التربية والاعتدال
لمَّا كان الاعتدال من نتائج العقول الحكيمة كان للتربية تأثير فعلي فيها ونفوذ لا ينكر. والمشاهَد الآن أنَّ الناس تُعنى بالتربية على وجهين؛ الأول: تربية الأطفال على مقتضى رغبات الآباء، والثاني: تربيتهم على مقتضى أهوائهم الذاتية.
وفي الحالة الأولى يكون الطفل في اعتبار الملاذ الكمالية للوالدين، وينزل منزلة ما يملكون من المتاع والماديات، وقد تقلُّ درجة اعتباره لديهم على قلة وكثرة عواطفهم. ومن المحقق أنه كلما زاد ولعهم بالمنافع المادية كلما قلَّت قيمة الأطفال في أنظارهم، وجفَّت ينابيع المحبة والحنوِّ في قلوبهم. فإن شبَّ عاش تحت قدمي والديه خاضعًا لإرادتهم، لا لمجرَّد واجبات البنوة، بل لتجرده من كل إرادة. والفكرُ ينقاد مع الاعتياد إلى الاستسلام والإرادةُ النفسيةُ إلى الضعف فالزوال، والقلبُ إلى الجمود، ثم يموت فيه الشعور وكل العواطف. ويصير الشاب عبدًا مسلوبًا كل مزايا الإنسان العاقل الحر، فلا ينشأ إلَّا على ما شاء والده واقتضته مصالحه الشخصية، ومعتقده الديني، ومبدؤه السياسي، وذوقه الخصيص به، ولا يفكر ولا يتكلم ولا يعمل ولا يتزوج إلَّا بإرادة وليِّ أمره. وربما كانت هذه السلطة المطلقة في يد مَن لا مبدأ لهم ولا إرادة، فيكونون سببًا في إفساد تربية الابن وفي نشأته على غير صالح الهيئة الاجتماعية. وكثيرًا ما يتفق أنْ يكون للطفل إرادة قوية ونزوع إلى الاستقلال، فيبذل ذووه غاية جهدهم في تذليله بالقوة والاعتساف، فإن تعذر عليهم ذلك فباللطف والتدليل حتى تستأنس نفسه وينطبع على ما شاءوا فيعيش بينهم وبهم ولهم.
وليس هذا النوع من التربية محصورًا في بعض العائلات، بل منتشرًا بين كثير من معاهد التربية، حيث تكون الخطة الموضوعة للسير عليها قاصرة على إخضاع كل الملتجئين إليها، وقهرهم على التكوُّن على الصورة التي يريدونها. وهذا هو الاعتساف بكل معانيه، والتحكم في غير وجه الصواب والحق، والتسلط الغير الشرعي، وتغلب القوة على الضعف بغير مسوغ لاجتذاب الأفراد إلى غاية موضوعة.
وكثيرًا ما يقتنع الإنسان بأن التربية على هذا الشكل هي التربية الصحيحة المفيدة للنوع الإنساني، وللاجتماع على الإجمال؛ لأنه يسهل على المربي القيام بمثل هذا النوع من التربية أو الاستعباد، ويسهل تضليل الناس وتفهيمهم أنَّ هذا الأسلوب هو الوسيلة الوحيدة لتوحيد المبادئ والمعتقدات واللغات والمشارب والأذواق. والحقيقة أنه واسطة لتجريد الخلائق من كل إرادة ونزوع إلَّا ما يسمح به الأوصياء والمدبرون.
إنهم يريدون أنْ يكون الناس من نوع واحد وفصيلة واحدة، كسائر النباتات والحيوانات التي تعيش في مكان واحد، أو في أماكن متشابهة بطبيعة الأرض والطقوس. ولكن الإنسان غير النبات والحيوان، وهذا التقييد مضرٌّ به حابس حريته مؤخر رقيَّه. وإنَّ الناس ليختلفون في الطبائع والميول والرغبات والقوى، حتى ليعوزهم كثير من وسائل التربية ليكون لكل فريق ما يوافق طبيعته واستعداده. والنقص والتقصير في استكمال هذه الوسائل هما سبب الفساد الذي يعتور التربية فلا تؤدي إلى الغرض المقصود منها.
