عرْض زواج رسمي
حين تدثَّر رولاند في عباءته، واستلقى على المرج الموجود على بُعد مسافة صغيرة من المنطقة التي نام فيها مساعداه، وجد أنه لا يستطيع أن يحذوَ حذوهما. وعلى الرغم من أنه ظلَّ هادئًا تمامًا من الناحية الظاهرية حين شُن الهجوم عليه، فإن ذهنه ظل مشوشًا بدرجة كبيرة تجاه المستقبل المنظور. لقد راجع سلوكه، مُتسائلًا عما إذا من الممكن تعديله بحيث يتمكن من نيل احترام رجاله والحفاظ على طاعتهم له. وإذا لم يستطِع القيام بذلك، فسيُحكم على خطته بالفشل. أفكاره جعلت النوم يطير من عينيه، وتذكَّر آخر مناسَبة جعلت من هذه المنطقة مضجعًا له. حينها غطَّ في نومٍ تُجافيه الأحلام طوال الليل. كان على الطريق المباشر بين قلعة إيرنفيلس ومدينة فيسبادن؛ ذلك الطريق الذي يُنقل من خلاله المؤن إلى القلعة من وقتٍ لآخر حين تعجز السفن القادمة من ماينتس عن الوصول. ولقد أوضح له حارس القلعة هذا الطريق حين ضاق الشاب بالحدود الضيقة للقصر ذرعًا لأول مرة، ومنذ ذلك الحين، كان يقطع طريقه عبر الغابة إلى مدينة فيسبادن ويعود منها.
لم يرَ قبل ذلك قرية ولوف الصغيرة بهذا الصخب البالغ، وكأنها تتظاهر بأنها ذات أهمية، وظنَّ على نحوٍ صحيح تمامًا أن السبب يُعزى إلى الانهمار المفاجئ للأمطار على الجبال الموجودة أقصى الشرق. ونظرًا لأن دويَّ الرعد القصي كان قد توقَّف منذ فترة طويلة، فقد أدرك أن حجمَ جدول المياه كان يقلُّ باستمرار. وعندما انحسر جدولُ المياه تدريجيًّا عند مُستواه المعتاد، صارت الغابة أكثر سكونًا. وكلما حاول النوم أكثر، قلَّ شعوره بالنعاس أكثر، وبدت جميع حواسِّه مُستيقظة بشدة بسبب هذه المحاولة البائسة لاستدعاء النعاس. وقدَّر من مواضع النجوم، بينما كان مُستلقيًا على ظهره، أن الوقت اجتاز منتصف الليل، حينها أدرك فجأةً الضجيج الآتي من الجهة الغربية له، على الجانب الآخر من جدول المياه. وما إن جلس وأنصتَ باهتمام شديد، شك، من الحفيف الآتي من أسفل الشجيرات، أن أحدَهم يتبع أثره، ومن شأنه أن يقترب في الوقت الحالي من رجاله النائمين.
وقف خلسةً، واستلَّ سيفه، وقفز عبر الغدير، وقفز عبر الجدول، وتقدَّم تدريجيًّا بحذر شديد أعلى المُنحدَر، مُقتفيًا الأثر بأفضل ما يُمكنه في الظلام. صمَّم على معرفةِ أمرِ عابرِ السبيل دون أن يُزعج رجاله؛ ولذا زحف سريعًا أعلى التل. ورأى على الفور بصيص ضوء، وخمَّن أن هناك شخصًا ينزل في طيش، مُسترشدًا بسراجٍ يتدلَّى من يده. وقف رولاند على أُهبة الاستعداد بسيف ممدود أمامه مباشرة، وكاد أن يلامس صدر الوافد إلا أنه توقَّف مُصدرًا صرخةَ فزع مفاجئة؛ إذ كشف السراج عن رجل مسلَّح يَقطع عليه الطريق.
كانت الكلمات الأولى للشخص الغريب «أنا لا أملك مالًا.»
رد رولاند قائلًا: «لا يُهمني ذلك كثيرًا.» وتابع: «ولكن أتمنَّى ألا تكون هذه المعلومة كاذبة. لماذا تسير مسرعًا عبر الغابة في الليل؛ إذ لا يوجد رجل عاقل يسلك هذا الطريق في الظلام؟»
ردَّ الغريب وهو يتنفس بصعوبة: «لا يسعني الانتظار حتى بزوغ ضوء النهار.» وأردف: «أحمل رسالة بالغة الأهمية. أتوسَّل إليك ألا تعطلني. أنا مسافر لإنجاز شئون الدولة؛ أمور إمبراطورية، من الضروري أن أصل إلى فرانكفورت في موعدي، وإلا ربما تطير رءوس.»
سأله رولاند وهو ينزل حدَّ سيفه؛ إذ لاحظ أن الرسول أعزل: «هل الأمر بهذا القدر من الأهمية؟» وأضاف: «مَن الذي تقصده؟»
«لا أجرؤ على إخبارك. الرسالة تخصُّ أصحاب السمو، وأنا ملتزم بالسرِّية. تأكد، يا سيدي، أنني أقول الحقيقة.»
«نبرة صوتك صادقة. أمسك بالسراج على امتداد الذراع، لعلَّني أرى ما إذا كان وجهك مألوفًا بالنسبة إليَّ. ها، هذا مُرضٍ جدًّا! والآن، أيها الشاب المُستعجل، هلا تكشف عن مهمتك، وإلا اضطررتُ إلى غرس سيفي في جسدك؟»
قال الشاب لاهثًا، وهو يرتجف أعلى التل: «حينئذٍ لن تعرف.»
