القائد المتغيب والأموال المفقودة
ربما بسبب المسئولية الجديدة المُلقاة على عاتقه، كان جوزيف جريسل أول مَن استيقظ في صباح اليوم التالي. ترك عباءته الطويلة تنسدل من فوق كتفيه وهو جالس، وحملق حوله في دهشة. بدا كأن ساحرًا قويًّا من التلال قد خطفه خفيةً أثناء الليل. لقد أوى إلى الفراش في مكانٍ يُحيط به الخوف من كل جانب. لقد دوَّى الرعد مهددًا بين قمم جبال تاونوس، وانعكاس وميض البرق الذي لا يكاد ينقطع تكراره، أضاء البستان بوهجٍ أصفر مُفزِع. الزئير المتصل للتيار الرغوي الذي لمع في الظلام بلون شاحب، نال من أعصابه على نحوٍ ما. وتحت أثر الإضاءة اللحظية للرعد، بدا أن الأمواج تتقافز عليه وكأنها مجموعة من الذئاب الجائعة، المرقَّطة بالرغوة، وسعى الضجيج لمحاكاة صوت الرعد الآتي من بعيد. وكان البستان في حدِّ ذاته مُنذرًا بالسوء في كآبته، وبدا أن أشباحًا مشئومة كانت تتحرَّك بين الأشجار.
كم كان المشهد مُختلفًا الآن! كانت الشمس لا تزال تحت الأفق الشرقي. وكانت السماء الصافية تعِدُ بيوم دافئ آخر، وبلورات الهواء النقية تحث على التقاط الأنفاس. من منظور جريسل، المشوب بالشعور الديني، بدا المكان الذي وجد فيه نفسه وكأنه موضعٌ ما من جنات عدن. الجدول المائي، الذي بدا بالنسبة إلى عقله المؤمن بالخرافات مصدرًا للخوف، صار هذا الصباح جدولًا هادئًا ومُبتسمًا ومتموجًا يستطيع المرء دون أدنى مجهود منه أن يقفز عبره.
فرك عينيه في دهشة، ظنًّا منه أن غشاوة النوم هي التي تسبَّبت في هذا التحول السحري، حتى تذكَّر العاصفة الرعدية البعيدة لليلة السابقة بين الجبال الشرقية، وظن أن هطول الأمطار الغزيرة قد غمر هذه القمم والوديان بالمياه السريعة.
قال في نفسه في حماس: «يا لها من نعمة ذلك الصباح المتكرِّر! كم يمحو الأخطاء ويزيل انفعالات الظلام! يبدو كأن الرب أراد أن يمنح الإنسان فرصًا متكررة للإصلاح والتشجيع. كم يبدو كل شيء الآن معقولًا، مقارنةً باضطرابات الليل الجهنمي!»
وبينما كان يَنهض من الفراش، أدرك وجود وزن غير مُعتاد بجواره، وحين وضع يده اندهش من الاصطدام بصرةٍ واضح أنها مُمتلئة بالعملات. كانت مربوطة بسيرٍ من جلد الغزلان في حزامه، كما هي الحال مع محفظتِه الفارغة. جلس مرةً أخرى، وجذبها أمامه، وفتحها. وبعد أن سكب العملات، وجد أن المحفظة تحتوي على مائة وخمسين تالرًا، أغلبها ذهبية، بالإضافة إلى بضع عملات فضية. وفي الحال خطر على باله أن هذه هي الستون تالرًا الخاصة برولاند، بالإضافة إلى الثلاثين الخاصة به، والخمسة والعشرين الخاصة بإبرهارد. ولسببٍ ما، وخشيةً على الأرجح من الرجال الذين ربما يشكُّون في الحيلة التي مُورست عليهم الليلة السابقة، قد جعله رولاند أمين خزانة العُصبة. ولكن لماذا ينبغي أن يفعل ذلك خفيةً؟
وبعد أن أعاد وضع الصرة الجلدية في مكانها بعد إرجاع مُحتوياتها إليها، هب واقفًا على قدميه مرة أخرى، ولكنه الآن أحكم عباءته حوله، حتى يخفي الصرة. كان إبرهارد يغطُّ في النوم بالقرب منه. أما أفراد العصبة الثمانية عشر الباقون، فكانوا مُتكوِّرين بعضهم بالقرب من بعض، كما لو أنهم مُضطرُّون إلى النوم في مكان صغير جدًّا عليهم، رغم أن المدينة بأكملها ملك لهم ويُمكنهم أن يختاروا أي مكان للنوم فيه.
وعندما تذكَّر أن الجدول المائي تناقَص حجمه، وأنه صار يتدفق الآن على نحوٍ رائق وواضح، خشي أن تظهر على نحوٍ واضح الصرة المليئة بالأحجار التي ألقى بها رولاند على نحوٍ درامي. وقرَّر أن يوقظ قائده، وأن يبحث عن الصرة لبعض المسافة في اتجاه مجرى النهر؛ حيث إنه كان يعرف أنه حين يستيقظ الرجال، ويذهب عنهم الخوف الذي شعروا به ليلًا، وعندما يُلاحظون انحسار الجدول المائي فقد يبدءون البحث عن الصرة.
وعندما بحث عن رولاند حوله، لم يرَ أيَّ أثر له؛ إلا أن هذا لم يُقلقه كثيرًا؛ إذ إنه افترض أن القائد استيقظ في وقتٍ أبكرَ منه، رغبةً منه في التنزُّه عبر الغابة، أو على طول الجدول المائي.
تجوَّل جريسل في الوادي بمحاذاة المجرى المائي، بهدف العثور على الصرة، وأيضًا على أمل لقاء قائده. وبالتحديق باستمرار في المياه الصافية، اكتشف أنه لا يوجد أيُّ أثر لبُغيته. أخذ يتوغَّل أكثرَ فأكثر في الوادي الذي كان ممتلئًا بالأشجار على طول الطريق، وأحيانًا كان مُضطرًّا إلى إهمال دليله المائي، والتسلق بجهد عبر الأحراش للوصول إلى حدوده مرة أخرى.
