذا من المرجَّح أن أعارضه؟»
«لماذا؟! أنا لا أرى أيَّ أسباب. أنا رجل عجوز وحسب، وربما أبالغ في حذري. ما أسعى إليه هو درءُ أيِّ أزمة، والتي آمُلُ ألا تَحدُث مُطلقًا.»
«أيها الوصيُّ، لديَّ سؤال واحد أودُّ طرحَه، وهذا سيَحسِم المسألة هنا على حدود نهر الراين، قبل أن نَصل إلى قلعة ستولزينفلز. هل تُوافق تمامًا، بقلبك وعقلك وضميرك، على العرض المقدَّم إليَّ؟»
رد رئيس الأساقفة بنبرة اقتناع لا يستطيع أحد إنكارها: «أُوافق.» وأضاف: «أوافق بقلبي وروحي.»
«إذن، أيها الوصيُّ، الأزمة التي تخشى وقوعَها لن تحدث. سأُخبر نيافة رئيس أساقفة ماينتس، بأعذب نبرات صوتي وأجمل أساليبي، بأنَّني سأفعل كلَّ ما يطلبه منِّي.»
هنا توقَّف الحوار؛ فقد حلَّ محل الخلوة بين الاثنين مشهد يعجُّ بالنشاط؛ إذ وصلا إلى المرسى الذي بجواره يُوجد الجسر العائم، وكانت هناك معدية ضخمة، قادرة على حمل جماعتهما بأكملها في رحلة واحدة. اجتمع عدة مئات من الأشخاص، على ظهور الخيل أو سيرًا على الأقدام، على طول ضفة النهر، وارتفع الهتاف حين ظهر رئيس الأساقفة. ظنَّت الكونتيسة أنهم انتظروا لتحيتِه، إلا أنهم كانوا مجرَّد مُسافرين أو تجار وجدوا رحلتهم توقَّفت في ذلك الوقت. أمر مبعوث من طرف رئيس الأساقفة المعدية أن تبقى في مرساها في الناحية الشرقية حتى يَصعد نيافته على متنه. وحين ركب الموكب الرفيع، ألقى الطاقم على الفور مراسيهم وتمايلت المعدية المربوطة بفعل التيار السريع، وتأرجحت برفق باتجاه الشاطئ المقابل.
استقبلهم حشد كبير من الناس لدى وصولهم إلى مدينة كوبلنتز، وإذا كانت الصيحات الصاخبة والهتاف التشجيعي دلالة على الشعبية، فلا بدَّ أن رئيس الأساقفة لديه سبب قوي ليُهنِّئ نفسه على هذا الاستقبال. أومأ رئيس الأساقفة وابتسم، ولكنه لم يتوقَّف في مدينة كوبلنتز، وواصَلَ طريقَه على طول نهر الراين، الأمر الذي أصاب الحشد بخيبة أمل واضحة. وحين ابتعد الموكب الصغير عن الحشد، قالت الكونتيسة:
«لم يكن لديَّ أدنى فكرة بأن مدينة كوبلنتز تحتوي على عدد كبير جدًّا من السكان.»
رد رئيس الأساقفة قائلًا: «ولا أنا.»
«إذن، أهذا مجرَّد تدفُّق حشود من المدينة، أم هل اجتماع الأساقفة له من الأهمية ما يَجتذِب الكثير من المتفرجين؟»
«الاجتماع الذي يعقده رؤساء الأساقفة في هذه المناسبة مُهم جدًّا. رغم ذلك، أشك أن هؤلاء ليسوا مُتفرِّجين؛ لأن الناس لا يعلمون أننا سنجتمع اليوم. أظن أن مَن هللوا الآن على نحوٍ مُفعَم بالحيوية هم رجال رئيس أساقفة تريفيس.»
«أتقصد جنودًا؟»
«أجل. جنود في زيِّ السكان المدنيِّين، ولكني أجرؤ على القول إنهم جميعًا يعرفون طريق أسلحتهم إذا ما علَتْ صيحات الحرب.»
«هل تُلمِّح إلى أن رئيس أساقفة تريفيس قد خرق اتفاقيته؟ فهمتُ أن موكبك مقتصر على العدد الضئيل من الرجال الذين يتبعونك.»
ضحك نيافته.
ثم قال: «رئيس أساقفة تريفيس ليس رجلًا بارعًا في التخطيط، ورغم ذلك أظن أنه على استعداد للاستيلاء على مدينة كوبلنتز في حالة حدوث مشكلة.»