ضحك رولاند.
وعلَّق قائلًا: «هذا صحيح بما يكفي؛ ولذا لن أقتلَكَ على الخازوق، وإنما سأكشف لك بدلًا من ذلك السرَّ الذي تحمله. أنت لستَ متجهًا إلى فرانكفورت …»
«أؤكد لك، يا سيدي، أنني مسافر إليها، وأخشى أن التزامي يمنعني من تحقيق رغبتك، حتى وإن كنتَ ستقتلني، وهو ما قد يحدث بسهولة، نظرًا لأنني أعزل.»
«لا أشك في أنك ستمر عبر فرانكفورت، ولكن هدفك هو غرفة صغيرة معيَّنة في ضاحية زاكسنهاوزن المُجاورة، والشخص الذي تبحث عنه هو شابٌّ في نفس سنك، اسمه رولاند. وأنت مُسافر بناءً على طلب والدك، الذي كان يُعاني قلقًا كبيرًا حين تركتَه، وأظنُّ أنه هو حارس قلعة إيرنفيلس.»
صاح الشاب في ذعر قائلًا: «باسم الرب! كيف خمنت كلَّ ذلك؟»
ضحك رولاند مرة أخرى ضحكة هادئة.
ثم قال: «عجبًا، يا هاينريش، اضطرابُك جعلَك تنسى أصدقاءك القدامى. ارفع سراجك مرةً أخرى، وانظر ما إذا كنتَ ستتعرَّف عليَّ كما تعرَّفتُ عليك.»
«يا إلهي! الأمير رولاند!»
«أجل؛ رحلتك في نهايتها، يا هاينريش الطيب، اشكُر الحظ السعيد الذي أبقاني مُستيقظًا هذه الليلة. هل تعلم لماذا أُرسلت في هذه الرحلة الطويلة والمضنية؟»
«أجل، سمو الأمير. وصلت وثيقة مُطوَّلة إلى القلعة من رئيس أساقفة ماينتس لتُوقِّع عليها، وتُخطرُك بأنه بعد الغد سيجتمع رؤساء أساقفة ماينتس وتريفيس وكولونيا معًا في القلعة لإجراء بعض المحادثات معك.»
«يا إلهي، يا هاينريش، لو كنتَ قد وجدتني في زاكسينهاوزن، ما كنَّا لنصل أبدًا إلى إيرنفيلس في الوقت المحدد.»
رد الشاب قائلًا: «أظنُّ أنه كان بإمكاني إنجاز ذلك.» ثم تابع: «كان ينبغي أن أصل إلى فيسبادن قبل الفجر، ومن هناك أشتري أسرع حصان يُمكنني العثور عليه. أخبرني والدي بأن أُقدِّر الوقت جيدًا، فإذا لم يكن بإمكاني — بحصولي على حصان آخر في فرانكفورت من أجلك — القيامُ برحلة العودة بالسرعة الكافية، فسأستأجر مركبًا بعشرين مُجدِّفًا، إذا اقتضت الضرورة، وأصل بك إلى إيرنفيلس قبل وصول رؤساء الأساقفة.»
«إذن، كنتَ تَخدعُني، يا هاينريش، حين قلت لي إنه ليس معك أموال.»
«كلا، سموَّ الأمير، ليس لديَّ أموال، وإنما أحمل طلبًا بمبلغ كبير من تاجر في فيسبادن والذي سيُزوِّدني أيضًا بحصان.»
«هاينريش، هناك الكثير من النجوم اللامعة فوق رءوسنا الليلة، وكنت أتأملها، ولكن لا بد أن نجمتك هي الأكثر لمعانًا على الإطلاق من بينها. اجلِس واسترح حتى أعود. لا تُصدِر أيَّ ضوضاء؛ لأنه يوجد عشرون رجلًا آخر نائمون بجوارِ الجدول المائي. عباءتي عند سفح التل، ويجب أن أحضرها. سأكون معك بعد قليل؛ لذا أَبقِ شمعتك مشتعلة، حتى لا أفقدك.»
وبهذا نزل رولاند بسرعةٍ المُنحدر، وهو يفكُّ صرة الأموال أثناء نزوله. وربطها بحرص في حزام جريسل، ثم انتزع عباءته من على الأرض، وركض عبر الجدول المائي مرة أخرى وصعد إلى هاينريش المنتظر.
لم يريا أبراج إيرنفيلس إلا في وضح النهار، ووجدا صعوبة بسيطة في إيقاظ والد هاينريش؛ نظرًا لأنه نام ليلة سيئة مثلما نام رولاند نفسه.
ألقى الحارس ذراعَيه حول السجين الشاب.
وكان كلُّ ما قاله: «أوه، الحمد لله، الحمد لله!» ثم قال مرة أخرى: «الحمد لله!» وأضاف: «لم أشعر أبدًا من قبل هذا أن رأسي مُهدَّد فوق كتفي. لو لم تحضر إلى هنا حين أتوا، يا سموَّ الأمير، لعجزتُ عن تقديم أي تفسير لسيادتهم.»
