الباب الأول
إنه يوم زواج وانج لنج، وعندما فتح عينيه بادئ ذي بدء في ظلام الستائر الموضوعة حول سريره، لم يستطع التفكير في سبب اختلاف هذا الصباح عن غيره في بقية الأيام الأخرى. كان البيت هادئًا! إلا من سعال والده العجوز الخافت الذي كانت حجرته في مواجهة حجرة وانج لنج عبر الحجرة الوسطى. كان سعال الرجل العجوز أول صوت يُسمَع في كل صباح. وكان من عادة وانج لنج أن يصغي إليه وهو راقد، ولا ينهض من فراشه إلا عندما يسمعه وهو يقترب، ويسمع صرير مفصلات باب حجرة والده.
بَيْد أنه لم ينتظر ذلك في هذا الصباح. فوثب وأزاح ستائر فراشه جانبًا. كان الوقت مطلع الفجر، وأمكنه أن يلمح السماء خلال ثقبٍ مربع صغير في النافذة حيث كان الورق الممزق يهتز. فاتجه نحو الثقب ونزع الورق.
ثم قال لنفسه: «إننا في الربيع، ولا حاجة بي إلى هذا.»
لقد خجل من أن يقول بصوتٍ عالٍ، إنه كان يرغب في أن يبدو البيت أنيقًا في هذا اليوم. فأخرج يده من الثقب ليحس بالهواء. كانت نسمة رقيقة تهب برفق من الشرق. كانت ريحًا معتدلة ومليئة بالمطر … لن تمطر السماء في هذا اليوم، بل إذا استمرت هذه الريح، فستمطر السماء بعد بضعة أيام.
أسرع وانج لنج إلى الحجرة الوسطى، يشد سرواله الخارجي الأزرق وهو يسير، ويربط حزامه المصنوع من نسيج القطن الأزرق، حول وسطه. وقد ترك الجزء العلوي من جسمه عاريًا حتى يسخِّن ماءً ليستحم. فذهب إلى الحظيرة الملاصقة للمنزل، والتي كانَا يستعملانها مطبخًا، فأخرج ثورٌ رأسَه من ظلامها، وفتح فمه يخور نحوه بصوت عميق. كان المطبخ مبنيًّا باللَّبِن، كما كان البيت مبنيًّا باللَّبِن أيضًا … كذلك صنع جده الموقد، في أيام شبابه من طينة أرضهم. وقد تحول لَبِن الموقد إلى آجُرٍّ واسْوَدَّ من إعداد الطعام فيه طيلة عدة سنوات. وكانت فوق الموقد قِدر حديدية مستديرة عميقة.
وضع وانج لنج بعض الماء في القِدر، سكبه فيها من جرَّة فخارية كانت بقربه. ولكنه سكب الماء بحذر، إذ كان الماء ثمينًا. ثم رفع الجرة فجأة وأفرغ كل الماء في القِدر … لقد نوى أن يغسل جسمه كله في هذا اليوم.
دَارَ وانج لنج حول الموقد حتى صار خلفه، وانتقى قبضة من الحشائش والأحطاب الجافة مما كان في ركن المطبخ، ووضعها مُرتَّبة بعناية في فتحة الموقد بحيث ينتفع من كل ورقة فيها إلى أقصى ما يمكن. ثم وَلَّد لهبًا من حجر قدح عتيق وقطعة من الحديد، ودفعه إلى القش، فاشتعل.
هذا آخر صباح سيوقِد فيه نارًا. كان يوقدها كل صباح منذ أن ماتت والدته قبل ذلك بست سنوات. كان الوالد طيلة هذه السنوات الست ينتظر ابنه كل صباح ليأتيه بالماء الساخن ليخفف عنه سعال الصباح … أما الآن، فيستطيع كل من الأب والابن أن يستريح. ستأتي سيدة إلى البيت.
