الباب الحادي والعشرون
تنبأ وانج لنج بأن مجيء الفتاة المسماة لوتس، وخادمتها كوكو لا بد أن يسبب إزعاجًا ما. لأن اجتماع امرأتين تحت سقف واحد لا يعني سلامًا. ورغم أنه أدرك من كآبة أو-لان وحدَّة كوكو، أن هناك نزاعًا ما، فإنه لم يُعِر الأمر أهمية.
ولكنه رأى أخيرًا أن هناك شقاقًا بين أو-لان وكوكو. فأدهشه هذا. إذ كان يتوقع أن تكره أو-لان لوتس. بيد أنها لم تشكُ من لوتس، وإنما كان حنقها بالغًا ضد كوكو.
يبدو أن أو-لان، عندما أبصرت كوكو، استشاطت غضبًا أي غضب، لم يرَ وانج لنج له مثيلًا. ولم يعرف أنها ستغضب ذلك الغضب الشديد … فقالت له: «ماذا تفعل هذه الأمَة في بيتنا؟»
فلما وجد وانج لنج أنه لا بد من أن يجيب بشيء، قال بصوت منخفض: «وما شأنك بهذا؟»
ترقرقت العبرات الحارة، عندئذٍ، ببطء في عيني أو-لان، فأمسكت بطرف ميدعتها الزرقاء، ومسحت عينيها، ثم قالت: «إن الأمر جد مرير في بيتي، وليس لي بيت أمٍّ في أي مكان أعود إليه.» ثم نظرت إليه في حزن واستعطاف من طرفَي عينيها الغريبتين البكماوين. وخرجت تجرُّ قدميها جرًّا، وتتحسس طريقها إلى الباب إذ غشت الدموع على بصرها.
راقبها وانج لنج وهي تخرج، وسَرَّه أن تركته وحده، إذ كان قد خجل من نفسه.
غير أن أو-لان لم تنتهِ من هذا الموضوع. فلما أصبح الصباح، وضعت الماء على النار ليسخن. إلا أنه عندما ذهبت كوكو لتحضر ماء ساخنًا لسيدتها، وجدت القِدر فارغة. وعندما حان موعد إعداد عصيد الصباح في القِدر، لم يكن بالقدر مكان لماء للسيدة لوتس. كانت أو-لان تنهمك في الطهي ولا تجيب بشيء على شكاوى كوكو.
بعد ذلك ذهبت كوكو إلى وانج لنج وشكت إليه، فصاح يؤنب أو-لان. ولكنها كانت تجيبه بعبوس يعلو وجهها، أشد من أي عبوس ظهر على وجهها من قبل، قائلة: «لستُ في هذا البيت أمَةً للإماء، على أقل تقدير.»
كان غضب وانج لنج فوق ما يطاق. فهزَّ أو-لان من كتفها هزًّا عنيفًا، وقال: «كفى بلاهةً، بعد الآن. ليس الماء للخادمة، بل للسيدة.»
فنظرت إليه وقالت ببساطة: «وقد أعطيتَ هذه السيدة لؤلؤتَيَّ!»
هبطت يد وانج لنج، وانصرف غضبه، وخرج خجلان، فقال لكوكو: «سنبني موقدًا آخر، ومطبخًا ثانيًا. إن الزوجة الأولى لا تعرف شيئًا عن الترف اللازم للزوجة الأخرى، والذي تتمتعين به أنت أيضًا. ستطبخين فيه ما يحلو لك.»
أمر وانج لنج العمال ببناء حجرة صغيرة وموقد من الطين. واشترى قِدرًا طيبة. ولاح له أن متاعبه قد انتهت، وأن السلام سيسود بين زوجتيه.
ظهر أخيرًا أن المطبخ الجديد قد أضحى مصدر متاعب لوانج لنج. فكل يوم تذهب كوكو إلى المدينة وتشتري جميع صنوف الأطعمة الفاخرة الغالية التي لم يسمع عنها قط. فكانت تكلفه نقودًا أكثر مما يود أن ينفق. ولكنه كان على يقين، تبعًا لما أخبرته به كوكو، من أن النفقات لم تكن باهظة. كما أنه كان يخاف أن يتحدث في هذا الأمر لئلا تستاء منه لوتس. فكان هذا سببًا في فتور حبه فتورًا طفيفًا، نحو لوتس.
نشأت متاعب أخرى، عن المتاعب الأولى. وهي أن زوجة عمه المولعة بالغذاء الجيد، كثيرًا ما كانت تدخل البهو الداخلي في مواعيد تناول الطعام حيث تجد حريتها. ولم يرق وانج لنج أن تتخذ لوتس هذه المرأة صديقة لها، من بين أهل بيته.
ولما فاتح لوتس في هذا الأمر برقة، غضبت وقالت: «ماذا، إذن؟ وليس لي أحد غيرك. وزوجتك الأولى تمقتني، وأطفالك يضايقونني، وليس لي أحد. إنك لا تحبني، إذ لو أحببتني لرغبتَ في سعادتي.»
عندئذٍ لانَ وانج لنج، وقال: «ليكن كما تشائين، وإلى الأبد.»
عندما كان يذهب إلى بهوها بعد ذلك، وكانت تتحدث إلى زوجة عمه، أو تأكل معها، كانت تتركه ينتظر ولا تهتم به. ففتر حبه لها قليلًا، رغم أنه لم يعرف ذلك. وهكذا حدثت ثغرات في حبه نحو لوتس، مرة بعد مرة، من جراء مسائل الغضب الصغيرة التي كان يزيد في حدتها أنه لم يؤنب أو-لان عليها.