وفي النهاية، وصل إلى شلال صغير، وهناك انقطعت الغابة، وهو ما دفعه إلى الوقوف مشدوهًا بالمنظر الذي فرض نفسه عليه. وأسفل المنحدر امتدَّت الغابة بعض المسافة، ثم أفسحت المجال أمام حقول العنب المنحدرة، مع ظهور بيوت هنا وهناك بين أشجار العنب. وعند سفح هذا التل، كان هناك شريط أزرق عريض، عرف أنه نهر الراين، على الرغم من أنه لم يرَه من قبل. ومن فوقه طفا غلافٌ فضيُّ اللون من الضباب الذي كان يختفي سريعًا. وبدا الشاطئ الغربي مسطحًا، وظهرت التلال على طول الأفق، والتي لم تكن عاليةً مثل التل الذي هو واقف عليه؛ إلا أنها كانت جميلةً في مقابلِ السماء الزرقاء، وبدت كأنها أقرب بفعل الأشعة الأولى للشمس الساطعة التي صبغت القمم باللون القرمزي.
أخذ جريسل نفَسًا طويلًا مُستشعرًا الرضا العميق. لم يدرك من قبلُ قط أن العالم كان ساحرًا وهادئًا للغاية. وبدا أنه من المستحيل أن الرجال الذين يتمتَّعون بميزة العيش على أرض كهذه لا يُمكنهم أن يجدوا عملًا أفضل من تقطيع بعضهم رقاب بعض.
لقد عزَّز الهدوء الهدير الرقيق لشلال المياه الموجود على يَمينه. ومن على ارتفاعه، نظر إلى البِركة الواسعة الصافية، التي يَنهمِر الماء إلى أعماقها، وهناك قبعَت صرة الكنز المزيف بوضوح تمامًا. شقَّ طريقه بحذر إلى الحد الحصَوي للبُحيرة الصغيرة، وخلع بسرعة ملابسه، وغطس برأسه أولًا في هذه البِركة الرائعة. كانت تجربة بديعة، وقد أخذ يسبح حول الحوض الدائري، وتسلَّق بجهد على الحصى وترك تيار المياه ينساب فوق كتفيه اللامعتين، مستمتعًا بالحمَّام الذي أعطته إياه الطبيعة. وما إن شعر بالرضا عن الارتفاع المناسب، اندفع في غطسة أخرى وأمسك بالصرة وارتفع مرة أخرى إلى السطح. وما إن وصل إلى الشاطئ حتى فكَّ السيور المنتفخة، وسكب الأحجار على الشاطئ، وبعد التفكير للحظة، عصر الماء من الصرة نفسها، وربطها بحزامه، حيث إنه لا يعرف أين سيتجول الرجال بمجرَّد أن يستيقظوا، وإذا قذفها بين الشجيرات، فربما يجدها أحدهم، مما يثير التعجب من كيفية وصولها إلى هناك، ثم الشك في أنها حيلة.
عاد جريسل إلى المعسكر الذي يوجد بجوار الضفة الأخرى من الجدول المائي. وعلى الرغم من أن أشعة الشمس المبكرة تسلَّلت عبر الفروع العليا للأشجار من فوقهم، فقد كان الثمانية عشر رجلًا المنبطحون على الأرض ينامون كما لو أنهم أهل الكهف. قفز فوق الجدول، ولمس إبرهارد النائم بقدمه، ومن ثم أيقظه. تثاءب هذا الرجل الرائع، ومد ذراعيه فوق رأسه.
وقال: «أنت كالطائر الذي يستيقظ في وقت مبكر جدًّا، يا جريسل.» وتابع: «هل اصطدت شيئًا؟»
رد الآخر قائلًا: «أجل، فعلت.» وأضاف: «وجدتها عند حوض شلال مياهٍ على بُعد نحو فرسخ من هنا»، وما إن قال هذا حتى أزاح عباءته جانبًا ليُظهِر الصرَّة الفارغة التي كانت لا تزال مبتلة.
لم يفهم إبرهارد شيئًا لبضع لحظات. ثم نهض وهزَّ نفسه وألقى نظرة خاطفة حوله.
ثم صاح قائلًا: «يا إلهي! هذا بالتأكيد ليس الجدول المائي الذي بتنا عنده الليلة الماضية؟ هل تقصد أن تُخبرني بأن خيط الماء هذا هو الذي بث الرعب في قلبي قبل بضع ساعات؟ أنا لم أنَم في الهواء الطلق من قبل في حياتي كلها، ولا أستطيع أن أتخيَّل أن هذا سيترك مثل هذا التأثير عليَّ. الآن، أنا أفهم ما تقصده. لقد وجدت الصرة التي ألقاها رولاند في السيل الرغوي.»
«أجل؛ لقد اندهشتُ كثيرًا من هذا التحوُّل مثلك تمامًا حين استيقظت، ثم خطر على بالي أنه حين يرى أصدقاؤنا انحسار جدول الماء، حينئذٍ سيَشرعون في البحث عن الكنز؛ لذا قرَّرت أن أطمس الدليل.»
«هل كانت الصرة تَمتلئ بالأحجار فعلًا؟»
«أوه، أجل.»
«حسنًا، هذا درس لي. أظن بعد كل هذا أن رولاند صادق على نحوٍ غير قابل للشك، ولكنَّني كنت أظن الليلة الماضية أنه كان يَخدعُنا. كنت متأكدًا من أنه ألقى بصرة المال، وعندما شعر بالخزي، كذَب علينا.»
«وكيف أمكنَكَ تخيُّل ذلك؟ لقد أخرج لكلينا صرة المال.»
«لقد أخرج صرةً مليئة بشيءٍ ما، ولكنِّي، باعتباري توما المُشكِّك في هذه المجموعة، لم أقتنع بأن داخِلها أموالًا.»
«أها، لقد ذكَّرتني، إبرهارد؛ ها هي ذي الصرة التي رأيناها ليلة أمس. اكتشفتُ أنها مربوطة إلى حزامي هذا الصباح.»
«إذن، ثبَّتَها في الحزام الخطأ، لأنك صدقته. كان ينبغي عليه أن يَربطها في حزامي. ما السبب الذي أعطاه لتقديمها إليك؟»
«أوه، أنت تمسُّ الآن نقطة تشغل ذهني. لم أرَ أثرًا لرولاند هذا الصباح. لذا، افترضت أنه استيقظ قبلي، وتوقَّعت أن ألتقي به في مكانٍ ما على طول الجدول المائي، ولكن لم ألتقِه.»