وبينما كان وانج لنج يفكر في هذه الأمور، انطفأت النار في الموقد، وظهر الرجل العجوز عند المدخل وكان يسعل ويلهث، ويقول: «كيف يتأنَّى ألا يُعَدَّ الماء حتى الآن، لتدفئة رئتَي؟»
فأحس وانج لنج بالخجل.
ثم تمتم، يقول، من مكانه خلف الموقد: «هذا الوقود رطب. إنها الريح الرطبة …»
استمر الرجل العجوز يسعل، ولم يكف عن السعال حتى غلى الماء. فصبَّ وانج لنج بعضًا منه في قدح. وبعد لحظة، فتح جرة كانت فوق طرف الموقد وتناول منها حوالي اثنتي عشرة وُرَيْقَة جافة من الشاي ونثرها على سطح الماء. فانفتحت عينَا الرجل المسن في شراهة، وبدأ يتذمر في الحال، قائلًا:
«لماذا هذا الإسراف؟ إن شُرب الشاي لأشبه بأن تأكل الفضة.»
ضحك وانج لنج ضحكة قصيرة، وأجابه بقوله: «كل واطمئن، فلن يتكرر هذا إلا اليوم فقط!»
أمسك الشيخ العجوز بالقدح، وكان ينظر إلى الأوراق وهي تعتدل من تقوُّسها وتنتشر على سطح الماء؛ إذ لا يطيق أن يشرب تلك المادة النفيسة.
فقال وانج لنج: «إنه سيبرد.»
قال الرجل العجوز: «حقًّا … حقًّا.» وبدأ يشرب الشاي الساخن، ولكنه لم ينسَ كلية رؤية وانج لنج، وهو يصب الماء من القِدر في طست خشبي عميق.
وفجأة قال: «إن هذا ليكفي لأن يروي زرعةً حتى تثمر.»
فقال وانج لنج في صوت خفيض: «لم أغسل جسمي كله منذ أول السنة الجديدة.» وأسرع يحمل الطست إلى حجرته، ولم يقفل الباب تمامًا. فدخل الرجل العجوز الحجرة الوسطى وأدخل فمه في فتحة الباب وصرخ: «ليس من الحكمة أن نبدأ مع السيدة هكذا .. شاي في الصباح وماء وكل هذا الاغتسال!»
فصاح وانج لنج: «إنه اليوم فقط.» ثم أردف قائلًا: «عندما أنتهي من الاستحمام، سأسكب الماء في الحقل، وعندئذٍ لا يضيع كله سُدًى.»
سكت الرجل العجوز عندما سمع هذا. وحلَّ وانج لنج حزامه، وخلع ملابسه. وفي حزمة الضوء المربعة الآتية من الثقب، عَصَرَ فوطة صغيرة كانت في الماء الذي يتصاعد منه البخار، ودعك جسمه الأسمر الضئيل. ثم اتجه إلى صندوق كانت تملكه والدته، وأخرج منه حُلَّةً جديدة زرقاء، من نسيج القطن. وربما أحس في هذا اليوم ببعض البرودة وهو لا يرتدي ملابس الشتاء الثقيلة بَيْد أنه فجأة لم يشتهِ أن تراه المرأة لأول مرة في ملابسه القذرة المهلهلة. أما فيما بعد فعليها أن تغسلها وترتقها، لكن هذا لن يتم منذ أول يوم. وارتدى فوق السترة والسروال الزرقاوين القطنيين، ثوبه الطويل الوحيد الذي يلبسه في أيام الأعياد فقط، وكلها عشرة أيام أو نحو ذلك، في مجموعها … وبأصابع سريعة، حلَّ ضفيرته الطويلة المتدلية على ظهره، وأخذ مشطًا خشبيًّا من درج النضد الصغير، وشرع يمشِّط شَعره.
اقترب والده ثانيةً، ووضع فمه في شق الباب، وتبرم قائلًا: «ألا آكل اليوم؟ في سني هذه تكون عظامي ماءً في الصباح إلى أن تُعطَى الطعام.»
