الاعتدال وحُبُّ الظهور
من أشهر الأمور الصبيانية التي امتاز بها أهل هذا العصر حُبُّ الشهرة والظهور، فلا يكاد الباحث يجد بين هذا الملأ مَن لم يتأصل فيه هذا الداء، وإن الناس ليخالون الهدوَّ والسكون عارًا لا يُمحى فتراهم يتواثبون إلى الظهور والإعلان عن أنفسهم بما في وسعهم، وعلى قدر ما تفتق لهم الحيلة؛ ظنًّا منهم أن الرفعة وكل الشرف في الظهور، والحِطة والهوان في الخفاء. بل ترى شأن من تجاوزتْهم الشهرة شأن الضالين الذين لا يعرف لهم حيِّز ولا مقر، أو شأنَ الغرقى تحطمت بهم السفينة فألقتهم على صخر في وسط المحيط، فوقفوا على قمته يلوحون بثيابهم ويبلغون السماء بصراخهم؛ ليسمعهم سامع أو يشعر بوجودهم كائن حي.
وقد لا يقف حب الظهور عند حدِّ الضوضاء والجلبة للإعلان عن النفس، بل يتعدَّى تلك الوسائل العادية إلى سواها مما يعدُّ نقيصة وجريمة، فكأن نفس الشيطان تقمصت سائر الجسوم البشرية، فآذت الهيئة الاجتماعية بما تبتكره من الشرور والمفاسد.
والحقيقة المرَّة أن أغلب مَن ظهروا على مرسح الوجود، وطبقوا بشهرتهم جميع الآفاق، لم يصلوا إلى ذلك الأوج إلَّا من طريق الشرِّ والرذيلة والخبث والتوحش. ولكن هذه النقائص التي تُسقط أكرم الناس وتلطخ اسمه بأخبث أدران الشهرة السيئة تزول مِسحتها مع الشهرة، فلا تراها العيون أو أن الناس يطبقون جفونهم؛ كيلا يبصروا هذه العيوب المذمومة، أو هم لا ينظرون إلى الإنسان إلَّا بالصفة التي يريد الظهور بها بينهم. والحال على عكس ذلك تمامًا مع كل من يسوء حظه ولا يفلح في نيل الشهرة، فإن الناقدين يجردونه ظلمًا من كل صفاته الحميدة، وينسبون إليه ما ليس فيه وما لم يكن من صفاته الحقيقية.
وليس الجنون حبًّا في الظهور خصيصًا بذوي العقول السخيفة، أو برجال المال والدجالين والممثلين، وإنما هو جنون يصيب طوائف الإنسان بلا فارق ولا تمييز، وأشد ما تكون وطأته على رجال السياسة والأدب والعلم والدين، فإن هؤلاء الرجال الممتازين مع ما أوتوا من علم ومقدرة أكثر الخلائق تطلعًا إلى الشهرة.
ومن المصاب أن رجل الخير الذي يعمل الطيبات يملأ الدنيا طبلًا وزمرًا حينما ينهض لعمل خيري؛ ليلفت إلى شخصهِ أنظار العالم ويستدر المديح والإطراء. وكم برزت العقول في استنباط الوسائل الشيطانية؛ للإعلان عن النفس والتغرير بالناس؟
لقد أعمى الغرورُ البصائرَ ووصل إلى حيث كانت الرزانة والتعقل، فهوَّش عليها وزعزعها حتى ضعفت مواهب الإدراك والتمييز؛ لكثرة التفنن في التغرير والتمويه، فلم يعد الإنسان يستطيع تقدير الأشياء قدرها الحقيقي؛ لما يحوطها من الوسائل المختلفة لإخفاء معالمها وإظهارها في أرقى من حقيقتها. وإذا كان العقل لا يهتدي إلى الحقائق في وسط الضوضاء فمن البديهي ضلاله وتخبطه بين كل هذه الظواهر الخداعة، حتى زهقت النفوس وضاقت الصدور تألمًا من الغرور السائد والضلال العام.
من يسأم العيش وسط الجموع، ويضره العشير الثائر ويؤذي مسامعه تنافر الأصوات يترك ذلك المكان، ويفزع إلى ناحية من الأرض الفسيحة؛ ليجتلي منظر الطبيعة الجميل ويعجب بمجرى الماء المتدفق بين المزارع بلا جلبة ولا حسٍّ، اللهمَّ إلَّا إن كان له خرير يشجي ولا يُسأم. وليس يسع الإنسان إلَّا الابتهاج بمشاهد الغابات وهدوِّها الشامل، فيرتاح إلى الوحدة وتنقشع عن عينيه السحب الخداعة، فيرى بهاء الكون وجمال الحياة بين هذه النعم التي خلقها الله للمرء، فعافها كفرًا بالنعمة وتطلعًا إلى ما يشقي ولا يسعد فكان كفورًا غشومًا.