«لعلَّه شرد بعيدًا. وبما أنك عثرت على الصرة، فبالتأكيد هو فقدها، وواصَل على الأرجح بحثه.»
«أشكُّ في ذلك؛ لأنني وصلت إلى نقطةٍ أستطيع أن أنظر من خلالها إلى نهر الراين والتلال فيما وراءه. واستطعتُ أن أتتبَّع مسار الجدول المائي مسافة كبيرة، وراقبته فترة طويلة، ولكن هناك بدا أنه لا أثر لشيء على قيد الحياة في الغابة.»
«أنت لا تفترض أنه عاد إلى فرانكفورت، أليس كذلك؟»
«أنا في حيرة من أمري.»
«إذا كان قد هجر هذه المجموعة من الساخطين، فينبغي أن أكون آخر مَن يلومه. كانت الطريقة التي تصرَّف بها هؤلاء الخنازير أمس مُهينة، ليُنهوا يومهم بإعلان العصيان والتهديدات بالعنف. بحق الصليب الحديدي، يا جريسل، لقد ترك هؤلاء الأوغاد، وهذا ما يستحقُّونه تمامًا، فهم يتشدَّقون فقط بمبادئ الزمالة ويتصرَّفُون كالسفاحين. هذه هي طريقة رولاند لإعادة أموالنا إلينا؛ إذ أظن أن الصرة تَحتوي على الثلاثين تالرًا الخاصة بك والخمسة والعشرين الخاصة بي.»
«أجل، والستون الخاصة به أيضًا. إن هذا الشيطان البائس المُحبَط كان كريمًا حتى النهاية. كان هو مَن جلب كل الأموال في البداية، ولكن هؤلاء الخنازير الثَّملة أنفقوها على الخمر، وأثبتَ كرمه وشجاعته لدرجةِ أن الثمانية عشر رجلًا استجمعوا كلَّ شجاعتهم لمواجهته، وهو الرجل الذي أغدق عليهم الأموال.»
«جريسل، الموقف كله يُشعرني بالاشمئزاز. أقترح أن نترك المجموعة نائمة هنا، ونذهب إلى فيسبادن لتناول الإفطار، ثم نعود سيرًا على الأقدام إلى فرانكفورت. هذا من شأنه أن يَليق بالأوغاد.»
قال جريسل بنبرة هادئة: «لا، سأنفِّذ تعليمات رولاند.»
«أعتقد أنك لم ترَه هذا الصباح؟»
«إنه لا أثر له. أنت سمعت أوامره في بريكنهايم.»
«لا أتذكَّر. ماذا كانت أوامره؟»
«إذا حدث له أي شيء، فعليَّ أن أقود القطيع إلى أسمانسهاوزن. أنا متفق معك تمامًا، يا إبرهارد، أن لديه ما يُبرِّر تركه لهؤلاء الأوغاد، ولكن من ناحية أخرى، أنا وأنت وقفنا بإخلاص معه، ولا يبدو أنه مُحقٌّ في تركنا بلا كلمة. أنا لا أصدِّق أنه قد فعل ذلك، وأتوقَّع عودته في أيِّ لحظة.»
«أنت مخطئ، يا جريسل. لقد رحل. وهذه الصرة تفسير كافٍ، وبما أنك ذكَّرتني بتعليماته، فأعتقد أن ثمة شيئًا فرض نفسه عليه في وقتٍ باكر من هذا اليوم. لقد حرم نفسه من كل كرويتسر من هذه الأموال التي كانت في حوزته، وسلَّمها إليك، وبدلًا من أن يعود إلى فرانكفورت، شق طريقه عبر التلال إلى أسمانسهاوزن، وسينتظرنا هناك.»
«وما الهدف وراء ذلك؟»
«ربما يكون أحد الأسباب هو أنه سيَعرف ما إذا كان لديك القدرة الكافية للسيطرة على هؤلاء الرجال لتأتي بهم إلى نهر الراين أم لا. وسيُقنع نفسه بأن انضباطك يتمثَّل في تحسين سلوكياتهم. وربما يكون في نيته أن يستقيل ويجعلك أنت القائد، إذا أثبتَّ قدرتك على السيطرة عليهم.»
«وافترض أنني فشلتُ في ذلك؟»
«حسنًا، إذن — تذكَّر أن هذا مجرَّد تخيُّل — أعتقد أنه ربما سيتجول في أسمانسهاوزن ليعثر على صحبة أخرى ستكون على الأقل مُطيعة له.»
«ما تقوله يبدو منطقيًّا للغاية. ورغم ذلك، أنا لا أرى السبب وراء ترك صديقين مثلنا دون أيِّ كلمة منه.»
«عزيزي جريسل، الكلمة من شأنها أن تقود إلى أخرى، ثمَّ كلمة أخرى، ثم أخرى. أحد الأسئلة الأولى الذي من شأنك أن تطرحه عليه هو: «ولكن ماذا سأفعل أنا وإبرهارد؟» هذا بالضبط ما لا يَرغب في أن يُجيب عنه. هو يُريد أن يَعرف ما الذي ستفعله بمحض إرادتك. لقد فقَدَ الأمل على الأرجح في هؤلاء الرِّعاع، ولكنه يُعطيك فرصة، ثم فرصة أخرى. عجبًا، خطته واضحة مثل الجدول المائي الصغير الموجود هنا، ويمكن رؤيتها بكل سهولة. إنك إما أن تَعبُر بهؤلاء الرجال عبر التلال، أو لا تفعل ذلك. إذا أُجبرنا أنا وأنت على تسلُّق التلال ووصلنا إلى أسمانسهاوزن بمفردنا، فعلى الأرجح سيسعد رولاند برؤيتنا أكثر مما إذا أحضرنا هؤلاء الأوغاد في أعقابنا. فهو سيُعيِّنك النائب الأول في مجموعته الجديدة، وأنا النائب الثاني. وإذا كنت تشك في استنتاجاتي، فسأُراهن بخمسة وعشرين تالرًا مقابل الثلاثين الخاصَّة بك بأنني محق.»
«أنا لا أقامر مطلقًا، يا إبرهارد، لا سيما حين تكون الخسارة حتمية. أنت أكثر دهاءً مني؛ أكثر بكثير.»