فقال وانج لنج وهو يضفِّر شَعره بسرعة ونعومة: «ها أنا ذا آتٍ.» وبعد لحظة خلع ثوبه الطويل ولف ضفيرته حول رأسه، وخرج يحمل طست الماء. لقد نسي طعام الإفطار كل النسيان. سيضع قليلًا من الماء على دقيق الذرة، ويقلبه، ويعطيه أباه، أما هو نفسه فلن يستطيع أن يأكل شيئًا.
ملأ دلوًا من البئر القريبة من بابه، وصب منها قليلًا من الماء في القِدر. وسرعان ما غلى الماء، فقلَّب فيه الدقيق، وأخذه إلى الشيخ العجوز.
ذهب وانج لنج إلى حجرته، وارتدى ثوبه الطويل الأزرق ثانية، وأنزل ضفيرة شعره. ربما كان من الأوفق أن يحلق من جديد. ولم تكد الشمس أن تشرق بعد. يمكنه أن يذهب إلى شارع الحلاقين، ويحلق قبل أن يذهب إلى البيت الذي تنتظره السيدة فيه؛ فلو كان لديه نقود لفعل هذا.
أخرج الفتى من حزامه كيسًا صغيرًا من المنسوج الرمادي اللون، وعَدَّ ما فيه من نقود. كان به ستة ريالات فضية وحفنة من النقود البرنزية. ولم يكن قد أخبر والده، حتى هذه اللحظة، أنه قد دعا بعض الأصدقاء إلى العَشاء في تلك الليلة. دعا ابن عمه، وعمه، كما دعا ثلاثة من الجيران الفلاحين. وأزمع أن يُحضر معه من المدينة في هذا الصباح بعضًا من لحم الخنزير، وسمكة صغيرة من أسماك البرك، وحفنة من الكستناء. كذلك يمكنه أن يشتري بعضًا من أعواد الغاب من الجنوب، وقليلًا من اللحم البقري ليُطبَخ مع الكرنب الذي زرعه في حديقته. ولكنه لن يشتري هذا إلا إذا تبقى معه نقود بعد شراء زيت الفول وصلصة فول «الصويا». وإذا حلق رأسه، فربما لا يستطيع شراء اللحم البقري … ثم قرر فجأة أن يحلق رأسه.
ترك وانج لنج والده العجوز، وخرج في الصباح الباكر وقد نثرت الشمس أشعتها المتألقة فوق الندى وفوق عيدان القمح والشعير النامية. فانحنى وانج لنج ليفحص السنابل المتبرعمة، فإذا هي خاوية لم تمتلئ بالحبوب بعد؛ إنها تفتقر إلى المطر. فنظر إلى السماء فرأى المطر أسود في السحب. فأزمع أن يشتري عودًا من البخور ويضعه في المعبد الصغير من أجل رب الأرض؛ ففي مثل هذا اليوم حَرِيٌّ به أن يفعل هذا.
أخذ وانج لنج يضرب في طريقه الضيق وسط الحقول. وكان سور المدينة الرمادية يبدو مرتفعًا على مسافة قريبة. سيمر من باب السور خلفه البيت العظيم الذي نشأت فيه المرأة أمَةً منذ طفولتها. إنه بيت هوانج. وكان هناك مَن يقولون: «من الأوفق أن يعيش المرءُ أعزبَ من أن يتزوج امرأة كانت يومًا أمَةً في بيت عظيم.» فعندما سأل والده: «ألن أتزوج قط؟» أجاب والده: «لمَّا كان الزواج يتكلف كثيرًا في هذه الأيام، وتتطلب السيدات خواتم ذهبية وملابس حريرية قبل أن يتزوجن، فلا يبقى سوى الإماء ليقتنيهن الفقراء.»
ذهب والده عندئذٍ إلى بيت هوانج، وسأل عمَّا إذا كان عندهم أمَة لابنه. قال: «نريد أمَةً، ليست صغيرة جدًّا، وفوق كل شيء، لا تكون جميلة.»
