استقصاء مفهوم «السياسة»
نادرًا ما يجد الفرد تعريفًا واضحًا لما هو سياسي (شميت ٢٠٠٥أ، ٢٠).
(١) تعريف «السياسة»
كانت خطة هذا الكتاب هي الاستقصاء المتتابع لمفاهيم «الدين» و«السلطة» و«السياسة»، ثم النظر في إمكانية الاستفادة من هذا التدقيق في اختبار تساؤل معين في مجالي الدين والسياسة؛ إذ يهدف الاستقصاء إلى بيان كيف يمكننا كشف الفرضيات غير المدروسة الكامنة في قلب تلك المفاهيم. كما يدعم الاستقصاء الدراسة التاريخية لظهور المؤسسات التي تؤثر في نظرتنا للدين والسياسة. سأحاول في هذا الفصل أن أكون راديكاليًّا حيال مفهوم «السياسة» كما فعلت مع «السلطة» و«الدين». واستقصاء «السياسة» إذن سيتطلب إجراء دراسة جوهرية بنفس القدر لتاريخ المؤسسات الكبرى والمفاهيم الشائعة في ثقافتنا، كما فعلت فيما يخص «السلطة» و«الدين». فما الافتراضات التي قامت عليها محاولات الفلاسفة السياسيين في الغرب الرامية إلى تعريف المجال «السياسي»، والتي ربما أدت إلى تشويه نظرتنا للدين والسياسة؟
لكن ليس ما يجعل التقصي في «السياسة» أكثر تشويقًا تلك التعريفات السطحية التي نجدها في القواميس، أو الاختلافات الكيفية التي نراها فيما بين أنواع الأنظمة السياسية الاستبدادية والسياسة الحديثة، بل نقطتان أبعد من ذلك؛ الأولى: هي السؤال المتعلق بكيفية ارتباط «السياسة» — باعتبارها مجالًا حياتيًّا — بغيرها من مجالات السلوك الإنساني. فهل السياسة، كما يقول «الواقعيون السياسيون»، أحد مجالات الحياة المتميزة بصورة أو بأخرى، بل والمستقلة، خاصة فيما يتعلق بالأخلاق والدين؟ أم أنها مع اتصافها ببعض التميز تتداخل مع أجزاء أخرى من العالم الإنساني؟ فهل من المنطقي مثلًا الحديث عن كلٍّ من السلطة الشرعية السياسية والدينية، باعتبارها خصيصة من خصائص هذين المفهومين؟ وإن ذهبنا لدرجة اعتبار «السياسة» مستقلة بذاتها، فكيف يمكن إثبات هذا الزعم؟
والثانية: هي السؤال أنه بينما يوجد إجماع كبير على أن السياسة تتضمن بالضرورة شئون الدولة، فهل من المحتمل أن يعد هذا توصيفًا ضيق الأفق للغاية، كما ذكر ميشيل فوكو؟ وهل من الأفضل اتباع استراتيجية فكرية تعتبر «السياسة» شيئًا يطغى على كل جوانب الحالة الإنسانية طالما نسعى لتعزيز سلطتنا الذاتية؟ وهل هذا من شأنه أن يخدم مقاومة الميل نحو فصل السياسة عن الشئون الإنسانية اليومية بأن نتقبل تعريفها الذي ينص على أن «كل شيء سياسي»؟ وهل من شأنه أن يحقق هدفًا نظريًّا أجدر أن يُعرِّف «السياسة» بصورة فضفاضة لتشمل الصراع على الهيمنة، والسلطة على الآخرين، والاستئثار بالسلطة لأنفسنا، وغير ذلك تحت مسمًّى واحد؟ أعتقد أن الإجابة على هذين السؤالين تتطلب الإقرار بأن «السياسة» مفهوم مركب، لكنه محدود، ويحمل في طياته قدرًا كبيرًا من المفارقة.
(٢) حيث لا سياسة: الاستبداد والشمولية
إن البعد التاريخي لمصطلح «السياسة» قد يُفسر قول بعض المفكرين السياسيين — مثل كينيث مينوج — بأن السياسة ليس لها وجود في الأنظمة الاستبدادية التقليدية أو في الأنظمة الشمولية الحديثة. وبتعبير أدق، تنعدم الأصول المفاهيمية لمصطلح «السياسة»، فالمفاهيم الخاصة بالسياسة، كالمواطنة والدساتير ومجالس النواب وجمعيات «الدولة من الناحية التجريدية» تنعدم كلها (فيتزجيرالد ٢٠٠٧، ١٩، مينوج ١٩٩٥، ٣، سكينر ١٩٧٨، ٣٥٢-٣٥٣). ففي بلاط ملك أو في قصره هناك دائمًا نميمة بلا حدود، وضغائن لا تنتهي، وجميع أنواع المراوغة ضمن دوائر النخبة. ويوجد أيضًا السلوك الذي يوصف ﺑ «السياسي»، لكن ليس هناك سياسة بحق؛ لأنه لا يوجد أي دولة لها إقليم أو أي «كيان سياسي» بخلاف شخص الملك نفسه، فلا يوجد سوى خلافات وروابط تتكتل حول شخص الملك الفعلي. وما يُطلق عليه «السياسة» الدولية في الملكيات قبل العصر الحديث لا يكاد يختلف عن العدائيات بين «عائلات» المافيا كتلك التي ظهرت في الدراما التلفزيونية بين أسرتي دي مايو ولوبرتاتسي الإجراميتين المتنافستين في مسلسل «آل سوبرانو» الشهير. يقول كوينتين سكينر إن «الدولة بالمعنى التجريدي» لم «تُفصل عن شخص صاحب السيادة» إلا فيما نشره جان بودان عام ١٥٧٦ في «الكتب الستة في الجمهورية» (فيتزجيرالد ٢٠٠٧، ١٩، سكينر ١٩٧٨، ٣٥٢-٣٥٣). على أي حال يشير هذا الاختزال المتشدد لمعنى «السياسة» فيما قبل العهد الحديث في الغرب إلى غيابها عن «المجال العام»، فالسياسة لا يُفترض أن تُمارس إلا في الحياة الخاصة أو الشخصية أو العائلية للملك. والسياسة بالمعنى الذي عرفه المستبدون مثلها مثل أزياء الملك، أو مثل شئون قصره الخاص لا تخص في الحقيقة أي شخص آخر؛ وهو أمر مقصود في حد ذاته. وكم كانت تُعد شئون الإنجاب والنسل الخاصة بالملك — في المقابل — ضمن نطاق الشئون العامة للمملكة؛ إذ كان للرعية اهتمام المتفرجين بجنس ولي العهد، أو إتمام زواج ما، أو صحة أفراد العائلة المالكة، لكن الملك المستبد كان يتبع سياسة يكون بموجبها «اللاعب» الوحيد. الحال ليس كذلك لدينا؛ فالسياسة ليست شأنًا يخص الجميع فحسب، بل ينبغي أن تكون كذلك، فالسياسة واجب من واجبات المواطنة، بل هي أهم جانب في الحياة العامة لدى البعض. وعندما أيَّد روبسبير في واقعة لا تُنسى الإعدامَ الرسميَّ للويس الرابع عشر، أعلن أن الملك «يجب أن يموت لأن الأمة يجب أن تعيش» (والزر ١٩٩٢، ١٣٤). إذن فقد حارب روبسبير — شأنه شأن قَتَلَة الملك في الحرب الأهلية الإنجليزية — فكرة أن «السياسة» باعتبارها شأنًا خاصًّا بالملك، الذي يُمثِّل جسده «الكيان السياسي»، والذي مُسحت رأسه يومًا ما بالزيت المقدس للملكية، لا تبطُل إلا عندما لا تجري شعائر مباركة الملك بالزيت المقدس — عندما تتقطع أوصال «الكيان السياسي» الذي بورك بالزيت المقدس — عندما تُنزع الرأس التي تحكم بحكم الشعائر المقدسة من الجسد المُذعِن. إن هذا لا يقل عن القول بأن الاستبدادية التقليدية التي تركز على شخص الأمير تُقدم ضربًا من السياسة لا سياسة فيه على الإطلاق.
والمفارقة أن الدين — في نظر الكثيرين — شأن «شديد الخصوصية» تمامًا مثلما كانت السياسة في الأنظمة الغربية الاستبدادية الشمولية، أو التي كانت قائمة فيما قبل العهد الحديث، فالدين في صورته المعهودة أخلى «الميدان العام» ليحتمي بالملاذ الآمن في قلب الإنسان وضمير الفرد. الدين لا يزيد كثيرًا عن كونه مجرد اعتناق معتقدات معينة أو الاستمتاع بتجارب داخلية معينة، أو بعبارة أخرى لا يزيد كثيرًا عن كونه مجرد صورة مثالية للعالم العلماني أو «السياسي» كما تعرفه الحداثة.
(٣) السياسة القائمة بذاتها
إلا أن ما يزيد مفهوم «السياسة» إثارة للاهتمام نقطة أخرى على الأقل ذات بُعد وُجُودي. فلا السياسة التي نفهمها من خلال التعريفات السطحية التي نجدها في القواميس، ولا الفروق القاطعة التي نجدها بين أشكال الأنظمة الاستبدادية أو الشمولية تبين الطبيعة الجوهرية لافتراضاتنا عن السياسة التي تشكَّلت على مر التاريخ. فالسياسة بفضل مكيافيلي وهوبز وآخرين — مثلها مثل «السوق الحرة» — يُتصور أنها عالم مستقل منفصل في حياة الإنسان. يقول مارك لِيلا؛ الأستاذ بجامعة كولومبيا واصفًا هذه العملية بأنها «عملية الفصل العظيمة» — إن الغرب «حرَّر وعزل ووضَّح القضايا ذات الصبغة السياسية الواضحة بعيدًا عن التكهنات بشأن الرابطة الدينية.» ويعني هذا عند لِيلا أن السياسة «صار لها من الناحية الفكرية عالمها الخاص الذي يستحق الدراسة المستقلة» (ليلا ٢٠٠٨، ١٦٢). ويطلق على أبرز مؤيدي هذا المفهوم عن السياسة القائمة بذاتها «الواقعيون السياسيون». مثال لهم كبيرهم الفيلسوف السياسي هانز جيه مورجنثاو، وتلميذه المعاصر الأكثر شهرة هنري كسنجر؛ إذ يرى مورجنثاو أن السياسة «قائمة بذاتها»، بمعنى أنه يُعرِّف السياسة باعتبار أنها لا «تاريخ» لها، فهي شيء مطلق ولا يخضع للزمن: يقول مورجنثاو إن «السياسة — كالمجتمع بصفة عامة — تحكمها قوانين موضوعية لها جذورها في الطبيعة الإنسانية»، بالإضافة لذلك «لم تتغير قوانين السياسة منذ أن سعت الفلسفة القديمة في الصين والهند واليونان لاكتشافها» (مورجنثاو ١٩٦٥، ٤). ومن بين مصادر القيمة الأخرى في «المجال العام» — القانون والأخلاق والدين وغير ذلك — «لا يسعنا سوى إخضاع هذه المعايير الأخرى لمعايير السياسة.» كما يقول مورجنثاو (مورجنثاو ١٩٦٥، ١١).
