مقدمة

علم النفس يحل مشاكلنا

كلما تأمَّل المرء في نفسه وفيما يدور حوله من أحداث، واعتنى بتتبُّع سلوك الآخرين وبدراسة تصرفاتهم، ازداد يقينًا بأن الإنسان مجموعة من المُتناقضات، ومن أهم هذه المُتناقضات أن يُحاول الإنسان العصري أن يلهو عن نفسه، وأن يحيا حياةً صاخبة مُتقلبة؛ خوفًا من أن يجد نفسه أمام نفسه. وفي الوقت عينه الذي يُحاول فيه أن يتجنَّب مواجهة ذاته، نراه يتلهَّف على معرفة نفسه وكشف أسرارها، وربما يكون الدافع إلى هذا رغبته المُلحَّة في كشف ما قد يمتاز به من فضائل؛ لكي يحتفظ بحسن تقديره لنفسه، ويفوز بتقدير الآخرين له.

ومن اليسير أن نُلاحظ أن العلوم الطبيعية تنجح في جذب الإنسان نحو الخارج بمُخترَعاتها العجيبة، وبما تُقدِّمه له من وسائل اللهو والتسلية، وبما تُولِّد فيه من رغباتٍ جديدة وحاجاتٍ مُصطنَعة، ولكن يمكننا أن نُقرِّر من جهةٍ أخرى أن علم النفس الحديث قد ساير بخُطًا واسعة تقدُّم العلوم الطبيعية؛ فقد خرج من بُرجه العاجي حيث كان مُستغرِقًا في تأمُّلاته المجرَّدة بعيدًا عن التجربة وعن الحياة اليومية، ونزل إلى ميدان الواقع مُقتحِمًا معظم ميادين النشاط الإنساني، متَّخِذًا أحيانًا شكلًا شعبيًّا مبسَّطًا لكي يسهُل عليه الاتصال بعامة الناس؛ ليُساعدهم على إرضاء رغبتهم في معرفة أنفسهم، ويُعاونهم على حل مشكلاتهم النفسية.

والواقع أن الحاجة إلى تعاليم علم النفس وإرشادات العالم النفساني تزداد يومًا بعد يوم، خاصةً في المدن الكبيرة المُتحضرة، حيث تكثُر عوامل الصد والخذلان التي تحُول دون تحقيق إمكانيات الإنسان، وحاجته إلى الأمان والاطمئنان والمحبة والتقدير. وإذا أردنا أن نصِفَ موقف الإنسان المُعاصر لقُلنا إنه يُعاني صراعًا مستمرًّا، ويدور هذا الصراع بين مجموعتَين من القُوى؛ إحداهما دافعة والأخرى مانعة، ولا يقتصر هذا الصراع على الأشخاص مُنفردين، ولكنه يشمل أيضًا الجماعات والطبقات. وممَّا هو جدير بالذِّكر أنه لا يمكن القضاء نهائيًّا على الصراع، حتى في الحالات التي تتوافر فيها أسباب التعاون والتفاهم؛ هذا لأن ما يُميِّز الحياة الحركة والتغيُّر، فهي بمثابةِ نظامٍ ديناميكي يكون على الدوام في حالة توازُن غير مُستقر، وعلى المرء أن يُواصل سعيه لكي يُعيد التوازن باستمرار إذا أراد أن يُحقق آماله، وأن يصل إلى أهدافه.

فالإنسان لا يعيش في عالمٍ مادي بقدر ما يعيش في عالم من القيم، كالأشخاص الذين يتعامل معهم، والأشياء التي تُحيط به، والمواقف التي تضمُّه، كل هذا يكون محمَّلًا بقيمة إما موجبةٍ جاذبة أو سالبةٍ مُنفِّرة، وهذه القيم كما تبدو له في شعوره، وتبعًا لما تكون عليه دوافعه من توتُّر وتنشيط، هي التي تُوجِّه سلوكه، وتُعيِّن اختياراته، وتُشكِّل استجاباته للأشخاص والأشياء.

والمواقف الإنسانية مُتعددةٌ مُتنوعة، تنطوي دائمًا على قدرٍ كبير أو صغير من التوتر، وكثيرًا ما يكون منشأ هذا التوتر مجهولًا من بعض نواحيه، وليست النواحي التي يُدرِكها الشعور هي التي تؤدِّي الدور الهام في بعث التوتر واستمراره.