في أيِّ عمل أدبي، بالطبع سيُخفى حتى الوقت المناسب ما إذا كان هذان الرجلان مخطئين تمامًا بخصوص تكهُّناتهما بشأن مصير رولاند، ولكن نظرًا لأن هذه رواية تاريخية، فلعلنا نقول إن الشاب لم يكن لديه أدنى رغبةٍ في اختبار قدرة جريسل، ولن يجده نائباه يَنتظرهما حين يصلان إلى أسمانسهاوزن.
«مرحبًا! استيقظوا! ماذا لدينا من أجل الإفطار؟ هل شُرب النبيذ كله؟ لا أتمنى ذلك. فمي جاف كفرن حجري!»
كان هذا هو كورزبولد الشجاع الذي تحدَّث، وهو يَركل على نحوٍ لعوب، لا بلطف بالغ، رفاقه الذين يَرقُدون بالقرب منه. جاءه الرد على هيئة آهات ولعنات، مع استيقاظ النائمين واحدًا تلوَ الآخر وهم يتساءلون أين هم بحقِّ السماء.
صاح جينسبين قائلًا: «مَن الذي سرق النهر؟»
قال ثالث: «أوه، لا يهمُّ سرقة النهر.» وأضاف: «هو مجرَّد مياه جارية. مَن الذي شرب النبيذ كلَّه؟ هذا هو السؤال الأهم.»
«حسنًا، بصرف النظر عمن سلب النهر، يُمكنني أن أقسم بأن محفظتي لم تُسرَق منِّي دون أن أتحسَّسها؛ لأنني أنفقتُ آخر كرويتسر معي أمس.»
تذمَّرَ كورزبولد قائلًا: «لا تتفاخر.» وأضاف: «لست وحدك في فقرك هذا. نحن جميعًا نعيش الحالة نفسها. العَنُوا رولاند الأحمق هذا لتخلُّصه من الأموال التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها.»
قال جينسبين الفيلسوف: «هناك حاجة ماسَّة دومًا للمال.»
ثم نهض وهز نفسه، ثم ألقى نظرة على الغدير الجميل والصغير.
وأضاف: «أيها الرجال، هل كنَّا في حالة سكر طوال الليلة الماضية؟ هل كان هناك سيل مُتعذِّر عبوره هنا أم لا؟»
صاح كورزبولد: «كيف يتسنَّى لنا السُّكر، أيها الأحمق، بأكثر قليلًا من لتر نبيذ لكلٍّ منَّا.»
رد صديقه قائلًا: «من فضلك، كُن مُهذَّبًا في حديثك أكثر من ذلك.» وتابع: «لقد كنت ثملًا طوال اليوم. كان اللتر والنصف مجرد الكأس الأخيرة. وإذا كنت واثقًا أن هناك سيلًا، إذن فلا بد أنني أعاني الحالةَ نفسها مثلك.»
هنا صرخ متحدث الليلة السابقة الذي جرى توبيخه لأنه لم ينقضَّ على رولاند قبل أن يتمكن من التخلص من الكنز.
وقال: «هذه المياه صافية مثل الهواء. يُمكنكم رؤية كل حصاة في القاع. شمِّروا عن سواعدكم، أيها الناعسون، وابحثوا على طول جدول المياه. سنستعيد تلك الصرة، ثم نعود إلى سونينبرج لتناول الإفطار. ومن يَجدها، يجدها من أجل العصبة؛ إذ سنُوزِّعها توزيعًا عادلًا ومُتساويًا فيما بيننا. أي، بينَنا نحن الثمانية عشر. وأظن أن رولاند وجريسل وإبرهارد لا يُشاركونَنا إياها. لقد خطَّطوا لسرقتنا.»
صاح الآخرون: «نحن مُوافقون!» ثم بدأ البحث عن الكنز باندفاع.
شاهدهم جريسل وإبرهارد يَختفون عبر الغابة على طول جدول الماء.
قال إبرهارد: «جريسل، يا له من شغف مُؤسف ذلك السعي المحموم وراء الأموال في هذه الأيام، لا سيما تلك الأموال التي لم نكسبها. الباحثون عن الكنز المتحمسون لا يُدركون أن الموضوع الوحيد الذي يستحق التفكير في تلك اللحظة من الصباح الباكر هي وجبة الإفطار. نظرًا للإسراف والجشع الذي ساد الليلة الماضية، سيحتاج الأمر إلى صيد كمية كبيرة من السمك كي يَكفيَهم اليوم. يوجد من الطعام ما يكفي بالكاد لرجلين، وبما أننا قد تخلَّصنا من هؤلاء الرجال لمدة نصف ساعة على الأقل، أقترح أن نجلس لتناول وجبتنا الأولى.»
لم يُعلِّق جريسل على هذه الملاحظة، ولكن النصيحة راقت له؛ إذ عمل بها.
وبعد فترة من انتهاء تناولهما الإفطار، عادت المجموعة الفاشلة مثنى وثُلاث. وبدا أنهم لم يتجولوا لمسافةٍ أبعد من الشلال؛ إذ إنه لم يتحدث أحد منهم عن المنظر الرائع لنهر الراين. بالتأكيد، كان من الواضح أنهم اعتبروا أنفسهم علقوا في بريَّة لا حدود لها، وكانوا في حيرة بالغة من أمرهم بخصوص اقتراح المخرج. وبعد وابل اللعنات بسبب عدم تناولهم الإفطار، وبعد شجار طويل فيما بينهم حول مَن أكثرهم جشعًا الليلة الماضية، حوَّلوا انتباههم إلى الرجلين الصامتين اللذين يراقبانهم.
تساءلوا: «أين رولاند؟»
أجاب جريسل: «لا أعرف.»
«ألم يُخبركما إلى أين سيذهب؟»
رد إبرهارد بلطف: «لم نرَه هذا الصباح.» وتابع: «يبدو أنه اختفى في جنح الليل. لعله سقط في جدول الماء. أو لعله تركنا عمدًا. إنه لم يُعطِنا أيَّ إشارة على نواياه الليلة الماضية، ونحن نجهَل مكانه مثلكم تمامًا.»
صاح كورزبولد قائلًا: «هذا شيء مُخزٍ!» وأردف: «من واجب القائد أن يَعُول أتباعه.»
«أجل؛ إذا كان أتباعه يتبعونه.»