والتربية التي يكون أساسها الضغط وتقييد الحرية كثيرًا ما تسبب ثورة النفوس، وانفجار براكين الحقد والكراهية، واندلاع لهيب الانتقام؛ فتكون سببًا للفساد والمشاكل بدلًا من الخضوع والاستسلام. وإذا حسنت الظواهر ولم يحدث حادث ما لتغلُّب القوة على الضعف يبقى الداء كمينًا والنار دفينة؛ الأول على خطر حالاته، والثانية على أشد ما تكون من التسعُّر، لا يخفيهما عن الظهور غير حجاب كاذب وستر لا يدوم طويلًا، ولا يكون وراء السكون الظاهر غير التذمُّر والحقد الأبكم والثورة المتحفزة للوثوب، وسحق كل ثقل ضاغط.
والتحكم اعتسافًا وقوة يحتِّم الطاعة، فتبدو مظاهرها فقط، ويخلق الرياء في البيئة المغلوبة على أمرها، ويكون واسطة لوجود النفاق والمخاتلة واللؤم، بعد أنْ يغرس في القلوب الخبث والشرَّ والكيد وحُبَّ الانتقام، فإذا كانت هذه هي ثمار هذا النوع من التربية، فهو ضار وخطره أشد من الخطر الذي ينشأ من الإهمال أو من ترك الناس همجًا بلا أخلاق ولا نظام.
•••
أما النوع الثاني فهو على عكس الأول في العناية، وينحصر في ترك الطفل على هوى النفس، فلا يلبث بعد وضعه أنْ يكون له المقام الأول، وإليه تتجه عناية كل فرد من أفراد العائلة، يزعجهم صراخه وتحركهم جميعًا لفتة منه أو إشارة بيده، وإذا ما بكى ليلًا هبَّ الراقد واستيقظ النائم، فإذا درج كان سرور أهله وأسعدهم حظًّا مَن نال حظوة في عينيه وابتسامة من ثغره، وإذا ما اشتدَّ وترعرع كان موضوع اهتمام الجد والوالد والخادم والمعلم والوالدة والأخوة والأخوات وكل أفراد البيت. ولا يُلاحظ أحد ما ينتج من ذلك من التدلُّل، وصلابة الرأي، والعناد، والأنانية، وعدم الاحترام والقسوة إلا بعد فوات الوقت، وضياع فرصة الإصلاح والتقويم؛ فيكون هذا مدعاة لفساد خلق الصبي، وعدم مبالاته بالذين كانوا سبب حياته وينبوع سعادته وهنائه.
وهذه التربية واضحٌ عيبها جليٌّ قبحها سيئة نتيجتها عقيمة إلا في الإفساد، وهي عامة عند كل من لم يُعنَ بالماضي ويستطلع أمر المستقبل من عبر الأيام وحوادثها، وعند من لم يقف على شيء من النظام والتقاليد والآداب القومية والأخلاق الفاضلة، وعند كل من يكتفي بالظواهر عن الحقائق وبالقشور عن اللباب، وعند الذين يظنون الحياة في الزهو والخيلاء وإنكار حقوق الغير وهضمها، والميل إلى جانب القوة.
إنَّ هذه التربية لتقوي في النفس الميول الشهوانية وحب الاستبداد والظلم، وهي سيئة العاقبة شديدة الضر كالنوع السابق. والأكثر ضررًا وشؤمًا على الهيئة الاجتماعية اجتماع النوعين، وتوفُّر الرذيلتين في الفرد الواحد؛ فإن ذلك يولِّد التقلب في المبادئ، والتنوُّع في المظالم، والتراوح بين البهيمية والوحشية، وحب الاستسلام والصغار، والنزوع إلى الثورة والتمرد.
والواجب ألا تكون التربية وقفًا على رغبات الوالدين ولا جريًا مع ميول الطفل وأهوائه؛ لأنه لم يخلق متاعًا لأبويه، ولا للتطوح مع أهواء النفس، وإنما خلق للحياة فيجب أنْ يربى وفقًا لمقتضيات الحياة.