لا ينبغي أن نتصور أن مورجنثاو عرَّف «السياسة» بأنها سيدة الحياة الإنسانية القائمة بذاتها «من فراغ» — أي بصورة نظرية — فتعريف مورجنثاو «للسياسة» أُعد خِصيصَى ليتناسب مع الأهداف الفكرية والاستراتيجيات التي رأى أن عالمه يفرضها. وبصفته لاجئًا من ألمانيا النازية يكتب ويفكر في خضم الحرب العالمية الثانية؛ فقد عاش في عالم مشئوم مليء بالتهديدات. وعلاوة على ذلك، صار مقتنعًا بالفعل من خلال إخلاصه لنيتشه بأن القيم الأخلاقية في الغرب كانت في مرحلة انحلال (فراي ٢٠٠١، الفصل الخامس)؛ لذا لم يعد سوى السياسة باعتبارها «قوة فاصلة تشكل الواقع داخل الأمم وفيما بينها» (فراي ٢٠٠١، ١٤٣). إذن يرى «الواقعيون» مثل مورجنثاو أن السياسة — في تلك الأوقات وربما بصفة أعم — هي ما يحفظ الحق في تنظيم الحياة الاقتصادية، وفي فرض الولاء على الدوائر الدينية أو الأخلاقية. إن الاعتقاد التقليدي بأن السياسة دائرة فريدة ومستقلة في حياة الإنسان، يعني من الوجه الآخر التأكيد على استقلالها عن الأشياء التي نسميها قيودًا «اقتصادية»، أو التحفظات «الدينية» و«الأخلاقية». كما يعني ذلك التأكيد على الحق والواجب الذي يقع على القوى التي تسعى إلى الحفاظ على القيم الإنسانية — كالحلفاء في الحرب العالمية الثانية — في جعل السياسة دليلهم الأوحد. إن صعود نجم هتلر أثبت لمورجنثاو وغيره من «الواقعيين» أن المثالية السياسية فلسفة ضعيفة غير مجدية في وقت كانت «الواقعية» الصريحة هي الفلسفة الوحيدة التي يمكنها أن تتغلب على الأعداء ذوي القوة الكبيرة. لقد قال وودرو ويلسون — ربما يعد أشهر ممثل للمدرسة «الشرعية الأخلاقية» من بين مدارس المثالية السياسية التي عارضها مورجنثاو — إن الأمة «لها قوة أخلاقية عظيمة، بل وعظيمة جدًّا» (ويلسون ١٩١٣). إلا أن جورج كينان، وهو أحد الواقعيين السياسيين من فريق مورجنثاو، كان سريعًا وحاسمًا في هجومه على مثالية ويلسون: «إن الأمة التي تبرر أخطاءها بقدسية تقاليدها التي لا تُمس يمكن أن تسمح لنفسها بالوقوع في كارثة شاملة» (كينان ١٩٥٢، ٧٣). لقد أعطى هذا المنظور شكلًا محدد المعالم لتعريف مورجنثاو «للسياسة» في الإطار الواقعي.
نحن إذن مَن طَرح — في تاريخ الغرب — هذا المفهوم عن السياسة والمفهوم الغريب المميز المنبثق عنه: «رجل السياسة»، أو بالأحرى «رجل السياسة المحترف». وكما قال العظيم ماكس فيبر، فإن هذا الكائن لا يدخل مجال السياسة باعتباره مجرد «هواية»، أو من أجل قضاء وقت تسلية عابر أو «عرضي»، بل بوصفه فردًا ينتمي لنوع بشري ظهر حديثًا؛ فالسياسة إذن «حرفة» — تكاد تقترب من «الهدف» المقدس — و«وظيفة» (فيبر ١٩٤٦، ٧٧–١٢٨، ٨٣)؛ وبذا فإن هذا الكائن قد يعيش «من أجل» السياسة بوصفها هواية، و«عليها» بوصفها مهنة، معًا (فيبر ١٩٤٦، ٧٧–١٢٨، ٨٤). ويمارس هذا الكائن، بوصفه «سياسيًّا بارزًا» أو «وزيرًا»، السياسات باعتبارها نوعًا من «الفن» (فيبر ١٩٤٦، ٧٧–١٢٨، ٨٩). إلا أن هذا الكائن الجديد في الغرب — كما يؤكد فيبر — ليس الرمز المعروف الموجود في كل مكان؛ أي الشخص الذي يخدم الأمير ويقدم له النصح. وبينما قد يمارس هذا الكائنُ الذي أوجدناه السياسةَ في إطار «الخدمة» المخلصة لحاكم ما، يقول فيبر إن الغرب وحده هو المكان الذي يخدم فيه السياسي المحترف قُوًى غير الحاكم بصورة متفانية ومنتظمة ومِهْنية؛ أي بصفته سياسيًّا «محترفًا» (فيبر ١٩٤٦، ٧٧–١٢٨، ٨٣-٨٤). ومن أجل خدمة تلك القوى التي تتجاوز شخص الحاكم، من الضروري — كما سنرى — أن تظهر «السياسة» أو المجال السياسي، كما رأينا «الدولة بالمعنى التجريدي … تُفصل عن شخص صاحب السيادة» (فيتزجيرالد ٢٠٠٧، ١٩، سكينر ١٩٧٨، ٣٥٢-٣٥٣)؛ إذ لا يخرج «رجال السياسة» عن استراتيجيات التحول الاجتماعي الأعم التي تجعل وجودهم ممكنًا. مرة أخرى، لا يهبط الساسة علينا من السماء، ولا يظهرون من العدم، بل خلال مسار تدفق الأحداث والأهداف على مدار التاريخ.
(٤) عندما لا يكون لمفهومنا عن «السياسة» معنًى
إلى جانب النظر في تاريخنا بهذه الصورة، يمكننا أن ندرس التميز الثقافي لمفهومنا عن «السياسة» بإخضاعه للمقارنة الصارمة المهذِّبة عبر الثقافات. لقد لفت اثنان من أشهر المعجبين بعالم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوارد إﯾﭭﺎن إيفانز بريتشارد — هما ماري دوجلاس ولويس دومو — إلى رفضه منح مفهومنا عن «السياسة» صفة العموم، أو التطبيق المجرد، أو قيامه بذاته؛ إذ تشك ماري دوجلاس، على سبيل المثال، فيما إذا كان يمكن أن يقال عن قبائل النوير في شرق أفريقيا أنها «تمتلك أي شيء يناظر المؤسسات السياسية» (دوجلاس ١٩٨٠، ٦٢)، فعلى حد قولها: «المشهد السياسي عند قبائل النوير شبه خاوٍ» في أفضل الأحوال، وتضيف: «بل هو منعدم فعليًّا» (دوجلاس ١٩٨٠، ٦٤)، وليس هناك «أي بنية للسلطة؛ إذ تصف عبارة «الفوضى المنظمة» الوضع.» فافتراض أن قبائل النوير تعرف السياسة يصل عند ماري دوجلاس — مثل الحال عند طلال أسد مع «الدين» — إلى حد «الفرض غير المدروس للأفكار من ثقافة ما على ثقافة أخرى» (دوجلاس ١٩٨٠، ٦٣).
أما دومو فهو يشكك من جانبه أيضًا في عمومية السياسة باعتبارها مصطلحًا عابرًا للثقافات؛ حيث يقول دومو مقتبسًا كلمات إيفانز بريتشارد: «ليس ثمة ما يضمن أن يكون تمييز المجتمعات الحديثة للبعد السياسي وحده سببًا في أن يكون بُعْدًا مقارنًا بالقدر الكافي» (دومو ١٩٧٥، ٣٢٨–٣٤٢، ٣٣٧). ومثلما هو الحال في افتراضنا لعمومية مفهوم «السوق الحرة» «يتناسب مذهبنا السياسي مع عاداتنا الفكرية بينما تتعارض المذاهب الأخرى مع سلامتها» (دومو ١٩٧٥، ٣٢٨–٣٤٢، ٣٣٨)، فعند النظر إلى السياسة باعتبارها عالمية ومستقلة بذاتها، نمارس سلوكًا مراوغًا في حماية ما وضعناه من ثقلٍ في مسمياتنا وخططنا الثمينة، إلا أن الأسوأ من مجرد حماية نظرتنا الراسخة للعالم هو أن التاريخ يعلمنا أن افتراض استقلال السياسة بذاتها — عن الدين مثلًا — في الشئون الدولية يمكن أن يدفع دولة ما لاتخاذ خطوات خاطئة تتعلق بسياساتها — كما في العالم الإسلامي — ففي الشئون الدولية، نحن ندرك — ربما شيئًا فشيئًا — أن الدين والسياسة لا ينفصلان تلقائيًّا بعضهما عن بعض.
إذن، بفضل جهود علماء الأنثروبولوجيا كإيفانز بريتشارد، أصبح افتراضنا لعمومية استقلال «السياسة» بذاتها من عدمه إشكالية كبيرة. نعم، تتحالف قبائل النوير مع غيرها أو تتقاتل معها، وهي تتقاتل ويعادي بعضها بعضًا بصورة فردية أو جماعية، وهي تسوِّي خلافاتها وعداواتها وتعقد التحالفات والمعاهدات، لكن قبائل النوير لا تفصل مثل هذا النشاط وحده باعتباره نشاطًا «سياسيًّا»، «فالحياة السياسية النظامية» تنعدم فيما بين قبائل النوير (إيفانز بريتشارد ١٩٤٠، ١٨١). لذا، مهما كان كُنْه ما نجد عند النوير، لا نجد سياسة ناشئة أو نظامًا سياسيًّا مستقلًّا؛ فليس عند قبائل النوير أمثال مكيافيلي ولا هوبز ولا هانز مورجنثاو ولا هنري كسنجر.
(٥) بنية مفهوم السياسة
يقوم «الاستقصاء» على فرضية مفادها أن السياسة — بدرجة كبيرة على الأقل في الغرب — عبارة عن تصنيف بنيوي، تمامًا مثلما يُفهم «الاقتصاد» باعتباره سوقًا غير منظمة. كيف إذن أصبحنا تلك الكائنات «السياسية» و«الاقتصادية» التي نحن عليها الآن، بل وصلنا لدرجة كتمان أسباب ذلك وكيفيته؟ ربما يمكن فهم ما أقصده على نحو أفضل بالنظر إلى نشأة أو ظهور مجال الاقتصاد.
حاول كارل بولاني في كتابه الشهير عن تاريخ الاقتصاد «التحول الكبير» أن يشرح كيف ساد تقليد «السوق الحرة» في مجتمعنا، وكيف ظهر الاقتصاد بصفته أحد الجوانب المستقلة في الحياة (دومو ١٩٧٩، ١٦٤). كيف كان للسلوك الدال على وجود قيم السوق أن يعم مجتمعنا كله؟ لماذا لم تقتصر قيم السوق على السلع التقليدية، وطغت على العلاقات الإنسانية؟ كيف تحوَّلت العلاقات الإنسانية — والبشر أنفسهم — حتى فيما سوى العبودية إلى سلع، وصارت تُعامل معاملة الأشياء؟
يقول بولاني إن التحولات الاجتماعية والثقافية الطويلة والبطيئة، لكن العميقة رغم ذلك، التي حدثت في التاريخ الغربي، وضعت قيم الاقتصاد أو السوق في علاقة مضطربة مع باقي جوانب الحياة (بولاني ١٩٤٤)، ويبين بولاني كيف تحول الأمر على مدار قرون من «تضمين» الأسواق وفكر السوق — أي تعظيم الأرباح وتفضيل الأشياء على الأشخاص وغير ذلك — في المجتمع إلى تضمين المجتمع في السوق. يبين بولاني من الناحية التاريخية أن القيم الخاصة بالسوق كانت تخضع في وقت معين للقيم الاجتماعية الأعم — كالعلاقات المبنية على العاطفة، أو الروابط العائلية، وامتيازات الحاكم، والعادات المحلية وغيرها — لكن بعد ذلك أصبحت الحياة الاقتصادية المعروفة باقتصاد السوق تُعتبر شيئًا لا يتطلب الضبط؛ ومن الأفضل أن يُترك حرًّا ومستقلًّا.
يمكننا أن نتتبع مزاعم بولاني تاريخيًّا بالنظر في تاريخ القيود التي فرضتها على نشاط السوق مؤسسات مثل الكيان السياسي للكنيسة، فكل شيء كان يخضع للتنظيم الذي يخدم احتياجات الكيانات السياسية والدينية في المجتمع؛ إذ حددت تلك الكيانات كل شيء بدءًا من الساعات والأيام التي تعمل فيها الأسواق مرورًا بتنظيم الاستيراد والتصدير، وتنظيم الأسعار والأجور، ونظام «النقابات» لتنظيم مزاولة الحرف وممارستها، واستثناء الأراضي والعمالة من اقتصاد السوق، إلى «القوانين الزرقاء» وغير ذلك. لكن مع تحوُّل الأشياء الهامة إلى سلع كالأرض، ومع سقوط حواجز التجارة، تغير الوضع في غير صالح الكيانات السياسية والدينية، ولم تعد الأسواق قابلة للضبط. وأصبح الاقتصاد بهذه الصورة مستقلًّا وحرًّا؛ فقد تغلبت قوة السوق — من ناحية ما — على القوى التي كانت تقيد نطاقها ومجالها في العادة، وبذلك تحررت من جميع القيود على أنشطتها، فكل شيء وأي شيء صار «للبيع»؛ أي سلع مناسبة يمكن تبادلها في السوق، وكان على المجتمع في النهاية أن يعتمد على الأسواق بطريقة لم تحدث من قبلُ، وصار المجتمع كما يقول بولاني «جزءًا» من السوق، ويشمل هذا السياسة لدينا كذلك، طالما أن القيم الاقتصادية تضع قيودًا على الخيارات السياسية.