قال كورزبولد في سخط: «لقد تبعناه، واقتادنا إلى هذه الصحراء، ونحن لا نَعرف حتى أين نحن بحق السماء. وها نحن أولاء قد تُركنا هكذا، بلا إفطار، عطشى …» هنا، توقَّف كورزبولد عن الكلام ولم يستطِع إكماله، ووضع ظهر يده على شفتيه الجافتين.
واصل إبرهارد كلامه بنبرة هادئة قائلًا: «حين تتذكَّرون، أيها السادة، أن آخر تعامل مع قائدكم كان عبارة عن ثمانية عشر سيفًا موجهًا إليه؛ وحين تتذكَّرون أنكم عبَّرتُم عن تصميمكم على سرقته، وحين تَستحضرُون إلى الذهن أنكم، أنتم الثمانية عشر رجلًا الشجعان، هدَّدتُموه باستخدام العنف على المستوى الشخصي إذا قاوم هذا السطو من جانبكم، فلا أستطيع أن أفهم لماذا تَندهشُون من انسحابه من قيادتكم.»
«أنت متحدث معسول الكلام دومًا، لكن السؤال الآن: هو ما الذي سنفعله؟»
قال إبرهارد: «أجل، وهذا سؤال عليكم أن تُقرِّروا الإجابة عنه.» وتابع: «عندما تمردتم الليلة الماضية، عزلتم رولاند عمليًّا من القيادة. في رأيي، لم يَعُد لديه أي التزامات ناحيتكم، ولذا، بما أنكم استوليتم على السلطة تقريبًا وصارت بين أيديكم، لكم أن تتعاملوا مع الأمر على أفضل وجهٍ تظنُّونه. ولا ينبغي أن أنسى نفسي بحيث أخاطر حتى بتقديم اقتراح.»
قال كورزبولد: «كما ألمحتُ لك، أنت تتحدَّث كثيرًا. أنت مجرد واحد منَّا، على الرغم من أنك تعزل نفسك عنَّا. لقد عُين جريسل نائبًا من خلال التصويت بالإجماع، وإذا ثبتَ أن رئيسه رعديد جبان، فهو الرجل المنوط به التصرف. ومن ثم، جوزيف جريسل، أسألك بالنيابة عن المجموعة عما الذي تنوي فعله.»
رد جريسل قائلًا: «قبل أن أتمكَّن من الإجابة عن هذا السؤال، يجب أن أعرف ما إذا كنتم ستتصرَّفون كما تصرَّفتُم بالأمس أم لا؟»
«ما الذي تقصده بذلك؟» طرح عدةُ رجال في نفَس واحد هذا السؤال.
«أريد أن أعرف ما إذا كنتم ستتبعونني إلى حيثما أقودكم برحابة صدر ودون اعتراض؛ فأنا أرفض أن أقوم بدور الموجِّه إذا كنتُ أُخاطر بمُواجهة ثمانية عشر سيفًا مصوَّبًا نحو رقبتي بينما أبذُل أنا قصارى جهدي.»
علَّق كورزبولد قائلًا: «أوه، أنت تتحدَّث كأحمق.» وأردف: «لقد تبعنا رولاند بإخلاص كافٍ حتى وصَل بنا إلى هذا المأزق. أنت تُبالغ كثيرًا في حادثة الليلة الماضية. لم يقصد أيٌّ منَّا أذيته، كما تعلمان جيدًّا، وبالإضافة إلى ذلك، نحن لا نُريد قائدًا خائفًا يهرب عند ظهور أول علامة خطر.»
قال جريسل في عناد: «خذوا قراركم بخصوص ما تنْون القيام به، وأبلغُوني به، وحينئذٍ سأُبلغكم بقراري.»
لاحظ جريسل أنه على الرغم من أن كورزبولد تحدَّث كالفتوة الذي هو عليه، سكت الآخرون في خضوع، ولم يَرتفع أيُّ صوت سوى صوته دفاعًا عن سلوكهم السابق.
تابع كورزبولد حديثه قائلًا: «هناك شيء واحد يَجب أن تخبرنا به قبل أن نتمكَّن من اتخاذ قرار.» وأضاف: «كم لديك من المال أنت وإبرهارد؟»
«في مُنتصَف نهار أمس، كان معي ثلاثون تالرًا، ومع إبرهارد خمسة وعشرون. وبينما كنتم جميعًا نائمين على الحشيش، بعد وجبتنا في بريكنهايم، طلب رولاند منَّا المال.»
«بالتأكيد لم تكونا غبيَّين لدرجة إعطائه إياه؟»
«كان قائدنا، ورأى كلانا أنه من الصواب أن نفعل ما يطلبه منَّا.»
أوضح إبرهارد قائلًا: «قال إن اقتراحك بخصوص عمل لجنة مالية كان اقتراحًا جيدًا، وقد قرَّر تشكيل تلك اللجنة. وسألنا ما إذا كان لدى أيٍّ منكم أموال، ولكني أخبرته بأنني أظن أنها أُنفِقت كلها، ولهذا السبب على الأرجح اقتصر طلبه علينا نحن الاثنين.»
صاح كورزبولد قائلًا: «إذن، نحن هنا وسط برِّية غير معروفة، عشرون رجلًا، جائعون، وليس معنا أيُّ نقود؟!» وكانت التعليقات التي قالها الواقفون وراءه مُثيرة للشفقة.
«يسرُّني أنكم أخيرًا تُقدِّرون موقفنا تمامًا، وأتمنى أن تدركوا أن الموقف لم يكن نتيجة لغلطةٍ ارتكبها رولاند، الذي رضَخ لأهوائكم وتصرُّفاتكم الطائشة حتى وصلتم إلى حد القتل والسرقة. لذا، لوموا أنفسكم ولا تلوموه. والآن، أنتم تعرفون عن موقفنا مثلما أعرف، ولذا خُذوا قراركم بشأن الخطوة التالية، وأبلغوني بالقرار النهائي الذي توصلتم إليه.»
صاح كورزبولد في ازدراء: «يا لك من قائد شجاع وجبار!» وبهذه العبارة، تراجع الرجال الجياع إلى البستان، ومن هناك جاء صدى نقاش غاضب إلى سمْع الرجلَين اللذَين جلسا على حافة الجدول المائي. وبعد مرور بعض الوقت، تقدموا إلى الأمام مرة أخرى. مرة أخرى، كان كورزبولد هو المتحدِّث.