«حقًّا، كنت في منأًى عن الخطر بفضل مثل هذا الابن الماهر. ما كان لرؤساء الأساقفة أن يشكُّوا مطلقًا أنه ليس أنا؛ لأنه لا أحد من الثلاثة رآني. أنا مُتأكِّد تمامًا من أن هاينريش من شأنه أن يُقلِّد توقيعي على نحوٍ ممتاز، ويُجيب عن جميع الأسئلة التي ربما يطرحونها على نحوٍ مُرضٍ بالنسبة إليهم. وما دام أنه يُطاوع رغباتهم، فلن تجري أيُّ تحقيقات، لأنه لن يلاحظ أحد التغيير. بالطبع، أيها الحارس، لقد فاتتك فرصة حياتك المتمثِّلة في اختفائي؛ ومن ثمَّ تتيح لابنك أن يكون الإمبراطور المنتخب.»
«أنت تنسى، يا سمو الأمير، أن ابني المسكين لا يَستطيع أن يكتب اسمه، فضلًا عن اسمك. بالإضافة إلى ذلك، سيكون تزوير توقيعك بمنزلة خيانة عظمى، ولذا مرة أخرى الحمد لله أنك جئت إلى هنا. وبالتأكيد، أنا في ورطة كبيرة بخصوص ابني، يا سمو الأمير.»
«أوه، الخطر ليس جسيمًا للغاية كما تظن.»
«هذا ليس الخطر، يا سمو الأمير. المواجَهة من واجبه، ولكنه يستغلُّ وضعه كسجين. هو يعلم أنني لا أجرؤ على رفض أيِّ طلب له، وهو يطلب المزيد والمزيد من النبيذ، ويقضي نهاره في العربدة، وليله في النوم.»
«أنت تُدهشني. لماذا لم تنتزع هذا الهراء من داخله؟ ذراعك قوية بالقدر الكافي.»
«لا أجرؤ على رفع العصا عليه، وأتوسَّل إليك ألا تتفوه بكلمة مما قلتُه لك؛ فكلانا واقع في قبضته، وهو يَعرف ذلك. فإذا طلبت المساعدة لوضعه في زنزانة حقيقية، فلسوف يُفشي بالسر بأكمله.»
«في تلك الحالة، يجب أن تصل إلى اتِّفاق معه. ولن يستمر هذا إلا لفترة قصيرة جدًّا من الوقت، وبعد ذلك سنُخضعُه للإصلاح. لقد كان في الغابة خائفًا جدًّا من سيفي، وسأجعله يتلوَّى عند حدِّه بمُجرد أن تنتهي هذه الأزمة.»
«سأفعل ما بوسعي، سمو الأمير. ولكن لا بدَّ أنك كنتَ في طريقك إلى إيرنفيلس. هل سمعت بما يجري؟»
«كلا. لقد قابلت هاينريش في الغابة بالصدفة المحضة، وكان على وشك الاصطدام بسيفي أثناء تسرُّعه. كنتُ أقف في الظلام، بينما كان يحمل سراجًا يتيح الفرصة لأي سارق يرغب في القضاء عليه.»
قال الحارس: «لقد كان أعزل، ومن دون أموال؛ إذ ظننتُ أنه سيكون في أمان أكثر مما لو كان العكس. ولكن أنت تشعر بالجوع بالتأكيد، سمو الأمير. تفضَّل بالدخول، وسأَفي باحتياجاتك.»
وعلى الفور، تناول الأمير الهائم على وجهه وجبة إفطار مبكِّرة ومُمتازة، وخلع ملابسه، ورمى نفسه على أريكة، ليغطَّ في نوم بلا أحلام في الوقت الذي كان جريسل وإبرهارد يتفكران في دوافعه، التي كان بريئًا منها تمامًا.
حين استيقظ رولاند في فترةِ ما بعد الظهيرة، كان قد نسي أن مجموعة الرجال الذين اتخذوه قائدًا لهم، حتى وإن كان هذا اسميًّا على الأقل، كانوا يتساءلون عما حل به. نادى على الحارس، وطلب أن يُلقيَ نظرةً على الوثائق التي أرسلها رئيس أساقفة ماينتس عبر النهر لكي يقرأها بإمعان. ووجد أن الوثائق كُتبت بحرص شديد للغاية على هيئة سلسلة من الأوامر التي في شكل طلبات.
والعهود التي كانت مطلوبة من الأمير الشاب كانت مكتوبة في ثلاث مخطوطات، كلٌّ منها نسخة طبْق الأصل من الأخريين. إذا وافق رولاند عليها، فسيُوقِّع عليها في اليوم التالي، في حضور رؤساء الأساقفة الثلاث. كان ما اتضح له أثناء قراءة لفيفة الورق هو حقيقتين بارزتين؛ ألا وهما؛ أولًا: أن رؤساء الأساقفة عازمون على الحكم، وثانيًا: أنه إذا لم يَعِد بالطاعة، فإنهم سينتخبون إمبراطورًا آخر غيرَه عند موت والده أو الإطاحة به. عزم الشاب على الانصياع لهم وترك المستقبل يحسِم مسألةَ ما إذا كان سيعتلي هو أم رؤساء الأساقفة عرش الإمبراطورية. وغمره شعور غريب بالبهجة بسبب هذا الاحتمال، واختفَت جميع الأفكار الأخرى من رأسه.
