الحياة المرتبكة
من مقتضيات المدنية الحديثة تخبط المتحضر في كل لحظة من حياته، وارتطامه في شواغل تنغِّص عليهِ عيشه، سواء في قضاء لباناته الضرورية أو في لذائذه الكمالية، فهي في ظله حتى يُبدَّل نور الشمس بظلام الرمس.
وقد زالت البساطة من كل شي، من الفكر والعمل واللهو، وقُلْ: من الموت أيضًّا. ولم يكتف الإنسان بملاشاة الحسن من مميزات الحياة، بل أضاف إليها بمحض اختياره عدة متاعب لا قِبل له بها ولا طاقة عليها؛ حتى تأفف الكثيرون من شكل الحياة الحاضرة وزخرفها الخدَّاع، وأسفوا على الماضي وبساطته لخلوه من شوائب هذا الطلاء الكاذب وأدرانه. والأدلة القوية التي تؤيد هذا القول عديدة، فمما يعاب في حضارة هذا العصر تعدُّد الحاجات المادية واطِّراد زيادتها. وقد يدفع بعضهم هذا بأن زيادة الحاجات تبعٌ للكسب والإثراء، وهو دفع مقبول، إلَّا أنه غير وجيه. وهو يستند على أنَّ الابتكار والاختراع من دلائل الرقي، وهذا صحيح؛ فليس من يعترض على الاغتسال وتنظيف الثياب وسكنى الأماكن الصحية والعناية بالغذاء وترقية المدارك. ولو اقتصرت الحضارة على هذه الأمور لكانت من الحسنات، أمَا وقد خلقت في عالَم الاجتماع غير هذه الظواهر المستملحة، سيئاتٍ باتت عبئًا على المجتمع وضررًا متفشيًا لا يتقى، وأصبحت من العادات ولوازم المدنية بغير حاجة تدعو إليها ولا ضرورة تحتمها، وصار لها من المكانة والأثر في النفس ما للسلطة المطلقة من السلطان على الرقيق المستعبد؛ فالنقد مقصور على أمثال هذه العادات.
ولو قيل للسالفين: إنَّ المدنية ستصل يومًا بالإنسان إلى حيث يسخِّر البخار والكهرباء، ويستجلي باطن البحر وأقصى السماء ويحلق في الفضاء، ويستقي من صميم الصخر، ويذلل الصعاب وينفرج أمامه ما أغلق من الأعمال الشاقة بلا كدح ولا نصب، أجل، لو أُنبئ السلف بمصير الخلف لخالوا إنسان هذا العصر كأنما دخل الجنة بلا بعث ولا حساب، ولغبطوه على النعيم والسعادةِ؛ أملِ الإنسان من يوم خُلق وسؤلِه إلى حين يبعث. ولو أنَّ صورة هذا العصر بما فيه من الرقيِّ الفني مرَّت على أذهانهم لتوهموا أنَّ هذا الرقي هذَّب أطوار الخلائق، وقلَّل من تزاحمهم على متاع الدنيا وزهوِّ الحياة؛ لظنوا أنَّ الآداب والأخلاق ربت ورقت على قدر الرقيِّ المادي. ولكنَّ الواقف على أسرار المجتمع الإنساني واثق من أنَّ هذا لم يتحقق، فليس في الوجود هناء ولا سلام ولا انصراف حقيقي إلى الخير.
قد يظن المرء لأول لمحة أنَّ حالتنا المعاشية أدعى للرضاء من حالة أسلافنا الغابرين، وأن المرء اليوم أكثر اطمئنانًا إلى غده منه بالأمس. وليس الغرض هنا البحث عن وجود الأسباب الممهدة لهذه النتائج، بل عن حقيقة الواقع، والإجابة على هذا السؤال: «هل الإنسان سعيد اليوم؟ وهل هو أكثر ارتياحًا لغده من إنسان الأمس؟» إلا أنَّ كل من يعرف حياة المجتمع ووسائل العيش لا يتردد في الجزم باستياء الإنسان من حظهِ وعيشه، فليس في العالم من لم تشغله أمور الحياة ويخبله التفكر في أمر المستقبل. بل لم يمر على الإنسان — حينَ أزعجتهُ فيه هذه الوساوس — كهذا العصر الذي ارتقت فيهِ الإنسانية، وطابت مواد الغذاء، وحسنت المساكن وصلحت الملابس.
