الباب السابع والعشرون
نادرًا ما كان وانج لنج يفكر في محاصيله طيلة كل ذلك الوقت، إذ كان مشغولًا بولائم العرس وبالجنازة. بيد أن تشنج أتاه ذات يوم، وقال: «بما أن الأفراح والأحزان قد انتهت، فلديَّ ما أريد أن أُفضي به إليك فيما يختص بالأرض.»
قال: «هاتِ ما عندك، إذن. لم يخطر ببالي هذين اليومين، ما إذا كنت أملك أرضًا أو لا أملك، إلا لأدفن فيها الموتى.»
صمت تشنج بضع دقائق احترامًا لوانج لنج وهو يتكلم، ثم قال في رقة: «أرجو أن يمنع الله ما سيحدث. ولكن يبدو أنه سيكون هناك فيضان، في هذا العام، لم يسبق له مثيل. إذ ترتفع المياه فوق الأرض رغم أن الصيف لم يأتِ بعد، ولا يزال الوقت مبكرًا جدًّا ليحدث مثل هذا.»
خرج وانج لنج إلى أرضه، فرأى أن الأمر كما قال تشنج. فكل الأرض المجاورة للخندق تغطيها المياه التي نشعت من أسفل، حتى إن القمح الجيد النامي بهذه الأرض، قد أصابه المرض واصفرَّ.
كان الخندق أشبه ببحيرة. وكانت القنوات أنهارًا، حتى ليستطيع الأبله أن يدرك من تلك الحال، ولم تأتِ أمطار الصيف بعد، أنه سيحدث فيضان عظيم في تلك السنة. بعد ذلك أخذ وانج لنج يجري في أرضه، في هذه الناحية وفي تلك، يتبعه تشنج كظله صامتًا. وكان وانج لنج ينظر إلى القنوات وقد امتلأت بالماء حتى حافة شواطئها.
بعد ذلك بدأ النهر يحطم السدود، واحدًا بعد آخر، حتى صار من المتعذِّر أن يعرف الإنسان موضع أي سد في تلك المنطقة كلها. وارتفع الماء في النهر حتى انبعج مجراه وطغى فوق كل الأراضي الزراعية كالبحر، وصار القمح والأرز الصغير في قاع ذلك البحر.
تحولت القرى، واحدة بعد أخرى، إلى جزر. وكان الناس يشاهدون الماء وهو يرتفع، حتى إذا صار على مسافة قدمين من أبوابهم، ربطوا المناضد والأسِرَّة معًا، ووضعوا عليها أبواب منازلهم ليجعلوا منها أطوافًا. ثم كوَّموا فوقها كل ما أمكنهم من فراشهم وملابسهم ونسائهم وأطفالهم. ثم ارتفعت المياه داخل البيوت المصنوعة من اللبِن، وبللت الحوائط وحولتها إلى طين، وفصلتها من بعضها، فتداعت وذابت في الماء، وصارت كأن لم تكن بالأمس.
جلس وانج لنج في مدخل داره، وسرح ببصره فوق المياه التي كانت لا تزال بعيدة جدًّا عن منزله، الذي بُني فوق تل عريض مرتفع. ولكنه رأى المياه تغطي أرضه. فأخذ يراقبها لئلا تغطي القبرين الحديثي البناء. ولكنها لم تصل إليهما رغم أن أمواج المياه الصفراء كانت ترتطم جائعة حول الأموات.
لم يكن هناك حصاد من أي نوع في تلك السنة. وجاع الناس جميعًا وغضبوا مما حاق بهم للمرة الثانية. فرحل بعضهم إلى الجنوب، وانضم البعض الآخر الجريء الغاضب الذي لم يكن يهتم لما يفعله، إلى عصابات اللصوص المنتشرة في كل مكان بالريف.
رأى وانج لنج أن الأرض سيصيبها قحط لم يعهد مثله، إذ لم تهبط المياه في موعد زراعة القمح للشتاء. وأنه لن يحصد محصولًا ما في السنة القادمة.
لم يسمح وانج لنج بشراء أو بيع أي شيء بعد مجيء الشتاء، إلا ما قال عنه. واحتفظ جيدًا بكل ما لديهم. وفي كل يوم، كان يعطي زوجة ابنه ما يحتاجه البيت من طعام في ذلك اليوم. ويعطي تشنج ما يلزم للعمال، ولو أنه آلمه كثيرًا أن يُطعم رجالًا لا يقومون بعملٍ ما. فما إن جاء برد الشتاء وتجمدت المياه حتى أمر الرجال بالذهاب إلى الجنوب ليتسوَّلوا أو يشتغلوا هناك حتى يأتي الربيع. وعندئذٍ يمكنهم أن يرجعوا إليه. أما لوتس، فكان يعطيها وحدها السكر والزيت، لأنها لم تتعود شظف العيش.