«وما المُشكلة التي يمكن أن تحدث؟»
«اللحظة الحالية حَرِجة بعض الشيء؛ لأن الإمبراطور يُحتضَر في فرانكفورت. ونحن الأمراء المُنتخَبين الثلاثة نتمنَّى أن نتجنَّب الفوضى من خلال وضع بعض الخطط والعمل وفقًا لها على وجه السرعة. ولكن الساعات الفاصلة بين وفاة الإمبراطور وتعيين خليفته يُغلِّفها عدم اليقين. أظن أن الأخوات الصالحات في نونينويرث علَّمنَكِ كلَّ ما يخص انتخاب الإمبراطور؟»
«بالتأكيد، أيها الوصي، يُؤسفني أن أعترف بأنهن فعلن، ولكنني قد نسيت كل شيء.»
«هناك سبعة أمراء مُنتخبون؛ أربعة نبلاء رفيعو المستوى من الإمبراطورية وثلاثة رؤساء أساقفة، اللوردات الدنيويون واللوردات الرُّوحانيون. كونت بالاتين الراين الحالي، مثله مثل صديقي رئيس أساقفة تريفيس، خاضعٌ تمامًا لنيافة رئيس أساقفة ماينتس؛ ومن ثمَّ اللوردات الرُّوحانيون الثلاثة، إلى جانب كونت بالاتين الراين، يُمثِّلون أغلبية المجلس الانتخابي.»
«فهمت. والآن، أظن أنكم تَجتمعون في ستولزينفلز لاختيار إمبراطورنا المُستقبَلي.»
«كلا؛ لقد اختير بالفعل، لكن اسمه لن يُعلَن أمام أيِّ أحد سوى شخص واحد قبل أن يموت الإمبراطور.»
«بالتأكيد، هذا الشخص هو كونت بالاتين الراين.»
«كلا، أيتها الكونتيسة، ليس هو هذا الشخص المقصود؛ وأُحذِّرك، سيدتي، من استجوابي بطريقة غير مباشرة. يجب أن تكوني رحيمة؛ فأنا مثل الصلصال في يديكِ، ورغم ذلك ثمَّة معلومات مُعينة يُحظَر عليَّ الإفصاح عنها؛ ولذا سأكتفي بالقول إنه إذا تصادف وكان رئيس الأساقفة في حالة مزاجية جيدة بعد ظُهر هذا اليوم، فمن المحتمل جدًّا أن يُخبركِ بمن سيكون الإمبراطور المستقبلي.»
بدت الفتاة متعجبة.
«يُخبرني أنا؟ ولماذا يفعل ذلك؟»
«قلتُ إنني لن أخضع لمزيد من الاستجوابات. أخشى أن أكون قد أفشيت الآن ما لا ينبغي عليَّ البوح به؛ ومن ثمَّ سنُغيِّر الموضوع لموضوعٍ ذي أهمية قصوى؛ ألا وهو وجبة منتصف النهار. أنوي أن نتوقَّف في كوبلنتز لتناول تلك الوجبة، ولكن رئيس أساقفة تريفيس، الذي سنحلُّ عليه ضيوفًا، كان كريمًا بما يكفي لقبول قائمة الطعام التي اقترحتها؛ ولذا سنجلس معه على المائدة.»
«لقد اقترحت قائمة طعام؟»
«أجل؛ أتمنَّى أن تنال إعجابكِ. يوجد بعض أسماك سلمون نهر الراين الممتازة، بالإضافة إلى مرقٍ شهير في تريفيس؛ مرقٍ يَحظى باحتفاء شديد منذ قرون. بعد ذلك، لحم غزال شهي من الغابة الموجودة خلف قصر ستولزينفلز، والمشهورة بغزلانها. بالإضافة إلى ذلك، يوجد كعكٌ ومخبوزات متنوعة، وكذلك خضراوات، وجميعها سيُقدَّم معها نبيذ أوبرفيزل اللذيذ. إلى أيٍّ مدًى تُعجبك قائمة طعامي، أيتها الكونتيسة؟»
«إنني أحفظُها في ذاكرتي، أيها الوصيُّ، لكي أعرف ماذا أُعدُّ لكَ في زيارتك التالية لقصر ساين.»