فمغرورٌ من يتوهم أنَّ المعدم المعوز هو وحده من يتساءل عن العيش وسبيل الارتزاق؛ لأن الخوف من الفاقة وطارئ الغد يشعر به المكثر والمقلِّ، ويخشاه الفقير والغني على السواء. ومن الحقائق المجهولة أنَّ أسف المتنعم على ما لم ينل يربو على لذته بما تطيب به الحياة لسواه. ولا يضارع مخاوف الغني وجزعه من المستقبل غير ذعر الجبان وفَرَقه من المعارك ومواقف القتال. واهتمام المعدم بأمر غده لا يذكر بجانب غيره؛ فإنَّ من لا تملك سوى ثوب واحد لا تتساءل عما تلبس في اليوم التالي، ومن يقتنع بكسرة الخبز لا يقتل نفسه جزعًا ولا ييأس من الحصول عليها، ومن يفترش الأرض ولا يملك موطئ قدميه لا يخشى سقوط الأسعار ولا حلول الأزمات.
فمن يمعن النظر فيما ذُكر، ويقارنه بما يقال من أنَّ الحاجات المادية تزيد زيادة مطردة مع الثروة والكسب يقرر أنَّ الجشع على قدر الغنى، وأن الاهتمام للغد يكون على قدر السعة.
وليس من الناقدين من يقدر على تحديد مخاوف الغني ومتاعبه، أو يعرف كمية هذه المتاعب ونوعها ومقدار تأثيرها، فلهذا السبب ولوجوده بين كل طبقات الهيئة الاجتماعية — على اختلافها وتفاوتها — نشأ بينها اضطراب عام وارتباك شامل لا يماثله غير ما يحدثه الطفل المدلل من عدم الاقتناع بما يغبط عليه، وعدم ارتياحه حتى إلى السعادة والنعيم.
•••
وكما أنَّ النوع البشري لم يحصل على السعادة والهناء، فكذلك هو لم يُوطِّد دعائم السلام، ولم يعرف الهدوء والطمأنينة، وصارت كثرة حاجات الإنسان وتنوع ميوله وأهواء نفسه تحوطه بظروف تخلق الشجار، وتوجد الخصومة بينه وبين أمثاله. وفي حكم المؤكد أنَّ الكراهية والبغضاء التي تنجم عن هذه الأسباب تكون على نسبة منعكسة مع أسبابها التافهة والخطيرة. ولو قصر التزاحم والعراك على طلب القوت الكفاف لكان الأمر نتيجةً طبيعية لتنازع البقاء، وإن عُدَّ غلظة فإنَّ للجائع المعدم شبه عذر في غلظته. ولكن النزاع ناشئ عن الطمع والأنانية والميل مع هوى النفس وشهواتها الفاسدة ومطامعها المادية. وليس من يذكر أنَّ الجوع ساق الإنسان إلى أنواع السفالات التي يغري بها الجشعُ والبخل، والانصراف إلى إرضاء الشهوة، مع العلم بأن حبَّ الذات يزداد خطورة على قدر تمكنهِ من النفس. فهل مَن ينكر بعد ذلك ازدياد الخصومات بين بني الإنسان وتشبع القلوب والأفكار بالأنانية، وهي مدعاة المشاكل والنزاع؟ وهل يجوز بعد الوقوف على هذه الحركات العدائية بين أبناء الجنس الواحد أن يتساءل امرؤٌ عما إذا كان الحاضر خيرًا من الماضي؟ أليس في وسع الإنسان حب الخير والانصراف إليه مجردًا من الغاية؟ أَوَلَيْسَ يستطيع نيلَ حاجاته الضرورية بغير تعمد الشر والأذى؟ ما الذي تمتاز به المدنية الحاضرة وقد شيبت الحياة بمتاعب الماديات، ومطالب التحضر المتعددة التي لا افتقار ولا حاجة بنا إليها؟
إن الأميال المتنوعة مدعاة للأحقاد والخصومات، وكل من يَقف نفسه ومواهبه على شهوات النفس يضاعفها حتى يضعف أمامها وتقوى عليه فتستعبده، وإذا ما استرقَّتهُ فَقَدَ الإرادة والإحساس، ولم يعد يميز بين المليح والقبيح، فخضع لسلطان الشهوات الجائر وفسد خُلقه وساء مصيره.
إن سمو الآداب والأخلاق هو في المقدرة على قمع الشهوات وانحطاطها، وفسادَها في الخنوع لمطامع النفس الأمارة بالسوء؛ فإنَّه يلاشي الخلق والتأدب.
وكل أماني الإنسان عبد الشهوة تنحصر في نيل ما تنصرف النفس إليه، والتزاحم على امتلاك ما في يد الغير يفتح باب الخصومة والشحناء، ويحمل على إنكار الحقوق، إنْ كان ما تتطلبه النفس مِلكًا لغير صاحبها. وما الاستئثار بملك الغير وعمل المرء على هضم حقوق سواه، والرغبة في اغتياله إلا حجة دامغة على صغر النفوس وحبِّ الذات.