خرج إلى الشرفة، بعد أن ترك المخطوطات على الطاولة في قاعة الفرسان حيث تفحَّصها، ليستمتِع بالنسيم العليل، الذي يهبُّ حول أبراج قلعة إيرنفيلس بصرف النظر عن مدى دفء جو النهار. كان هناك ممشًى حجري، مُعلَّق فوق نهر الراين، يُعطي إطلالة رائعة على ضفة النهر القريبة وعلى طول ضفته المقابلة. ومن هذه الهضبة المُرتفعة المرصوفة، كان بإمكانه رؤية قلعتَي راينستاين وفالكينبرج أسفل النهر، وأعلى النهر كانت قلعة ماينتس تقف على أقصى بُعد. وقدَّر من ارتفاع قرص الشمس أن الساعة كانت حوالي الرابعة عصرًا. ذكَّره مشهد قلعة راينستاين بصحبتِه التي هجرها؛ لأن هذه هي القلعة الأولى التي كان يعتزم الهجوم عليها، إلا أن الاحتمالات التي فُتحت أمامه من خلال رسالة رؤساء الأساقفة جعلت كل شيء آخر يتبخر من ذهنه.
وبعد قليل، انضم إليه الحارس المتحفِّظ في وَكره، وكان رولاند يعلم على نحوٍ غريزي سبب مجيئه. كان العجوز يتساءل عما إذا كان سيُثير المتاعب بخصوص توقيع الوثائق. كان يخشى طيش الشباب المتهوِّر وغُرورهم؛ والكراهية الفطرية من جانب أمير شابٍّ مُعتدٍّ بنفسِه لتقييده وكبح جماحه على أيدي الكبار، ولم يستطِع السجَّان إخفاء شعوره بالرضا حين أخبره السجين بأنه بالطبع سيُذعن لرغبات رؤساء الأساقفة الثلاثة.
وأردف بابتسامة قائلًا: «كما تلاحظ يجب أن أضع توقيعي على هذه الوثائق من أجل الوفاء بوعودي لك.»
قاطعته صيحةُ تعجُّب من جانب رفيقه العجوز.
صاح العجوز قائلًا: «العجائب لا تنتهي أبدًا!» وأردف: «لا بد أن هؤلاء التجار الذين في فرانكفورت أغبياء على نحوٍ يستحيل إصلاحه. انظر هناك، يا سمو الأمير! هل ترى هذه السفينة الآتية على طول النهر، تحمل شحنة ثقيلة، بحقٍّ، لأنها غائرة في المياه. إنها واحدة من أكبر السفن في فرانكفورت، ولا شك أن هؤلاء المغفلين المُفعمين بالأمل يتخيَّلون أن بإمكانهم أن يشقُّوا طريقهم عبر كولونيا بما يكفي من السلع لدفع تكلفة الرحلة. هذا جنون! عجبًا، فرسان راينستاين وفالكينبرج وحدهم سيسلبونها قبل أن تغيب عن أعيننا. إذا كانوا يفكِّرون في تفادي هؤلاء القراصنة من خلال الاحتماء بشاطئنا، فإنهم سيكتشفون غلطتهم قبل أن يذهبوا بعيدًا.»
حدَّق رولاند في السفينة القادمة، وعلى الفور تذكَّر أنه كان مسئولًا عن ظهورها على نهر الراين. تعرَّف على سفينة السيد جوبل العظيمة، بصاريها العريض في المقدمة، والتي لم ترفع عليها أيُّ أشرعة نظرًا لأن الرياح كانت تهب عكس اتجاه التيار. وما إن تذكَّر رجاله الذين تركهم، تساءل عما إذا كان جريسل قد أتى بهم عبر التلال إلى أسمانسهاوزن. هل اكتشفوا بعدُ أن جوزيف يحمل صرة مليئة بالعملات الذهبية؟ وقهقه حين تخيَّل المناوشات التي سيخوضونها حين يعلمون بذلك. ورغم أنه لم يكن مهتمًّا كثيرًا بأمر الثمانية عشر رجلًا؛ فإنه شعر بندم شديد وهو يتخيَّل المأزق الذي واجهه جريسل وإبرهارد حين أدركا أنه ترَكهما دون أن يقول لهما كلمة واحدة. ورغم ذلك، عجز عن التفكير في أيِّ تفسير مُمكن من جانبه دون أن يكشف عن هويته، وهو الأمر الذي كان مُصمِّمًا على عدم فعله.
استدار وقال فجأة للحارس:
«هل كنت تتلقى مبلغ السبعمائة تالر كل شهر؟»
جاء الرد: «بالتأكيد.»
«هذا مجموعه ألفان ومائة تالر. هل أنفقت المبلغ كله؟»
«لم ألمَس تالرًا واحدًا منها. المبلغ كله مِلكُك، أنت وحدك، أيها الأمير رولاند. إذا كنتُ سأبقى في الخدمة فأنا بانتظار مكافأتي، وإن لم أبقَ هنا، فأنا أعرف أنك لن تنسى أسرتي.»
«معاذ الله ألا أفعل ذلك. لكن تذكَّر أنَّ الألفين ومائة تالر جميعها ملك لك، ولكني أتوسَّل إليك أن تُقرضني ألفًا؛ لأنني ليس في صرتي تالر ذهبي واحد. بل الحقيقة أنني ليس معي حتى صرة. كان لديَّ صرتان أمس، ولكنِّي تركت واحدة والأخرى ألقيت بها.»
نزل العجوز بسرعة، وعاد على الفور ومعه صرة بالأموال التي طلبها رولاند. ولكن قبل أن يحدث ذلك، شاهد رولاند السفينة، ولاحظ أنها اقتربت من الشاطئ ورست عليه على بُعد مسافة قليلة شمال أسمانسهاوزن. أخذ المال، ونزل السلَّم الحجري متجهًا إلى الفناء.