تألم وانج لنج عندما عَلِمَ أنها لن تكون جميلة. فلما لاحظ والده وجهه الغاضب، صاح فيه قائلًا: «وماذا نفعل بامرأة جميلة؟ يجب أن نقتني امرأة ترعى شئون البيت وتعمل في الحقل. إننا فلاحون.»
كان وانج لنج يعلم أن ما يقوله والده هو الصواب. فقال أخيرًا: «على الأقل لا يكون وجهها مشوَّهًا بالثآليل (البثور)، ولا تكون شفتها العليا مشقوقة.»
فأجاب والده: «سنرى ما سنأخذها.»
اشترى وانج لنج ووالده خاتمين من الفضة المطلية بالذهب، وقرطًا من الفضة أيضًا. فأخذها والده إلى صاحبة المرأة إعلانًا للخطبة. لم يعرف وانج لنج شيئًا عن المرأة التي ستكون زوجته، سوى أنه سيذهب في هذا اليوم لإحضارها.
سار وانج لنج في ظلام باب المدينة البارد، وكان السقاءون خارج المدينة يدخلون ويخرجون منها طول اليوم، ورشاش الماء يتناثر من النواجيد إلى الأحجار. ودائمًا ما يكون الجو رطبًا وباردًا في نفق الباب أسفل السور الغليظ المصنوع من الآجُرِّ والطين. وبالرغم من أن موسم الخوخ لم يكن قد حل بعد، كانت هناك بطول السور سلال من الخوخ الأخضر الجاف الصغير.
فقال وانج لنج لنفسه:
«إذا كانت تحب الخوخ، اشتريت لها حفنة منه ونحن عائدان.» وكان من العسير عليه أن يصدق أنه سيخرج عائدًا من الباب ومن خلفه تمشي امرأة.
اتجه الفتى إلى اليمين داخل الباب، وبعد لحظة كان في شارع الحلاقين ولم يكن قد جاء به مبكرًا إلا عدد قليل. كان الحلاقون واقفين في صف طويل على امتداد الطريق، خلف حواجز صغيرة. فتقدَّم وانج لنج إلى أبعد حلاق، وجلس على الكرسي. فأقبل إليه الحلاق في الحال، وأخذ يصب الماء الساخن بسرعة في طاسة.
وسأله الحلاق بقوله: هل أحلق كل شيء؟
فأجاب وانج لنج: «كما تريد .. كما تريد.»
ثم سمح للحلاق بأن يضع الصابون، ويدعك، ويحلق له. وبينما كان يحلق الجزء العلوي من جبهة وانج لنج، قال:
«لن يكون منظر هذا الفلاح رديئًا إذا قص شعره. فالمتبع في هذه الأيام أن تُقَص الضفيرة.»
اقترب الحلاق بالموسى من دائرة الشَّعر فوق رأس وانج لنج، فصاح هذا يقول:
«لا أستطيع قصها دون إذن والدي.» فضحك الحلاق وترك بقعة الشعر المستديرة.
بعد أن انتهى وانج لنج من الحلاقة ودفع للحلاق حسابه انتابته لحظة من الفزع. فما أكثر ما دفع! ولكنه ما إن سار في الشارع ثانية حتى أحس بالهواء عليلًا يداعب بشرته المحلوقة، فقال لنفسه: «إنها مرة واحدة في حياتي.»
ثم اتجه شطر السوق فاشترى رطلين من لحم الخنزير، وست أوقيات من اللحم البقري. وبعد أن اشترى كل شيء، حتى المربعات الطازجة من الفول المجمد في الجيلي فوق ورقته، اشترى زوجًا من عيدان البخور، ثم رجع في خجل شديد نحو منزل هوانج.
ما إن صار في باب المنزل، حتى ملأ الرعبُ نفسَه. إذ لم يسبق له أن دخل منزلًا ضخمًا من قبل.
وقف الشاب عند الباب مدة طويلة، ينظر إليه. كان مقفلًا، ويحرسه أسدان من الحجر، واحد على كل جانب. لم يكن هناك كائن غيرهما.