ولما كانت قيمة الأشياء تزيد وتقل على قدر زيادة وقلة فائدتها كان كل ما لا يأتي بفائدة عديم القيمة؛ وعليه فقيمة المرء بين بني جنسه ما يملك، والفقر — مع شرف النفس — عارٌ، والغنى — وإن توفَّر من غير الطرق المشروعة — جاهٌ، وهذا خطأ. والحقيقة أنَّ قيمة الإنسان ليست فيما يملك وإنما قيمته ذاتُه وصفاتُه. ولكنَّ أهل هذا العصر ماديون لا قيمة في أعينهم لغير الماديات؛ ولذلك هم على ضلال في معرفة أقدار الناس والاحتفاظ بكرامتهم.
ورُبَّ معترضٍ يظن الحكم بفساد ما يدعي حضارة ورقيًّا تحاملًا، أو رغبة في الحرص على القديم والانصراف عن كل رقي عمراني حديث. ولكن الحكمة في عدم الاعتداد بالظنون وبكل تحضُّر وهمي، وفي عدم الانخداع بالظواهر الكاذبة. فليس الغرض الرجوع لبداوة الماضي وخشونة الأجيال البائدة، وإنما البحث عن أدواء المجتمع الإنساني، وإظهار عيوب الحياة الاجتماعية الحالية رغبة في وجود الوسائل الملطفة لآلام الإنسان وتقويم سُبل العيش؛ حتى تخف أرزاء الحياة وهمومها الجمَّة ويزول شيء من الاعتقاد الفاسد في تخيُّل السعادة والهناء بين تراكم الحاجات المادية ووفرتها؛ لأن هذا هو الباطل بكل معانيه.
وهناك آلاف من الشواهد والأدلة تؤيد القائلين بأن الرقيَّ الصحيح حقيقٌ بقمع النفس عن طلب السعادة من غير طريقها، وبأن التنعم ليس بالإكثار من الماديات؛ فالحضارة الحقيقية والتمدين القويم هما عيش الإنسان في بيئة تناسبُه وعلى قدر ما تسمح به موارد كسبه، وابتعاده عن الظهور بما لا يسير مع حالتهِ الحقيقية. فإذا ما ضلَّ السبيلَ القويم وتنكَّب عن جادة الحكمة والتبصرة فكل تعب ضائع، وكل سعي يزيد الضرر ويضاعف الخطر ويضيف إلى مهام الحياة متاعب جمة، ويزيد المسائل الاجتماعية إشكالًا وتعقيدًا.
وليست البساطة في المعيشة مقصورة على ما مرَّ، ولا هي من مقتضيات العيش فقط، ولكنها ضرورية لكل شيء حتى للتعليم والحرية، فكم نُقل عن كبار الحكماء أن تلاشي الفاقة والجهل والظلم يكفي لتطهير المجتمع من الشرور ولصيرورة الأرض نعيمًا أليَق بالملائكة منه بالإنسان. وقد شوهد أنَّ زوال الفاقة لم يبدِّل الحال ولم يكن سببًا رئيسيًّا للسعادة. كما أنَّ التعليم لم يغير شكل الاجتماع، ولم يلطِّف الشرور المتفشية فيه، ولم تزل الأرض أرضًا والسماء سماءً والإنسان كما كان، ينفع ويعمل الخير ويرتكب الشرور ويقترف الآثام.
وليس المراد بذكر ما مرَّ الحض على إهمال التعليم وتحصيل المعارف، ولا إيصاد أبواب دُور العلم؛ بل الوثوق من أنَّ التعليم وجميع وسائل التحضر ليست إلَّا ممهدات للمدنية تختلف فيها الفائدة والضرر باختلاف خُلقِ المتحضِّر وسلوكه. وكذلك الحال في الحرية، فهي إما ضارَّة أو صالحة تبعًا للظروف وطبائع القائمين بطلبها أو المتمتعين بها، وليس معناها إطلاق يد العاتي والمشاغب والطموع والفوضوي للعبث بمصالح الناس، وإقلاق سكينتهم والتشويش عليهم.