إن العزلة والبعد عن المجتمع الفاسد المضلل خير من الحياة المتعبة وسط الجموع التي ترى الراحة في الخداع والغش؛ ابتغاء المنفعة الشخصية والرقي، ولو فوق أكتاف الناس ورءوسهم. ما أشهى الحياة بين مناظر الطبيعة الجميلة وبين الحيوانات الهائمة على وجهها؛ فإنَّها أكثر إيناسًا من الإنسان الخبيث، وأقل أذًى وضرًّا من هذا الوحش المتحضر!
إن مَن يرتطم في المدن ويحشر بين الزمر والجموع يُشقي نفسه وينسى الخالق؛ لأنه لا يذكره، ولا يتمكن من رؤية السماء التي تظله، ما دام لاهيًا بما أمام عينيه من مشاهدة تلك الصحيفة الصافية، وعما فيها من الكواكب المتلألئة والنجوم الزاهرة المتألقة، فإذا خرج من تلك الدائرة إلى حيث تقلُّ شرور الإنسان عاوده العقل والشعور، وشاهد جلال الخالق في جلال صنعه وشعر بسرور النفس وارتياحها إلى الوحدة والابتعاد عن ذلك الوسط الموبوء.
اخرج إلى الفضاء غير المحدود، حيث تخشع النفس هيبة وإجلالًا، وانظر إلى الأفق المترامي الأطراف، وهو يشير إلى أبواب الأبدية تعرف حقارة الإنسان المختال، وانظر إلى الأزهار العطرة في المرج الزاهر، وألوانها الزاهية وأشكالها البديعة تعرف قصور المخلوق عن مجاراة الخالق المبدع، وتشعر بضعف ذلك المكابر المعتدِّ بنفسه.
إن الصانع القدير يعمل بلا جلبة ولا يتكلف أقل عناء لإظهار مقدرته على الإجادة والإبداع، ويترك الناس تبحث عنه وتنقب عن إجادته وإبداعه، فلا تخدعنَّ العاقلَ المظاهرُ والظواهرُ. وليعلم أن كثرة الإعلان دليل على حقارة المعلَن عنه، فإن التجارب العديدة أثبتت صحة هذا القول، وما على الإنسان غير الاختيار والتجربة ليُخرج الشكَّ من صدره ويقف على الحقيقة الكاملة.
في الهيئة الاجتماعية كثيرون من رجال الخير يعملون من وراء ستار، ويضمرون — في أنفسهم — آراءهم ومشاريعهم الخيرية ويكتمونها؛ لأن القلب الطيب الذي يتصباه حبُّ الإحسان والعمل الصالح يرى سروره في الكتمان، والاحتفاظ على الخلة الحميدة، كأنه يخشى أن تؤثِّر فيها الإذاعة تأثيرًا سيئًا، ويرى اغتباطه بالكتمان أكثر من شغفه بالعمل نفسِه، فلا يقف على ما يجول بخاطره إلا الله. وكلما حرص على هذا المبدأ افتتن به، وتجددت قواه للدأب والمثابرة، فإذا أهمله وانخدع مأخوذًا بالمجد الباطل، والظهور الكاذب زالت هذه الخاصية، ومات في قلبه السرور الذي ألفه واعتاده، وقلَّت قيمة عمله حتى في عينيه. إن الظهور يكلف الإنسان عناءً وجهدًا، ويأخذ ثمنه الباهظ من قدر العمل، وقدر الإنسان في نظر نفسه، ويَنتج من ذلك أن تكون قيمته الحقيقية أقل بكثير مما يلوح للناس ويذاع عنه. أما مَن لا يريد بعمله غير القيام بالواجب وإرضاء الله والضمير فإنَّه ينال أجره كاملًا ثوابًا من الخالق، وسرورًا نفسيًّا لا يعرف لذَّته غير من ألفوه وشعروا به، فإذا ما أرادوا أن يُعربوا عنه قلَّتْ قيمته وزال عبيره.
إن عشاق الطبيعة ينأون إلى حيث لا يُكدِّر صفوهم طارق ولا طارئ، وينفردون ويعتزلون، حيث لا تزعجهم الناس والخلائق، فيقضون شطرًا من الحياة في التمتع بمرأى جلالها وبهائها، حتى لينسيهم الحياة مرأى الطائر في خلوتِه يبني عشَّه أو يطعم فراخه، وهو في بيته الحقير على فرع الشجرة في عيش رغد لم يعرفه أسعد الناس حظًّا وأهنؤهم عيشًا.
وهل يمكن للإنسان أن يقدِّر سروره بمشاهدة قطيع من النَّعام أو الظباء يمرح ويلعب في فضاء من الأرض مستسلمًا للسرور واللعب؛ غير حافل بالكون ومشاغله الجمة؟ وهل في وسعه أن يوقف الناس على مقدار هذا الشعور، أو يريهم هذا المنظر بدون أن يعكِّر على الحيوان صفو هنائه، ويجعله ينفر طريدًا في الفلوات مجفلًا من منظر الإنسان المتطفل؟ فكذلك حال الإنسان في عمل الخير، فإن سروره به يزول عند الإذاعة، ولا يعرف عنه إلَّا ما عرف النازحون لرؤية قطيع الظباء.