وقال: «سأعود قبل غروب الشمس»، ومن دون لغط كثير غادر هذا الأسير الغريب سجنه، ونزل التلَّ في اتجاه السفينة.
وبعد أن حيَّا القبطان بلومنفيلس، عرف أن السفينة تأخَّرت بسبب الاصطدام بشاطئ رملي عند رافد ماين أثناء الليل، ولكنَّهم استطاعوا إخراجها عند الفجر، وها هم أولاء قد أتوا. وبينما كان يقف على الشاطئ يتحدَّث مع القبطان على متن السفينة، رأى رجلين يعرفهما يقتربان من أسمانسهاوزن. وبعد أن أخبر القبطان بأنه ربما لن يكون مستعدًّا للإبحار لعدة أيام، سار على طول الشاطئ ليلتقي بصديقيه المندهشين اللذين قفزا إلى استنتاج خاطئ، كما هي عادتهما، وظنَّا أنه عاد على متن السفينة التي رأياها تستدير بهدف أن ترسوَ على ضفة النهر.
تجمَّد جريسل وإبرهارد في مكانهما حتى أقبل هو عليهما.
«مساء الخير، أيها السيدان. هل أنتما هنا وحدكما، أم أحضرتما الحشد معكما؟»
قال إبرهارد، قبل أن يتمكَّن رفيقه الأكثر تمهلًا من صياغة الرد: «نائبك البارع، يا سيدي، جعل الرجال يظنُّون أن الأمور تسير على هواهم، ولكن في الحقيقة هو حوَّلهم إلى هواه؛ ومن ثم كلٌّ منهم الآن يستمتع باحتساء لتر من الشراب في حانة ذا جولدن أنكر.»
قال رولاند: «ما هذا إلا قطرة ماء في صحراء قاحلة. هل اكتشفوا أن في حوزتك أموال، يا جريسل؟»
«لا، ليس بعد؛ ولكن أخشى أنهم سيشكُّون عما قريب. اعتقدت أنك نزلت إلى وادي الجدول الصغير ومنه إلى نهر الراين، ولحقت بالسفينة هناك؟»
رد رولاند قائلًا: «اعتقدت ذلك.» وأضاف: «وماذا تظن أيضًا أن بإمكاني فعله؟»
«أنا متأكِّد من أنك فعلت ذلك، وخشيتُ أن تستدير بالسفينة وتعود أدراجك إلى فرانكفورت.»
«لم أُفكِّر أبدًا في مثل هذا الأمر. في واقع الأمر، أخبرني القبطان بأنه لاقى صعوبة بالغة في الإبحار في رافد ماين الضحل، وأظن أنه يُفضِّل نهر الراين الأكثر عمقًا. بالطبع، أنت تعرف السبب وراء تركي لكم.»
نظر الرجلان كلٌّ منهما للآخر دون ردٍّ، فضحك رولاند.
«أرى أنه تُخامركما الشكوك السيئة، ولكنَّ المسألة في غاية البساطة. يُخبرنا الرهبان الأتقياء أن الكتاب المقدَّس يقول إنه إذا طلب منَّا رجل أن نصحبه لفرسخ واحد، ينبغي أن نصحبه لفرسخين. ليلة أمس طلب أصدقائي الأعزاء من عصبة الحدَّادين أكثر طلب معقول، ألا وهو أنه ينبغي أن أُعطيَ لكلٍّ منهم ثلاثة تالرات، وبالتأكيد، سأقتبس قول الرهبان مرة أخرى، الفاعل مُستحِقٌّ أُجْرته.»
قال جريسل: «أوه، أنت تنظر إلى الأمر من هذا المنظور إذن.»
«أجل أنظر له من وجهة نظر الكتاب المقدس؛ بل إنني سأزيد على تعاليم أيام صغري بإعطاء كل رجل منهم عشرة أضعاف المبلغ الذي يتمنَّاه. ثلاثون تالرًا تنتظر كلًّا منهم في هذه الصرة.»
صاح إبرهارد قائلًا: «يا إلهي! لو أن هذا لا يرقى إلى كونه مكافأة على التمرُّد، فإنه يكاد يقترب من ذلك بدرجة كبيرة.»
«ليس الأمر كذلك، يا إبرهارد؛ ليس الأمر كذلك. لم تُشارك أنت وجريسل في التمرُّد، ولهذا سأُعطي لكلٍّ منكما مائة وثلاثين تالرًا؛ ثلاثون تالرًا مثل التي حصل عليها كل مُتمرِّد، بالإضافة إلى مائة تالر أخرى، وذلك مكافأة لأنكما لم تنضمَّا إليهم. وعلى أيِّ حال، هناك الكثير مما يمكن قوله بخصوص وجهة نظر الرجال. لقد قُدتهم بلا هوادة تحت أشعة شمس يوليو الحارقة، وعلى طول طريق وعرٍ بلا ظلال، ثم سحبتهم بعيدًا عن خزائن النبيذ الوفير في سونينبرج؛ ثم قدتهم عبر شجيرات العليق، وفوق جداول المياه، وداخل المستنقعات وخارجها؛ وفي النهاية، حين أنهكهم التعب، والجوع، والمزاج السيئ، أشرت في لا مبالاة إلى جزء من الأرض وقلت: «هناك، يا رجالي الأعزاء، سيكون مضجعكم»، هؤلاء الرجال الذين لم يناموا من قبل بلا أغطية وسقف. ولا عجب أنهم تمرَّدوا؛ ورغم ذلك، تالله، هم في الواقع لم يُهاجموني حين وقفت مُستلًّا السيف في يدي.»