«أوه، هذه المَأدُبة ليست على شرفي؛ وإنما على شرفكِ. أخشى أنكِ ربما تَعترضين على بساطتها. ووفقًا للسجلات التاريخية، هذه الوجبة استمتعَت بها شابة قبل بضعة قرون، في قصر ستولزينفلز هذا، بعد الانتهاء من بنائه بفترة وجيزة. وأظنُّ أنه من المحتمل أنها كانت أول ضيفة من النُّبلاء تنزل بهذا القصر المنيف. لقد بُني قصر ستولزينفلز على يد أرنولد فون إيزنبرج، أعظم رئيس أساقفة حكَمَ تريفيس، إذا استثنيت الأسقف بالدوين، المقاتل. أصرَّ إيزنبرج أن يكون له حصن على نهر الراين في مُنتصَف الطريق بين ماينتس وكولونيا، وجعله قصرًا وحصنًا كذلك، وقضى في بنائه كلَّ ما احتاجه من وقت — سبعة عشر عامًا. وقد بدأ بناءَه في عام ١٢٤٢، ومن ثم بُني في نفس الوقت الذي تنازلَت فيه جدَّتُكِ ماتيلدا عن لينتس لرئيس أساقفة كولونيا؛ ومن ثمَّ أرى أن رئيس أساقفة كولونيا تمنَّى على الأرجح أن يكون له حصن على مقربة من القلعة الجديدة لرئيس أساقفة تريفيس.
وكان من بين الأوائل الذين زاروا قصر ستولزينفلز شابةٌ إنجليزية ساحرة، تُدعى إيزابيلا، كانت أصغر بنات الملك جون؛ ملك إنجلترا. ولا شك أنها جاءت إلى هنا مع مجموعة مهيبة من المرافقين، وأظن أن قلعة الأسقف العظيم شهدت مواكب واحتفالات؛ حيث إنَّ المُؤرخ، بعد أن أدرج قائمة الطعام التي أتمنَّى أن تجرِّبيها اليوم، أضاف:
«لقد تناولوا طعامًا جيدًا، وشرابًا رائعًا، ورقصَت الفتاة الملكية كثيرًا.»
بعد ذلك اعتلى أخوها العرش الإنجليزي. كان الملك هنري الثالث، وبالطبع أولى أختَه الراقصةَ هنا اهتمامًا كثيرًا.»
«يا إلهي، أيها الوصيُّ، ما تقوله يجعلني أرى بنحو مختلف قَصر ستولزينفلز العتيق. أنا لم أَدخُل القصر مطلقًا، ولكني الآن سأستكشف أجزاءه باستمتاع، وأتساءل عن القاعة التي رقصت فيها الأميرة الإنجليزية. لكن لماذا قطعت إيزابيلا كل هذه المسافة من إنجلترا إلى نهر الراين؟»
«جاءت لتَلتقي برؤساء الأساقفة الثلاثة.»
«حقًّا؟ لماذا؟»
«كي يُعلنوا خِطبتها بصفتهم الكنسية، وبموجب السلطة الكنسية العُظمى.»
«يُعلنون في قصر ستولزينفلز خِطبة أميرة إنجليزية، ابنة ملك وأخت ملك! إذن هل تزوَّجت من ألماني؟»
«أجل؛ تزوَّجت الإمبراطور، فريدريك الثاني؛ فريدريك هوهنشتاوفن.»
أدارت الفتاة رأسها ببطء، ونظرت إلى رئيس الأساقفة بثبات، الذي كان يُحدِّق بجدية في الطريق حتى يَلمح القصر الذي كان مسرحًا للأحداث التي قصَّها. شحب وجهها، وظهر في عينَيها نظرة تعجُّب مُتسائلة. ما الذي كان يقصده رئيس الأساقفة بهذه الحكاية التاريخية الأخيرة؟ صحيح أنه رجل مُهتمٌّ كثيرًا بدراسة العالم القديم؛ وبالأحرى مولع بإظهار براعته في هذا الصدد حين يجد مستمعين صبورين. لكن هل يوجد مغزًى خفيٌّ وراء قصته عن الأميرة الإنجليزية التي رقَصَت؟ هل يوجد أي تشابه خفي بين رحلة إيزابيلا الإنجليزية، والرحلة القصيرة التي تقوم بها هيلديجوندي من ساين هذا اليوم؟ كانت على وشك التحدُّث حين أصدر رئيس الأساقفة إشارة صغيرة بيده اليُمنى، واندفع الفارس الذي كان يَتبعهما على طول الطريق من كوبلنتز إلى جانب نيافته الذي قال بحدة للوافد الجديد:
«كم عدد رجال رئيس أساقفة تريفيس الموجودين في كوبلنتز؟»
«ثمانمائة وخمسون رجلًا، يا سيدي اللورد.»
«هل تكفي للاستيلاء على المدينة؟»
«كوبلنتز في حَوزتهم بالفعل، يا سيدي اللورد.»
«يبدو أنهم غير مُسلَّحين.»