ومن المواقف الإنسانية التي تحتلُّ المرتبة الأولى من حيث شحنتها التوترية، موقفُ الرجل والمرأة كلٍّ من الآخر في أخطر مراحل الحياة، وفي مختلف ميادين التعامل والنشاط في الأسرة والمجتمع. وسيتبيَّن لنا أن هذا الموقف يضمُّ في آنٍ واحد عاملَين مُتناقضين: الحب والكراهية، الاطمئنان والخوف، الإجلال والإذلال، التعاون والتنافس، السيطرة والخضوع، وما إليها من الاتجاهات والعواطف التي تُوجِّه السلوك وتُلوِّنه.

ويُحاول الإنسان طبعًا أن يُخفِّف من حدَّة الصراع الذي يُعانيه فيما بين نفسه وفيما بينه والآخرين؛ لكي يُحقِّق ما يُعرَف بالتكيُّف النفسي والتوافق الاجتماعي. وكلما ازداد الإنسان وعيًا بالرغبات والمُقتضيات المُتضاربة التي تتنازعه، ازداد إلحاحه في طلب المعونة والمساعدة من علم النفس الحديث، الذي وُفِّق بفضل التحليل النفسي إلى الكشف عن الدوافع اللاشعورية، وإلى وضع قواعد جديدة لعلم الصحة النفسية.

وأقوى دليل على نجاح علم النفس الحديث في معالجة المشكلات الإنسانية الأساسية، انتشار العيادات السيكولوجية في جميع البلاد المُتحضرة، والعناية الفائقة التي يبذلها علماء النفس في تفهُّم نفسية الأطفال والمُراهقين وهم آباء وأمهات الغد. ولا تكون دراسة الأطفال والمُراهقين مقصورة عليهم، بل تشمل دائمًا البيئة التي ينشئون فيها، والتي يكون لها أثرٌ بليغ في إثارة المشكلة التي يُعانيها الطفل.

وأهم عامل من عوامل بيئة الطفل الأمُّ بلا أدنى شك. والواقع أن معظم حالات عدم التكيُّف وحالات الانحراف والتكيُّف الشاذ، أو بعبارةٍ أخرى معظم حالات المرض النفسي والعُقَد النفسية تنشأ من طبيعة الصلة القائمة، أو التي كانت قائمة، بين الأم وابنها في سِنِي الطفولة والمُراهقة. وإن كان الدور الذي يؤدِّيه الأب قد يكون خطيرًا في نشأة العُقَد النفسية، خاصةً عند البنت، غير أن الدور الهام هي الأم التي تؤدِّيه دائمًا؛ ولهذا السبب ستكون المرأة هي المحور الأساسي الذي ستدور من حوله دراستنا لسيكولوجية الجنس ومشكلات الزواج.

وربما يكون من المُفيد أن نُشير هنا بكلمةٍ وجيزة إلى ما يُسمَّى بالعقدة النفسية؛ فقد أصبحت هذه العبارة من العبارات المألوفة التي ترِد كثيرًا في المحادثات اليومية، والقوم يتحدثون كثيرًا عن عقدة النقص، بل قد يقول الشخص عن نفسه إنه مُصاب بعقدة النقص. والمقصود بهذه العبارة في لغة العامة هو الشعور بالنقص إزاء الفشل والحرمان، ثم محاولة الشخص تعويض ما يشعر به من قصورٍ بشتَّى وسائل التغلب والتفوق؛ غير أنه يوجد فرقٌ جوهري بين الشعور بالنقص الذي يتحدَّث عنه الناس، وبين عقدة النقص كما يعرفها علماء التحليل النفسي؛ أي إنه يوجد فرق بين الشعور والعقدة. فالشعور حالةٌ معروفة لدى الشخص، حالة يُدرِكها إدراكًا مباشرًا. أما العقدة النفسية فهي في صميمها لا شعورية؛ أي إن من هو مُصاب بعقدةٍ نفسية لا يشعر بها، ولا يُدرِك طبيعتها، ولا يعرف منشأها، بل كل ما يُعانيه أعراض هذه العقدة من تعب أو قلق أو خوف أو وهم، أو عجزٍ فجائي في بعض الوظائف الحركية والحسية، أو اضطراب في بعض الوظائف العضوية من هضم وتنفُّس وإخراج. وعندما يقول إنه يُعاني عقدةً نفسية فإنه يقول ذلك اعتمادًا على ما قرأه أو سمعه، مُعتبرًا أن تلك الأعراض لا يمكن أن تكون إلا نتيجةً حتمية لعقدةٍ نفسية.