أحس وانج لنج فجأة بالضعف، لأنه لم يأكل شيئًا في ذلك الصباح. فدخل مطعمًا صغيرًا في الطريق، ووضع بنسين على المائدة وجلس. فاقترب منه نادل (جرسون) صغير قذر يرتدي «مريلة» سوداء، فصاح فيه وانج لنج، قائلًا: «قدحان من عصيد الشعرية!» فلمَّا جاءاه التهمهما بشراهة.
ثم سأله الصبي: «أتريد مزيدًا من الطعام؟»
فهز وانج لنج رأسه، واعتدل في مجلسه، وأخذ يتطلع حواليه. لم يكن بها سوى نفر قليل من الرجال جالسين يأكلون ويشربون الشاي. لقد كان المكان كعبة الفقراء فبدا هو وسطهم أنيقًا نظيفًا على جانب من اليسر والرخاء.
جلس وانج لنج حتى ارتفعت الشمس في كبد السماء. ووقف النادل الصبي إلى جانبه يتميز غيظًا، ثم قال أخيرًا في خشونة: «إذا لم تطلب شيئًا آخر فادفع أجر المقعد الذي تجلس عليه.»
غضب وانج لنج، وهَمَّ بالنهوض لينصرف، لولا أنه عندما تذكر الذهاب إلى دار هوانج العظيمة ومطالبته إياهم بالمرأة تصبب العرق من جسمه كله.
فقال للصبي: «أحضر لي شايًا.» وقبل أن يدير جسمه كان الشاي أمامه، والصبي يسأله في غلظة:
«أين البنس؟»
لم يجد وانج لنج مناصًا من أن يُخرج بنسًا آخر من حزامه. ثم شرب الشاي بسرعة، وخرج من الباب الجانبي إلى الطريق واستدار ببطء نحو الأبواب الضخمة.
لما كان الوقت قد جاوز الظهر، في هذه المرة، فإن الأبواب كانت مفتوحة والبوَّاب واقفًا يتلكأ هناك، ينظف أسنانه من طعام الغداء بقطعة من الخشب. فلما أقبل وانج لنج، صاح فيه البواب بخشونة:
«والآن، ماذا تريد؟»
فأجاب وانج لنج في صعوبة بالغة، قائلًا:
«أنا وانج لنج، المزارع.»
فأجاب البواب الذي لم يتعود أن يعامل أحدًا بأدب، غير أصدقاء سيده وسيدته الأثرياء: «وماذا يكون وانج لنج المزارع؟»
فقال وانج لنج هامسًا: «توجد هنا سيدة.» وبدا وجهه في ضوء الشمس مبللًا بالعرق.
فقهقه البواب صائحًا: «إذن، فأنت هو! أخبروني أن أتوقع مجيء عريس اليوم. ولكني لم أعرفك والسلة في ذراعك.»
فقال وانج لنج: «بها قليل من اللحم ليس غير.» وانتظر أن يرشده البواب إلى الداخل. بَيْد أن هذا لم يتحرك، ولما بدا له أن وانج لنج لم يفهم مرامه، قال: «إن قطعة فضية صغيرة لَمفتاحٌ طيب.»
وأخيرًا أدرك وانج لنج أن الرجل يريد منه نقودًا.
فقال: «أنا رجل فقير.»
فقال البواب: «إذن فدعني أرى ما في حزامك.» وتمتم بكلام غير مفهوم عندما رأى وانج لنج يهز في يده اليسرى ما تبقى معه من النقود. كان بها قطعة فضية وأربعة عشر بنسًا من البرنز.
فقال البواب: «سآخذ القطعة الفضية.» وسار عبر الباب يصيح بصوت مرتفع:
«العريس .. العريس!»