يوجد مقصد آخر من طرح هذا المثال المتعلق بتنامي استقلالية الأسواق، والمفاهيم الاقتصادية، ويتمثل في الإشارة إلى أننا نعيش في عالم تترسخ فيه بعض القيم لدرجة أننا نظنها «طبيعية»؛ إذ نشعر بأن هذا هو حال الأشياء دائمًا وأبدًا، لكننا بفضل بحث بولاني التاريخي نعلم أن الحال كان مختلفًا في الماضي فيما يخص ما يسمى بالجوانب الاقتصادية لحياتنا؛ فالأسواق «الحرة» لا هي طبيعية ولا هي وضع أولي للإنسانية. وتتيح لنا تلك الملاحظة بدورها تصور كيف قد يختلف الحال في المستقبل؛ لذا يمكننا على الأقل أن نحرر عقولنا من هيمنة واقعنا الحالي، وأن نبذل ما في وسعنا في سبيل تغيير القيود التي فرضتها التحولات التاريخية، أو على الأقل مراوغتها قدر الإمكان. وبما يخدم أهداف الكتاب، يعني هذا — كما استقصى بولاني مفهوم «الاقتصاد» أو «السوق الحرة» — أننا يمكننا استقصاء مفهوم «السياسة» أيضًا، ويمكننا بهذه الصورة أن نتشكك في الوضع الذي يريد الناس منا أن نظن أنه الواقع عندما يستخدمون لفظ «السياسة». وخلال ذلك يمكننا أن نتخذ أولى خطوات التحرر من هذه الصورة من الحكمة التقليدية، وأن نبدأ في إدراك العالم بصور مختلفة.
أما في السياسة فقد جرى تحول موازٍ له نتائج مشابهة في تاريخ الغرب، فلم يكن هناك أي مفهوم (مستقل) عن السياسة، إلا أنه جاء إلى الوجود، فالسياسة — بهذا المعنى — ظهرت من العدم، وظهر معها الخطاب والحديث عن مفهوم «السياسة». إذن لقد كانت — ولا تزال — توجد تجارب يومية نَصِفها جميعًا ﺑ «السياسية»، مثل الصراعات على السلطة والنفوذ، وأمور السيادة وغير ذلك من صور الصراع الجماعي، والقرارات التي تحدد مَن يحكم، وبأي وسيلة وغير ذلك. كما يمكننا اليوم أن نسوق أمثلة للسياسة؛ مثل: المشاركة في المظاهرات الاحتجاجية، والامتناع عن الطعام من أجل السلام، والترشح لمنصب في الانتخابات، والمراوغة في اجتماع حكومي، والعمل لصالح عضو في مجلس محلي لمدينة في الانتخابات، ومحاولة فهم دوافع الجيوش الغازية وقوات المقاومة، وتحديد أسباب تنفيذ الرجال والنساء للتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط وغير ذلك. كل هذه الأشياء التي ندرجها بالفعل تحت بند «السياسة» هي أشياء «رأيتها»، لكنني لم أرَ قط شيئًا مستقلًّا بذاته اسمه السياسة. وهذا لأنه لا توجد أي حقائق عن السياسة باعتبارها واقعًا مستقلًّا مثلما الحال عندما نطلق على شيء ما أنه «دين»، أو «فن»، أو «سوق حرة»، أو غير ذلك. كلمة «السياسة» هي مصطلح نستخدمه لجمع بعض أشكال السلوك والبيانات الأولية ضمن تصنيف نرى أنه يشير إلى حقيقة فريدة مستقلة في جوهرها. و«السياسة» أيضًا «مركب» صنعناه لخدمة أهداف واستراتيجيات محددة. «السياسة» كلمة نُطلقها — بصورة واعية أو غير واعية — على تأويلنا لحقائق معينة نريد أن نُفصِّلها وننسبها إلى فئة مشتركة من الأشياء في هذا العالم. لهذا السبب «تنعدم الحقائق عن السياسة» حرفيًّا؛ فنحن مَن نطلق اسم «السياسة» على بعض فئات المعلومات.
(٦) رؤيتان مدمرتان لمفهوم «السياسة»
سأبدأ مواجهتي للتصورات التقليدية عن السياسة بتناول ذلك الاعتقاد بأن كلمة «السياسة» تشير إلى كيان مستقل، فأنا أرفض الرأي القائل إن «السياسة» تشير إلى قاعدة مفاهيمية كامنة تنفصل عن التحولات التاريخية، وتخلو من «شوائب الأشياء» الأخرى في عالمنا — مثل «الفن» و«الأخلاق» و«السوق» و«الدين» والأهداف والاستراتيجيات التي نُلحقها بها؛ لذا فأنا أختلف مع الاقتصادي العظيم والأب الروحي لمدرسة الواقعية السياسية هانز مورجنثاو؛ ففي كتبه الستة عن الجمهورية يؤكد مورجنثاو بلا تردد أن السياسة «قائمة بذاتها». يقول مورجنثاو: «يحافظ المؤمن بالواقعية السياسية فكريًّا على استقلالية مجال السياسة تمامًا، كما يحافظ رجل الاقتصاد، ورجل القانون، ورجل الأخلاق على استقلالية مجالاتهم» (مورجنثاو ١٩٦٥، ١١). لكن كما أشرت في بداية هذا الكتاب لا يستحق أي من تلك المجالات الاستقلالية التي يدعيها، حتى وإن استطعنا أن نستفيد من تميزها المرتبط بأهداف واستراتيجيات معينة. ولكي ننصف مورجنثاو، فإنه في حين لا ينكر أن هناك «أشياء» أخرى — كالقانون والأخلاق والدين وغيرها — قد تدخل ضمن العوامل المؤثرة في شئون الناس، «هو لا يستطيع أن يُخضعها لمعايير السياسة» (مورجنثاو ١٩٦٥، ١٢). إن تأكيد مورجنثاو على استقلالية السياسة يستلزم، بطبيعة الحال، أن تكون السياسة بلا تاريخ، «فالسياسة — مثل المجتمع بصفة عامة — تحكمها القوانين الموضوعية التي لها جذورها في الطبيعة البشرية.» وهذه «القوانين لم تتغير منذ أن سعت الفلسفة القديمة في الصين والهند واليونان لاكتشافها» (مورجنثاو ١٩٦٥، ٤). يعني هذا أن السياسة خاصية مفردة، وطبيعية، وعابرة للقارات، وثابتة للطبيعة البشرية العامة غير المتغيرة. فيوجد — وطالما كان يوجد — طريقة واحدة فحسب لوصف شيء بأنه سياسي، بنفس المنظور الذي يؤمن به رجال السوق الحرة أن «الأسواق — المستقلة — الحرة» طالما كانت موجودة، وأن الناس طالما حركتهم السوق في أي معاملات يمكن أن توصف بالاقتصادية؛ فنحن البشر لم نكن «معظِّمين للربح» دائمًا فحسب، بل وكنا معظمين للسلطة القسرية في الوقت ذاته.
كل رابطة قوة تتضمن رابطة سلطة في جميع الأوقات … وكل رابطة سلطة تتجسد باعتبارها نتيجة لها، بل شرط لإمكان وجود مجال سياسي تكون هي جزءًا منه، فالقول إن «كل شيء سياسي» يؤكد على الوجود الشمولي لعلاقات القوة ولملازمتها مجالًا سياسيًّا (فوكو ١٩٧٧، ١٨٣–١٩٣، ١٨٩).
يمكن القول فيما يتعلق بكلتا النظرتين إن «نموذج الصراع» يطغى عليهما، فسواء كنا نزعم وضوح استقلال السياسة بذاتها أم نصبغ الحياة الإنسانية كلها بصبغة واحدة، تَعتبر النظرتان الحياة الإنسانية في جوهرها ساحةً للصراع لا التعاون، وفرض الذات لا القيم المشتركة؛ إذ لسنا اجتماعيين بالفطرة ومتعاونين بالتبعية، بل نحن أفراد مستقلون بصورة ما ينبغي أن نُجبر على الحياة معًا؛ فنحن لم نُخلق للصداقة، بل للعداوة.
إنني أختلف مع أتباع مورجنثاو وفوكو، على حد سواء، فمعتقداتهم عن «السياسة» تضرُّ كثيرًا بفهم الحياة الإنسانية؛ لذا علينا أن نتغلب على هاتين الفرضيتين لأنهما تمنعان عنا أي أفكار جديدة مفيدة عن أمور الشئون الإنسانية؛ كالعلاقة بين الدين والسياسة، فهاتان الفرضيتان — كل منهما بطريقتها — هما فرضيتان غير مدروستين تمامًا مثل القوالب الفكرية التقليدية الستة عن الدين، التي انتقدتها في الفصل الثاني، فهما كمثل كل القوالب الفكرية تُسطِّحان تفكيرنا، وبذلك تعيق محاولاتنا لفهم أنفسنا بما في ذلك ما نسميه «الدين» و«السياسة».
وفي مقابل هاتين النقطتين اللتين تندرجان ضمن الحكمة التقليدية، سأطرح نقطتين؛ أولاهما: أنني سأقدم تحليلًا لنشأة مفهومنا عن السياسة في سياق الأحداث التاريخية ذات الخصوصية الثقافية في تاريخ الغرب؛ إذ أرى — خلافًا لمورجنثاو — أن السياسة كما نعرفها مرتبطة بالتاريخ. علاوة على ذلك، فإن ما نطلق عليه اسم «السياسة» غالبًا ما ارتبط ارتباطًا وثيقًا بما نسميه «الدين» على وجه الخصوص، أو صنعه هذا الدين المزعوم في واقع الأمر؛ ففي زمان ومكان ما، لم يكن «لدينا» ما يستحق أن يُطلق عليه «سياسة»، بل كان يوجد مجموعة من العوامل والمؤسسات مختلفة التسمية، لكن في زمان ومكان آخرين صار «لدينا» «شيءٌ» نسميه السياسة. إن هذا البيان التاريخي يرصد سمة مميزة في ثقافتنا؛ ألا وهي الظروف المحددة التي أدت إلى ظهور الدولة القومية — أو الدولة — واستمرارها وبخاصة علاقتها ﺑ «الكنيسة المتحولة».
لذا فأنا ملتزم بالرؤية القائلة إن تاريخنا كان يمكن أن يتخذ مسارًا غير الذي اتخذه فعلًا، فربما لم يكن ليصير لدينا مفهوم «الدين» ولا «السياسة» ولا «الفن» ولا غير ذلك، فماذا لو استمر مثلًا نهج البابا جلاسيوس القائم على أساس العلاقة التبادلية بين الإمبراطورية والكنيسة؟ ماذا لو لم يتخلَّ الباباوات والأباطرة عن احترامهم المتبادل والتسامح المقترن بالاحترام بعضهم لبعض وللسلطتين المختلفتين — السلطة الشرعية والسلطة القسرية — اللتين كانوا يمثلونهما؟ ماذا لو لم تتمكن الدولة باعتبارها «كنيسة متحولة» من الاحتكار المطلق لاستخدام القوة — السلطة القسرية — وكان عليها بعكس المؤسسات التي تعتبر نفسها تجسيدًا قائمًا بذاته للسلطة القسرية أن تتفاوض على استخدامها للقوة مع باقي أعضاء المجتمع؟ ماذا لو لم يتوافر للدولة — نتيجة لذلك — ميزة كونها هذه «الكنيسة المتحولة» بكل ما يعنيه ذلك من ناحية السلطة الشرعية المعززة المستمدة من مفهوم الدولة القومية باعتبارها كيانًا مقدسًا؟ ماذا لو لم تكن الحدود بين «الأمم» مقدسة، ولم يكن التعدي عليها السببَ في الصراعات المسلحة، أو الترحيل الجماعي للمهاجرين «غير الشرعيين»، أو العناصر «الأجنبية»؟ ماذا لو لم يكن من الضروري أن تكون الدولة موحدة كما نتصور بحيث لا يمثل اختلاط الجماعات العرقية أو الدينية المختلفة داخل حدودها نوعًا من التعدي المفسد الذي يتطلب التطهير الجذري؟ ماذا لو لم يكن «خطأً قاتلًا» أن تسمح الدولة القومية بقيام «دويلات داخل الدولة»، بحيث يصبح الحكم الذاتي والاختلاف داخل الدولة تمجيدًا للاختلاف والتنوع، لا مقدمة للمجازر المنظمة أو المذابح؟ إن مثل تلك الاعتبارات تدفعني لأن أشك في أن كياناتنا ومسمياتنا الحالية «طبيعية» وحتمية بكيفية ما. وفي هذا الفصل، أرى السياسة باعتبارها واقعًا مرتبطًا بالتاريخ، وواقعًا أنوي استقصاء نشأته.
