الباب السادس عشر
في إحدى الليالي، أحس وانج لنج بِصُرة صلبة على جسم زوجته، فقال لها: «ما هذا الذي تضعينه فوق جسمك؟»
ولما أمسك بها ليجذبها، تركتها له، وقالت: «حسنًا، انظر ما فيها إن كان لا بد لك من ذلك.» وسحبت الخيط الذي ربطت به الصرة إلى عنقها، وقطعته وأعطت زوجها الصرة.
كانت ملفوفة في قطعة من الخرق، فمزقها. فوقعت في يده فجأة كتلة من الجواهر، فنظر إليها وانج لنج مذهولًا. لقد عَلِم من بريقها وتألقها في الحجرة شبه المظلمة، أنه يمسك ثروة. فأمسكها وراح هو والمرأة ينظران معًا إليها. وأخيرًا همس إليها وهو مبهور الأنفاس: «من أين … من أين …؟»
فهمست إليه في رقة، قائلة: «من بيت الرجل الغني. رأيت آجُرَّة مزعزعة في الحائط، فنزعتها، فإذا بي أرى هذه الأشياء تتألق، فأخذتها وخبأتها في كمي.»
صمت كلاهما من جديد وهما يتطلعان إلى غرابة الأحجار. وبعد فترة طويلة، قال وانج لنج في حَزْم: «لا يمكننا الاحتفاظ بكنز هكذا. لا بد من بيعه وتحويله إلى أرض؛ فلا أمان لشيء غيرها.»
لف وانج لنج الأحجار في الخرقة ثانية. وعندما فتح معطفه ليضعها في صدره، نظر إلى وجه امرأته بمحض الصدفة. كان يتحرك ويتجلى فيه لهفة كئيبة.
فسألها: «ماذا تريدين الآن؟» وهو يعجب من منظرها.
وفي لهجة تَنُم عن اللهفة والعجز قالت: «أتمنى لو استطعت أن أحتفظ باثنتين منها لنفسي.» حتى إنه تأثر كما يتأثر لمنظر أحد أطفاله يتلهف إلى لعبة، أو إلى قطعة من الحلوى.
فصاح مدهوشًا: «وماذا الآن؟»
قالت في ذلة ومسكنة: «هل أستطيع الاحتفاظ باثنين منها؟ حجرين صغيرين فقط .. حتى ولو كانا اللؤلؤتين البيضاوين الصغيرتين … يمكنني أن أتحسسهما بيدي أحيانًا.»
تأثر وانج لنج بشيء لم يفهمه، فأخرج الجواهر من صدره، وقدَّمها إليها في سكون. فأخذت تبحث في الأحجار المتألقة حتى عثرت على لؤلؤتين بيضاوين ناعمتين، فأخذتهما. ثم ربطت الباقي ثانية وأعادته إلى وانج لنج. أخذت اللؤلؤتين، ومزقت قطعة قماش من معطفها ولفتهما فيها، وأخفتهما في صدرها. وبذا ارتاحت.
ولكن وانج لنج شاهدها مستغربًا، وهو نصف عارف قصدها. أما فيما يختص ببقية الجواهر، فقد قرر أخيرًا أن يذهب إلى البيت العظيم ويسأل عما إذا كانت توجد لديهم أرض يمكنه شراؤها.
انطلق إلى البيت العظيم، ولم يكن يقف أمام بابه بواب في هذه الأيام، بل إن الأبواب موصدة، فشرع وانج لنج يطرقها بكلتا قبضتيه. ولكن أحدًا لم يخرج إليه. وأخيرًا سمع وَقْع أقدام آتية صوب الباب، وهمس صوت، يقول: «مَن الطارق؟»
عرف وانج لنج أن ذلك هو السيد العجوز نفسه، فأجاب: «سيدي وأميري! أتيتُ لأمر بسيط مع الوكيل الذي يخدم عظمتكم.»
فرد عليه السيد العجوز من خلال شق الباب: «لقد تركني ذلك الكلب منذ عدة شهور خلت، وليس هو ها هنا.»
لم يدْرِ وانج لنج ماذا يفعل بعد ذلك الرد. من المستحيل أن يتحدث عن شراء أرض مع السيد العجوز مباشرة.
فقال مترددًا: «أتيتُ من أجل مبلغ بسيط من النقود.»