والغرض من التربية صيرورة الطفل عضوًا عاملًا في الهيئة الاجتماعية، متشبعًا بالإنسانية وحب الإخاء والحرية ونفع الغير، وكل تربية لا ترمي ولا توصِّل إلى هذه النتائج تكون عقيمة فاسدة، لا تصلح لغير خَلْق المشاكل والاضطرابات وتقويض أركان الراحة والسلام.
•••
إنَّ الحظوظ كلها وكل ما يمر على الطفل من نشأته إلى شيخوخته يمكن إجمالها في كلمة: المستقبل. تلك كلمة مفردة، ولكنها الشغل الشاغل للأفراد والجماعات والشعوب وكل العالم، وينطوي تحتها كل ما مرَّ من الآلام، وما سيجيء منها، وما يبذل من الجهد في الحاضر، وما تتعلق به النفس مع الآمال والأماني. والطفل في الصغر قاصرٌ عن إدراك معاني هذه الكلمة وأهميتها وتأثيرها في حياته؛ لأنه قليل الإدراك، وحيث إنه ينشأ تحت رحمة وكفالة ذويه، فهم المكلفون بتوجيهه إلى المنهج الذي يحسن اتباعه، وبإرشاده إلى ما يزيح عن عينيه غشاوة الجهل؛ ليرى الغرض الحقيقي من الحياة.
وكل من فكر قليلًا يرى أنَّ تأثير التربية ليس قاصرًا على الطفل والعائلة، وإنما هو واقع على مجموع الأمة وكل الهيئة الاجتماعية، وعلى كل المنافع والمصالح العمومية، فيجب دائمًا تمثل الطفل في دوره الجدِّي وحياتِه القابلة؛ لتكون العناية بتربيته موجهة دائمًا إلى المنفعتين؛ الشخصية والاجتماعية.
وقد يتبادر للذهن لأول وهلة تباين المصلحتين وتناقض الأمرين واستحالة الجمع بينهما؛ لأن من خصائص المنفعة الشخصية حب الذات، ومن خصائص المنفعة العامة نكرانها، مع أنه لا يمكن الفصل بين الاثنين؛ لالتحامهما وشدة تقاربهما. ومن المحال أنْ يحفظ الإنسان عهد الإخاء، ويضحِّي لذَّاته الخاصة بغير أنْ يكون حكيمًا، ولعقله السلطان المطلق والنفوذ التام على القلب والنفس. والأنانية وحب الذات تطَّرد مع هذا السلطان اطرادًا عكسيًّا، إنْ ضعف قويت، وإنْ اشتدَّ ضعفت أو زالت. ولا يتأتى تحكم العقل وتسلطه على النفس والعواطف إلَّا بالتجاوز عن المرائي الظاهرية، وسبر غور حقيقة الوجود والغرض منه، وتمثل الروابط الكثيرة التي تربط الإنسان بالإنسان، وترفقه به في كل غاية وسبيل.
ولا يكفل تحقيق هذه الغاية إلا العناية بالطفل، ودرء كل مؤثرات الفساد وعدم النظام؛ لأن الإنسان معرَّضٌ لفساد الأخلاق من تأثير المؤثرات الخارجية والعدوى الأخلاقية، ومن استسلام النفس للميول وتغلب الأهواء على العقل. والضررُ الخارجي الذي ينشأ من استبداد المربين، وسوء تصرفهم عظيمُ الخطر، وليس من ينكر فساد مبدأ تسلط القوة على الضعف لمجرد أنها قوة وهو ضعف، فالتربية الحقَّة ما كانت على غير هذا المبدأ، وقامت على إنكار الذات، وكل ميول النفس الخبيثة التي تسبب النفور والكراهية والعداء.