«أسلحتهم موجودة تحت حراسة مشدَّدة في كنيسة سانت كاستور، ويُمكن أن تكون في أيدي الجنود في غضون بضع دقائق بإشارة من دقة أجراس كنيسة سانت كاستور.»
«هل يوجد أيُّ جنود في كوبلنتز من ماينتس؟»
«كلا، يا سيدي اللورد.»
«كم عدد رجالي الواقفين خلف قصر ستولزينفلز؟»
«هناك ثلاثة آلاف مُختبئون في الغابة القريبة من قمَّة التل.»
«كم عدد رجال رئيس أساقفة ماينتس المتاحين له؟»
«على ما يبدو نحو الستة رجال الذين وصلُوا معه إلى قصر ستولزينفلز أمس.»
«هل أنت متأكِّد من ذلك؟»
«جرى إرسال مُرشدين عبر الغابة ناحية الجنوب، ولم يأتنا خبرُ حشود متقدِّمة. مجموعة أخرى من المرشدين ذهبت أعلى النهر حتى حدود بينجن، ولكن كل شيء هادئ، ومن المستحيل على نيافته أن يُرسل عددًا كبيرًا من الرجال من أي مكان نحو قصر ستولزينفلز دون أن يعلم أحد جواسيسنا المائة بهذا التحرك.»
«إذن، لا شك أن رئيس أساقفة ماينتس يَعتمد على تابعه الأمين رئيس أساقفة تريفيس.»
«يبدو كذلك، يا سيدي.»
«شكرًا لك، هذا يكفي.»
حيَّاه الفارس، واستدار بفرسه نحو الشمال، وانطلق مبتعدًا، وبعد مرور بضع دقائق ظهر قصر ستولزينفلز على مرمى بصر الموكب الصغير، يقف في شموخ على تلِّه المخروطي الشكل بجوار نهر الراين، على خلفية خضراء شكَّلتها الغابات الجبَلية الموجودة في الخلف.
هذه المحادثة التي لم تستطِع هيلديجوندي أن تَمنع نفسها عن سماعها، كانت أبعدت عن ذهنها تمامًا القصةَ الجميلة للأميرة الإنجليزية.
قالت: «رباه، أيها الوصي! يبدو أننا في خضمِّ حرب أهلية وشيكة.»
ابتسم رئيس الأساقفة.
ورد قائلًا: «نحن في خضمِّ سلام مَضمون.»
«ماذا! رغم الاستيلاء عمليًّا على مدينة كوبلنتز، وثلاثة آلاف من رجالك مُتربصون في الغابة من فوقنا؟»
«أجل. لقد أخبرتك أن رئيس أساقفة تريفيس ليس رجلًا بارعًا في التخطيط. أظنُّ أنه هو ورئيس أساقفة ماينتس يَظنان أنه من خلال الاستيلاء على مدينة كوبلنتز فإنهما يُعيقان تراجعي إلى كولونيا. هما يَعلمان تمامًا أنه لن يُجديَ بالنسبة إليَّ الإبحار أعلى النهر في ظل وقوع أيِّ أزمة، فأنا هكذا أبعد أكثر فأكثر عن قاعدتي التي يُوجد بها رجالي وذخيرتي؛ ومن ثمَّ أهمل رئيس أساقفة ماينتس وضع قوَّات في ذلك المكان.»
«ولكنك، أيها الوصي، بالتأكيد مُحاصَر، مع الاستيلاء على مدينة كوبلنتز، أليس كذلك؟»
«الأمر ليس كذلك، يا صغيرتي، وأنا تحت إمرتي ثلاثة آلاف رجل في مواجهة ثمانمائة رجل في الجانب الآخر.»
«ولكن هذا يَعني نشوب معركة.»
«إنها معركة لن تحدث أبدًا، يا هيلديجوندي؛ لأنني سأستولي على شيء أقيمَ من أيِّ مدينة بكثير؛ ألا وهو رئيسا الأساقفةِ الاثنان. وحين يكون رئيسا أساقفة تريفيس وماينتس رهنَ اعتقالي، ويَنقطعان عن الاتصال بقواتهما، فلن أخشى جيشًا بلا زعامة. كما أن حجم القوات التي تحت إمرتي هو ضمانة للسلام.»
حينئذٍ كانا قد وصلا عند طريق التلال المتفرِّع الذي يقود إلى بوابات قصر ستولزينفلز التي كانت فوقهما تمامًا، وتوقَّفت المحادثة، ولكن كان مقدرًا للكونتيسة أن تتذكَّر الكلمات الأخيرة التي قالها رئيس أساقفة كولونيا بثقة شديدة قبل دخول المساء.