لم يكن وانج لنج حينئذٍ فقيرًا كما كان يريد أن يظهر أمام الناس، إذ كانت لديه نقود فضية، وبعض النقود الذهبية، مخبأة في جرة مدفونة بقاع البحيرة في أقرب حقوله. كما كان عنده حبوب من السنة الماضية لم يبِعها في السوق، ولم يكن بيته عرضة لخطر المجاعة.
أما في كل مكان حوله، فأناس يتضورون جوعًا. فذكَّره هذا بصياح الجائعين عند باب المنزل العظيم وهو يمرُّ من هناك ذات مرة. وعلم أن كثيرًا من القوم يمقتونه لأنه لا يزال يجد ما يأكله وما يطعم به أولاده. ولذلك أقفل أبوابه باستمرار. ولكنه كان يعلم حق العلم، أن هذا الاحتياط لا يمكن أن يحفظه من اللصوص في ذلك الوقت، إن لم يكن إكرامًا لخاطر عمه. ولذا كان يبالغ في توقير عمه وابنه وزوجة عمه. وكان أولئك الثلاثة كالضيوف في بيته.
رأى وانج لنج، أنه على الرغم من أن عمه نفسه قد شاخ وصار خاملًا ومهملًا. ولا يتعب نفسه بالشكوى إذا ما تُرك وشأنه، فإن الشاب الصغير وأمه أقلقاه. وذات ليلة بينما كان وانج لنج واقفًا عند الباب، إذ سمعهما يقولان للرجل العجوز: «إن لديه المال والطعام، فلنطلب منه نقودًا فضية.» وقالت المرأة: «لن نكفَّ عنه مرة ثانية كما فعلنا، لأنه يعرف لولا أنك عمه لسُرِق وأصبح منزله خرائب، لأنك نائب رئيس عصابة ذوي اللحى الحمراء.»
لما كان وانج لنج هناك، وسمع خلسة هذا القول، غضب غضبًا شديدًا، وكادت بشرته تنفجر غيظًا. ولكنه صمت وحاول أن يدبر خطة إزاء هؤلاء الثلاثة. ولكنه لم يستطع التفكير في شيء. وفي اليوم التالي جاء عمه يطلب منه نقودًا. ولم يمضِ يومان حتى جاءه ثانية، وثالثة ليطلب النقود. وأخيرًا، صاح وانج لنج، قائلًا: «وهل لنا أن نموت جوعًا بعد فترة وجيزة.»
فضحك عمه، وقال بعدم اكتراث: «إنك تحت سماء طيبة ترعاك. هناك أناس أقل منك ثراء شنقوا معلقين في سقوف منازلهم المحترقة!»
عندما سمع وانج لنج هذا، تصبب منه عرق بارد، وأعطاه الفضة دون أن ينطق بكلمة واحدة. وهكذا رغم اضطرار أهل البيت ألا يأكلوا اللحم، كان هؤلاء الثلاثة يأكلون لحمًا. ورغم أنه قلما كان وانج لنج نفسه يذوق طعم التبغ، كان عمه دائم التدخين في غليونه.
نادرًا ما كان ابن وانج لنج الأكبر، منذ زواجه، يدري بما يحدث، غير أن يخفي زوجته غيرةً عليها من نظرات ابن عمه، حتى إن هذَين الشابَّين لم يعودَا صديقَين وإنما أصبحَا عدوَّين. وقلما كان وانج لنج يترك زوجته تغادر حجرتها إلا في الأمسيات التي يخرج فيها ذلك الشاب مع والده. ولكنه ما إن علم بما يفعله أولئك الثلاثة مع والده، حتى استشاط غضبًا، وقال: «إذا كنتَ تهتم بشئون هؤلاء النمور الثلاثة، أكثر من اهتمامك بشئون ابنك وزوجته، التي هي أم أحفادك، فهذا أمر غريب، والأفضل لنا، عندئذٍ، أن نقيم في منزل آخر.»
أخبر وانج لنج ابنه، في صراحة، بما لم يخبر به أحدًا غيره، فقال: «إنني لأمقت أولئك الثلاثة أكثر مما أمقت حياتي. وإذا اهتديت إلى طريقة للتخلص منهم، لجأت إليها. فإن عمك رئيس عصابة من اللصوص المتوحشين، وطالما نحن نطعمه وندلله، فنحن آمنون.»
عندما سمع الابن الأكبر بهذا، شَخَصَ ببصره. وعندما فكر فيه برهة، غضب غضبًا لم يعهده من قبل، وقال: «أما من طريقة للتخلص منهم؟ هيَّا بنا نقذفهم في الماء ليلًا.»