إن ثقة الفيلسوف السياسي محط سخرية … من جانب عدم انتظام الأمور الإنسانية؛ إذ قبل أن يحدد الفيلسوف نطاق السلوك الاقتصادي، أو يحكم على تأثيرات الدين في الحياة العامة، كان الناس بالفعل قد قبلوا وصدقوا ما صدقوه، ورفضوا وأنكروا ما أنكروه، فهم لم ينتظروا من الفيلسوف أن ينظِّم لهم أفكارهم وأفعالهم، ولم يقضوا حياتهم الخاصة والعامة واضعين في الاعتبار تبعاتها السياسية (ويزلتير ١٩٩١، ٨٠–٩٩، ٨٠).
تقترن هاتان النقطتان معًا بطريقة قوية ومربكة عندما نفكر في العلاقة بين الدين والسياسة. وتبدو لي السياسة في أبرز صورها عندما يُقدَّر دور الدولة حق قدره، لا عندما نتصور السياسة جانبًا عامًّا ومتوغلًا في الحالة الإنسانية، فلن أدافع إلا عن مفهوم السياسة المرتبط بظهور الدولة أو الدولة القومية، باعتباره وثيق الصلة ببعض القضايا الكبرى في الدين والسياسة اليوم — خاصة مسألة العنف الديني — لذا فإن أثر المفارقة في القول إن «كل شيء سياسي» هو أن يغض المرء الطرف عن بعض الأشكال المضنية في التفاعل بين السياسة والدين في عالمنا اليوم. وسنتناول هذا التفاعل في مناقشة الفصل الأخير لما يسمى بالتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط، باعتبارها دراسة اختبارية للنظرة الجديدة نحو الدين والسياسة التي حاولتُ أن أدعو إليها في هذا الكتاب.
(٧) دروس تاريخية للبروفيسور مورجنثاو
إن السياسة لدينا ليست قائمةً بذاتها، فهي تدين بكل شيء يرتبط بها لجذورها في التاريخ الديني للمسيحية اللاتينية وصراعاتها مع أشكال الدولة المختلفة. لقد ذكرت في النقطة التي توقفت عندها في مناقشتي لتاريخ الإمبراطورية الرومانية المتأخرة في الفصل السابق أن ما هو ديني امتزج بما هو سياسي في جمهورية مسيحية واحدة تهيمن عليها المؤسسات الإكليركية مثل المؤسسة البابوية، فالسلطة البابوية كانت «المناظر للسلطة التي يمارسها اليوم ما نطلق عليه الدولة» (أوكلي ٢٠٠٣، ٦)، فالدولة في العصور الوسطى كانت بالتبعية عبارة عن «كنيسة متحولة». وهذا يعني أن الكنيسة مارست — إضافة إلى السلطة الشرعية — السلطةَ القسرية بصورة لم تحدث في القرون الأولى من حقبة ما بعد الميلاد. فلنذكر انهيار التصور الذي وضعه البابا جلاسيوس الأول. إذن فمنذ نشأة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، على الأقل، واعتراف الباباوات بالأسرة الكارولنجية، حكمت الكنيسة العالم هي الأخرى باعتبارها قوة دنيوية تتسلح بالسلطة القسرية مثلها مثل غيرها من «حكام هذا العالم». ورجوعًا إلى القرن الخامس، يزعم فرانسيس أوكلي أن «الكنيسة لم تعد منظمة تطوعية خاصة تشبه المنظمات الاجتماعية الأخرى، وتحولت بدلًا من ذلك إلى مجتمع إلزامي شامل قسري يشبه ما نسميه الدولة، لا يكاد يمكن تمييزه عنها في شموليته» (أوكلي ٢٠٠٦، ٩٤).
إذن فقد كان الوضع في الإمبراطورية الغربية اللاتينية الإفرنجية يتعارض مع نظيره السائد في الإمبراطورية الشرقية البيزنطية. صحيح أن الأباطرة الغربيين مثل قسطنطين، وكذلك الأباطرة الفرنجة أصحاب الإمبراطورية الرومانية المقدسة حكموا وفقًا لمبادئ الملكية المقدسة المحدودة والمقصورة مثل نظرائهم في الشرق، لكن برغم الاعتقاد بالاختيار والتوجيه الإلهي للأباطرة الغربيين، فإنهم لم يديروا أمور الأسرار المقدسة. كيف إذن تختلف افتراضات الإمبراطور الشرقي ليو الثالث الذي ذكَّر البابا بأنه «وإن كان إمبراطورًا فهو لم يزل كاهنًا»؟ (أوكلي ٢٠٠٦، ٧٩) ففي الغرب، كانت «الكهنوتية الملكية» في الكنيسة الرومانية هي السمة البارزة؛ لذا فقد صارت الكنيسة أساس «مَلَكية من نوع غير مسبوق؛ ملكية روحية» (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٥٠)، بل وصل الأمر بفيجيس إلى زعمه أنه بهذه الطريقة، كان البابا أول من طالب بالحقوق الإلهية للملوك (فيجيس ١٩٩٨، ٢٩).
لكن رغم أن سلطة البابا في العصور الوسطى التي جمعت بين السلطتين الشرعية والقسرية تجاوزت سلطات الإمبراطور، فإن الممارسة الفعلية للطاعة والخضوع سبَّبا أزمات أعمق؛ لذا فمع أن البابا كانت له «سيادة على كل الملوك والأمراء»، كان هذا الشرط دائمًا عرضة للاعتراض الشديد؛ غالبًا من الناحية الفعلية إن لم يكن من حيث المذهب الجديد (فيجيس ١٩٩٨، ٣٧). ويخبرنا مثال ما بالكثير عن هذا الترتيب المضطرب؛ فقد أقال هنري الثالث الإمبراطور الروماني (١٠٣٩–١٠٥٦) ثلاثة «منافسين» على منصب البابا، ثم عين ثلاثة آخرين كان آخرهم من أبناء عمومته (أوكلي ٢٠٠٦، ١١١). لكن في استعراض مذهل للسلطة البابوية على الأباطرة الرومانيين، عُزل ابنه هنري الرابع (١٠٥٦–١١٠٦) في خلاف مع جريجوري السابع حول الحق في «تعيين» الأساقفة، فتاب هنري عن اعتراضه، والتمس من البابا أن يتراجع عن عزله بأن وقف في الثلوج ثلاثة أيام خارج بوابات قلعة كانوسا في يناير عام ١٠٧٧. وأخيرًا عيَّنه البابا من جديد، لكن بمجرد عودته واصل انتهاكاته! لذا فبينما يمكننا رؤية أن الباباوات كانوا يحكمون، فقد واجهوا بعض الصعوبات في ذلك نوعًا ما. وعكس هذا الترتيبات البنيوية المزدوجة التي اتُّفق عليها بين البابا وشارلمان. وخلال تلقيه لقب الإمبراطور من البابا، أكد شارلمان كذلك على «سلطته العليا» بجانب «واجبه لحماية الكنيسة، بل وإداراتها» (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٤٩).
كل المفاهيم المحورية في نظرية الدولة هي الصورة العلمانية من المفاهيم اللاهوتية لأسباب لا تقتصر على تطورها التاريخي — الذي تحولت خلاله من اللاهوت إلى نظرية الدولة، وفيها مثلًا حلَّ المشرِّع الكلِّيُّ القدرة محل الرب الكلي القدرة — بل تشمل كذلك بِنْيتها الممنهجة التي يعد الاعتراف بها ضروريًّا من أجل النظر في تلك المفاهيم من منظور علم الاجتماع (شميت ٢٠٠٥ب، ٣٦).
لكن بينما لا يوجد داعٍ لأن نبالغ بقدر ما بالغ شميت، يمكن لنا أن نعرف من فيجيس تحديدًا أن جانبًا كبيرًا من السياسة عندنا له جذور متأصلة في الدين؛ لذا فإن «العبارات الرنانة في إعلان الاستقلال الأمريكي أو كتاب حقوق الإنسان … ليست اكتشافًا جديدًا، بل هي وريثة كل العصور، ومستودع كل المشاعر والأفكار الخاصة بسبعين جيلًا من الثقافة» (فيجيس ١٩٩٨، ٣٠). فقواعد ممارسة السلطة القسرية، إن جاز التعبير، كُتبت على يد الباباوات بقدر ما كانت نتيجة الأعمال الإمبراطورية. إن واقع الحكم الدنيوي من قِبل مؤسسة أخروية من الناحية النظرية — كالكنيسة — قد ترك بصمته على تراث السيادة العملية والفكر السياسي في الغرب (أوكلي ١٩٩٦، ٦٠–١١٠، ٩٣).
(٨) ما تدين به المبادئ الدستورية لمجمع كونستانس
يعلن مجمع كونستانس المقدس أولًا أنه انعقد شرعًا باسم الروح القدس، وأنه مجمع عام يمثل الكنيسة الكاثوليكية، وهو بذلك يستمد سلطته مباشرة من المسيح؛ وأن جميع الناس بكل مراتبهم وأوضاعهم — بما في ذلك البابا نفسه — قيد طاعته (بيتنسون ١٩٧٠، ١٩٢-١٩٣، ورد في أوزمنت ١٩٨٠، ١٥٦).
استمر فكر كونستانس وغيره من أمثلة ما يُسمى بالفكر «المجمعي» في القرن الخامس عشر رغم الانتكاسات وعودة السلطوية البابوية في العصور الحديثة؛ لدرجة أن ذلك «كان له تأثير واضح على المنظِّرين الدستوريين وأصحاب نظرية المقاومة في القرنين السادس عشر والسابع عشر» (أوكلي ١٩٩٦، ٦٠–١١٠، ٩٣).
يرى المتحمسون لكونستانس أن مرسوم المجلس حدَّد وضع البابا بأنه «حاكم دستوري بطريقة ما أو بأخرى» (أوكلي ٢٠٠٣، ٧٢)؛ وبذلك فقد مثَّل هذا المرسوم — بحسب أحد أشهر مؤرخي تلك الحقبة — شيئًا لا يقل عن أن يكون «أكثر الوثائق الرسمية ثورية في تاريخ العالم» (فيجيس ١٩٩٨، ٣٤)؛ فقد كانت تلك الوثيقة الصادرة من مجمع كونستانس — المرسوم المقدس — أول وثيقة رسمية تُثبت «حقوق الشعب» أو «السيادة الشعبية» في تاريخ الغرب. لقد كان المرسوم المقدس الصادر في أوائل القرن الخامس عشر قطعًا وثيقة «شعبوية» و«ديمقراطية»، كما كانت الوثيقة العظمى (ماجنا كارتا) «في المجال السياسي». وعلى المدى البعيد، أسست الإدارة المجلسية لمبدأ مفاده أن «الحق الإلهي» يكمن في الناس كذلك؛ أي إنه «يكمن في المملكة الروحية للمؤمنين» (أوكلي ١٩٦٢، ١–٣١، ٣١) ويعني هذا أيضًا أن المرسوم المقدس رغم أنه قد لا يكون إعلانًا مباشرًا لمفاهيمنا الحديثة عن الديمقراطية وحقوق الأفراد، كما كان إعلان الاستقلال الأمريكي وكتَّاب حقوق الإنسان، فإنه قد وجَّه دفة الأحداث في ذلك الاتجاه.
إذن فكل الأسباب تدعو للاعتقاد بأن الدروس المستفادة من مجمع كونستانس انتقلت إلى مؤسسي الجمهوريتين الأمريكية والفرنسية عن طريق أصحاب نظرية المقاومة والدستوريين في القرن السابع عشر. وكان ذلك «البرلماني القوي» ويليام برين البيوريتاني (١٦٠٠–١٩٦٩) يذكر بصورة متكررة سابقة مجمع كونستانس في إطار جهوده للتأكيد على سيادة البرلمان على الادعاءات الاستبدادية لملك إنجلترا (أوكلي ٢٠٠٣، ٢٣٠). ويقول المؤرخون المعاصرون، بدءًا من ديل فان كِلي، الذي أرَّخ للينسينيين الفرنسيين وكوينتين سكينر الذي أرَّخ للمقاومة الكالفينية ومفكري الثورة؛ إن مجمع كونستانس مهَّد الطريق، وإن لم يكن على نحو مباشر، لمولد مفهومنا الحديث عن «الدستورية» (سكينر ١٩٧٨، ١٢٣).