التربية الحقَّة ما قوَّت الروح وأخضعت الجسد وحاجاته، فكان العمل بإرادة العقل لا بحكم الجسد أو هوى النفس. وإنَّ الحدة والنزق ليكونان على أشد حالاتهما في بدء الحياة والشباب، فإن لم يكن هنالك قوة من الإرادة تكفل كبح ذلك الجماح اختل توازن المرء، وظهر ضعف تربيته وسوء خلقه. فمهمة التربية قائمة تقريبًا على تعهد الإرادة وتقويتها في نفس الطفل، وتطهيرها من كل ميل فاسد ونزوع أناني؛ ليدَّخر من القوة في نفسه ما لا ينفد، بل يزيد مع طول العمر بغير شذوذ، فيكون العمل إذ ذاك نتيجة الإرادة والعقل، لا طوعًا لإرادة أخرى أو استسلامًا لسلطة خارجية، وهذه هي الحرية التي يتطلبها الناس من غير الوجهة الصحيحة.
والسلطة المطلقة التي في يد الآباء والمعلمين والمربين، يكون تأثيرها في الطفل تأثير العوسج الذي يخيم على النبات فيذبله ويميته. وأما السلطة التي تستمد قوتها من الحكمة والحقائق، وتتجرد من الأنانية ويكون غرضها تقويم اعوجاج الطفل وتطهير نفسه من كل الميول والنزعات المرذولة، فإنها له كالحرارة والهواء الطلق للنبات، ولهذه السلطة من قوة الحق ما يغذي الروح غذاء يقويها ويصلحها، فالتربية بغيرها نوع من الشطط والحمق. ومن خصائصها مراقبة السلوك، وتكييف الطباع، ومقاومة الميول الفاسدة واستئصالها. وهذه هي واجبات المربي الحقيقي، فلا يكون في نظر الصبي كالحاجز الموضوع صورة حول الحدائق، لا يمنع الطارق ولا يقف في وجه العابث يجتازه بوثبة ويحطمه بدفعة، بل يكون كالسور الشاهق يحفظ المتاع ويدفع شر العوادي.
والنفس في بدء النشأة لم تتشبع بالشرور، كما أنها لم تتهذب ولم تصقل، فيسهل إصلاحها وإظهارها على الصورة التي يريدها المربي. فإن كان خبيرًا بمهنته الدقيقة غرس فيها المبادئ العالية، وعلمها التمسك بما لها من الحقوق، واحترام وتأدية ما عليها من الواجبات، وأوقفها على حقيقة الحياة وما لها من القيود والمزايا، فتشب على احترام الحقائق وتقديسها واحتقار ما عداها، وعلى معرفة حقوق الذات والناس، وعلى أداء الواجبات مع التواضع.
ويمكن تلخيص التربية الصحيحة في أنها هي التي تخرِّج رجالًا أحرارًا، يعرفون معنى الحياة، ويطالبون بما لهم ويؤدون ما عليهم، ويحبون غيرهم مع احترام أنفسهم.
•••
المستقبل وحده هو الذي يتقلب وتمرُّ أدواره على الحدث الناشئ، إلَّا أنه يجب تذكيره بالماضي، وحمله على احترام السلف وتقديسهم؛ لأن الفضل راجعٌ إليهم في كل التقاليد الحسنة، وتكوين المدنية والرقي الاجتماعي. فيجب على الآباء إحياء ذكرى الماضي في نفوس الأبناء؛ لأن فيه العبرة والموعظة والهداية في طريق المستقبل المظلم، ولا شيء أوقع في نفس الطفل ولا أنجع لخلق روح التواضع في قلبه إلَّا مشاهدته الوالد والوالدة يؤديان واجب الاحترام والإجلال لجده الشيخ الفاني مثلًا، وإلَّا تحققه تبادلَ الاحترام بين أفراد البيت جميعًا؛ لأن وجود هذه العاطفة بين الرجال يكون سببًا لغرسها في نفس الناشئ، فيشب على حب الاحترام والشعور بكونه من مقتضيات التربية والواجبات.