قال إبرهارد: «بالطبع، هذا على الأقل ما يُمكن أن تشعر حياله بالامتنان.» وتابع: «ثمانية عشر رجلًا مقابل رجل واحد ستكون مواجهة صعبة.»
«ممتنٌّ! بالتأكيد، أنت تحلم يا إبرهارد. لماذا ينبغي عليَّ أن أكون مُمتنًّا، إلا لتجنُّبي الشعور بوخز الضمير لو كنت قتلتُ مجموعة كبيرة منهم على الأقل!»
ضحك إبرهارد بشدة.
«أوه، إذا كنت واثقًا من نفسك هكذا، فأنت لستَ بحاجة إلى التعاطُف من جانبي.»
«أنت تعتقد بأنني سأُغلَب؟ بحقِّ ملوك المجوس الثلاثة، هل تراني ذلك الأحمق الذي يُعلِّمكم أنتم أيها الحرفيون فنون السيف على أعلى مستوًى؟ لو أن الثمانية عشر رجلًا أخذوا خطوة أبعد من ذلك، لكانت مفاجأة مُحزنة بالنسبة إليهم. ورغم ذلك، لقد انتهى كل شيء، ولن نقول المزيد عن ذلك. دعونا نجلس هنا على المرج، ونستمتع بالنشاط الترفيهي الأكثر قبولًا المتمثِّل في عدِّ الأموال.»
فرش عباءته على العُشب وسكب عليها العملات الذهبية.
«سأُبقي مائتي تالر لنفسي، باعتباري قائد المهمَّة، الطمَّاع. إليك المائة والثلاثين تالرًا الخاصة بك، يا جريسل، وها هي ذي الخاصة بك يا إبرهارد. ستجدان الخَمسمائة والأربعين تالرًا الباقية، التي إذا وزَّعتُموها بالدقة الكافية، فسيكون نصيب كل رجل من رجالنا الأقوياء الثمانية عشر ثلاثين تالرًا.»
سأله جريسل: «ألن تأتي معنا إلى أسمانسهاوزن، بحيث تُعطي هذه الأموال بنفسك إلى الرجال؟»
«كلا؛ هذا الشرف من نصيب نائبَيَّ، الأول والثاني. يُمكن أن يُوزِّع أحدكما المال في حين يعطي الآخر محاضرة أخلاقية عن التمرُّد، مُوضِّحًا ما يُدرُّه السلوك القويم على المرء. لا تقولا شيئًا للرجال عن وجود السفينة هنا؛ فقط اطلُبا منهم أن يستعدوا للتحرك. والآن، وقد توفَّرت معكما الموارد المالية، استأجرا غرفة كبيرة، حصريًّا لكم، في حانة ذا جولدن أنكر. هكذا، ستَكونان أكثر قدرة على منع الرجال من التحدُّث مع الغرباء؛ ومن ثمَّ منع تسريب أيِّ أخبار عن نوايانا للإبحار عبر النهر إلى راينستاين أو فالكينبرج. ويُمكن أن تُوضِّحا لهم، إن اعترضوا على الغرفة الخاصة، أنكما، لو جاز لي القول، تحاولان استحضار صورة قبو القيصر بفرانكفورت في قرية أسمانسهاوزن. واصِلا اجتماعات عصبة الحدادين المعتادة، قبل تدنيسي لها بعد أن صرتُ عضوًا فيها. ومن واقع معرفتي بالرجال، مثلما تعرفونهما أنتما أيضًا، أقترح أن تَعقِدا صفقتكما معهم قبل إعطائهم الأموال. أوضِحا لهم أن عدم قطعهم أيَّ وعدٍ يَعني عدم حصولهم على الثلاثين تالرًا. والآن، وداعًا. سأكون مشغولًا للغاية في الأيام المقبلة لترتيب مبلغ أكبر من المال؛ لذا لا تبحثا عنِّي مهما حصل.»
وهنا صافَحَهما رولاند، وعاد إلى قلعة إيرنفيلس.
•••
في الظهيرة لاحت في الأفق السفن الفخمة الثلاث لرؤساء الأساقفة، وكانت اثنتان منهما تسيران أعلى النهر والثالثة أسفله. وقد قام القائمون عليها بالمُناورة حتى رست جميعًا في الوقت نفسه؛ ومن ثمَّ وَطَأَتْ أقدام رؤساء الأساقفة الثلاثة الأرض الصلبة في اللحظة نفسها؛ لأنه لم يكن لأيٍّ منهم أفضلية على الاثنين الآخرين. وعند دخول قلعة إيرنفيلس داخل البلاد، دلفُوا إلى قاعة الفرسان الكبرى، وجلسوا في ثلاثة كراسٍ مُتساوية وُضعت على طول الطاولة الكبيرة. وفُرشت أمامهم مأدبة، مصحوبة بأجود أنواع النبيذ الذي تُنتجه منطقة راينجاو، ورغم أن كبار الأساقفة العظماء أكلوا بنهم، فإنهم كانوا مُقتصدين بشدة في شربهم؛ لأنه حين يتطلب الأمر التصرُّف بالتنسيق بعضهم مع بعض لم يَكن يجرُؤ أحدهم على تعريض نفسه لموقف غير مُؤاتٍ أمام الآخرين. وكانوا سيتخلَّصون من حالة الامتناع عن الشرب التي كانوا يعيشون فيها حين يأوي كلٌّ منهم إلى قلعته الخاصة.