إن الرفض الكامن في هيكلنا الدستوري للاستبداد ربما يجعل سياساتنا تبدو بلا مبادئ، لكنه شجَّع في معظم تاريخنا على عملية جمع المعلومات والتحليل والمناقشة التي تتيح لنا أن نتخذ قرارات أفضل — إن لم تكن مثالية — بشأن الوسائل المؤدية لغاياتنا، بل وبشأن غاياتنا نفسها كذلك (أوباما ٢٠٠٦، ٩٤).
إذن فالمبادئ الدستورية — ضمن تلك الرؤية — تحمل قيمة أستطيع القول إنها «دينية» مطلقة؛ حيث إنها تجسد «غايات» الحياة ذاتها؛ فالطبيعة المطلقة التي لا يرقى إليها شك لالتزام أمتنا بالمبادئ الدستورية دفعت نفس الرجل الذي أصبح فيما بعد الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما إلى قوله: «أحيانًا ما أتصور أن عملي لا يختلف كثيرًا عن عمل أساتذة اللاهوت الذين كانوا يُدرِّسون في الحرم الجامعي» (أوباما ٢٠٠٦، ٨٥).
لا يسعني هنا سوى أن أذكر أن عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد يرفض — كما هو متوقع — أن ينسب للدين — وهو المسيحية في هذه الحالة — أي دور في تشكيل أفكارنا وكياناتنا السياسية. يقول أسد موجهًا سهام نقده إلى أحد أشد مؤيدي هذه الرؤية باعتراف الجميع؛ وهو كارل شميت: «من بين الأشياء التي أجد نفسي معترضًا عليها في أفكار كارل شميت عن اللاهوتية السياسية هي محاولته بيان أن كثيرًا من الأفكار السياسية العلمانية أفكار مسيحية في جوهرها» (سكوت ٢٠٠٦، ٢٤٣–٣٠٣، ٢٨٥)، إلا أنني أقول إنه ربما على أسد أن يكون أكثر انتباهًا للأصول الدينية لمؤسساتنا السياسية الأمريكية الحديثة؛ إذ هل من المعقول حتى بعد تحقيق «الفصل الكبير» بين الدين والسياسة — بعد نزع «ذراعي» الدين والسياسة إحداهما عن الأخرى مؤخرًا — أن يكون كلٌّ من هاتين «الذراعين» — اللتين ارتبطتا إحداهما بالأخرى ارتباطًا وثيقًا زمنًا طويلًا — غريبة عن الأخرى تمامًا؟ (ليلا ٢٠٠٨) ينبغي أن يتَّضح أنه في ضوء نشأة بلدنا نتيجة لتحولات تاريخية تميز الحضارة الغربية، وفي ضوء تأثر الحضارة الغربية في جوانب مهمة بالمسيحية؛ فإن الأساس الذي نشأ عليه بلدنا يكاد لا يفارق تاريخه المسيحي-اللاتيني أو الغربي على الأقل.
لكن هنا تكمن الإشكالية بالتحديد، وحول هذه النقطة اندلعت بعض أشرس المعارك حول «الحروب الثقافية» الأمريكية؛ فبأي صورة يمكن أن يقال عن الولايات المتحدة إنها تدين للمسيحية بحيث تفرض علينا المواطنة التزامات يمكن القول إن لها جذورًا في تاريخ المسيحية في الغرب، وتُعرَّف في ضوء ذلك؟ وإن اتفقنا مع اليمين المسيحي، فلا يشفع أقل من إيمان كل الأمريكيين بالرب ليظلوا مخلصين لتأسيس الولايات المتحدة. فكما يقول اليمين المسيحي: ألا يحسم المسألة المعتقداتُ التوحيدية للمؤسسين التي جسدتها إشارة إعلان الاستقلال إلى «رب الطبيعة» و«الخالق»؟ من بين دلالات مجادلتي الحالية أن الخلاف حول علاقة السياسة لدينا بالدين في الولايات المتحدة تسير في الاتجاه الخاطئ، فاليمين المسيحي يبحث بحثًا في غيره موضعه عن دلائل على أهمية الدين في تأسيس الولايات المتحدة، فليست المعتقدات المسيحية الجوهرية هي التي ينبغي علينا أن نتأملها كي نفهم القيم السامية التي نشأت عليها أمتنا، إنما الحقائق التاريخية العرضية عن المسيحية اللاتينية — كالإدارة المجلسية — هي ما ينبغي أن ننظر فيه بحثًا عن أسباب إخلاصنا للمبادئ الدستورية الجمهورية. فالمسيحية كان يمكن أن تختلف كثيرًا عن كونها كيانًا مبنيًّا على المبادئ المجلسية النيابية. وفي الوقت الذي لا يمكن فيه تصور المسيحية من دون يسوع — أو التوحيد — وعدد من المعتقدات الأخرى، من الممكن تصورها دون انعقاد مجالس الكنيسة فيها، ومن دون اتخاذ أي قرارات من قِبل المجامع التي تمثل تقريبًا العضوية في الكنيسة بوصفها كيانًا جماعيًّا. لقد بذلت «البابوية السامية» كل ما في وسعها لتمحو الإدارة المجلسية التي سادت الألفية الأولى للتاريخ المسيحي من ذاكرة المسيحية الجمعية. ومسألة أن «البابوية السامية» فشلت في عملية المحو هذه، وكذلك مسألة أن الإدارة المجلسية تمثل جوهر التراث الإصلاحي، وكذلك قاطرة ريادة الكاثوليكية الرومانية التقدمية — متجسدة في المقاومين من أمثال اللاهوتي السويسري هانز كونج — كلتاهما تدلان على الطبيعة السياسية لهذا الصراع الجاري من أجل تعريف طبيعة السيادة في الكنيسة (كونج ٢٠٠٧).
لذا فإن القول — كما فعلتُ أنا — بأن السياسة تبدو عليها بصمة الماضي لأنها مستمدة من المجامع المسيحية لا يُلزم أي فرد باعتناق أي معتقد مسيحي جوهري، بل يعني ذلك الاعتراف بالتحولات التاريخية المؤسسية الملموسة التي أنتجت سياستنا الدستورية والنيابية. لطالما استغل الأوتوقراطيون النموذج النمطي الذي يضفي الشرعية على الاستبدادية البابوية ليرسخوا استبدادهم الذاتي. وفي ضوء ما ذكرته، يمكن إذن للملتزمين بأشكال الحكم الدستورية والجمهورية أن يثقوا بأن الاستعانة بتاريخ المسيحية اللاتينية يمكن كذلك أن يدعم المؤسسات السياسية الديمقراطية. وبدلًا من أن يجعلنا ذلك مسيحيين جميعًا، ينبغي أن يصنع منا جميعًا مؤرخين، بل وأضيف مؤرخين للدين. ومن هذا المنطلق، فإن استيعاب كيف ولماذا لا يمكن فصل السياسة عن الدين لا يفرض أي التزام ديني، بل لا يستلزم سوى الإيمان بحقيقة التحولات والمؤسسات التاريخية، فإقرار الابتكارات الحديثة لا يتطلب إنكار الأسس القديمة. وهذا أحد أسباب عدم صحة القول بأن السياسة مستقلة بذاتها ومتحررة — في حالتنا — من الدين.
(٩) خروج السياسة من رحم الدين
لكن هذا يضعنا أمام تساؤل يتعلق بالكيفية التي فصلت بها السياسة نفسها عن اللاهوت، فإن كانت العصور الوسطى تتميز بالتداخل أو الاختلاط بين ما هو دنيوي وما هو أخروي، بين الإمبراطورية والكنيسة، وبين السلطتين الشرعية والقسرية للملك وللكهنوت، فكيف حدث الانفصال بين المؤسستين بطريقة نعتبرها الآن طبيعية أو عادية؟ ما الشيء الذي كان حدوثه حتميًّا بالنسبة لهؤلاء الذين شعروا بأن مؤسسة مثل الكنيسة ينبغي إبعادها لإفساح المجال للمؤسسات المدنية المستقلة عنها؟ ما هي إذن الأحداث والظروف التي أوحت بوجود عالم قائم بذاته اسمه السياسة؛ عالم يحتكر السلطة القسرية واستخدام القوة وغير ذلك؟ كيف ظهرت مفاهيم «السياسة» وما هو «سياسي»؟ ما الذي أتاح ظهور الفكر المميِّز لمكيافيلي ولوثر وهوبز وروسو كما حدث؟ ما الذي أتاح حصرهم للدين — كما رأينا سالفًا في «استقصائنا لمفهوم الدين» — في النطاق «الخاص» أو الشخصي أو الداخلي؟ وما الذي بموازاة ذلك جعل تأكيدهم على ما هو سياسي، والذي يُفهم باعتباره تمجيدًا للسلطة وصولًا بها إلى مستوى السلطة القسرية، وكذلك تأكيدهم على نموذج الصراع بوصفه الصورة الأسمى للحياة الاجتماعية والعامة؛ مردهما بالضرورة إلى فكرهم؟ كيف إذن ظهرت الفكرة المثالية لاستقلال السياسة بذاتها التي افترضتها وعززتها نظرتهم؟
يعني هذا أيضًا أن نطرح السؤال الأكثر تناقضًا، وهو: كيف خرج «دين الدولة» من رحم دين الكنيسة وحل محله؟ كيف — رغم المحاولات المقصودة من قِبل العديد من مفكري العصر السياسيين الرامية إلى تطهير المجال العام من الدين — عاد الدين بغير قصد إلى الظهور تحت اسم «السياسة»؟ كيف أنهم برغم محاولاتهم الرامية إلى عزل الدين في نطاق الضمير الفردي الداخلي والخاص لم يتمكنوا إلا من تقديس السياسة، ربما على عكس ما أرادوا؟ كيف برغم محاولاتهم استبعاد ما هو مقدس من الحياة العامة لم ينجحوا إلا في نقل «هالة القدسية» مما هو إكليركي إلى «السيادة الدنيوية» دون علم؟ (فيجيس ١٩٩٨، ٧٢) كيف اتسمت السلطة المدنية بكثير من السمات البارزة للمؤسسات الإكليركية كالكنيسة برغم جهود الكثيرين المضنية لمنع حدوث ذلك؟ كيف وصل الأمر بالدولة حد أن تشعر بأنه من «الطبيعي» أن «تُعلي من شأن المجتمع المنظم بناءً على ولاء أعضائه»؟ (فيجيس ١٩٩٨، ٩٦) كيف أصبحت الدولة تستحق «الفداء»، بل وفي حالات عديدة أسمى من الدين، حتى وإن أدَّت نفس الدور الذي كان يؤديه الدين في وقت ما؟ لماذا صارت سلطتها الشرعية على الحياة والموت غير قابلة للنقاش على نحو شبه تام، مثل أي بيان صادر عن الفاتيكان بمقتضى السلطة المطلقة؟ كيف لمؤسسة دنيوية في العادة أن تكتسي مثلًا بصبغة دينية بأن صارت مركز الطاعة المطلقة؟ كيف احتكرت الدولة القومية هي الأخرى لنفسها استخدام السلطة القسرية — القوة والعنف — دون وجه حق؟ كيف إذن مهَّدت الحصانة المطلقة لوحدة الدين الطريق لافتراض وحدة الدولة، وقدسية حدودها، ووحدة أراضيها، وافتراض الحظر المطلق لوجود «دولة داخل الدولة» وهكذا؟
(١٠) مكيافيلي ولوثر: إسهامات محورية في استقلال السياسة
تكمن الإجابات عن هذه السلسلة الطويلة من التساؤلات جزئيًّا في سلسلة طويلة هي الأخرى من الدروس المستفادة من قمع القيم التي أكد عليها مجمع كونستانس (١٤١٤–١٤١٨). ويتجاوز تفصيل التاريخ الكامل لهذا التحول في التاريخ الغربي نطاق هذا الكتاب. وفي هذه الحكاية يؤدي توما الأكويني، وكالفن، وويليام الأوكامي، ولوك، وجروتيوس، وبوفندورف، واليسوعيون وغيرهم أدوارًا مهمة. سيتطلب الأمر تأليف كتاب آخر ليوفيهم جميعًا حقهم، لكني في المقابل أختار أن أركز على بعض اللحظات الفارقة في الحكاية. وبينما يعد تضخيم ردود الفعل على فشل مجمع كونستانس تسطيحًا شديدًا للأمور، فإن مطالبتنا هنا بتحديد بعض العوامل التي فرضت ظهور ما هو سياسي تتمتع بدرجة كبيرة من المصداقية. اسمحوا لي بأن أسلط الضوء على بعض أبرز النقاط الفارقة في الطريق الموصل إلى افتراض استقلال السياسة عن طريق الإشارة باختصار إلى صور المفكرين الكبار الذين برز اسمهم في سياق هذا التحول في وعي الغرب. وهنا أخصُّ مكيافيلي ولوثر بالحديث باعتبارهما قدَّما إسهامات كبيرة في فكرة استقلالية السياسة، وكذلك — للمفارقة — قدسيتها الملازمة لها.