ولا يفوت العاقل أنَّ الخادم آدمي له جميع حقوق الإنسان، وأنَّ افتقاره للارتزاق من خدمة الغير ليس من دواعي التحقير والامتهان. فكل تحقير له وازدراء به شذوذ عن الأدب الصحيح، ونقص في التربية والأخلاق، ومن أهمل ردع ولده عن الإغلاظ للخادم لا يلبث أنْ يرى النقص يتطرق إلى نفسه من حيث لا يشعر ولا يدري، ثم تظهر نتيجته بعد قليل في معاملته لذات الوالدين ولسائر الناس.
والاعتقاد بأن الطفل الصغير لا يعرف الاحترام ولا يدرك معناه خطأ؛ لأن الطفل يعجب ويستحسن وينفر ويستقبح، ومن يدرك ذلك يعرف كيف يحترم. والاحترام ضروري ومن الحاجات التي يجب أنْ تتشبع بها نفس الصبي وينطبع عليها خلقه، والإهمال يقتل هذه العاطفة وينزعها من القلب والعقل، ولعدم تحققها بين الكبار تأثير سيئ في نفوس الصغار، ولهم منها نموذج فاسد يثبت لهم فساد التعاليم والمبادئ الصحيحة التي تقتضيها التربية.
وإذا كانت بساطة القلب وسلامة النية من الخصائص المحترمة، فإن الاعتدال في الحياة هو خير الوسائل الإعدادية لهذه التعاليم. والحكيم من يجتنب كل الأسباب التي تؤدي إلى نفخ روح الخيلاء والكبر في نفوس الأطفال مهما عظم جاهه وكثر ماله. واختيار الملابس الأنيقة وكثرة الزينة مما تساعد على انتشار هذه الروح الخبيثة، وتغري الطفل على الاعتقاد بأن المراتب في المناصب والأقدار بالدرهم والدينار.
وهنالك كثير من أنواع الفخفخة والحمق في التعليم تكون نتيجتها إفساد الصغار، وتعويدهم احتقار الوالدين والعادات القومية والعمل المفيد، والوسط الذي نشئوا وعاشوا فيه. والتعليمُ على هذا الشكل المشوَّه مصيبة عظيمة وخطب جسيم؛ فإنه لا يخرِّج إلَّا أفرادًا يتذمرون من كل شيء، وينفرون من أصلهم وأرومتهم ودينهم وبلادهم، فإذا ما انفصلوا عن الجذع الذي تفرَّعوا عنه وخرجوا من أصله يقلِّبهم الطمع والغرور في كل المهاب، كما تقلب الريح الشديدة أوراق الشجر اليابس.
كل شيء في نظام الكائنات يتمُّ بالهدوِّ والتؤدة لا بالطفرة والقفز، فليقتدِ الإنسان بالطبيعة في سيرها المعتدل، ولا يخلط النجاح والارتقاء بهذه المناورات العنيفة الحادة والقفزات الخطرة، وليبعد كل البعد عن تربية الأولاد لتعويدهم احتقار العمل والرقي والاعتدال والأهل والأقران والفقر؛ لأنه لا يكون أتعس من حال الأمة التي تكون نتيجة التربية فيها تأفف أبناء الفلاحين من المزارع، والبحارين من البحر وحِرَف الآباء والجدود، ولا يكون أشقى من حال المجتمع الذي يزدري به الأبناء آباءهم، ويخشون من الظهور معهم أمام الجمهور خشية انتسابهم إليهم. ولا يكون أحسن من حال الأمة، ولا أسعد من البلاد التي يفتخر بنوها بآبائهم، وأحفادها بجدودهم، والناس بحرفهم كلٌّ في مهنته عن رضاء ورغبة في العمل والإجادة، ويؤدي مقتضيات عمله بأمانة مع الاقتناع بالحاضر وحسن الظن بالمستقبل.
•••
الغرض من التربية كما مرَّ تخريج رجال أحرار، فمن شاء أنْ يربي أبناءه على مبادئ الحرية، فلينفث فيهم من روح الاعتدال والبساطة، ولا يخشى تأثير ذلك في السعادة، فإن الاعتدال من أسباب الحصول عليها، لا من الوسائل المؤدية إلى الشقاء والنكد.
