الباب الثامن
يبدو أنه ما إن تنقلب الآلهة، مرةً، ضد رجل؛ حتى لا تهتم به بعد ذلك مرة أخرى، فقد أحجمت الأمطار، التي كان مقدَّرًا لها أن تهطل في أول الصيف، عن النزول، وصارت السماء صافية يومًا بعد يوم، تضيء في لألاء متجدد وبغير اكتراث.
لَقَّت وجفَّت الحقول وتشققت، واصفرَّت عيدان القمح الناضرة وتحولت إلى محصول عقيم. وغدت أحواض الأرز التي زرعها وانج لنج، إلى مربعات من النبت الأخضر الباهت فوق التربة البنية. كان يحمل إليها الماء، يومًا بعد يوم، بعد أن يئس من القمح، في دلاء خشبية يعلقها في ساق من الخيزران يضعها فوق كتفيه.
جفَّت مياه البركة أخيرًا. وهبطت مياه البئر إلى مستوى منخفض، لدرجة أن أو-لان قالت له: «إذا كان لا بد للأولاد أن يشربوا، وللرجل العجوز أن يحصل على مائه الساخن، وجب أن يجف الزرع.»
فأجاب وانج لنج بغضب تحوَّل إلى نحيب: «هذا صحيح. ويجب أن يموتوا كلهم جوعًا إذا ماتت الزروع من العطش.»
لم يُنبت أي حقل محصولًا، عدا قطعة الأرض المجاورة للخندق. وكان هذا لأن وانج لنج ترك جميع حقوله الأخرى، وقضى كل يومه في هذه القطعة وحدها، يغرف الماء من الخندق ويصبه فوق التربة النهمة. ولأول مرة باع حبوبه في هذه السنة بمجرد حصادها. وما إن أحس بالفضة في كفه، حتى أطبقها عليها بشدة، وأسرع إلى بيت هوانج حيث قابل وكيل الأراضي، وقال له من فوره: «إن معي ما أشتري به الأرض المجاورة لأرضي بجانب الخندق.»
تمسَّك الوكيل بذلك العرض، ومرت النقود من شخص إلى آخر، ووقَّع على عقد التمليك، وأصبحت تلك الأرض ملك وانج لنج.
أصبح وانج لنج الآن يملك حقلًا واسعًا من الأرض الطيبة، إذ كان الحقل الجديد ضعف مساحة الحقل الأول. وما كان يهمه أكثر من التربة الخصبة الدكناء نفسها، هو أن هذا الحقل كان ذات مرة مِلكًا لأسرة أمير. ولم يخبر أحدًا، في هذه المرة، بما فعله.
مرَّت الشهور واحدًا إثر آخر، ولم تنزل أية أمطار بعد. وعندما اقترب الخريف، تجمعت في السماء سُحب صغيرة خفيفة.
بَيْد أنه قبل أن تتجمع سحابة كبيرة تبشر بالمطر، هبت ريح عاصفة من الشمال الغربي، آتية من الصحراء البعيدة، فأزاحت الغيوم من السماء.
حصد وانج لنج من حقوله محصولًا ضئيلًا من الفول. أما حقل القمح الذي زرعه عندما اصفرَّت أحواض الأرز وماتت، فجمع منها بضع سنيبلات قصيرة، بها بعض شتات من الحبوب هناك وهنا. وفصل حبوب الذرة عن مُطُرها في أرض الحجرة الوسطى، ولما وضع المُطُر الخالية من الحبوب (القوالح) جانبًا لكي تُستعمل وقودًا، قالت زوجته: «كلا، لا تستهلك هذه في الحريق؛ فإنني أتذكر عندما كنت طفلة وجاءت سنون قحط كهذه، أن الناس كانوا يطحنون مُطُر الذرة الخالية من الحبوب ويأكلونها.»
ما إن قالت هذا حتى صمت الجميع، حتى الأطفال. كانت هناك نُذُر بالقحط في هذه الأيام الصحوة الغريبة، عندما تخلت عنهم الأرض.
ظل وانج لنج يُعنى بأمر ثوره أطول مدة مستطاعة. غير أنه أتى يوم لم يكن هناك غير قليل من الفول وكمية ضئيلة من الذرة، واستمر الثور يخور من الجوع، فقال الرجل العجوز: «سنأكل الثور بعد ذلك.»