تظهر الإشكالية الأخلاقية في السياسة نتيجة التناقض بين الأوامر الواردة في التعاليم المسيحية، والمثل الأخلاقية المسيحية من ناحية، وبين متطلبات النجاح السياسي من ناحية أخرى. فمن المستحيل — إن أمكنني أن أقول بعبارات قوية ومبالغ فيها نوعًا ما — أن تكون سياسيًّا ناجحًا، ومسيحيًّا متدينًا (مورجنثاو ١٩٦٢، ٩٧–١١٠، ١٠٢).
ينبغي إذن أن تنبني القرارات السياسية على أساس السياسة وحدها وليس على أساس الدين، فالقوة القسرية لا تعرف حدودًا سوى القوى المضادة، أو بعض الحسابات الواعية للمصلحة العائدة من وراء تحجيم استخدام السلطة القسرية، فالسياسة إذن كانت مستقلة عن الأخلاق أو الدين، وكانت تخضع لقواعدها الخاصة — القواعد التي تحكم لعبة التلاعب والقوة القسرية والمراوغة التي تحقق الاستفادة — قواعد الهيمنة باعتبارها قيمة في ذاتها.
أرى من الصعب جدًّا أن تكون مسيحيًّا يعمل في السياسة؛ لأن هدف الإنسان في السياسة هو الهيمنة على إنسان آخر، أي استخدام إنسان ما كالآلة، بوصفه وسيلة لتحقيق غايات شخصية. وهذا إنكار صريح للأخلاق اليهودية المسيحية، فالفعل السياسي يتعارض بصورة شديدة جدًّا مع القيم الأخلاقية المسيحية، ويتعارض معها بكيفية لا توجد في الفعل غير السياسي (مورجنثاو ١٩٦٢، ٩٧–١١٠، ١١١).
هذا يكفي أي شخص على درجة من الحمق تجعله يظن أن قيم المحبة والخير المسيحية يمكن أن تكون ذات قيمة في الحكم.
ننتقل بعد ذلك إلى لوثر، فنظرًا إلى أن اتحاد الهيمنة البابوية والإمبراطورية كان السبب في كبت الروح المجلسية في مجمع كونستانس، فإن رد الفعل عليه قد يكون ذا تبعات كبيرة، أهمها شراء مارتن لوثر لحرية السياسة على حساب قمع الجانب الإكليركي. لقد توازى رد الفعل على فكرة سمو الكنيسة مع تأكيد لوثر في المقابل على استقلال الدولة عن السلطة البابوية واستقلالها عن أي سلطة في الوقت المناسب، فالمجال السياسي كان مستقلًّا؛ لأن الحاكم كان لا يخضع لسلطة الكنيسة الشرعية ولا القسرية (فيجيس ١٩٩٨، ٦٧)، وبذلك حطَّم لوثر مبدأ «السيفين» الذي استخدمته الإمبراطورية والكنيسة كلتاهما لتمارسا السلطة القسرية طبقًا لنهج العصور الوسطى. وفي المقابل، سعى لوثر لتأسيس «حاكم إلهي» له الحق في امتلاك سلطة ممارسة القوة القسرية (فيجيس ١٩٩٨، ٦٥).
وفي الوقت الذي كان يحرِّر فيه لوثر الحاكم من هيمنة البابا، كان يرفع الحاكم والدولة إلى مستويات كانت مقصورة من قبلُ على البابا والكنيسة، إلى مستوى الحق الإلهي والاستبداد. واتفاقًا مع هذا الرأي، يقول كوينتين سكينر «لا شك في أن التأثير الأهم لنظرية لوثر السياسية في أوائل عصور أوروبا الحديثة يكمن في اتجاه تشجيع ظهور الأنظمة الملكية الاستبدادية والموحدة وشرعنتها» (سكينر ١٩٧٨). ومن هذا المنطلق، فإن عقيدة الحق الإلهي للملوك الكامنة في فكر لوثر وصلت لدرجة التأكيد على السيادة المطلقة على الجانب الإكليركي؛ إذ زعمت أن سلطة الحاكم مستمدة مباشرة من الرب، وبهذا فإن «المجتمع السياسي» له «حق ذاتي» في الوجود على هذا النحو. ولا يوجد الكثير من التأكيدات على استقلالية السياسة بذاتها (وسيادتها) فيما عدا لوثر. ويخلُص فيجيس إلى قوله إن ميراث لوثر السياسي لا يقتصر على جانب المبادئ، بل يتجاوزه إلى سيادة صورة معينة من الكيانات الاجتماعية — الدولة أو المجتمع السياسي — أي «الوحدة والشمولية والشرعية الجوهرية للدولة الإقليمية ذات السيادة، وإنكار كل أشكال الحياة الاجتماعية العابرة للحدود أو المستقلة» (فيجيس ١٩٩٨، ٧٠)، فالحاكم أصبح يملك «سيف المدنية»، وهو والدولة لا يخضعان لأيٍّ من الكيانات الإنسانية الأخرى، ويستقلان عنها؛ فهما يخضعان للرب مباشرة (فيجيس ١٩٩٨، ٦٣).
لكن إذا كانت الدولة قد أصبحت تهيمن على المجال العام حاليًّا، فربما نسترجع ما ذكرناه آنفًا عما حدث للدين، فإجابة لوثر بسيطة وقوية من ناحية المنطق الذي طرحه، فالدين يغادر «الساحة العامة» ويصير شأنًا خاصًّا وشخصيًّا يتعلق بالضمير ومقتصرًا على الكنيسة؛ فهو شيء يُمارَس إما في داخل الإنسان وإما مع غيره في خصوصية حميمية ضمن رفقة الكنيسة، لكن في أيام الأحد فقط. ولا نخرج من هذا بأقل من «الساحة العامة المجردة» التي أدى إليها في الأساس النقد الموجَّه إليها من القس ريتشارد جون نيوهاوس المتحول عن اللوثرية (نيوهاوس ١٩٨٤). فالمقابل «لإبراز» لوثر للدولة — إن جاز التعبير — هو أن «يختفي» الدين؛ بمعنى أن يصير الدين أمرًا داخليًّا في الأساس — أي مسألة تتعلق بالضمير الذاتي — من دون حق في أن يكون له صوت في «المجال العام»، أو أن يصير «منفصلًا» عن الدولة والسلطة (فيجيس ١٩٩٨، ٦٨)، فالدين — باعتباره كيانًا اجتماعيًّا — يغادر عالم السياسة في «المجال العام» ويترك للحاكم مسئولية الدين، «فكل السلطة القسرية يخولها للحاكم الحق الإلهي؛ إذ يُعهد إليه بسلطة الدولة المطلقة، فلا يمكن لأي مؤسسة أخرى منفصلة أن توجد إلا بأمره أو بتكليف منه … ولا ينبغي أن تقوم أي كيانات اجتماعية حقيقية بخلاف الدولة» (فيجيس ١٩٩٨، ٦٩).
ويمكننا فيما يتعلق بخصخصة لوثر للدين وقصره على المجال الفردي وتأليهه للدولة أن نرى روسو يخطو خطوة أبعد، فرغم أن روسو يطوِّر بالفعل فكرة «الدين المدني»؛ ومن ثم يضع الدين على ما يبدو في مكانه الصحيح في «المجال العام»، فإن مصدر ذلك الدين ليس الرب الأعلى في الأديان السماوية، بل هو نوع من التعبير عن الإرادة العامة، أي صوت «الناس». إذن ربما يكون الناس أفرادًا بطبيعتهم، لكنهم ليسوا كائنات اجتماعية، لكن بمجرد «إقرار» عقد اجتماعي كما تم، فإن الإرادة العامة المتجسدة فيه تخلق محصلة كلية من مجموع الإرادات الإنسانية المحتمل جموحها. وهذه المحصلة وحدها — المعروفة باسم «الناس» — تتمتع بالسيادة، والسياسة هي المتحدث بلسانها في العالم. وبما أنه لا توجد أي سلطة أعلى من الإرادة العامة، فهي تتمتع بسموٍّ يماثل ما كان يتمتع به الحاكم في تصور هوبز للكيان الاجتماعي المرتب بصورة سليمة. وفي كلتا الحالتين — كما الحال مع مكيافيلي ولوثر — تبرز السياسة قائمة بذاتها وسامية.
(١١) خطأ فوكو الثاني: «كل شيء سياسي»
أشرت منذ قليل إلى أن استقصاء «السياسة» في الغرب يكشف عن أن ما نعتبره سياسيًّا شكَّله — بل وحدد معالمه — تاريخ شديد الخصوصية. يجعل هذا من الصعب — إن لم يكن من المستحيل — أن نتفق مع أمثال هانز مورجنثاو، الذي يؤكد استقلالية السياسة بذاتها عن جميع الأنشطة والمعايير الاجتماعية الأخرى، بل وعن الفروق التاريخية كذلك. وفي المقابل، أشرت إلى أنه علينا أن نؤرخ تلك «السياسة» التي اشتُهرت باستقلالها ذاتيًّا، فالسياسة كانت مجالًا ناشئًا في الغرب. ومن الممكن كذلك في المستقبل أن تفقد استقلاليتها الناشئة، بمعنى اعتبارها خاضعة لغيرها من مجالات السلوك الإنساني كالدين والاقتصاد، أو تتأثر سلبًا بها. فهل النُّخب الدينية أو الثيوقراطية سوى مشروعات ينطوي الدين فيها على الاعتبارات السياسية البحتة و/أو يوجهها، مثلما الحال في الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ من أبرز شكاوى اليسار هو أن تلك التسوية تحققت بالفعل، فهم يرون أن حرية السوق في المجتمعات الليبرالية دُفع ثمنها عن طريق السيطرة السياسية. فالسوق ربما تكون مستقلة، لكن السياسة فقدت استقلاليتها. مع ذلك، لا أنكر أن السياسة تتمتع ببعض التميز، حتى في ظل تداخلها مع الجوانب الأخرى في العالم الإنساني. إذن من المنطقي مثلًا أن نتحدث عن كلٍّ من السلطة الشرعية السياسية والسلطة الشرعية الدينية بما أنهما تختصان بمجالَي السياسة والدين كليهما، لكن استقلال السياسة بذاتها يبقى مسألة متوقفة على تاريخنا.
وبينما يوجد اتفاق شائع على أن السياسة تتضمن بالضرورة شئون الدولة، فإن البعض قالوا إن هذا توصيف محدود أكثر من اللازم. فماذا لو عُدنا إلى إحدى «النقاط الست» لمورجنثاو وتبَنَّينا شيئًا يصطبغ بصبغة رأيه القائل إن «السياسة — كالمجتمع بصفة عامة — تحكمها قوانين موضوعية لها جذورها في الطبيعة الإنسانية …» وإن «قوانين السياسة منذ أن سعت الفلسفة القديمة في الصين والهند واليونان لاكتشافها لم تتغير»؟ (مورجنثاو ١٩٦٥، ٤) إن فعَلْنا ذلك فسوف نُعمم السياسة لتشمل كل نطاق الأفعال الإنسانية، ولن نهتم كثيرًا بأشياء مثل ظهور الدولة القومية مثلًا، وتحوُّل الكنيسة إلى الدولة، وتقييد الدين بالدوائر الخاصة بينما تهيمن الدولة على المجال العام، وهكذا.
كل رابطة قوة تتضمن رابطة سلطة في جميع الأوقات … وكل رابطة سلطة تتجسد باعتبارها نتيجة لها، بل شرطًا لإمكان وجود مجال سياسي تكون هي جزءًا منه، فالقول إن «كل شيء سياسي» يؤكد على الوجود الشمولي لعلاقات القوة ولملازمتها المجال السياسي (فوكو ١٩٧٧ب، ١٨٣–١٩٣، ١٨٩).
كل الصراعات السياسية، والصراعات على السلطة، أو التي توظف السلطة، أو التي تنشب في سبيلها، والتغيرات في علاقات القوة، وتفضيل نزعات معينة، والتعزيزات، وغير ذلك مما يجري في إطار السلام الأهلي لا ينبغي أن تُفسَّر بشيء سوى بأنها استمرار للحرب (فوكو ١٩٨٠، ٩٠).