«لقد قرَّرنا الرجوع إلى فرانكفورت.»
«جيد جدًّا!»
«أفترض أنك تتذكَّر ما يكفي من الطريق الذي يقودنا على الأقل حتى فيسبادن. بعد هذه النقطة يُمكننا أن نعتني بأنفسنا.»
قال جريسل: «كم يُسعدني أن أكون مرشدكم، ولكن للأسف سأُسافر مع إبرهارد في الاتجاه الآخر.»
زأر كورزبولد قائلًا: «لماذا، بحق هؤلاء الجياع؟» وتابع: «أنت لا تعرف شيئًا عن البلدة التي أمامنا كما هو الحال بالنسبة لنا. بالعودة مرةً أخرى، يُمكننا أن نحصل على شيء لنأكله، ونشربه، من أحد المزارع التي سنمرُّ عليها على هذا الجانب من سونينبرج.»
تساءل جريسل: «وكيف ذلك؟»
«عجبًا، إذا طلبوا مالًا، فسنُعطيهم حديدًا بدلًا من الفضة. لا أحد يموت جوعًا ويتدلى السيف من جانبه.»
«لنَفترض أن هذا يُمكن تحقيقه، وأن المزارعين سيَستسلمون لك بدلًا من أن يُثيروا أهالي المنطقة ضدك، عندما تصل إلى فرانكفورت ما الذي ستفعله؟ تأكل وتشرب مع صاحب حانة راينجولد حتى يَصير مُفلسًا؟ يجب أن تتذكَّر أن رولاند هو مَن سوَّى دَينَنا الأخير هناك، دون أن يَطلُب أو يتلقَّى كلمة شكر واحدة، وفعلَ ذلك في وقت قريب جدًّا حين تبدَّدت موارد صاحب الحانة وأوشك على إعلان إغلاق حانته في غضون أسبوع آخر.»
ثار كورزبولد جرَّاء تكرار الحديث نفسه عن رولاند وكرمه، ولكن مَن معه كانوا جياعًا، والآن تذكَّروا، بعد فوات الأوان، أن ما قاله جريسل كان حقيقيًّا تمامًا. لو كان رولاند يتظاهر حينذاك، لوجد مجموعة سهلة الانقياد. في الواقع، كانوا يتذمَّرُون ضد كورزبولد، ويلومُونه وجماعته على الكارثة التي حلَّت بهم.
تساءل النادمون برفق مُثير للدهشة: «لماذا لن تأتي معنا؟»
«لأن المستقبل في فرانكفورت يبدو لي ميئوسًا منه. لا أحد بيننا لديه عقلٌ مُدبِّر مثل رولاند، الذي طردناه. بالإضافة إلى ذلك، يفصلنا عن فرانكفورت تسعة فراسخ ونصف، وفقط ثلاثة فراسخ ونصف عن أسمانسهاوزن. أتوقَّع أن نجد رولاند هناك، وعلى الرغم من أنني لا أعرف شيئًا عن نواياه، أتخيَّل أنه ذهب لتجنيد مجموعة من عشرين فردًا أو نحو ذلك، وأنهم سيُطيعون أوامره. هناك بعض الأمل في الذَّهاب إلى أسمانسهاوزن؛ وقطعًا لا أمل وراء الرجوع إلى فرانكفورت. إذن، كما قلت، أسمانسهاوزن على بُعد أكثر من ثلاثة فراسخ بقليل؛ وهي حقيقة تستحق التفكير من جانب رجالٍ جياع. وعلى ضفة نهر الراين، نحن في مكانٍ غنيٍّ بالنبيذ، حيث يوجد الكثير من الطعام والشراب، المتاح للجميع على الأرجح، بينما إذا أدَرنا وجوهنا نحو الشرق فنحن نسير نحو الفاقة.»
جلبةُ التعليقات التي علَت بعد هذا الحديثِ أثبتت للرجلَين أن كورزبولد وقف وحده مرةً أخرى. لقد أقنع جريسل، دون أن يُبدي اهتمامًا بخط سير الأمور، ذلك الحيوان غير العقلاني بأن يتصرَّف مثلما يروق له. وتظاهُره باللامبالاة المطلقة أثار إعجاب إبرهارد، لا سيما حين تذكَّر أنه تحت عباءته يوجد مائة وخمسة عشر تالرًا ذهبًا وفضةً.
اعترض كورزبولد قائلًا: «ولكنك لا تعرف شيئًا عن الطريق.» وأضاف: «لا أحد منَّا يعرف شيئًا عن المناطق الواقعة ناحية الغرب.»
قال جريسل: «لسنا بحاجة إلى معرفة ذلك.» وتابع: «نحن نتحرَّك نحو الغرب من خلال النظر إلى الشمس من الحين إلى الآخر، ولا يُمكن أن نضل الطريق؛ لأننا لا بد أن نصل إلى نهر الراين؛ ثم سنسلك إما أعلى أو أسفل النهر، حسبما يقتضيه الحال، لنصل إلى أسمانسهاوزن.»
جاءت الصيحة من الجميع: «إلى الراين! إلى الراين!»
قال جريسل، كما لو أنه قَبلَ بالقيادة على مضض: «قبل أن نبدأ رحلتنا، يجب أن تَعِدُوني بأنكم ستُطيعونني من غير جدال. أنا لستُ رجلًا صبورًا مثل رولاند، ولكن من جانبي أنا أضمن لكم وجبةً مُمتازة ونبيذًا جيدًا بمجرَّد أن نصل إلى أسمانسهاوزن.»
قال كورزبولد بامتعاض: «كيف تعِدُ بذلك، في حين أنك قد تخليت عن أموالك؟»
«لأنني، كما قلت لك، أتوقَّع مقابلة رولاند هناك.»
«ولكنه ألقى بصرته.»
«أجل؛ أخبرتُه بأنه تصرُّف أحمق، وربما يكون هذا هو سبب مغادرته دون أن يتفوه بكلمة، حتى لي. إنه رجل داهية. أسمانسهاوزن مألوفة بالنسبة إليه، وأجرؤ على القول إنه لن يُلقيَ بأمواله دون أن يعرف من أين يأتي بالمزيد.»