خبَّأ القدر في جعبته لوانج لنج متاعب أخرى، فذات يوم استيقظ والده فجأة وهو نائم في الشمس، وتعثر في مشيته حتى وصل إلى المدخل ذي الستار، بين الحجرة الرئيسية والبهو الذي كانت تسير فيه لوتس، والذي لم يلاحظه من قبل. فتوجه إليه، وأزاح الستار … وتصادف أن كان في إحدى الأمسيات التي يسير فيها وانج لنج مع لوتس في البهو بجانب البركة، وهما يشاهدان الأسماك. فلما أبصر الرجل العجوز ابنه واقفًا بجانب فتاة نحيفة، صاح بصوت مشدوخ: «ما هذه المخلوقة التي بالمنزل؟»
خشي وانج لنج أن تغضب لوتس، فأخذ أباه إلى البهو الخارجي، وهدأه بقوله: «هوِّن عليك، يا أبتاه، إنها زوجة ثانية بالمنزل.»
بَيْد أن الرجل العجوز لم يهدأ، فصرخ في وانج لنج، قائلًا: «لم أتزوج سوى امرأة واحدة، وتزوج أبي امرأة واحدة أيضًا، وكنا نفلح الأرض.»
منذ ذلك الوقت والرجل العجوز يحس بعداوة ماكرة حيال لوتس. فكان يزيح ستار بهوها ويبصق على القرميد، أو يقذف حصاة صغيرة في البركة ليخيف السمك. وكان وانج لنج يخجل من أن ينهر والده، وفي الوقت نفسه كان يخاف غضب لوتس.
سمع وانج لنج، في أحد الأيام، صراخًا انبعث من الأبهاء الداخلية، فجرى إليها، فوجد أن طفليه الصغيرين صحبَا، إلى البهو الداخلي، ابنته الكبرى، بلهاءه المسكينة. إذ أُغرِم الأطفال الأربعة باستطلاع بعض الشيء عن السيدة التي تعيش في البهو الداخلي. كان الطفلان الكبيران يخجلان. أما الطفلان الصغيران فلم يقنعا قط بالنظر وغمس أصابعهما في أطباق الطعام التي تحملها كوكو بعد أن تفرغ تلك السيدة من تناول الطعام.
شكت لوتس عدة مرات من مضايقة الأطفال لها، فأجابها وانج لنج بقوله: «إنه ليعجبهم أن ينظروا إلى وجه حسن، كما يعجب ذلك والدهم.»
لم يفعل وانج لنج شيئًا إلا أن أمر الأطفال بعدم دخول بهوها. ولكنهم، عندما لا يكون والدهم هناك، ينطلقون إلى البهو سرًّا، جيئة وذهابًا.
في ذلك اليوم، كان الغلامان الكبيران بالمدرسة، ففكر الطفلان الصغيران في أن أختهما البلهاء يجب أن ترى السيدة التي في البهو الداخلي. فعندما رأت هذه البلهاء ما ترتديه لوتس من ألوان زاهية، مدت يديها لتتحسسها، وقهقهت ضاحكة. فذعرت لوتس، إذ لم ترها قبل ذلك إطلاقًا، فصرخت. وعندما أسرع وانج لنج يجري، صاحت قائلة: «لم أكن أعلم أنه يتحتم عليَّ أن أحتمل بعض البُلَهاء. ولو علمت ذلك لما أتيت .. أطفالك القذرون هؤلاء!»
فقال وانج لنج في خشونة: «لن أسمح بأن يُلعَن أي فرد من أطفالي، حتى ولو كانت بلهائي المسكينة.» ثم قال للأطفال: «أيْ بُني وابنتي، اخرجَا الآن ولا تعودا إلى بهو هذه المرأة ثانية لأنها لا تحبكما. وإذا كانت لا تحبكما فهي لا تحب أباكما أيضًا.»
ساء وانج لنج أيما إساءة، أن تجرؤ لوتس على أن تلعن ابنته هذه وتصفها بأنها بلهاء. فامتنع عن الاقتراب منها مدة يومين.
عندما ذهب ثانية إلى لوتس، لم يَقُل أحدهما للآخر شيئًا عن عدم مجيء وانج لنج في هذين اليومين. بَيْد أنها كانت تجتهد بصفة خاصة في أن تدخل السرور إلى نفسه، فأخذت يده ووضعتها على وجهها. ولكن رغم أنه أحبها ثانية، فإنه لم يحبها كما كان يحبها من قبل.
أتى يوم ولَّى فيه الصيف، وهبَّت ريح خريفية نظيفة على الأرض في عنف، فأفاق وانج لنج، كما لو كان من نوم. فذهب إلى باب داره، فرأى المياه قد جفت، وصارت الأرض لامعة بفعل الريح الباردة الجافة والشمس القوية.
تغلغل حب وانج لنج لأرضه في نفسه أعمق مما كان في أي وقت مضى. فخلع ملابسه الفاخرة، وشمر سراويله حتى الركبتين، وصاح قائلًا: «أين الفأس والمحراث؟ وأين بذور القمح لزرعها؟ هلم، يا صديقي تشنج .. هيَّا، نادِ الرجال .. سأخرج إلى الأرض!»