روح الاعتدال
يتوهم الناس أنَّ للاعتدال دلائل ظاهرة تدل عليه، كعدم التأنق في الملبس واختيار المسكن البسيط وما أشبه ذلك. ولكن هذا الظن فاسد وباطل، وإننا لنربأ بالناقد البصير أن يمر به غنيٌّ متبجل في مركبته ومتوسطُ حالٍ ماشٍ على قدميه ومعدَم يتعثر بأسماله البالية؛ فيبادر إلى تقرير حُكمه في كلٍّ من الثلاثة مستندًا على هذه الظواهر؛ قد يجوز أن يكون ذلك الغني المترفِّه — رغمًا عن بسطة الرزق وسموِّ المركز الاجتماعي ومظاهر الجاه والثروة — معتدلًا في أمره ليس عبدًا للمال ولا أسيرًا لحب الظهور. وقد يجوز أن يكون الرجل المتوسط قانعًا بما في يده، لا يغبط الغني ولا يحسده على عزه وجاهه، ولا يحتقر الفقير لحاجتهِ ولا يزدريه لعوزه. كما أنه يتأتى أن يكون ذلك الفقير المعدم طموحًا لما لا يتفق مع فاقتهِ، غير ميال للعمل عدوًّا للقناعة يمنِّي نفسه بالسعة، وهو عائش في ظل الخمول والبطالة.
فمن أبعد الناس عن الاعتدال السائل الذي يعتاش من التسوُّل وهو قادر على العمل والارتزاق، وذلك المجامل الذي يقول ما لا يعتقد إرضاءً لمحدثهِ واستدرارًا لماله، وذلك الطفيلي المتملِّق الذي يعيش على موائد مقرِّبيه المخدوعين في أمره؛ فأولئك وجودهم عالة على الغير، وحياتهم عبءٌ على المجتمع. ولو فحصت نياتهم وأفكارهم لعرفت أنَّ أمانيهم تنحصر في الظفر بما يستطاع مما يتنعم به الغني الممتَّع. وفي عِداد هؤلاء الممقوتين الطموع ومَن لا مبدأ له والمذبذب والبخيل والمتكبر والمتقلب.
وليس الاعتدال صفة تختص بها طبقة من الناس دون سواها، كما أن المظاهر ليست من مميزاته والدلائل عليه. فهو موجود في كل طبقات المجتمع الإنساني على السواء، ويظهر على صور مختلفة وأشكال متباينة. وليس المراد بهذا القول عدم وجود أدلة ظاهرة تدلُّ عليه، أو مميزات خاصة يعرف بها؛ إذ جل القصد من هذا التوكيد النجاة من الخلط بين الأعراض الباطلة والجواهر الحقيقية؛ فالاعتدال روح لا مادة، والإنسان المعتدل هو الذي ينحصر اهتمامه في أن يكون إنسانًا «بكل معنى الكلمة» فيتكمَّل بكل صفات الرجولة ليكون رجلًا لا أكثر ولا أقل. وليس هذا يسيرًا ينال ولا صعبًا يستحيل كما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، على أنه لا يتأتى تحقيقه إلَّا إذا ارتبطت الإرادة والعمل بنواميس الاجتماع، وطابقت مشيئة الخالق وحكمته في خلق الإنسان ووجوده. ومعنى هذا أن تقف الخلائق عند الحد المعين لكل منها، وأن تكون لما خلقت له فقط، فيبقى الطير طيرًا والحجر حجرًا والإنسان إنسانًا، فلا يصير ثعلبًا محتالًا ولا يمسخ وحشًا ضاريًا.
الحياة عبارة عن اتحاد المادة بالقوة وعملهما معًا، غير أنَّ بعض الماديين قد ذهلوا عن ماهية الحياة. ولما كانت رغبة الإنسان واهتمامه منصرفين إلى زيادة قيمة الحياة والسمو بها إلى الأوج الأعلى، فلا يمكن تشبيه الوجود بالمادة الأولى الأساسية لكل شيء. وليس الغرض ماهية الوجود، بل نتيجتهُ ومؤدَّاه. كما أنَّ العبرة ليست بمادة الأثر الثمين، ولكن بما فيه من إحكام وإبداع. والمواد تختلف اختلافًا نوعيًّا؛ فمنها الذهب والرخام والخشب والتراب، ومع أنَّ للذهب قيمة ثمينة فقد يسيء صانع في صنعة ما يصوغه منه فيحط من قيمته، ويُوفَّق آخر إلى عمل أثر خالد من التراب، لا يقدر له ثمن ولا تجد له قيمة. فالحكمة إذن في صوغ حياة الإنسان وتنسيقها؛ لتكون في أجمل وأجلِّ مظاهرها الصادقة التي ترفع قيمتها وتُشرِّف قدرها.
ومن الصفات المحسنة ذات الاعتبار في جميع الأزمنة وسائر الأمكنة العدل والحب والحقيقة والحرية والإحساس والشعور، وهذه الصفات تلائم كل أفراد الهيئة الاجتماعية على اختلاف الطبقات في كل العصور، وليس من المحال اعتيادها والتطبع بها مهما اختلفت درجات الناس في التربية والتهذيب. ومن هذا نعرف أنَّ قيمة الرجل ليست بماله ولا بمميزاته الشخصية، بل بصفاته وبالكمالات التي عني لها، فالعبرة بالصفة الحقيقية لا بالرونق الظاهر.