«إلى الراين! إلى الراين! إلى الراين!» صاح الجمع المتعجِّل، وهم يَجمعون عباءاتهم، ويُوثِّقُون أحزمتهم، كما يفعل الهمج عندما يتملَّكهم الجوع.
قال جريسل، وهو يثب عبر جدول المياه الصغير في صحبة إبرهارد: «إلى الراين، إذن.»
أثنى عليه الآخر قائلًا: «لقد أَجَدْت فعل ذلك، يا جريسل.»
رد القائد الجديد قائلًا: «أنا أُفضِّل الذهاب بمفردي معك؛ لأنَّني حكمت على نفسي بارتداء هذه العباءة الثقيلة، المناسبة جدًّا للنوم بها، ولكنها مُرهِقة تحت أشعة الشمس الحارقة.»
قال صديقه مُتنبئًا: «لن تكون الشمس خانقة جدًّا، بينما نلتزم نحن بالسير في الغابة.»
«هذا صحيح جدًّا، ولكن تذكَّر أننا في مكانٍ ما بمنطقة راينجاو، ولا بد أن نتوغَّل في مَزارع الكروم عما قريب.»
«لا تتذمَّر، يا جريسل، ولكن ارفع رأسك عاليًا كدبلوماسي عظيم. رولاند نفسه لم يكن ليستطيع السيطرة جيدًا على هؤلاء الرجال مثلك، أيها المنافق المتكبِّر، الرأسمالي الوحيد بينَنا، ورغم ذلك تتحدَّث كما لو كنتَ راهبًا مقدرًا له الفقر الأبدي.»
غيَّر جريسل الموضوع.
قال: «ألا تُلاحظ أننا نتَّبع طريقًا معيَّنًا، الذي لا بد أننا سرنا فيه الليلة الماضية، دون أن نراه وقت الغسق.»
قال إبرهارد: «أظن أن رولاند كان يعرف جيدًا إلى أين يذهب. لقد كان يَسبقنا كما لو كان شخصًا واثقًا من طريقه. لا أشكُّ في أن هذا الطريق سيقودُنا إلى أسمانسهاوزن.»
تَجدُر هنا الإشارة بأنه لم يكن يقود إليه. كان الطريق عبارة عن مسارٍ ضيِّق للغاية، قد يتبعه رجل حادُّ البصر، وكان يُفضي مباشرة إلى قلعة إيرنفيلس الخاصة برئيس الأساقفة.
امتدَّت الغابة مسافة طويلة قدَّرَها الرجلان اللذان في مقدمة المجموعة بفرسخَين، ثم خرجوا إلى الريف المفتوح، ورأوا الكرمات المرحِّبة النامية. وما إن خرجوا من الوادي مُتسلِّقين حتى لاحظوا على اليمين، بالقُرب من قمة تل، قرية صغيرة، وهو ما كان له تأثير فوري على رفع الرُّوح المعنوية للمجموعة اليائسة.
صاحوا قائلين: «مرحبًا بالإفطار!» ولولا أنهم كانوا مُتعَبين، ولولا انحدار التل، لاقتحموا المكان ركضًا.
صاح جريسل بصرامة، وهو يقف أمامهم وفوقهم: «توقفوا!» على الفور، أطاعوا أوامره، الأمر الذي جعل إبرهارد يبتسم.
وأردف جريسل قائلًا: «إنكم ستتسلَّقون حتى تصِلوا لأعلى هذا التل، وهناك ستستريحون تحت قيادة نائبي، إبرهارد. وبينما نحن نتقدَّم نحو الحضر، يجب أن تعلموا أننا إذا كنا سنحصل على وجبة إفطار، فلا بد أن يحدث هذا بالإقناع؛ لا بالقوة. ومن ثم، بينما تنتظرون أعلى التل، سأذهب بمُفردي إلى المنازل الموجودة ناحية اليمين، وأرى ما يُمكن فعله بخصوص تقديم وجبة لثمانية عشر رجلًا. سأصُوم أنا وإبرهارد عن الطعام حتى نصل إلى أسمانسهاوزن. ومن ناحية أخرى، ينبغي أن تكونوا على استعداد لقبول خيبة الأمل؛ فلن نحصل على أرغفة الخبز بإشهار السيوف. وإذا عدتُ وأمرتكم بالسير دون تناول الطعام، فيجب عليكم القيام بذلك بمرحٍ بقدرِ ما تستطيعون.»
لم يُثَر أي اعتراض على هذا الإنذار الأخير، وقاد إبرهارد المجموعة بينما انحرف جريسل ناحية اليمين وهو يصعد التل، ليصل إلى القرية على نحوٍ أسرع.
عرَف أن اسم المكان هو أنطون-كاب، وأن الطريق الذي كان يسلكُه سيأخذه إلى إيرنفيلس، وأنه يجب عليه أن يأخذ طريقًا جبليًّا وعرًا إلى حدٍّ ما ناحية اليمين حتى يصل إلى أسمانسهاوزن.
ومن خلال استنزاف موارد المكان بعض الشيء، والذي اتَّضح أنه لا يوجد به حانة، جمع القدْر الكافي من الخبز لثمانية عشر رجلًا، ولم تكن هناك أزمة في النبيذ، على الرغم من أنه اتَّضح أنه شراب رديء لا يعكس على نحو حقيقي سمعة منطقة راينجاو في هذا الشأن. وقد سدَّد ثمن هذه الوجبة مقدمًا، مُصرِّحًا أنهم جميعًا في عجالة من أمرهم للوصول إلى أسمانسهاوزن، وأراد أن يُغادر فور الانتهاء من تناول وجبة الإفطار المقتصدة هذه.
وبعد صعود رابية صغيرة غرب القرية، أشار إلى الرجال الصابرين ليصعَدوا، والذين فعلوا ذلك بسرعة شديدة. هنالك، تناولوا الخبز وشربوا النبيذ دون أن ينبس أحدهم ببنتِ شفة. وبعد ذلك، نزلوا من على التلِّ مرةً أخرى، وعبروا جدول جايسنهايم الصغير، وصعدوا مرةً أخرى، ليجتازوا نجدًا عاليًا منَحهم إطلالة على نهر الراين، وفي النهاية نزلوا عبر وادٍ آخر، قادهم إلى أسمانسهاوزن، المشهورة بنبيذها الأحمر، اللون الذي لم يرَوه من قبلُ قط.