ما إن سمع السيد العجوز ذلك حتى أغلق الباب في الحال، وقال بصوت أعلى مما اعتاد أن يتحدث به: «لا توجد نقود بهذا المنزل. لا يمكن دفع أية ديون.»
فصاح وانج لنج بسرعة، وقال: «كلا .. كلا، إنما جئتُ لأدفع، وليس لأحصِّل دينًا.»
عند ذلك سمع وانج لنج صيحة من صوت لم يسمعه من قبل، وأطلت امرأة بوجهها فجأة من الباب.
قالت المرأة في حدة: «هذا شيء لم أسمع به منذ زمن طويل.» وفتحت الباب فتحة تتسع لدخوله، ثم أغلقته ثانية.
وقف السيد العجوز هناك يسعل ويحملق، وقد لفَّ جسمه بثوب قذر من الساتين الرمادي. فحملق فيه وانج لنج بدوره، وقد لاح له أنه يستحيل أن يكون هذا هو السيد العجوز الذي سمع عنه كثيرًا، هذا الشخص المسن الذي لم يكن مهيبًا أكثر من والده. والحقيقة أنه كان يقل عنه هيبة؛ لأن والده رجل عجوز نظيف باسم، أما هذا العجوز فلم يغسل جسمه ولم يحلق ذقنه.
أما المرأة فكانت في غاية النظافة. كان وجهها صلبًا حادًّا، ووجنتاها وشفتاها حمراء وصلبة. وأما صوتها فلا يدل على أنها من أسرة اللورد، بل عبدة حادة الصوت سليطة اللسان. ولم يكن يوجد بالمنزل أي فرد غير هذين.
فقالت المرأة بحدَّة: «ماذا عن النقود؟!» ولكن وانج لنج لم يستطع الكلام جيدًا أمام اللورد العجوز، ولاحظت المرأة ذلك في الحال، فقالت للرجل المسن: «انصرف من هنا!»
فانصرف السيد العجوز صامتًا لا ينطق بكلمة واحدة، وكان يسعل في أثناء سيره.
فقالت المرأة في حدَّة بالغة: «وماذا الآن، أيها الرأس الخشبي؟!» فوثب وانج لنج عندما سمع صوتها. فقالت: «ما هي مهمتك؟ إن كان معك نقود فأرنيها.»
فقال وانج لنج: «كلا، لم أقل إن معي نقودًا، بل جئت لعمل.»
قالت: «العمل يعني النقود.»
قال: «بيد أنه لا يمكنني التحدث في هذا مع امرأة.»
قالت: «ولمَ لا؟» ثم صاحت فيه فجأة: «ألم تسمع، أيها الغبي، أنه لا يوجد أحد هنا؟ ليس هنا سواي أنا والسيد العجوز .. وما من أحد آخر!»
فسألها وانج لنج: «أين إذن؟» وكانت دهشته بالغة، لدرجة أن كلامه كان عديم المعنى.
فأجابت المرأة، قائلة: «حسنًا. لقد ماتت السيدة العجوز. ألم تسمع كيف اقتحم اللصوص هذا المنزل ونهبوا كل ما اشتهوا أن ينهبوه؟ وعلقوا اللورد العجوز من إبهاميه وضربوه، وربطوا السيدة العجوز في مقعد، فهرب كل فرد كان هنا. ولكني بقيتُ واختبأت. وعندما خرجت كانوا قد هربوا، وماتت السيدة العجوز وهي جالسة على مقعدها، من الذعر.»
فقال وانج لنج وهو يلهث: «والخدم والعبيد؟»
فأجابته بعدم اهتمام: «كانوا قد انصرفوا منذ وقت طويل؛ إذ أطلق كل فرد العنان لقدميه؛ لأنه ما إن جاء منتصف الشتاء حتى نفد كل ما لدينا من الطعام والنقود.»
سكتت المرأة بعد ذلك، ثم قالت: «ولكن هذا لم يكن شيئًا غير متوقع؛ فقد كفَّ اللوردات في الجيل الماضي عن الإشراف على الأرض، وقنعوا بالنقود التي كان يعطيهم إياها الوكلاء، وأنفقوها.»
فسأل وانج لنج: «وأين اللوردات الصغار؟»
قالت: «هنا وهناك؛ فعندما سمع اللورد الأصغر بما حدث لوالده ووالدته، بعث رسولًا ليأخذ السيد العجوز. ولكنني حثثته على عدم الذهاب معه.»