بيد أن وانج لنج لا يستطيع أن يقتل، وإلا لقَتَل عمه أفضل مما يقتل ثوره. لا يمكنه أن يُقدِم على القتل، حتى في حالة الكراهية. فقال: «كلا، حتى إذا كان في مقدوري أن أفعل هذا، فلن أفعله؛ فماذا نعمل عندما يعلم به اللصوص الآخرون؟ وإننا لآمنون طالما هو حي.»
صمت الأب والابن بعد ذلك، وكل منهما يقدح ذهنه يفكر فيما يجب عمله. وأخيرًا تكلم وانج لنج بصوت عالٍ، وهو يفكر، قائلًا: «إن كانت ثمة طريقة للاحتفاظ بهم هنا دون أن يزعجونا، كانت عين ما نبغي، ولكن لا يوجد سحر له هذا المفعول!»
فصاح الشاب يقول: «إذن فقد أخبرتني بما أفعل! فلنشترِ لهم أفيونًا يبهجهم، ونزيدهم من هذا الأفيون، ونمدهم بكل رغبتهم منه كما يفعل الأغنياء.»
بَيْد أنه طالما لم يفكر وانج لنج في هذا الأمر بنفسه أولًا، فإنه يرتاب فيه.
فقال ببطء: «إنه يكلفنا كثيرًا. إذ أن الأفيون كاليشم، غالي الثمن.»
فعارضه الشاب بقوله: «وإن الاحتفاظ بهم على هذا النحو لأغلى من اليشم. وعلاوة على ذلك فإن هذا الشاب يضايقنا بالنظر إلى زوجتي.»
لم يوافق وانج لنج في الحال، إذ لم يكن القيام بهذا أمرًا يسيرًا. وإن تنفيذه ليكلفه كيسًا من الفضة.
من المشكوك فيه أن يُعمل شيء ما، إن لم يكن قد حدث شيء بالفعل.
وهذا الشيء هو أن ابن عم وانج لنج نظر إلى ابنة وانج لنج الثانية، التي كانت ابنة عمه وكأخته. كانت هذه الابنة الثانية رائعة الجمال، ذات بشرة زاهية كأزهار اللوز، وأنف صغير، وشفتَين رفيعتَين حمراوَين، وقدمَين صغيرتَين.
أمسك ابن عم وانج لنج بهذه الفتاة، في إحدى الليالي وهي تجتاز البهو وحدها، في طريقها إلى المطبخ. فصرخت، فجرى إليها وانج لنج، وضرب الشاب على رأسه، فضحك هذا عاليًا، وقال: «لا يعدو هذا أن يكون محض مداعبة. أوليست هي أختي؟» ولكن وانج لنج جذب الفتاة وأرسلها إلى حجرتها.
في تلك الليلة أخبر وانج لنج ابنه بما حدث، فقال الابن: «يجب أن نرسل الفتاة إلى منزل خطيبها بالمدينة.»
ذهب وانج لنج في اليوم التالي إلى منزل التاجر بالمدينة، وقال له: «لقد بلغت ابنتي الثالثة عشرة من عمرها، ولم تَعُد طفلة بعد، وهي يانعة للزواج. وقد ماتت أمها، وإنها لَجميلة، والمنزل يعج بهذا وذاك، ولا يمكنني مراقبتها طول الوقت. وبما أنها ستكون من أسرتك، فأرى أن تمكث هنا.»
كان التاجر رجلًا طيبًا، فأجابه بقوله: «حسنًا، فلتأتِ الفتاة، وسأتحدث إلى أم ولدي، فيمكنها أن تأتي وتكون بمأمنٍ هنا في الأبهاء مع حماتها. وبعد المحصول القادم، يمكن أن تتزوج.»
هكذا سُوِّيت هذه المسألة، واطمأن وانج لنج غاية الاطمئنان، وانصرف.
في طريق عودته إلى باب سور المدينة حيث كان تشنج ينتظره بقارب، مرَّ بحانوت يبيع التبغ والأفيون. فدخل ليشتري لنفسه بعضًا من التبغ المغري ليملأ به غليونه في المساء. وبينما كان البائع يضع التبغ في الميزان، قال له وانج لنج في رغبة فاترة: «ما سعر الأفيون لديكم إن كان عندكم منه؟»
فقال البائع: «لا يصرح القانون، في هذه الأيام ببيع الأفيون في الدكاكين. ونحن لا نبيعه علنًا. ولكن إذا كنت ترغب في شراء شيء منه ولديك الفضة، فإننا نَزِنُه في الحجرة الخلفية. الأوقية بقطعة فضية.»
لم يفكر وانج لنج أكثر من هذا، وقال بسرعة: «سآخذ منه ست أوقيات.»