الباب الثالث والعشرون
لما رأت لوتس أن وانج لنج مشغول بأمور غير جمالها، قطبت جبينها، وقالت:
«لو عرفتُ أنك بعد مرور سنة قصيرة ستنظر إليَّ ولا تراني، لما تزوجتك.» وأدارت رأسها وهي تتكلم، ونظرت إليه من طرفَي عينيها، حتى إنه ضحك، وقال: «لا يستطيع المرء أن يفكر دائمًا في جوهرة خاطها في معطفه. ولكنه لا يطيق فقدانها. شُغِل بالي بولدي هذين اليومين، وبأنه يجب أن يتزوج. ولا أدري كيف أهتدي إلى عروس تليق به.»
منذ أن صار الابن الأكبر فارع الطول، ورشيقًا بشبابه الغض، ولوتس تنظر إليه بعين العطف، فأجابت: «كنت أعرف رجلًا يتحدث كثيرًا عن ابنته، ويقول إنها تشبهني، وأنها جميلة نحيلة العود. بَيْد أنها لا تزال طفلة.»
فسألها وانج لنج قائلًا: «أي نوع من الرجال هذا؟ وما مهنته؟»
فأجابته بقولها: «كان رجلًا طيبًا، ولست أعرف مهنته، ولكني أعتقد أنه كان رئيسًا في سوق الغلال. وسأستعلم عنه من كوكو التي تعرف كل شيء عن الرجال وعن أموالهم.»
صفقت لوتس بيديها، فحضرت كوكو من المطبخ على عجل. فسألتها لوتس عن اسم ذلك الرجل، فأجابت في الحال: «إنه ليو، تاجر الحبوب، وسوقه في شارع الجسر الحجري.»
وقبل أن تتم كلامها، فرك وانج لنج يديه فرحًا، وقال: «إنه المكان الذي أبيع فيه غلالي. إنه مشروع طيب وممكن التنفيذ.» فقد لاح له أنه من حسن الحظ أن يزوج ولده ابنة التاجر الذي يشتري حبوبه.
ما إن يبدر أمر يحتاج إلى تنفيذ، حتى تشم فيه كوكو رائحة النقود، فقالت بسرعة: «إنني على استعداد لخدمة السيد.»
شك وانج لنج في قدرة كوكو على تنفيذ هذا المشروع، ولكن لوتس قالت مغتبطة: «ستذهب كوكو وتستوضح الأمر من ليو. وإذا تم الموضوع على خير وجه، أخذت أجر الخاطبة.»
فصاح وانج لنج: «كلا، فلم أقرر شيئًا بعد. لا بد أن أفكر في الأمر بضعة أيام، ثم أخبرك برأيي.»
وهكذا كان يمكن أن ينتظر وانج لنج عدة أيام يفكر في هذه وتلك، لولا أن ابنه الأكبر عاد إلى المنزل ذات يوم عند الفجر. وكان وجهه ساخنًا وأحمر اللون من احتساء النبيذ. وكان يتعثر في مشيته، ثم سقط على الأرض.
ارتاع وانج لنج، فنادى أو-لان، فرفعا الصبي، وأرقدته أو-لان على سريرها حيث استغرق في نوم عميق أشبه برجل ميت.
بعد ذلك دخل وانج لنج الحجرة التي ينام فيها الولدان، وسأل الغلام الأصغر: «أين كان أخوك الأكبر في الليلة الماضية؟»
ذُعر الولد، فانخرط في البكاء، وقال: «لا أعرف أين كان، ولكنه ذهب مع ابن عمك.»
عندئذٍ ذهب وانج لنج غاضبًا إلى حجرة عمه، ونسي أنه شقيق والده، ولم يفكر إلا في أن ذلك الرجل هو والد الشاب العاطل الوقح الذي أفسد ابنه اللطيف، فصاح: «لقد آويتُ جماعة من الثعابين الناكرة للجميل، فلدغتني!»
كان عمه يتناول طعام الإفطار. وما كان لينهض قط من فراشه قبل الظهر، فقال في كسل: «وماذا الآن؟»
أخبره وانج لنج بما حدث، ولمَّا لم يجبه بغير الضحك صاح قائلًا: «هيَّا، اخرج من بيتي الآن، أنت ومَن معك. إني لأفضِّل أن أحرق البيت على أن يئويكم.»
رأى وانج لنج أن عمه لم يكترث له، فخطا إلى الأمام، ورفع ذراعه. وعندئذٍ استدار عمه، وقال: «اطردني إن كانت لك الجرأة على طردي.» وفتح سترته وأطلعه على ما بداخل بطانتها.
ما إن أبصر وانج لنج ما بداخل سترة عمه، حتى وقف ساكنًا لا يتحرك. فقد رأى على البطانة لحية مستعارة من الشعر الأحمر، وشريطًا من المنسوج الأحمر. وهذان شعار عصابة من اللصوص تعيش في المنطقة الشمالية الغربية، أحرقت عدة بيوت، وربطت عددًا من المزارعين الأخيار بالحبال في أبواب بيوتهم حيث كان يجدهم الناس في اليوم التالي، إما في حالة هذيان، أو أمواتًا. فألقى وانج لنج نظرة على ذلك الشعار، واستدار منصرفًا دون أن ينبس ببنت شفة. وبينما هو منصرف، سمع ضحك عمه الخافت وهو ينحني على طبق الأرز.