نظر وانج لنج إليها مليًّا. بدأ يتأمل في كنه هذه المرأة التي تعلقت برجل عجوز على حافة القبر، لتحصل منه على آخر ما يمكنها الحصول عليه. فقال بازدراء: «أرى أنكِ لست إلا عبدة، فكيف أعقد معك صفقة عمل؟»
عندئذٍ صاحت فيه، قائلة: «سيفعل السيد العجوز أي شيء آمره به.»
أخذ وانج لنج يفكر في هذا الرد. ثم إن هناك الأرض التي يستطيع أن يشتريها غيره عن طريق هذه المرأة إذا لم يشترِها هو.
فقالت المرأة بسرعة: «إذا كنتَ قد أتيت لشراء أرض، فلدينا أرض للبيع. ليست كلها قطعة واحدة، ولكنها قطع كبيرة، ويمكن بيعها لآخر فدان.»
رأى وانج لنج أنها تعرف كل شيء تركه الرجل العجوز، ومع ذلك فلا يريد أن يعقد الصفقة معها.
فقال: «ليس من المعقول أن يبيع اللورد العجوز كل أرض عائلته بدون موافقة أولاده.»
فأجابت المرأة على قوله هذا بلهفة: «أما من هذه الوجهة، فقد أخبره أولاده بأن يبيع كلما استطاع أن يبيع.»
فسألها وانج لنج: «وفي يد مَن أدفع النقود؟»
قالت: «في يد السيد العجوز طبعًا. فهل تدفعها ليد أحد غيره؟» بيد أن وانج لنج كان يعرف أن يده تفرغ في يدها.
استدار وانج لنج قائلًا: «في يوم آخر .. في يوم آخر.»
انصرف وانج لنج يسير في الطريق ليفكر فيما سمعه. فذهب إلى مَشرَب شاي صغير وطلب قدحًا من الشاي. وعندما وضعه الصبي أمامه، أخذ يفكر في الأسرة العظيمة الغنية التي سقطت الآن وتشتَّت أفرادها.
فكر في نفسه قائلًا: «هذا يأتي من أرضهم.» ثم فكر في ولديه وقرر أن يجعلهما، في هذا اليوم عينه، يشتغلان في الحقل حيث يشعران، في عظامهما ودمهما، بالأرض التي تحت أقدامهما.
كانت الجواهر معه طيلة ذلك الوقت، ولن يهدأ له بال حتى تتحول إلى أرض. فأخذ يراقب صاحبَ المشرب حتى وجده خاليًا لحظة، فناداه وقال له: «تعالَ، واشرب قدحًا على حسابي، وأخبرني بأنباء المدينة إذ كنتُ غائبًا عنها منذ الشتاء الماضي.»
كان صاحب المشرب على استعداد دائمًا لمثل هذا الحديث، ولا سيما إذا شرب شايًا على حساب غيره. فجلس وأنشأ يتكلم من فوره: «فضلًا عن أنباء الشعب الجائع، التي ليست شيئًا جديدًا، فإن أعظم الأنباء هي السرقة التي حدثت في بيت هوانج.»
كان هذا عين ما يأمل في سماعه وانج لنج. واستمر الرجل يقص عليه كيف طُرد بضعة العبيد الباقين، أو أُخذوا، حتى إنه ما من أحد يهتم بالحياة في ذلك المنزل إطلاقًا. ثم أتم حديثه بقوله: «لا أحد غير اللورد العجوز، الذي تسيطر عليه تمامًا أمَة تدعى كوكو.»
فسأله وانج لنج أخيرًا: «والأرض! هل هي للبيع؟»
فأجاب الرجل بعدم اكتراث، قائلًا: «آه، الأرض! سمعت أنها للبيع، ما عدا القطعة التي بها مدافن العائلة.»
بعدئذٍ نهض وانج لنج، وانصرف. فاقترب من الأبواب الضخمة من جديد. وأقبلت المرأة ثانية، فقال لها: «أخبريني أولًا؛ هل يضع اللورد العجوز خاتمه على عقد البيع؟»
فأجابته المرأة متلهفة: «يضعه .. يضعه .. أقسم بحياتي!»
فقال لها وانج لنج: «هل تبيعون الأرض بالذهب أم بالفضة أم بالجواهر؟»
تألقت عينَا المرأة وهي تجيبه بقولها: «أبيعها بالجواهر!»