لم يسع وانج لنج إلا أن يتبعه حاملًا سلته لا ينظر يمينًا ولا شمالًا. وبوجهه المتوهج ورأسه المنتكس، راح يعبر الأبهاء الواحد تلو الآخر ورنات الضحك تبلغ أذنيه من كل حدب وصوب. وفجأة، بعد أن خُيِّل إليه أنه اجتاز مائة بهو، صمت البواب ودفعه إلى حجرة استقبال صغيرة. فوقف الفتى وحده بينما انطلق البواب إلى الداخل، ثم عاد بعد لحظة، يقول:
«قالت السيدة العجوز، إنك لا بد أن تحضر أمامها.»
تقدم وانج لنج إلى الأمام. ولكن البواب صاح يستوقفه باحتقار قائلًا: «لا يمكنك أن تقف أمام سيدة عظيمة وفي ذراعك سلة.»
فقال وانج لنج: «حقًّا .. حقًّا.» ولكنه لم يجرؤ على أن يضع السلة على الأرض خشية أن يُسرَق منها شيء. فلاحظ البواب خوفه وصاح فيه بازدراء بالغ: «إننا، في منزل كهذا، نقدم مثل هذا اللحم إلى الكلاب!» وأمسك السلة ووضعها خلف الباب، ودفع وانج لنج أمامه إلى بهو لم تقع عينه على مثله في حياته.
رأى سيدةً عجوزًا للغاية تجلس في وسط الحجرة وترتدي على جسمها الصغير الرقيق ثيابًا من «الساتين». جثا وانج لنج على ركبتيه، وطرق الأرض برأسه.
فقالت السيدة للبواب: «أنهضه. هل أتى يطلب المرأة؟»
فأجاب البواب: «نعم، أيتها السيدة العتيقة.»
فنظرت إليه السيدة العجوز مليًّا، وقالت: «إذن فقد أتيت من أجل العبدة المسماة «أو-لان». أذكر أننا وعدنا بأن نزوجها لأحد الفلاحين، فهل أنت ذلك الفلاح؟»
فأجاب وانج لنج: «نعم، إنني هو.»
فقالت السيدة العجوز لإحدى الإماء بجوارها: «استدعي «أو-لان» بسرعة.» وفي لحظة عادت الأمَة تمسك بيد امرأة فارعة الطول، ترتدي سروالًا وسترة نظيفتين، من المنسوج القطني الأزرق. فنظر إليها وانج لنج مرةً واحدة، ثم أشاح بنظره بعيدًا. وكان قلبه يخفق. هذه هي امرأته.
فقالت السيدة العجوز في تراخٍ: «تعالي إلى هنا يا عبدة. لقد جاء هذا الرجل يطلبك. فهل أنت مستعدة!»
فأجابت المرأة ببطء: «مستعدة.»
سمع وانج لنج صوتها لأول مرة، فنظر إلى ظهرها وهي واقفة أمامه. كان صوتها حلوًا بما فيه الكفاية. ليس عاليًا ولا ناعمًا، بل كان بسيطًا وغير فظ. وكان شعرها مُرتَّبًا، وسترتها نظيفة. ولكن خاب ظنه عندما رأى أن قدميها ليستا ملفوفتين.
بعد ذلك قالت السيدة العجوز للبواب: «احمل صندوقها خارجًا حتى الباب، ودعهما ينصرفان.» ثم خاطبت وانج لنج، وقالت له: «قف بجانبها وأنا أتكلم.» فلما تقدم وانج لنج قالت له: «جاءت هذه المرأة إلى بيتنا وهي طفلة في العاشرة من عمرها. وعاشت عندنا حتى الآن إذ بلغت العشرين. كنت اشتريتها في إحدى سنوات القحط عندما جاء بها والدها من الجنوب لأنهما لم يجدَا ما يأكلانه. إنها غير جميلة، كما أنها ليست ماهرة، بل تفعل جيدًا ما تؤمر بفعله. وهي حسنة الطباع. خذها وانتفع بها على خير وجه. إنها أمَة طيبة رغم أنها بطيئة وحمقاء ولولا رغبتي في القيام بعمل صالح في المدة الباقية لي في هذه الحياة الدنيا بتزويد المعمورة بمزيد من النسل لاحتفظت بها لنفسي لما تمتاز به من مهارة فائقة في المطبخ. غير أنني أزوِّج عبداتي بمجرد أن يطلبهن أحد.»