عندئذٍ صاح وانج لنج معارضًا، لأن الثور كان رفيقه في الحقول، وكان يعرفه منذ أيام شبابه.
فقال الرجل العجوز: «هذا حسن. ولكن المسألة الآن هي: إما حياتك أو حياة الثور، وحياة أولادك أو حياة الثور. وإن في مقدور الإنسان أن يشتري ثورًا آخر بسهولة أكثر مما يستعيد حياته.»
ومع ذلك فلم يذبح وانج لنج الثور في ذلك اليوم، ومَر اليوم الثاني، والثالث .. وبكى الأطفال طالبين الطعام. فرأى أخيرًا أن لا بد مما ليس منه بد، فقال بخشونة: «إذن، فليُذبَح. ولكني لا أستطيع أن أذبحه.»
زحفت أو-لان فذبحت الثور، بأن قطعت جرحًا كبيرًا في عنقه. ولم يقترب منها وانج لنج حتى انتهى كل شيء، وطُبِخ اللحم، ووُضِع على المائدة. غير أنه لما حاول أن يأكل من لحم ثوره، لم يستطع ابتلاعه. فشرب قليلًا من المرق ليس غير. فقالت له أو-لان: «ما الثور إلا ثور. وقد شاخ ذلك الثور. تناول من لحمه، فسيأتي يوم تحصل فيه على ثور آخر، وسيكون خيرًا من هذا.»
سرَّى هذا الكلام عن وانج لنج قليلًا، فأكل قطعة من اللحم، ثم أخرى، وغيرها. كما أكل منه الجميع.
كانت القرية كلها في أول الأمر، حانقة على وانج لنج، إذ كانوا يظنون أنه يخبئ نقودًا فضية، وأن لديه مخزونًا كبيرًا من الطعام. وامتلأت قلوب القرويين حقدًا بتأثير الجوع. فما إن همس عم وانج لنج، يقول: «هناك فرد لديه طعام …» حتى أمسك الرجال بالهراوات وذهبوا ذات ليلة إلى بيت وانج لنج وشرعوا يطرقون الباب. فلما فتحه تلبية لصوت جيرانه، دفعوه بعيدًا من طريقهم، وهجموا على كل ركن بحثًا عن موضع يُخبِّئ فيه طعامه. ولما وجدوا مخزونه الحقير من قليل من الفول المجفف، وملء قدح من الذرة المجففة، أطلقوا صيحة معلنين خيبة أملهم ويأسهم. وأمسكوا مائدته ومقاعده والسرير الذي كان يرقد عليه الرجل العجوز يبكي ويرتجف من شدة الذعر.
عندئذٍ تقدمت إليهم أو-لان وخاطبتهم. فارتفع صوتها البسيط البطيء على صوت الرجال، صاحت قائلة: «لا تأخذوا هذه الأشياء؛ لم يحن وقت هذه بعد! لقد أخذتم كل ما لدينا من مواد غذائية. وإنكم لم تبيعوا من بيوتكم، موائدكم ولا مقاعدكم. اتركوا لنا أثاث دارنا. إنَّا لا نملك بذرة فول أو حبة من الذرة أكثر مما تملكون. كلا، بل إن لديكم الآن أكثر مما لدينا، لأنكم أخذتم كل ما عندنا. ستنزل السماء بكم ضربتها إن طمعتم في أكثر من هذا. سنخرج الآن سويًّا ونبحث عن الحشائش لنأكلها، ونقشر لحاء الأشجار، أنتم من أجل أطفالكم، ونحن من أجل أطفالنا.» فلما سمع الرجال حديثها خجلوا وتسللوا خارجين واحدًا تلو آخر، لأنهم لم يكونوا أشرارًا، وإنما دفعهم الجوع إلى الشر.
وقف وانج لنج في فناء داره، وقد أحس بالخوف لحظة، ثم سرى الاطمئنان في دمه كأنه النبيذ المهدئ، فقال في نفسه: «لن يستطيعوا أن يأخذوا الأرض مني. ولو كانت عندي الفضة لأخذوها. لا أزال أملك الأرض، وهي الآن ملكي.»