كان عم وانج لنج يأتي ويخرج كسابق عادته. ولم يجرؤ وانج لنج على أن يتحدث إليه إلا بعبارات التوقير خوفًا من بطشه. وعرف فجأة السبب في سرقة غيره من الناس، وبقائه هو آمنًا طيلة إيوائه وإطعامه الأشخاص الثلاثة، أسرة عمه.
لم يتحدث وانج لنج مع عمه بعد ذلك في أمر مغادرته البيت. وكان يعطي زوجة عمه وابن عمه نقودًا فضية. وأخذ يراقب ابنه هو بنفسه، ولم يسمح له بمبارحة أبهائه بعد غروب الشمس، ولو أن هذا أغضب الفتى، فكان يدور في البيت ويصفع إخوته الصغار لغير ما سبب إلا سوء خلقه. وهكذا أحاطت المتاعب بوانج لنج.
وكأنما لم يكن هذا كافيًا، فقد رجعت كوكو من عند تاجر الغلال تخبره بأن الفتاة ما زالت صغيرة جدًّا على الزواج، وأنه يجب الانتظار ثلاث سنوات. ففزع وانج لنج من احتمال غضب وبطالة ذلك الغلام ثلاث سنوات أُخَر. وصاح في أو-لان تلك الليلة وهو يأكل: «هيَّا بنا نخطب لهؤلاء الأطفال الآخرين بأسرع ما في مكنتنا. وكلما بكرنا كان التبكير خيرًا. فلا أستطيع أن أحتمل تكرار هذا ثلاث مرات أُخر.»
خلع وانج لنج ملابسه الفضفاضة وحذاءه، في الصباح التالي، وكما كانت عادته عندما تتأزم الأمور في بيته، أخذ فأسًا وخرج إلى حقوله.
ظل يخرج إلى حقوله، يومًا بعد يوم، لعدة أيام. فإذا بسحابة صغيرة باهتة تظهر من الجنوب ذات يوم، كما لو كانت لتريحه من متاعبه. فنظر إليها أهل القرية والرعب يخيم عليهم، وكان ما ارتعدوا منه هو أن يأتي الجراد من الجنوب ليَلْتهم ما في حقولهم من زرع. فظلوا هكذا يحملقون في تلك السحابة. وأخيرًا قذفت الريح بشيء عند أقدامهم. كان ذلك الشيء جرادة ميتة.
نسي وانج لنج كل شيء أهمَّه، واندفع وسط القرويين المروَّعين، وصاح فيهم: «فلنحارب هذه الأعداء الوافدة من الجو دفاعًا عن أرضنا الطيبة!»
أما الجراد فانتشر في الجو وفوق الأرض.
نادى وانج لنج عماله، ووقف تشنج إلى جانبه صامتًا متأهبًا للعمل. وكان معهما بعض صغار الفلاحين، فأشعلوا بأيديهم الحريق في بعض الحقول، وأحرقوا القمح الطيب القائم في الحقول ناضجًا للحصاد تقريبًا، وحفروا خنادق عريضة، وملئوها بالماء من الآبار. ودأبوا على العمل دون أن يذوقوا طعم النوم. وكانت أو-لان تُحْضر لهم الطعام، كما أحضرت النسوة الأخريات الطعام لرجالهن. فكان الرجال يأكلون وهم واقفون يشتغلون في الحقول ليل نهار.
بعد ذلك اسودت السماء، وامتلأ الجو بضجيج حفيف كثير من الأجنحة، يصطفق كل منها بالآخر. وسقط الجراد على الأرض، يطير على هذا الحقل ثم يتركه كله، ويسقط على حقل آخر فيتركه قاعًا صفصفًا كالشتاء. فثارت ثائرة وانج لنج، وأخذ يضرب الجراد ويطؤه بقدميه. وكذلك فعل رجاله، وسقط الجراد في النيران التي أُشعلت، وطفا ميتًا على سطح الماء في الخنادق التي حفروها. وماتت ملايين كثيرة من الجراد، ولكنها لم تكن شيئًا يُذكر بجانب الأحياء منها.
كوفئ وانج لنج على كل نضاله بنجاة خير حقوله. وكان لا يزال لديه قمح يحصده، وأُنْقِذت أحواض الأرز الصغير. فسرَّ وقنع. بعد ذلك طفق كثير من الناس يأكلون الجراد المشوي. ولكن وانج لنج نفسه لم يأكل منه شيئًا إذ عافته نفسه لما أحدثه من ضرر بأرضه.
رغم ما فعله الجراد بوانج لنج، فإنه ظل سبعة أيام لا يفكر في شيء إلا في أرضه. فقال لنفسه في هدوء: «لكل امرئ متاعبه. ولا بد أن أتغلب على متاعبي قدر طاقتي. وعمي يكبرني سنًّا وسيموت. ويجب أن تمرَّ ثلاث سنوات على ابني، كيفما كان … ولن أقتل نفسي.»
حصد وانج لنج قمحه، وهطلت الأمطار، ونبت الأرز الصغير في الحقول المغمورة بالماء، ثم جاء الصيف من جديد.