ثبت لهم أن أسمانسهاوزن مدينة مقارنة بالقُرى الصغيرة التي مروا عليها، ورغم ذلك كانت صغيرة بما يَكفي بحيث يُمكن استكشاف المكان استكشافًا كاملًا دون بذل الكثير من الجهد أو تضييع الكثير من الوقت. قاد جريسل رجاله إلى حانةٍ توجد خارج القرية بمسافة قصيرة، وما أسعدهم أن كلًّا منهم نجح في الحصول على لترٍ من النبيذ، بالإضافة إلى وجبة كبيرة مكوَّنة من اللحم والبيض وما إلى ذلك. تركهم جريسل وإبرهارد هناك في ذروة استمتاع كبير، جميعهم في حالة سعادة غامرة بعد الشعور بالجوع والإجهاد الشديدَين؛ إذ إن مسافة الثلاثة فراسخ ونصف التي قطعوها لم تكن على أرضٍ مُستوية منبسطة تقريبًا. سأل القائدان عن رولاند، ولكن بلا جدوى، في مُختلف الحانات التي تشتهر بها أسمانسهاوزن، ثم طافا على كل بيت في القرية، ولكن لا أحد منهم رأى رجلًا بالأوصاف التي ذكراها.
وبالوصول إلى واجهة النهر، وقد تملَّكهما الشعور بالإحباط الشديد، حدَّق الاثنان في المياه الفارغة، التي خلَت من الحركة النابضة بالحياة. صار من الواضح الآن لهما أن رولاند لم يَدخل أسمانسهاوزن؛ حيث إنه لا يُمكن أن يمر شخص غريب في قرية صغيرة وثرثارة كهذه دون أن يلاحظه أحد.
تساءل إبرهارد: «حسنًا، يا جوزيف، ما الذي تنوي فعله؟»
«لا يوجد شيء نفعله سوى الانتظار حتى نفاد أموالنا. من المؤكَّد تمامًا أن رولاند ليس هنا. هل من المُمكن أن يعود بعد كل ذلك؟»
«كيف يُمكنه فعل ذلك؟ نحن نعرف أنه بلا مال؛ ومن ثمَّ لماذا يذهب إلى فرانكفورت، حتى وإن كانت مثل هذه الرحلة مُمكنة لرجل مُفلس؟»
قال جريسل في يأس: «أنا حزين الآن لأنني لم أتَّبع الاقتراح الذي خطر على بالي، والمتمثِّل في أن آخُذَ الرجال مباشرة من الوادي الذي خيَّمنا فيه، إلى ضفاف نهر الراين، وأقوم بالتحريات هناك.»
«هل تظنُّ أنه ذهب في هذا الاتجاه؟»
«أظن ذلك، حتى تقنعني أنت بغير ذلك.»
«مرةً أخرى أتساءل عن هدفه.»
«يبدو لي أن هذا التمرُّد ترك انطباعًا في ذهنه أكبر مما توقَّعتُه. ففي النهاية، هو ليس واحدًا منَّا، ولم يكن كذلك أبدًا. أنت نفسك أشرت إلى ذلك حين تحدثنا عنه في بريكنهايم. إذا لاحظت نظراته لنا التي تنمُّ عن الازدراء بينما كنَّا نستمتع بوقتنا كأسرة واحدة سعيدة في قبو القيصر، فلماذا العجب من ازدرائه للعصبة بعد يوم مثل البارحة؟»
«هذا صحيح. يجب أن تسافر مع المرء لتعرف حقيقة شخصيته.»
«هل تقصد رولاند؟»
«أقصد هذه العصبة المُسرفين في الشراب بالحانة. وأقصدك أنت، وأقصد نفسي؛ أجل أقصد رولاند كذلك. لم أكن أعرف مطلقًا حتى أمس واليوم أنك رجل قدير، وحين أتذكَّر أنني رشَّحت كورزبولد ليكون قائدنا قبل أن يظهر رولاند على المشهد، أندهش من قلَّة خبرتي في الحكم على الرجال. أما بالنسبة إلى رولاند نفسه، فلقد سقط من نظري. لا شيء كان يُمكن أن يُقنعني بأنه سيتخلَّى عنَّا جميعًا دون إيضاح، بصرف النظر عما حدث. وتوقُّعاتي بخصوص تصرفاته كانت خاطئة فيما يبدو. في رأيك، ما الذي حدث فعلًا؟»
«في رأيي أنه كلما فكَّر في التمرُّد، زاد شعوره بالغضب؛ وهو غضب فاتر وعنيد، لا صوت له على الإطلاق، بخلاف غضب كورزبولد. أظنُّ أنه بعد أن ثبت الأموال في حزامي خرج إلى الوادي ومنه إلى نهر الراين. يجب أن تتذكَّر أنه يعرف المنطقة. إنه سينتظر هناك حتى تظهر السفينة، أو على الأرجح سيمضي قُدمًا على طول حافة النهر، وينادي على القارب حين يظهر في الأفق. وسيعرفه القبطان، ويَنعطِف، ونحن نعرف أن القبطان يُطيع أوامره. لا شك أنهم في هذه اللحظة يقطعون طريقهم ببطء عبر نهر الراين ومنه إلى رافد ماين؛ ومن ثمَّ سيصِلون إلى فرانكفورت. لقد وضَع السيد جوبل ثقته في رولاند، وإلا ما كان ليُخاطر أبدًا بكلِّ ما خاطر به لمجرد وعد منه. إنه سيعترف لمموله بأنه أخطأ الظن بنا، وبلا شك سيُخبره بكلِّ ما حدث، وسيُقدِّر التاجر ذلك، على الرغم من أنه فقد الخمسمائة تالر الخاصة به، ولكن لن يسمح رولاند بأن يفقد بضاعته أيضًا.»
«هل تَفترض أنَّ رولاند سيُجنِّد مجموعة أخرى؟»
«من المُحتمَل جدًّا، نظرًا لأنَّ السيد جوبل يثق فيه، والله أعلم، هناك عدد كافٍ من العاطلين في فرانكفورت ليَختار رولاند من بينهم مجموعة أفضل منَّا.»
كان من المؤكد تمامًا أن رولاند ليس في أسمانسهاوزن، إلا أن توقعات جريسل كانت خاطئة مثل تلك الخاصة بإبرهارد تمامًا.