وتلزم تلك النظرة فوكو بتبني ما يقر هو بأنه «انعكاس لمقولة كلاوزفيتز المأثورة»، فبينما يرى كلاوزفيتز أن «الحرب سعي وراء السياسة بوسائل أخرى»، يرى فوكو أن «السياسة سعي وراء الحرب بوسائل أخرى» (فوكو ١٩٨٠، ٩٠)، فنطاق السلطة كله عند فوكو ينحصر إذن فيما هو سياسي، وما هو حربي الطابع في نهاية المطاف، «فدور السلطة السياسية دومًا … هو إعادة خلق هذه الرابطة (الحرب) عن طريق نوع من الحرب غير المعلنة» (فوكو ١٩٨٠، ٩٠). يرى فوكو إذن أن المعنى الحقيقي «للسياسة» هو «دعم اختلال توازن القوى المشهود في الحروب وتعزيزه …» (فوكو ١٩٨٠، ٩٠)، وعلى عكس المعاني غير الواضحة التي رأيناها سمةً لكل من «الدين» و«السلطة»، فإن فكرة فوكو عن السياسة والسلطة لا يمكن أن تكون أكثر دقة.
لأن الدولة هي ما يحدد الإطار العام الذي تعمل ضمنه كل المؤسسات النظامية، فالدولة هي ما يفتح الباب أو يوصده أمام احتمال وجود مقاومة داخلية، وتسعى الفواعل في كل مؤسسة نظامية بالطبع لتوسيع مجالها، وزيادة سلطاتها وصلاحياتها. وفي النهاية، وحدها سلطة الدولة هي ما يمكن أن يوقفها، فكل عمل داخلي مقاوِم هو مدعاة للتدخل السياسي أو القانوني من المركز (والزر ١٩٨٦، ٥١–٦٨، ٦٦).
ينبغي أن يتضح من تناولي لعلاقات الإمبراطورية والكنيسة، ووضعي في الحسبان نشأة السياسة، أنني أنضم إلى فريق والزر في ظل اختلاف الأولويات هذا؛ إذ لا يمكننا مثلًا أن نستوعب شيئًا محوريًّا في عالم اليوم بقدر فكرة العلمانية — أي كيف يُقصَر الدين على العالم الخاص، ويُستبعد من النطاق العلماني «المجال العام» — ما لم ننظر إلى السياسة على مستوى الدولة. وإذا أخذنا بمنطق فوكو، فلا يمكننا أن نفهم جوانب الحياة التي نعيشها على مستوًى قريب كتصنيف العام/الخاص في حد ذاته ما لم نفهم كيف جعله التاريخ كذلك. وهذا أقل الأسباب التي تدفعنا لأن نتجاوز الفكرة القائلة بأن «كل شيء سياسي» إلى فهم السياسة ذاتها.
(١٢) الفاشية الخفية في فكرة أن كل شيء سياسي
سبب آخر يدعونا لأن نقاوم الاعتقاد بأن كل شيء سياسي، وأن السياسة هي الحرب بالأساس، وذلك هو الأسوأ. يتمثل هذا السبب في أن هذا الاعتقاد يعجز تمامًا عن إدراك المخاطر التي يتضمنها؛ إذ إننا نتصور أن هذا الشعور يمكن السيطرة عليه لصالح الأغراض التقدمية «النافعة» التي نفضِّلها. ونظن أن الكشف عن توغل السياسة في صورة الفاشية المصغرة في الحياة اليومية سيساعد على تحقيق الأهداف الليبرالية ويحرض عليها. وهذا ما سيحدث في الكثير والكثير من الحالات. إلا أنه ينبغي أن نذكر أنفسنا بأن الآراء النقدية المتعلقة بالليبرالية التي تمثل جانبًا مهمًّا في الفكر الليبرالي — كآراء طلال أسد وميشيل فوكو مثلًا — ربما لا يكون من السهل احتواؤها. في الواقع، كانت الآراء النقدية المتعلقة بالليبرالية من صلب الفكر النازي كنظام شمولي أُسس على هذا النحو. وهنا ينبغي الانتباه لكلمات الفيلسوف القانوني اليميني الألماني كارل شميت؛ فشميت يقول في تصريح مثير للفكر: «نادرًا ما يجد الفرد تعريفًا واضحًا لما هو سياسي» (شميت ٢٠٠٥أ، ٢٠)، إلا أن أي تردد نتجت عنه هذه العبارة لم يدم طويلًا، فشميت لا يكتفي بتَقَبُّله السياسة بكل جوارحه، بل يضع في قلبها نموذج السياسة باعتبارها حربًا، «فالسلطة القسرية» تمثل قيمته الأساسية. «إن التمييز السياسي الدقيق الذي يمكن أن تُختزل فيه الأفعال والدوافع السياسية هو التمييز بين الصديق والعدو» على حد قول شميت (شميت ٢٠٠٥أ، ٢٦)، فشميت باحتفائه بفكرة أن السياسة نوع من الممارسة الدموية يعبر عن ازدرائه لليبرالية، كما قد توحي بذلك صِلاته بالاشتراكية الوطنية في ثلاثينيات القرن العشرين. إذن فشميت يطلق العِنان لشعوره باحتقار ما يُسمى ﺑ «السياسة البرجوازية»؛ سياسة التسويات والمفاوضات البرلمانية، فالسياسة لا يمكن ترويضها بهذا الشكل؛ لأنها عبارة عن التحيز لطرف دون آخر. يرى شميت أن السياسة هي «إمكانية الموت في سبيل السمة المحددة التي تميز الإنسان» (سترونج ٢٠٠٧، ٩–٢١، ١٦)، فَحِسُّ «الجماعة» القوي ضروري للسياسة السليمة، حتى يمكن تعميق المواجهة بين الصديق والعدو للحد الأقصى. وبناءً على نموذج الصراع الضروري لمفهوم شميت عن السياسة، فهو يعلن أن «مفهوم العدو يحمل في طياته احتمال المواجهة الدائم» (شميت ٢٠٠٥أ، ٣٢)، ويضيف شميت على نحو مخيف: «إن العالم الذي يتلاشى فيه احتمال الحرب، العالم المسالم تمامًا، هو عالم لا فرق فيه بين الصديق والعدو؛ ومن ثمَّ لا سياسة فيه» (شميت ٢٠٠٥أ، ٣٥). فشميت لا يريد لأي جزء من العالم أن يخلو من السياسة، بل هو يؤيد على نحو فاعل وجود عالم يكون كل ما فيه سياسيًّا.
(١٣) العام والخاص: لا يوجد خطٌّ فاصل
مهما كان توسيع فوكو لمعنى «السياسة» خلَّاقًا وكاشفًا، أظن أنه انحرف كثيرًا ليتحول إلى نموذج للصراع في الحياة الإنسانية، وربما تجاهل خلال ذلك بعض خيوط البحث المهمة، فالحياة مستمرة من بعد فوكو، ويعتمد عيشها كثيرًا على استقصاء المفهومين اللذين لم يستقصهما فوكو؛ وهما «السلطة» و«السياسة»؛ لذا بينما أتاحت سهولة وشيوع حديثنا بطريقة غير مدروسة عن مفاهيم مثل «السلطة» و«السياسة» مجالًا مفتوحًا لجميع صور العمل التحرري، فإننا ندفع ثمن انفتاحها المفاهيمي، فعندما يشمل مفهوم «السلطة» — كما ذكرتُ في الفصل السابق — كل شيء بَدءًا «بالوكالة» في الطرف الأدنى من المؤشر، وحتى «الهيمنة» في الطرف الأقصى، فهل نتحدث في الحقيقة عن شيء واحد؟ وبالمثل عندما نعتبر أن السياسة تتعلق تقريبًا بكل شيء تطلع عليه الشمس، فهل نحن من نفس المنطلق نفكِّر على نحو أكثر وضوحًا، أو في الواقع على نحو أقل خطورة كما توحي إشارتي لكارل شميت؟ فعندما يُختزل المجال الاجتماعي في السياسة مستبعِدًا — على سبيل المثال — مجال المجتمع المدني، فنحن في قبضة هيمنةٍ إمبرياليةٍ على تفكيرنا.
ما الذي ينعكس في النهاية على آفاق الحياة الإنسانية وسماتها. إن تمسكنا بالعبارة التي نسمعها كثيرًا القائلة بأن «الأمور الخاصة تدخل ضمن السياسة»؟ وفي الوقت الذي سيختلف فيه ما يُعتبر «عامًّا» و«خاصًّا» باختلاف الظروف. ماذا يحدث إن تخلينا عن التمييز الذي يفرضه علينا الشعار القائل بأن «الأمور الخاصة تدخل ضمن السياسة»؟ كيف سيتأثر أسلوب حياتنا المرغوب إن تحولت بعض الجوانب التي تُعتبر «خاصة» إلى «عامة» بإدراجها ضمن السياسة؟ ففي سنوات ماضية — ولا يزال الحال في أماكن مختلفة — كان التعرض للزوجة بالضرب أو بعض صور العقاب البدني للأطفال يُعد بصفة حصرية من الشئون المنزلية «الخاصة» التي تخرج عن نطاق القوانين الحكومية. وعلى النقيض، من الشائع الآن أن الأغلبية أو شبه الأغلبية من مواطنينا يرون أن العديد من السلوكيات التي اعتُبرت في مرحلة تاريخية ما ضمن نطاق التنظيم العام والسياسي، كزواج المثليين والديانة، تُعد الآن على نطاق واسع ضمن الأمور الشخصية أو «الخاصة». ويحقق تصنيف مثل هذه السلوكيات بأنها «خاصة» عدة أشياء؛ ربما الأهم من بينها هو إعفاؤها من تدخل السلطات السياسية؛ فالممارسات الجنسية التي تتم في غرف النوم بين البالغين بالتراضي، أو ما يحدث من الناحية الدينية في الكنيسة فيما بين أعضائها بموافقتهم يخرج — على الأقل في معظم الأحيان — عن النطاق العام؛ أي التدخل السياسي، فجزء كبير من «الجدل بشأن الإجهاض» يبدو أنه متعلق بوضع حدود مقبولة بين العام والخاص. فأين يبدأ وينتهي النطاق الخاص للمرأة الحامل، ويبدأ وينتهي النطاق المتعلق بالمصلحة العامة للدولة كلٌّ على حدة؟ وفي هذا السياق، فإن خصوصية نطاقَي الجنس لدى البالغين والدين أشبه بالدعاية التي تروِّج لقضاء الإجازات في لاس فيجاس؛ «إجازات» من أي نوع من التدخل العام أو السياسي تعلن بكل جرأة أن «ما يحدث في فيجاس يبقى في فيجاس». وبينما قد نختلف فيما بيننا أيديولوجيًّا على الأفعال التي تُصنَّف ضمن فئة الأمور الشخصية والخاصة في مقابل الأمور العامة والسياسية، فإننا نتفق — على ما يبدو — في أن التمييز بين التصنيفين ينبغي أن يظل قائمًا، فباستبعاد بعض الأفعال من نطاق السياسة باعتبارها «شخصية»، فإننا نتفق رغم الاختلافات الأيديولوجية على أنه من الجيد توفير درجة من الحرية للأشياء التي نفضل عملها؛ مع أننا قد نختلف في جوانب أخرى (مينوج ١٩٩٥، ٥)؛ لذا فإن الإصرار على رؤية السياسة في كل شيء — مثلما هو الحال في التأكيد على أن «الأمور الخاصة تدخل ضمن السياسة» — يكشف على الأقل عن مواقف تحتاج للتمحيص. والعجيب أن تلك هي طبيعة «سجن» بانوبتيكون المعبر عن السلطوية لدى فوكو، ومراقبته المستمرة للسلوك البشري، فتلك الطبيعة لا تتفق مع رغبتنا في حرية التفكير والفعل التي يسعى إليها كذلك أصحاب الأيديولوجيات المختلفة بدرجات متفاوتة.