فالحكيم من يتوخى فعل الخير ويفعله هادئًا؛ ليكون له من عمله لذَّة المعجب بالطبيعة في خلوته، وليكون عمله مجردًا من الغاية وهو مقتنع بأنه إنما يعمل غير طامع في الجزاء والشكر.
رُبَّ واهمٍ يظن ذلك محاولًا أو يتصوَّرُ العالَم خلوًّا من أفرادٍ لهم هذه الميزة الحسنة، والحقيقة أن الوجود عامرٌ بكثير من أولئك الأفاضل الأجلَّاء، ولو شاء أحد أن ينقِّب عنهم ويدل الجمهورَ عليهم لأساء إليهم في أعز أمانيهم؛ وهي عمل الخير في الخفاء والابتعاد عن الشهرة.
والمحب للإنسانية العامل لإسعادها يتمنى أن يكثر عددهم وتشتد عزائمهم، وأن يحذو الناس حذوهم في الرغبة في المساعدة والإصلاح، بلا إعلان عن النفس، ولا اعتدادٍ بالشهرة؛ لأنها — في أغلب الأحايين — تكون وهمية لا وجود لأسبابها، فلو كان كل برَّاقٍ ذهبًا لما كان لهذا المعدن النفيس قيمة تذكر؛ لكثرة المعادن ذات الطلاء الذهبي.
إن مَن يعتدَّ بالشهرة يخدع نفسه؛ لأنه يخدع الناس أولًا، ثم يغتر بذاته فيضل عن معرفة حقيقة شخصه، ولا يعود يهتم إلا بما له من شهرة وذِكر، فتنحصر حياته ومجهوداته في الظهور وخَلْق أسبابه، وفي هذا ما يكفي لصرفه عما يفيده أخلاقيًّا وأدبيًّا، ولحبس أنظاره في مجهر أسود.
يظهر الممثل على المرسح في لباس الملوك وجلالهم، فهل له حقيقة قدر الملوك؟ وهل يقدر على الظهور في الشوارع، وبين الجماهير — بتلك الملابس المطرزة الموشاة — بدون أن يناله من الهزء والسخرية ما يردُّه إلى التعقل والندم؟ إن عاشق الشهرة لأقرب الخلائق شبهًا بقياصرة المراسح، فإذا ما دخل خلوته وخرج من ثيابه كان شأنه شأن ذلك القيصر الكاذب إذا ما خرج من المرسح ودخل غرفة الزينة، حيث ينزع لحيته ويطرح رداءه الموشَّى؛ ليعود إلى حاله الحقيقية وشكله المعهود.
قارن إذن بين ذلك الرجل المخادع إذا ما خلا بنفسه، وتجرد من مظاهرها واستلقى على سرير راحته، وبين فاعل الخير إذا ما اضطجع ليرقد؛ فليس من الصعب إدراك ما يتردد على أفكار الرجلين، أو تصور ما يشعر به قلباهما، ولا من العسير معرفة أيهما أكثر سرورًا من نفسه ورضاء من حاله واطمئنانًا إلى الحياة.
ليس السرور الحقيقي في الابتسامات المطبوعة على الشفاه، وإنما هو شعور داخلي يرقص له القلب ويفرح به الفؤاد فينشِّط الروح ويشرح الصدر. وإذا شبهنا الناس بالصناديق نرى هذه سواءً في الشكل الظاهر، ولكن قيمتها فيما تحتوي عليه من النفائس. وليس من يقول بتماثل المملوء هواء والمملوء درًّا، فتقدير الرجال إنما هو بالأعمال لا بالجسوم. فمن شاء ألَّا يكون شبيهًا بالمعدن البراق الكاذب، أو بقيصر المراسح، أو بالصندوق الفارغ، فعليه أن يدرج في سبيل الرجال العاملين لنفع المجتمع الإنساني مجردًا من الغاية، غيرَ حافلٍ بالظهور والشهرة والإعلان عن نفسه وعمله، وليكن إجلاله لفاعل الخير المجهول عظيمًا، واعترافه بفضله عن صدقٍ وإخلاص، وليذكر دائمًا أنه لولا الأحجار المخبأة تحت الجدران لما عمرت الأبنية طويلًا ولا عاشت دهرًا.
فالخير المجهول والمعاونة المستورة والإصلاح السري، هي من أقوى أسس تقدم الهيئة الاجتماعية، وتخفيف متاعبها وتلطيف همومها.
ولو كفَّت تلك الأيدي الكريمة عن العمل المستور، واقتصرت الحال على عمل من يتظاهرون بالمساعدة ونصرة الإنسانية لمجرد الشهرة بذلك لعرف الناس قدر أولئك المتنكرين، وللمسوا فضلهم ولم يعودوا يغترون بترهات الخدَّاعين المضللين عبَّاد الشهرة والظهور.