وبعد رفع المائدة، استُدعي رولاند، وبعد الانحناء باحترامٍ عميق لكلٍّ من رؤساء الأساقفة الثلاثة، اتخذ مكانه بالوقوف في تواضُع على الجهة المقابلة من الطاولة. شغل رئيس أساقفة ماينتس، نظرًا لكونه الأكبر سنًّا بين الثُّلاثي، الكرسي الأوسط، وعلى يَمينه جلس رئيس أساقفة تريفيس، نظرًا لكون التالي في الترتيب من حيث السن، وعلى يساره، رئيس أساقفة كولونيا. ولعل المراقب الدقيق قد لاحظ أن السلوك المُراعِي للآخرين، غير المُذلِّ للذات، من جانب الأمير الشاب، قد ترَك انطباعًا إيجابيًّا لدى هؤلاء الحكام الذين إذا اجتمعوا معًا، يُشكِّلون ثاني أقوى سلطة، من الناحية الاسمية فقط، في الإمبراطورية.
كان رئيس أساقفة ماينتس هو مَن كسر حاجز الصمت.
«أيها الأمير رولاند، إثر اندلاع الاضطرابات في البلاد قبل بضعة أشهر كان من المُستحسَن أن يَجري نقلُك، باعتبارك المرشَّح المحتمل لاعتلاء العرش، من العاصمة إلى المكان الأكثر أمانًا الذي يُقدِّمه هذا الحصن بين جنباته. آمُلُ ألا يكون قد ترك هذا لديك أبدًا انطباعًا بكونه احتجازًا جبريًّا يَستحق المُسمى القاسي للسجن.»
قال رولاند بنبرة صدق حقيقية: «مُطلقًا، قداستكم!»
أومأ ثلاثتُهم برءوسهم، وتابع رئيس أساقفة ماينتس كلامه قائلًا:
«أثق بأن تنفيذ أوامرنا لم يتسبَّب لك في أيِّ مُضايقة أثناء إقامتك في قلعتي إيرنفيلس؛ ولكن إذا كان لديك أيُّ سبب للشكوى فسأتأكد من مُعاقَبة المقصر بأقصى عقوبة.»
«سيدي، لو كان الأمر كذلك، لتواصلت مع نيافتكم في ماينتس على الفور. وحقيقة أنك لم تتلقَّ مثل هذه الشكوى من جانبي هو ردٌّ على كلامك؛ ولكن أود أن أؤكد على هذا الرد بقولي إنني قُوبلت بأكبر قدر من اللطف والكرم بين جنبات هذه القلعة.»
«أنا أتحدَّث بالنيابة عن أخويَّ وبالنيابة عن نفسي حين أعرب عن شُعورنا جميعًا بالرضا للاستماع لما قلته الآن. لقد أُرسلت إليك وثيقة من ثلاث نسخ لكي تقرأها بإمعان. فهل كان لديك وقت لقراءتها؟»
«أجل، يا سيدي، وأودُّ أن أقول على الفور إنني سأُوقِّع عليها ببالغ السعادة؛ لأنني على أيِّ حال إذا تقلَّدتُ المنصب الرفيع الذي عرضتُموه عليَّ، فسيَنبغي عليَّ حينئذٍ أن أستشير قداستكم في كل مسألة أراها مُهمة بالقدر الكافي بحيث تستحق انتباهكم، ولا يمكنني على أيِّ حال تكوين رأي مخالف لحكمة نيافتكم مجتمعةً.»
لبضع دقائق ساد حديث هامس بين ثلاثتهم، ثمَّ تحدَّث رئيس أساقفة ماينتس مرة أخرى:
«أيها الأمير رولاند، مرةً أخرى أتحدَّث باسم زميليَّ، وأؤكد لك أن كلماتك حازت أعلى آيات الرضا من جانبنا. في عالم اليوم بأسره، لا يُوجد شرف أرفع مقامًا من ذلك الذي في يدِ سُلطة الأمراء الناخبين منحك إياه، وإنها لبُشرى مباركة من أجل رفاهية بلادنا أن ترتبط طاقة الشباب وطموحه في هذا المنصب الرفيع بخبرات كبار السن.»
هنا قام بإشارة، فقدِم مسرعًا الحارس المُسن الذي كان مستندًا بظهره إلى الباب، بعيدًا عن مرمى السمع؛ نظرًا لأن الحديث كان يدور بنبرات خافتة وهامسة، وطلب منه رئيس أساقفة ماينتس أن يأتي بالوثائق التي في عهدته. وفُردَت الوثائق أمام الشاب الذي وقَّع على كل نسخة منها في صمتٍ عميق، لم يَقطعه سوى صوت خربشة ريشة الكتابة على الورق.
وحتى هذه النقطة، ما كان رولاند إلا أمير الإمبراطورية؛ أما الآن، ولأسباب عمَلية، فقد صار هو الوريث المُنتظَر للعرش. كان رئيس أساقفة ماينتس هو مَن أشار إلى هذا الاختلاف بدقة، عندما طلب من الخادم أن يُحضر كرسيًّا، ثم طلب من الشاب أن يجلس عليه. افترض رولاند أن المراسم قد انتهت، ولكن صار من الواضح أن شيئًا آخر كان باقيًا، حيث اقتربت الرءوس الثلاثة الحكيمة بعضها من بعض مرةً أخرى، واتَّضح وجود خلاف هامس بينهم بخصوص أسلوب فتْح الموضوع. تطوع رئيس أساقفة كولونيا، باعتباره الأصغر سنًّا بين الثلاثة، بالقيام بدور المتحدث الرسمي، ونظر إلى الشاب وعلى وجهه ابتسامة قبل أن يشرع في الحديث.