ثم قالت للمرأة:
«أطيعيه، وأعطيه البنين، وبنين أكثر. أحضري إليَّ أول طفل لأراه.»
فقالت المرأة: «سمعًا وطاعة، يا سيدتي العتيقة.»
فقالت السيدة العجوز: «حسنًا، انصرفا!» فانحنى وانج لنج بسرعة، واستدار خارجًا، والمرأة تتبعه، وخلفه البواب يحمل الصندوق على كتفه. ثم أنزله في الحجرة التي كان وانج لنج قد ترك فيها سلته ثم اختفى دون أن ينطق بكلمة أخرى.
استدار وانج لنج خلفه إلى المرأة، ونظر إليها لأول مرة. كان وجهُها مربعًا ينطق بالأمانة. وأنفُها قصيرًا عريضًا، وفمُها واسعًا. وعيناها صغيرتين لونهُما أسود معتم، يملؤهما شيء من الحزن. ورأى وانج لنج قرطه يتدلى من أذنيها، ذلك القرط المطلي بالذهب الذي كان قد اشتراه، وفي يديها الخاتمين اللذين قدمهما إليها. ثم استدار يسير في طريقه، فرحًا في دخيلة نفسه. لقد حصل على امرأته!
فقال لها: «هاكِ هذا الصندوق، وهذه السلة.»
انحنت المرأة دون أن تنبس ببنت شفة، وأمسكت بأحد طرفي الصندوق ووضعته على كتفها، ولكنها ناءت بحمله وهي تحاول النهوض. فلاحظ وانج لنج عليها ذلك، وقال فجأة: «سآخذ أنا الصندوق، ودونك السلة.»
رفع وانج لنج الصندوق على ظهره دون تفكير في أنه يرتدي أحسن ثوب لديه. أما هي، فأمسكت بيد السلة.
وأخذ وانج لنج يفكر في المائة بهو التي اجتازها، وفي الضحك الذي ترامى إلى سمعه ثم تمتم قائلًا: «ألا يوجد باب جانبي؟!» عندئذٍ قادته في الطريق عبر بهو صغير غير مستعمل، به باب عتيق مستدير، مرَّا منه إلى الشارع.
نظر وانج لنج خلفه، مرة أو مرتين، ليراها. كانت تسير معه، كما لو كانت تسير في ذلك الطريق طول حياتها، لا يبدو في وجهها العريض ما يعبر عن شيء. ثم وقف الفتى عند باب السور، وبحث داخل حزامه عن البنسات الباقية معه، وأخرج بنسين اشترى بهما ست خوخات صغيرات خضراء، وقال: «خذي هذه وكليها.» فأخذتها في شراهة، وأمسكتها بيدها دون أن تنطق بكلمة. ولما نظر إليها ثانية، كانت تقضم خوخة. بَيْد أنها لما رأته ينظر إليها، أخفت الخوخة بيدها، وأبقت فمها ساكنًا لا يتحرك.
وهكذا سارَا حتى وصلا إلى الحقل الغربي حيث يوجد معبد الأرض. وهو معبد منخفض، لا يعلو كله إلى أكثر من كتفَي الرجل. وقد بناه جد وانج لنج من الآجُرِّ الرمادي، وسقَّفه بالقرميد.
كان بداخل المعبد تمثالان صغيران وقوران، صُنِعَا من تربة الحقول المحيطة بالمعبد، وَهُمَا لرب الأرض نفسه وزوجته. يرتديان ملابس من الورق الأحمر والمذهب. وكان والد وانج لنج، يشتري في كل عام بعض فروخ من الورق الأحمر، يقصها ويلصقها بعناية لتكون ثوبَين جديدَين لرب الأرض وزوجته. وفي كل عام كان المطر والثلج يهطل داخل المعبد، وتسطع شمس الصيف بأشعتها داخل المعبد، فتُتلِف الثوبَين.