ومن البديهي أنه لا يمكن الوصول إلى هذه الغاية بدون جهد وتعب؛ لأن روح الاعتدال ليست مما يتوارث، ولكنها جُعالة جهاد طويل وثمرة سعي متواصل.
يحاول الناس استخراج القواعد من مجموع الأحوال المتغايرة، ولكن كم يلزم من الزمن والتجاريب والتعب والعناء لتقرير حقيقة صغيرة في كلمات مسطورة؟
هذا هو حالهم في أمر التربية الأخلاقية، فكم يخلطون ويتطوحون ويبحثون ويجرِّبون فيضلون شأوهم ويتيهون عنه. ولعلَّ الإنسان مع توالي العمل والتحقق من كل شيء بالغ من معرفة أسرار الحياة وحلِّ رموز المشاكل، حيث يستطيع استنتاج القاعدة العامة والقانون الأساسي للنظام؛ وهو «عمل الواجب». وكل ساعٍ إلى غير هذا الغرض العام عابث بالقصد من الحياة، وقاضٍ على نفسه بالخروج من عالم الأحياء العاملين، وما هو في الوجود إلا الحي الميت، لا شأن له ولا قيمة. وممن يُهمِلون هذا الغرضَ الشريفَ الأنانيُّ والطماع والبهيمي عبدُ الشهوة؛ أولئك الذين يعبثون بحياتهم عبث الزارع بزرعه إذا حصده قبل أن يثمر وينضج. أما من يضحي حياته في سبيل الكمال فإنَّه يحييها ويرقيها ويَربحها ربحًا.
والقواعد الأخلاقية التي تظهر شاذة لصغار العقول وقصار المدارك، وتلوح لهم من الوسائل المضعفة من النشاط المقوضة لأركان الحياة، لم يشاهدوها إلَّا معكوسة، ولم ينظروا إليها إلَّا بمنظار أسود؛ لأن كل المبادئ السامية ترمي إلى رقي الحياة وإلى إعداد النفس للكمالات. ولهذا ترى النزر الأعمى المضلل يحوم حول نقطة واحدة؛ وهي الحرص على الراحة والحياة المادية. وهذا يخالف كل التعاليم الصحيحة العالية؛ لأنها تدفع الإنسان لبذل الحياة، واحتمال النَّصَب في سبيل استثمار المجهودات النفسية، وترقية الروح للتكمل بجليل الصفات.
وعلى قدر الجهد الذي يبذله الإنسان لنفعه وخيره الخاص يكون مقدار تمسكه بالمبادئ التي تَعِبَ في اكتسابها، واقتنع بسموها وتحقق صلاحها. وعلى قدر تمسكه بها تكون قيمته الأخلاقية ومركزه الأدبي. ثم يسير في طريق الحياة وله وجهة معروفة وخطة مرسومة، واثقًا من نفسِه بعد طول التردد والشك، عالمًا بمجاري الأمور والأحوال بعد الجهل والتخبط، فيستطيع إذ ذاك الحكم في الأمور وتمييزها بصورة لا تقبل النقد والتثريب. حتى إذا تشبعت روحه من حب جلال الحياة الحقيقية وشرف المبادئ السامية، وانصرفت إلى الحقيقة وحب العدل بقي لذلك أثر خالد في قلبهِ لا يزول ولا يمحى، وتكملت نفسه بسائر الصفات الممدوحة وصار للوجود مطلق السلطة والنفوذ؛ فيصغر العرض أمامه ويتلاشى فيشمل النظام أحوال الإنسان وأعماله، ويكون معتدلًا بالمعنى المقصود بالاعتدال.
انظر إلى الجيش تجده قويًّا كلما حسن نظامه وأحكمت قيادته. والنظام قائم باحترام المرءوس للرئيس وبالقصد إلى غرض معين من طريق معروفة، فإذا ساد الخلل نزل الضعف منزلة النظام وأغار الوهن على القوة فتركها بددًا.
وليس من النظام أن يخضع القائد للجندي. وهكذا يكون الحال في شئون الإنسان والهيئة الاجتماعية فينبغي أن يخضع المرءوس للرئيس بوجه عام، فحيث ترى خللًا سائدًا أو ثلمة في نظام الاجتماع فكن على ثقة من أنَّ منشأها تجاوز الفرد حدَّه وشروده عن محجة الصواب. وفي كل بقعة من الأرض نبت فيها الاعتدال ووقفت نفوس أبنائها عند حدودها وقنعت بحظوظها؛ ترى النظام تامًّا كاملًا حقيقيًّا بأجلى مظاهره ومعانيه، فإذا ما عرفنا قدر الاعتدال قلنا: إنَّ كل تعريف له قاصر عن بيان معناه تمامًا، وإن كل عبارة واقعة دون المرام، وكل قوى العالم وجماله وجلاله، وكل المسرات الحقيقية التي تعزي الإنسان وتقوي الأمل، وكل الحقائق التي تضيء طريق الحياة ومهاويها المخيفة؛ هي من نتائج الاعتدال، ومن أعمال المعتدلين الذين لم تستعبدهم النفس بأميالها المتعددة، فغلبوها ورموا إلى الغايات الشريفة والأغراض الوجيهة السامية، ولم يتركوا لحب الذات والزهوِّ سبيلًا إلى قلوبهم؛ لأنهم عرفوا أنَّ الرفعة الحقيقية وقيمة الحياة في العمل الجليل والذكر الخالد.