•••
الحرية روح حياة راقية يتشربها المرء رويدًا مع تدرج النفس في طريق الكمال. ومن مقتضياتها النظام؛ لأنه ضروري للحياة والكائنات، سواء في ذلك كل الخلائق من الإنسان والحيوان إلى ما دونهما. ولما كان النوع الإنساني أرقى هذه الأنواع فهو أشدها حاجة لدقة النظام وإحكامه. والنظام في الحقيقة قواعد عامة موضوعة يراد بها وقوف الأفراد عند حدودهم والتمتع بحقوقهم، ولكنه مع ترقي البشرية يكون من طبائع النفس الراقية ومستلزمات الضمير التي يخضع لها. فإذا بلغ المرء هذا الحد من الرقي وعرف كيف يطيع وحي ضميره، ونال منه حب نظام الهيئة الاجتماعية حتى أوجد في فؤاده وعقله سلطة قوية تحكمه وتردعه وهو صاغر منصاع لها؛ فهو الإنسان الجدير بالحرية، وما دام هذا الوازع النفساني غير موجود فليس الإنسان صالحًا لهذا النوع من الحياة؛ لأنه يثمله ويهيجه ثم يدفعه إلى أسوأ مصير.
وكل مَن رقَّتْ حواسه ومشاعره، فخضع لحكم العقل وحب النظام يصعب عليه الخضوع للحكم المطلق، بل يستحيل عليه ذلك، كما يستحيل بقاء الجنين في أحشاء أمه متى اكتملت أيامه. ومن لم يكن أهلًا لهذا الحكم فلا يدوم عليه، كما تستحيل حياة الجنين إذا وضع قبل اكتمال شهور الحمل. هذه النتائج مقررة مسلَّمة والبراهين عليها لا تحصر، ولكن من عيوب الإنسان تجاهله هذه القضايا البديهية مع ما لها من الأهمية والخطورة، فيجب أن يعرفها الجميع؛ إذ إنه يعسر على أي شعب أن يحصل على الديمقراطية قبل معرفتها والتشبع بروحها وإقرار كل فرد بصحة مبادئها عن اقتناع وتمييز.
ومن أهم أركان الحرية الطاعة والإذعان للنظام العام. وليس هذا من زخارف الحياة، أو من مقتضيات أميال بعض ذوي النفوذ والسلطان، ولا من صلف الحاكمين. وإنما هو قوانين عامة ذات رأس تنحني أمامه أرفع الرءوس، ويستوي أمام بطشه رائد السماء ومفترش الوضيع. وليس الغرض من هذا القول الترغيب عن الديمقراطية، بل الاهتمام بجعل الإنسان لائقًا لهذا النوع من الحكم وجديرًا بالحرية قبل طلبها، وإلَّا فإنَّ النزوع إليها طفرة يؤدي بالشعب إلى مزالق السفه والفوضى، وإلى ما لا يمكن تلافيه من الفتنة والثورات. وإذا ما اجتلى العقل الأسباب الحقيقية التي تنشأ عنها اضطرابات ومشاكل الحياة الاجتماعية — مع تنوع عناوينها — رآها منحصرة في أمرٍ واحد هو خلط العرض بالجوهر.
•••
إن السعادة والتعليم والحرية والرقي والتمدين ليست إلَّا عَرَضًا، أما جوهر الأمر فهو الاهتمام بالضمير والخلق والإرادة؛ فهي الذات وكل ما عداها أعراض كمالية لا جواهر ضرورية. ومع وفرة هذه الكماليات التي يمكن التخلي عنها فكم ترى الإنسان شديد الافتقار إلى الشيء الضروري، حتى إنه إذا ما تنبه ضميره أو استيقظ قلبه فرام تحقيق أمانيه تألم آلام الحي المقبور، ورزح تحت أعباء الأمور التافهة التي لا يسعه معها تنسم نسيم الحياة واستجلاء النور الساطع والضياء اللامع.
فمن الواجب تجريد الحياة من الأعباء الباطلة، وتحريرها من هذا الرق وتمييز مواضع الأمور وأهميتها، والاعتقاد بأن الوسيلة الوحيدة لرقي النوع البشري هي العناية بتهذيب الروح والخلق.
وكما أنَّ فائدة المصباح لا تقوم بحسن زخرفه ودقة صناعته، ولا بنفاسة معدنه، بل بمقدار ضوئه وسطعانهِ، فكذلك لا يجوز تعيين مرتبة الإنسان وقدر قدره بما ملكت يداه، ولا بسعة عيشه، ولا ببسطة جاهه لا، ولا بطول باعه في العلميَّات أو الفنيَّات فإنما المرء بخلقِه وأدبهِ.
ومع أنَّ صور الحياة تختلف باختلاف الأزمان وتفاوت العقول، فأي عاقل ينكر خطر الانتقال الفجائي من طور إلى طور، أم مَن يقول: إنَّ الاعتدال سيء المغبة، أو إنَّ خطته هي غير خطة الإصلاح المؤدية إلى الغاية الشريفة؟