وكان الثوبان لا يزالان وقتئذٍ جديدَين. فأخذ وانج لنج السلة من ذراع السيدة وبحث بعناية عن عودَي البخور أسفل لحم الخنزير، فغرسهما جنبًا إلى جنب في رماد عيدان البخور الأخرى التي كانت هناك، إذ كانت جميع المنطقة المحيطة تعبد هذين التمثالين الصغيرين. ثم أشعل لهبًا من حجر القداحة وقطعة الحديد، وأوقد عودَي البخور.
ووقف الرجل وامرأته معًا أمام ربَّي الحقول، في سكون تام، إلى أن احترق عودَا البخور وتحوَّلَا إلى رماد. ثم حمل وانج لنج الصندوق، وسار مع المرأة إلى المنزل.
كان الشيخ العجوز واقفًا عند باب البيت ليودع آخر أشعة الشمس في غروبها. لم يكن في مقدوره أن يرى المرأة، ولكنه صاح قائلًا: «تلك السحابة المتعلقة على القرن الأيسر للقمر الجديد تبشر بالمطر.» وما إن أبصر وانج لنج يتناول السلة من المرأة حتى صاح ثانية: «وهل أنفقت نقودك كلها؟»
وضع وانج لنج السلة على المائدة، وقال: «سيكون عندنا ضيوف في هذه الليلة.» ثم حمل الصندوق إلى الحجرة التي ينام فيها، ووضعه بجانب صندوق ملابسه، وحمل السلة إلى المطبخ، وتبعته المرأة إلى هناك ثم أخرج الطعام من السلة، وقال لها: «هنا لحم خنزير، ولحم بقري، وسمك. سيكون عدد الآكلين سبعة. أتستطيعين إعداد الطعام؟»
فأجابته بصوتها البسيط: «كنتُ أمَة مطبخ منذ أن ذهبت إلى بيت هوانج. وكان هناك لحم في كل وجبة.»
فأومأ وانج لنج برأسه وتركها. ولم يرها بعد ذلك إلا عندما حضر الضيوف، عمه وابن عمه، ومزارعان من القرية، وجاره تشنج. وكان هذا رجلًا صغيرًا هادئًا يعزف عن الكلام إلا إذا لزم الأمر. وبعد أن جلسوا في الحجرة الوسطى، ذهب وانج لنج إلى المطبخ ليخبر المرأة بأن تُقدم الطعام. ثم اغتبط عندما قالت له: «سأناولك الأطباق، وأنت تضعها على المائدة. لا أحب أن أخرج أمام الرجال.»
شعر وانج لنج بزهو بالغ، إذ لم تَخَف امرأته من أن تظهر أمامه، ولكنها لا تظهر أمام الرجال الآخرين. فأخذ الأطباق ووضعها على المائدة في الحجرة الوسطى، ورجا وانج لنج ضيوفه أن يأكلوا. فأكلوا بشهية من الطعام الجيد. وامتدح جميعُهم الطهو. وكان وانج لنج يجيبهم في كل مرة بقوله: «إنه طعام متواضع، ورديء الإعداد.»
بَيْد أنه كان مسرورًا في دخيلة نفسه من جودة إعداد الأطباق. لأن المرأة كانت بمهارتها قد استخلصت كل ما في اللحم من مذاق، حتى إن وانج لنج نفسه لم يسبق له أن ذاق طعامًا مثل هذه الأطباق، على موائد أصدقائه.
بعد أن انتهى الضيوف من تناول الشاي، ومن مزاحهم، في تلك الليلة، وانصرف آخر فرد منهم، دخل وانج لنج المطبخ، فإذا بالمرأة نائمة خلف الموقد على القش بجانب الثور. فأخذها من يدها وقادها إلى الحجرة التي استحم فيها في صبيحة ذلك اليوم. وأضاء شمعة حمراء، ووضعها فوق النضد، فانزوت المرأة خلف ركن الستارة، وبدأت تستعد للنوم.