والعوامل اللاشعورية التي تُكوِّن العقدة النفسية، هي تلك الاتجاهات الوجدانية المُتناقضة التي تتكوَّن في أثناء الطفولة خلال الخبرات والعلاقات الإنسانية التي تحدُث في البيئة العائلية، وتندمج هذه الاتجاهات في بناء الشخصية، وتتوارى عن الشعور، وتصبح بمثابة المُحرِّك الخفي الذي يدفع الشخص غير الناضج إلى أن يسلك في المواقف الجديدة التي تُواجهه مسلكًا شبيهًا بما كان يسلكه في طفولته إزاء والدَيه وإخوته في المواقف التي كانت تصدم حسَّاسيته الناشئة، فتنبعث الشحنات الوجدانية المكبوتة مع ما تتضمَّنه من مُتناقضات وتوترات، وتعُوق عملية التكيُّف السوي التي يقتضيها الموقف الجديد.

لنفرض مثلًا أن شخصًا بالغًا يُبدي انزعاجًا عنيفًا عند رؤية الدم، بل ينفعل بشدة عند ذِكر الدم أو الإشارة إلى حادثٍ سُفكت فيه الدماء؛ فمثل هذا الانفعال العنيف الغريب لا بد أن يكون مرجعه صدمةً مؤلمة أصابت هذا الشخص في طفولته، ثم كُبتت ذكرى هذه الصدمة لما تُسبِّبه من ألم وانزعاج؛ غير أن الكبت لا يعني امِّحاء أثر الماضي، بل بقاء هذا الأثر بعيدًا عن الشعور، ومحاولته اجتياز حدود الشعور في صورة الخوف والقلق والانزعاج مع نسيان المنشأ الحقيقي العميق لهذه الحالات الشعورية المؤلمة.

ولكن حالة الشخص الذي يُعاني آثار العُقَد النفسية تكون أكثر تعقدًا وخطرًا من المثال السابق؛ فكثيرًا ما تكون العقدة مصحوبة بعملية تثبيت الدوافع والانفعالات، وخاصةً الجنسية منها، في موضوعٍ واحد هو شخص الأم أو الأب أو من يقوم مقامَ كلٍّ منهما، تكون قُوى النفس مثبَّتة ومركَّزة في هذا الشخص الآخر الذي يكون بمثابة المثال، أو بمثابة القطب الذي يجذب نحوه كل ما يدور حوله جذبًا شديدًا، ويتَّخذ هذا التثبيت صورة التعلق المُطلَق الأعمى، كتعلق الابن بأمه أو البنت بأبيها، أو بمن سيقوم مقامهما فيما بعد، كالمدرسة أو المُدرس، وأحيانًا الزوجة أو الزوج.

وفي مثل هذه الحالات نكون بصدد عقدة نفسية، كالعقدة المعروفة بعقدة الأب، والتي تُعانيها الفتاة التي ترفض الزواج مُحتجَّة بأن أباها لا يزال في حاجة إلى عنايتها، أو مدَّعِية أن شبان اليوم دون شبان الأمس من حيث الأخلاق والعادات. وسنُبيِّن أثر العُقَد النفسية في مواقف الحياة الزوجية في الجزء الخاص بمشكلات الزواج، كما أننا سنُشير إلى الوسائل التي يُقدمها علم النفس لحل هذه المشكلات. ولكي يسهل علينا فهم هذه المشكلات، وإدراك طبيعة العلاقات التي تقوم بين الرجل والمرأة في الحياة الزوجية، يجب القيام بدراسة مقارنة بين الجنسَين، مع التعمق في دراسة طبيعة المرأة جسميًّا ونفسيًّا. وهذا ما سنتناوله في الفصول القادمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