من الواضح أنه كلما كثرت لعب الطفل ووسائل السرور واللهو، كلما كان أكثر ميلًا إلى الكدر والبكاء، وفي هذا دليل على أنَّ كثرة الوسائل الموضوعة والأسباب المختلقة للحصول على السعادة لا تنيلها ولا تأتي بالغرض منها، ودليل على أنَّ قلة هذه الأسباب أو عدمها لا ينفي وجود السعادة وتمتع الفقير المقلِّ بها. فليكن من اهتمام المربي عنايته بتعويد الطفل القناعة، والاكتفاء بالقليل، وعدم التورط في ابتداع الأسباب الوهمية للسرور، وليضاعف جهده لإقناعه بضرورة بقاء الملابس والمساكن والملاهي، وكل حاجات الإنسان على أبسط أشكالها التي تؤدي الغرض المقصود منها.
إنَّ البعض ليجتهد في إرضاء رغبات أبنائه، فيفعل ما يعلِّمهم الشراهة والكسل، ويثير فيهم ثوائر نفسية وميولًا لا تتفق مع أعمارهم، ولا توافق طبيعة الجسوم، فيجعلونهم أرقاء مستعبدين للشهوات والعادات لا أحرارًا مستقلين.
ومع كون الترف يضني ويسئم الجسم، فهو إذا قلَّ بعد اعتياده يكون سببًا من أسباب الشقاء وعدم الرضاء بالمآل. وكثيرًا ما دفع الإنسان إلى نسيان الكرامة الشخصية وبذل ماء الوجه، وإلى تجاهل الحقيقة والواجب جبنًا وسفالة.
أما اعتياد البساطة في العيش، وتكبد المشاق لاعتيادها، والمرنة على الأعمال للتشدد وتقوية الجسم، فإنها من أعظم الوسائل المؤدية إلى نجاح المرء في المعترك الحيوي، وفوزه على المصائب إنْ صادفته في طريق الحياة، وإنَّ نتيجة التدرب على شظف العيش واحتمال الأتعاب لخير من ألفة الملاهي وكرع كئوس النعيم والراحة. وقد يخرج مَن اعتاد هذا في صغره إلى مضمار التزاحم العالمي حرًّا مستقلًا قويًّا شديدًا يمكن الاعتداد بهِ والاعتماد عليه، فلا يبيع ضميره ولا حريته بأي ثمن، ويكون أكثر استعدادًا للحصول على السعادة والتمتع بها من كل مدلل مترف.
والمشاهَد المعروف من التجارب الكثيرة أنَّ وفرة أسباب العيش والرخاء مدعاة إلى الكسل وضعف الإرادة وإخماد الحواس، وإلى كثرة الأوهام وانقباض الصدر لغير سبب، وقد تُظهر الشاب متعوبًا منهوكًا، وفي شكل من طحنته الأيام. وليس أشق على الهيئة الاجتماعية من وجود فريق كبير من هذا النوع الإنساني الساقط بينها، فإن عليهم وحدهم ظهرت في شكل الأوباء كل آثار الضعف والعادات المرذولة التي مارسوها في الحياة، وفي منظر ذلك الفريق التعس عبرة للناظر ودرس للمبتدئ، فإن العين تقرأ بين سطور التجاعيد المطبوعة على جباههم أحكم المواعظ التي تزجر وتردع العاقل.
إنَّ هذه الحال من الشقاء تنطق بأفصح عبارة مشيرة إلى أنَّ السعادة كل السعادة في أنْ يكون الإنسان عاملًا حيًّا في الاجتماع، نشيطًا مقدامًا غير خاضع لسلطان الشهوات الفاسدة، وتأثير الغواية الضالة، مالكًا عواطفه وإرادته؛ لينعم بطيبات الحياة، ويكون لقلبه الخلو من المشاغل قوة على التعلق بالكمالات وحبِّ كل جليل وجميل.
•••
الحياة المرتبكة تولِّد سخف الأفكار وهراء القول، أما العادات الحسنة والانفعالات النفسية القويمة والبحث الدائم عن الحقائق، فإنها تنتج الحرية في القول والفكر.