«أعيش في مكانٍ أبعد من زميلَيَّ عن مدينتك، مدينة فرانكفورت الجميلة، رغم اضطرابها، وربما هذا أحد الأسباب التي تَجعل معرفتي محدودة بالمدينة ومجريات أمورها من خلال الملاحَظة الشخصية. أتصوَّر أنني يُمكنني القول إنك شابٌّ يروق لنا جميعًا بدرجة كبيرة، ولذا أي سؤال قد أطرحه عليك أتمنى ألا ترى فيه شيئًا خفيًّا مُضمرًا لا يبدو في ظاهره.»
أخذ رولاند نفسًا عميقًا، وشحب وجهه بعض الشيء.
وقال في نفسه: «ما القادم، بحق السماء، الذي يَستدعي هذه المقدمة المشئومة للغاية؟ لا بد أنه شيء أكثر خطورة من المعتاد. ليَمنحني الرب القدير الشجاعة لمواجهته!»
ولكنه ظاهريًّا أومأ فقط برأسه.
«كنَّا جميعًا شبابًا، وأثق بأنه لم يَنسَ أحدٌ منَّا المُغريات، وربما المخاطر، التي تحيط بالشباب من كل جانب، لا سيما حين يتبوأ أحدهم منصبًا رفيعًا. قيل لي إن فرانكفورت مدينة مُترَفة مليئة بالملذات، ولا شك أنك خالطت الناس، إلى حدٍّ ما على الأقل، في مجتمعها.» هنا توقَّف رئيس الأساقفة برهةً، ونظرًا لأنه من الواضح أنه كان ينتظر ردًّا، تحدَّث رولاند قائلًا:
«أخشى أن أقول، يا سيدي، إن فرصي في التعاملات الاجتماعية حتى الآن محدودة إلى حدٍّ ما. فأنا منشغل بدرجة كبيرة بالدراسة، والوقت المتاح لي لاكتساب رفقاء، فضلًا عن أصدقاء، قليل.»
«ما تقولُه سموُّك وتتصور — كما يبدو لنا — أنه عيب، أمر جيد. فهو يَجعل المستقبل خاليًا من التعقيدات التي ربما تسبِّب لك الإحراج.» هنا ابتسم رئيس الأساقفة مرةً أخرى، ووجد رولاند نفسه مُعجبًا بالأسقف الجليل. وأردف قائلًا: «لم أرغب في الحديث عن الرجال، وإنما عن النساء.»
صاح الشاب المتهور قائلًا: «أوه، أهذا كل شيء؟» وتابع: «كنتُ أخشى، يا سيدي، أنك كنتَ على وشك فتح موضوع خطير. أما بخُصوص النساء، فأنا غير مُهتم بأيٍّ منهنَّ، باستثناء والدتي.»
وهنا ابتسم الأساقفة الثلاثة بدرجات مُتفاوتة؛ حتى إن شفتي رئيس أساقفة ماينتس الصارمتين استرختا جراء التأكيد الواثق من جانب الشاب الذي رأى أن الاهتمام بالنساء ليس بالمسألة المهمة.
وتابع رئيس أساقفة كولونيا قائلًا: «سموُّك تُمهِّد لي الطريق على نحوٍ مُثير للإعجاب، وتُزيح عن صدري عبئًا ثقيلًا؛ لأن أخويَّ وضعا ثقتهما فيَّ لعرض مقترحٍ أجد بعض الصعوبة في عرضه عليك. إن الأمر هو التالي. يعدُّ اختيار الإمبراطورة من أهم المسائل التي ينبغي أن يتخذ الإمبراطور قرارًا حيالها. وتلعب التفضيلات الشخصية دورًا كبيرًا في اختيار الزوجة، في جميع الطبقات باستثناء أرقى الطبقات، ولكن في حالة الملك ألا تتَّفق معي أنه يجب وضع اعتبارات الحكم في الحسبان؟»
«بالتأكيد، يا سيدي.»
«هذه هي المسألة التي أعطيناها، نحن الناخبين الثلاثة، جُلَّ الاهتمام، وفي النهاية اتفقنا على مَن نعتقد أنها تمتلك المقوِّمات الضرورية؛ فهي سيدة ذات نَسب عريق، وشديدة التديُّن، وفاحشة الثراء، وآية في الجمال. وهي تنتمي لأرقى العائلات في البلاد. إنني أتحدَّث عن هيلديجوندي لوريتا بريسيلا أجنيس، كونتيسة فون ساين. إذا كان لديك أيُّ أسباب لعدم توافُق تفضيلك الشخصية مع تفضيلنا، فأودُّ منك أن تذكرها بصراحة تامة.»
صاح رولاند، وهو يتنفَّس الصعداء حين عرف أن مخاوفه لا أساس لها من الصحة تمامًا: «ليس هناك أيُّ أسباب على الإطلاق، قداستكم.» وأضاف: «سأكون سعيدًا للغاية وسأحظى بشرف كبير حين أتزوَّج من تلك السيدة في الوقت الذي يقع اختيار قداستكم واختيارها عليه.»
قال رئيس أساقفة ماينتس وهو يهبُّ واقفًا ويتحدَّث بنبرة إجلال عظيم: «إذن، جرى اختيارك الإمبراطور المستقبلي لبلادنا.»