(١٤) مقاومة السلطوية
إنني أكتب هذا الفصل بما يتَّسق مع تلك الروح المقاوِمة لِعَيْن السلطوية التي ترى كل شيء، ساعيًا لكشف الطبيعة المركبة ﻟ «السياسة». ولأن اعتبار الأشياء أمورًا سياسية جزء أساسي من نظرتنا «الطبيعية» للأشياء في الغرب، يتطلب الأمر جهدًا خاصًّا للتوقف قليلًا وفهم أنفسنا. مع ذلك لم أكتب هذا الفصل لاستبعاد السياسة أو لتصور استبعادها من التفكير ببساطة، بل لنراها فقط على ما هي عليه وفي مكانها الصحيح في الحياة الإنسانية. ومن هذا المنطلق فقد وقفت وإن بصورة نقدية إلى جانب هؤلاء المفكرين الذين يؤكدون على وجود السياسة في عدة مجالات غير نمطية في الحياة الإنسانية (سترينسكي ١٩٨٧، سترينسكي ١٩٩٣أ، ١٨٠–٢٠١، سترينسكي ١٩٩٣ب، ١٦٦–١٧٩؛ سترينسكي ١٩٩٨أ، ١١٦–١٢٦، سترينسكي ١٩٩٨ب، ٣٤٥–٣٦٨). وبينما أحاول أن أقاوم النظرة التي تبالغ في تسييس الشئون الإنسانية، فإنني أدعم هؤلاء الذين يعارضون كلَّ من يظن أن السياسة يمكن تجاهلها في أي مكان، فالسياسة إذن لها مكان ما في الحياة الإنسانية، لكنَّ ذلك لا يعني أنها موجودة في كل جوانبها بالدرجة ذاتها.
ربما من الأسهل استيعاب انزعاجي من انتشار السياسة من خلال النظر إلى الكيفية ذاتها التي تحولت بها حياتنا إلى سلعة، بالطريقة التي تغلغلت بها القيم الاقتصادية في نظرتنا للحياة، خاصة في المواضع التي نتصور أنها لا تنتمي إليها كالعلاقات الاجتماعية. ربما لا يوجد شيء مُقْلِق ومحبِط عن العلاقات الشخصية مثل اكتشاف أن العلاقة لم تكن مبنية إلا على حساب المنفعة المادية العائدة على الطرف الآخر. فكم من مرة يتم اختيار الشريك المحتمل على أساس احتمال ارتفاع دخله المالي؟ يخبرني أولاد إخوتي وبناتهم في «عالم المواعدة» أنه من الشائع ألا يهتم الرجال بامرأة معينة إلا إذا علموا أنها مستقرة تمامًا في مهنة تدرُّ عليها دخلًا كبيرًا، أو أنها من عائلة ثرية، وأنها من غير المحتمل أن تستنزف مواردهم المالية. كذلك يخبرني أصدقاء آخرون من الرجال في هذا الميدان بقصص مماثلة عن تأثر اهتمامات الإناث بنفس تلك العوامل. وفجأة أصبح أصدقائي الذكور الناجحون ماديًّا لكنهم قصار القامة ومكتنزون أصابهم الصلع قبل الأوان محاطين بعدد كبير من النساء، بينما يشعر أقرانهم الذين يتمتعون بجاذبية تقليدية لكن يحصلون على رواتب أساتذة مساعدين متواضعة بالحيرة أمام هذا المشهد! فليست السلطة وحدها هي المشتهرة بأنها أشد مصادر الفتنة، بل المال أيضًا!
من زاوية ما، ليس هذا بجديد؛ فكثيرًا ما «استخدم» الناسُ الناسَ، لكن ما يُحبط الكثيرين منا في هذا الوضع هو أنه أصبح على ما يبدو مؤشرًا على الكيفية التي صارت بها العلاقات الإنسانية مشروطة. إن ما يحبط الكثيرين هو السمة المعيارية التي يبرزها اعتبار حساب المنفعة الاقتصادية الأساس للدخول في علاقات اجتماعية. فما يجعل هذا العالم يبدو كئيبًا هو أن السوق قد شكَّل القيم الأكثر خصوصية في مجتمعنا، فليس مجرد وجود حالة فردية يتزوج فيها شخص من أجل المال هو ما يقضي على تفاؤلنا بخصوص مستقبل البشرية، بل هي الإشارة إلى أن هذا السلوك ينطبق على نطاق عام وشامل، فالجميع — أو غالب الناس — يمرون بمرحلة يدخلون خلالها فيما يُفترض أن يكون علاقات حميمية تستمر طوال الحياة بِناءً على الحسابات المادية، وليس الصداقة، والارتباط العاطفي العميق، ومراعاة شخصية الطرف الآخر وهكذا.
وبعد أن ذكرت الكثير من الأمور التشكيكية عن ادعاءات السياسة، لا ينبغي لأيٍّ مما قلته في هذا الفصل أن يدفع أي شخص لافتراض أنني أتبنى نظرة متشائمة للسياسة، فالسياسة في الدولة القومية لم تتغير، لكنَّ الغرض من الوعي بإيماننا أن السياسة مستقلة هو رفع مستوى وعينا بما يسمح لنا أن نرى أنها معتقد؛ أي افتراض موجود في ثقافتنا، ربما لا يوجد في ثقافات أخرى كما هو حال قبائل النوير التي تحدث عنها إيفانز بريتشارد. لقد حاولت في توضيحي إلى أي درجة تَدِين سياستنا للدين في الغرب، أن أبيِّن أن إيماننا باستقلالية السياسة صاحب إيماننا باستقلالية الدين، فأنا لا أتبنى إذن النظرة السوداوية لمفهوم السياسة السائد اليوم، فالأحكام القائمة على الاستخفاف من قبيل «إنها مجرد سياسة!» تلعب على الدليل البديهي المفترض الذي يفيد بأن المصطلح يرمز إلى شيء موحل حقير. وبنفس الشكل، جاء عنوان بخطٍّ كبير وعريض لرسالة رسمية تذمُّ السياسة باعتبارها فاسدة في جوهرها في قسم الخطابات في صحيفة لوس أنجلوس تايمز قائلًا: «السياسي النموذجي» (ديكر ٢٠٠٨، أ١٥).
ما أرجو أن أكون قد أوضحته بالاستقصاء الجوهري لمفهوم «السياسة» هو الدرجة التي ارتبطت بها — ولا تزال — بالدين. ليس كلاهما جيدًا أو سيئًا بالضرورة؛ فقد كانا — ولا يزالان في بعض الأحيان — يمثلان مزيجًا حيويًّا بين السلطة القسرية والسلطة الشرعية، واتحادًا بين القوة القسرية المطلقة والسلطة الشرعية الأقل وضوحًا، لكن الحقيقية بنفس الدرجة. لذا سيكون من اللافت أن نرى إن كان الذين يؤمنون بأن الدين جيد يؤمنون بالضرورة أن السياسة سيئة، فرغم الانغماس الرهيب في السياسة من شخص مثل القَس بات روبرتسون، نجد أن هذا الشخص غارق تمامًا في القالب الفكري المزدوج الذي يرى الدين أمرًا جيدًا — بعض الأديان على الأقل — والسياسة أمرًا سيئًا؛ لذا فقد قال روبرتسون إن الإسلام سيئ بسبب أنه حركة سياسية، وأشار إلى أنه: «علينا أن نعترف بأن الإسلام ليس دينًا» ليفاجئ كل من يعرف أبسط الأشياء عن الدين، وتابع: «بل هو حركة سياسية عالمية تهدف للهيمنة على العالم» (روبرتسون ٢٠٠٧).
ويمكن أن نجد هذه النظرة للسياسة — وإن لم تكن متطرفة بقدر نظرة روبرتسون — بين الذين يعتبرون أنفسهم تنويريين وعلمانيين؛ فهم يقعون فريسة للآراء النقدية لطلال أسد المتعلقة بالمفهوم السائد للدين بين الباحثين والكُتَّاب، فضلًا عن العديد من العوام (أسد ١٩٩٣)، فهم يعتبرون المسيحية «الحقيقية» مثل الإسلام «الحقيقي» شأنًا «داخليًّا»، فهناك أمور تتعلق بالأخلاق أو «القلب»؛ وهو شيء يمكن تمييزه في الإنسان باختبار حسن نواياه ومعتقداته. فإن عرفنا أن شخصًا ما سليم «القلب»، فإننا نعلم أن الشخص كله وسلوكه حسن بالأساس، حتى وإن حاد عن المثالية. إن افتراض مثل هذا التعارض مبنيٌّ على بعض القناعات الدينية المتعلقة بالمعتقدات الدينية التي نشأت من تاريخ الدين في الغرب، ولا تزال منتشرة ومُسلَّمًا بها إلى يومنا هذا، لا سيما في الولايات المتحدة. ورغم أن هذا التحوُّل في الفكر الديني يمكن رؤيته بأوضح ما يكون في المذهب الويزلي، فإن جذوره فيما يسميه الباحثون «دين القلوب» أو دين الإخلاص والالتزام، ترجع إلى أسس الحداثة الغربية (نوكس ١٩٥٠).
(١٥) خاتمة: استقلالية «السياسة» والدولة القومية
في الوقت الحاضر، نحن بحاجة إلى أن نستوعب فكرة أن التحولات التاريخية التي أفرزت السياسة باعتبارها عالمًا مستقلًّا تتجسد كلها في الدولة القومية، «فالدولة» باعتبارها «كنيسة متحولة» هي عين نموذج الدولة أو الدولة القومية لدينا. والنتيجة أن الدول القومية تفوح منها رائحة الدين، وأيًّا ما كانت الدول بخلاف ذلك، فهي مثل الأديان، كيانات من نوع عظيم متعالٍ تخلق المغزى والهدف، تصنع هالة من القدسية حول كل أفعالها المركزية. ورغم أن العولمة في انتشار سريع لعدة سنوات، تظل الأمة هي الكيان الرئيسي الأسمى من الفرد الذي يجد الأفراد فيه معنًى أعظم من أنفسهم. وحتى اللحظة على الأقل، لا تزال كل جهود «الإنسانية» العالمية والكونية لحشد الناس وراء القضايا الإنسانية المشتركة بحاجة لأن تتفوق على الأمة (أو الدين بذاته) في امتلاك ولاء الناس وحَمْلهم على التضحية بحياتهم من أجلها؛ لذا تُعد الأمة مستحقة للهدية الكبرى لفردية مواطنيها؛ وهي تخلي الإنسان عن حياته في «التضحيات» المدنية كالحرب. لقد قال بينيدكت أندرسون إن استعداد الأفراد لقتل الآخرين والتضحية بأنفسهم لا يمكن فهمه إلا في سياق الطبيعة الدينية للزمالة التي بلغتها الدولة القومية؛ ذلك المكان الذي لا يمكن فيه التمييز بين الدين والأمة (أندرسون ١٩٩١). فالناس لا يضحون بأنفسهم في سبيل «الوحدات الإدارية» مثل الاتحاد الأوروبي، بل في سبيل الأمم مؤخرًا، سواء كانت حقيقية أم تخيلية؛ كالبوسنة وصربيا وأيرلندا وإسرائيل وفلسطين، وأضيف: أو ربما في سبيل الأديان كالإسلام أو المسيحية. وفي بعض الأحيان يتنافس الدين والدولة القومية على الولاء الأكبر، وأحيانًا ترجِّح المنافسة كِفَّة الأمة على الدين؛ لأنها تولَّت الدور الذي كان يؤديه الدين ذات مرة؛ فسلطتها الشرعية على الحياة والموت غير قابلة للنقاش في أغلب الأحيان، تمامًا مثلما كانت سلطة الفاتيكان لتعليم العقيدة المسيحية لأتباعه من الكاثوليك. وبنفس الصورة، تحتكر الدولة استخدام السلطة والقوة القسرية والعنف وغيرها؛ ولذلك يمكنها فرض الطاعة المطلقة كما أمكن للباباوات في العصور الوسطى أن يفعلوا مع جيوشهم. فوحدة الدولة تُعد مقدسة، وحدودها وسلامة أراضيها لا تُمس، والتعدي عليهما يُمثِّل سببًا للحرب مُعتَرفًا به عالميًّا، وما إلى ذلك. وتتقاسم أعلام الدولة ونُصُبها التذكارية ونشيدها الوطني وما شابه نفس بريق الدين السامي باعتباره كيانًا مقدسًا. والسبب في أن القومية مشبعة بالمعاني الدينية هي أن «الوحدات الإدارية» لا تخلق أي معنًى أو هدف، بينما لا تصنع الأديان والأمم سوى المعاني، مهما كانت بشعة.
اسمحوا لي بعدئذٍ أن أختتم هذا الكتاب بمثال على السعي المضني والشنيع في سبيل المعنى وإقامة الدولة؛ وهي حالة السعي نحو إقامة الدولة الفلسطينية على يد مَن يُطلَق عليهم الانتحاريون في الشرق الأوسط المسلم.