والكذب خصلة مرذولة من خصائص المستعبد الرقيق، وهي ملجأ الجبان والبليد وقليل الهمة. أما من كان حرًّا صحيح الحرية ورزينًا ثابتًا فإنه لا يخضع إلَّا لسلطان الحق والعقل، ولا يخشى في نشر الحقيقة لومة لائم، ولا جبروت المعتسف. والتربية الصحيحة تقضي على المربي بتعويد الأطفال الصدقَ وقول الحق بلا تمشدق ولا تحوير، ولا تلعثم في كل الظروف والأحوال.
إنَّ فريقًا كبيرًا من الجمهور يعدُّ من الفظاعة وعدم اللياقة اعتمادَ الشخص على فكره عند التفكير، وترك القلب لتأثير الوجدان والعواطف عند التأثر. ويستاء الناس من استعمال الإنسان مواهبه الذاتية، ومن اعتماده على قوته ونفسه، مع أنه لا يوجد أفظع ولا أسفل من التربية التي تميت في الآدمي مواهب الإنسان ومزايا تلك المواهب.
يا للناس من سوء ما فعلوا! ويا لله مما جنوه على النفوس وعلى الهيئة الاجتماعية بالضغط الشديد على الفكر والقول، وبإزهاق روح الحرية والاستقلال الذاتي بكل وسائل الاعتساف والإرهاق! كأنما يحلو لهم أنْ يروا الأطفال صورًا وألاعيب، والرجال تماثيل متحركة بإرادة الغير وآلات تعمل ولا تدرك!
هذا هو السبب الرئيسي في ضياع الإقدام ودلائل الحياة الحقيقية، وتسلط السماجة والضعف، وبقاء الإنسانية بلا ارتقاء صحيح، ولا تكمل صالح.
الحقيقة مرَّة وجارحة ولكنَّها الحقيقة، فليعلم الحكيم أبناءه احترام أنفسهم والتمسك بحقوقهم وحريتهم الشخصية، وليعوِّدهم قول الحق صراحًا بلا تشنيع فيه ولا تلطيف من مرارته، وليحبب إليهم الاستقامة والاحتفاظ بالكرامة حتى في حالات العسر وأخطر مزالق البؤس والشقاء، فإن بذل ماء الوجه أصعب على الشريف من هدر دمه وإزهاق روحه.
•••
ليس في الصفات خير من السذاجة وسلامة الضمير وصفاء القلب، وهذه فطرة الأطفال قبل أنْ تُفسد قلوبَهم شرورُ المجتمع الإنساني، وقبل أنْ تنقل إليها عدوى الأخلاق عوامل الفساد. وليست السذاجة أختًا للحقيقة فقط، وإنما هي قوة أخلاقية لا خبث معها ولا نفاق ولا إضمار. ومن الأسف الشديد أنَّ كثيرًا من الناس يعملون على بتر هذه الصفة الحميدة وملاشاتها من الوجود بما استطاعوا من قوة وحول، ويجهدون أنفسهم لاستئصالها من الحياة والفكر والتربية، ويتعقبونها حتى في عالم الخيالات والأوهام، ولِتعجلهم في جَعْل أبنائهم رجالًا قبل الاكتمال يسلبونهم كل صفات الأطفال ومميزات الطفولة. وشأنهم في ذلك شأن البستاني الجاهل الذي ينزع عن الأشجار أوراقها الخضراء فلا تزهر ولا تثمر.
والطفل بدون هذه السذاجة كالطير بلا ريشه، فليتقِ الناس ربهم في النابتة، وليحتفظوا ببقاء هذه الروح فيها؛ لكي يتأتَّى للعالَم أنْ يتطهر من أدران الكذب والنفاق والرياء، فإنها أكثف حجب لإخفاء الحقيقة وستر نور الهدى من العيون والبصائر، وإنها من أقوى المعاول العاملة لهدم الرقي الاجتماعي والتمدن الصحيح والرجولة الحقيقية.