الفصل الرابع
الأواني الوهمية أو بدائل الأواني الحجرية
أطلقت الدارسة تلك التَّسمية على الأواني والأوعية الصغيرة التي استُخدِمت كبديلٍ
عن
الأواني الحقيقية، وطبقًا لمقاييسها الصغيرة، وضحالة تجاويفها في الغالب، كان يصعُب
استخدامها عمليًّا، وقد عُثر على الكثير منها كبديلٍ للأواني الحجرية الفِعلية، في
مقابر عدَّة لا سيما تلك التي تخصُّ الطبقة الوسطى، أو ما دونها، وفي ودائع الأساس سواء
في الأبنية الدينية أو الجنائزية وذلك منذ أقدم العصور.
فكان من الممكن عن طريق مِثل هذه الأواني الوهمية أن يُؤمِّن المرء استمرار انتفاعه
بها إبَّان حياته الأخرى؛ إذ عن طريق السِّحر ستتحوَّل إلى أوانٍ حقيقية
١⋆ …
تمامًا كما هو الحال فيما استُخدِم من نماذج للقرابين كبدائل أو مُكمِّلات لصورها
المنقوشة على جُدران المقبرة والتي تهدُف إلى ضمان استمرار تزويد المُتوفَّى بالمؤن كما
لو كانت أشياء حقيقية. وكانت أقدم أمثلة نماذج تلك النُّسخ المُقلَّدة للآنية الحجرية،
أو الفخارية، ما شاع منذ بداية عصر الأسرة الأولى، وأخذ في الانتشار أثناء عصر الدولة
القديمة، حيث وُجِدت مصاطب كبيرة مجهَّزة بأطقم كاملة من أوعية القرابين بدلًا من
تزويدها بآنية حقيقية.
٢
وكان من بين ما عُثر عليه من أوانٍ وهمية تؤرَّخ بعصر ما قبل وبداية الأسرات، الإناء
«شكل ٥٥٥» الذي يُمثِّل نموذجًا صغيرًا لإناءٍ من الحجر الجيري، يؤرَّخ بعصر الأُسرة
صفر، عُثر عليه ضمن ودائع أساس معبد هيراكونبوليس.
٣ وكانت ودائع الأساس هي أحد أهم طقوس تأسيس المعبد، والتي كان يقوم بها
الملك، وترجع هذه الطقوس لعصر بداية الأُسرات على أقل تقدير، وكان الملك يقوم بوضعها
في
حُفَر نظيفة بها طبقة من الرمال الطاهرة، جُهِّزت لهذا الغرَض في كل ركنٍ من أركان
المعبد، وأسفل الأبواب وفي أماكن مختلفة أسفل جُدرانه الخارجية، وكانت هذه الودائع
عبارة عن نماذج صغيرة من أدوات العمل كالأزاميل التي تُستخدَم في البناء والأواني
الحجرية بالإضافة إلى أختامٍ على شكل طوب من الآجر كان يُكتب عليها اسم الملك واهب
البناء للإله.
٤
وكثيرًا ما عُثر على نماذج لأوانٍ حجرية صغيرة مُشتمِلة على قُربانٍ وذلك من خلال
نحت
الإناء نفسه والقُربان بداخله في نفس قطعة الحجر وذلك بحجمٍ صغير؛ ففي «شكل ٥٥٦» نرى
إناءً صغيرًا بداخله قُربان يعلو فوَّهة الإناء، وكأنه سلة. الإناء من الحجر الجيري،
عُثر عليه بهيراكونبوليس، يؤرَّخ الإناء بعصر الأسرة صفر.
٥
ويُبين «شكل ٥٥٧» حامِل إناء صغير من الحجر الجيري، يؤرَّخ بعصر الأسرة صفر، عُثر
عليه بهيراكونبوليس،
٦ وكذلك «شكل ٥٥٨» يُبين نموذجًا لحاملٍ وعليه إناء حجري نُحِتا معًا في نفس
قطعة الحجر، يؤرَّخ النموذج بعصر الأسرة صفر، عُثر عليه أيضًا بهيراكونبوليس.
٧
وفي عصر الدولة القديمة استمرَّ العثور على الأواني الوهمية المختلفة الأنماط؛ إذ
ظهرت المقابر آنذاك بنماذج من الأواني والأطباق الصغيرة والتي كانت عادةً من الحجر
الجيري والفخار، وكانت تُعدُّ جزءًا من المُقتنَيات الجنائزية بالمقبرة، وقد وُجدت
بكميَّاتٍ كبيرة في المقابر لا سيما مقابر أواخر عصر الدولة القديمة، وكان أغلبها
تمثيلًا لأوانٍ رمزية تُقلِّد أواني حفظ الخمر والدهانات والمراهم.
٨
وقد عُثر في منطقة الأهرامات بالجيزة على مجموعةٍ كبيرة من أواني القرابين الوهمية
تنوَّعت ما بين أكوابٍ وأطباق وأوانٍ حجرية مختلفة (شكل ٥٥٩) تؤرَّخ بعصر الدولة القديمة.
٩
وفي معبد الوادي بالجبَّانة الغربية العظيمة، غرب هرم خوفو، عُثِر على نماذج صغيرةٍ
لأوانٍ حجرية تؤرَّخ بعصر الأُسرتَين الخامسة والسادسة، تنوَّعت ما بين تمثيلاتٍ لأوانٍ
أسطوانية وأخرى مُقرفصة (شكل ٥٦٠) ربما كانت جزءًا من ودائع أساس هذا المعبد.
١٠
ويُبين «شكل ٥٦١» منضدةً خشبية يعلوها خمسة من الأواني الحجرية الصغيرة الحجم، يبلُغ
متوسط ارتفاعها من ٨ : ١٠سم تقريبًا عُثر عليها بجبَّانة أبو صير، وتؤرَّخ هذه الأواني
بعصر الأسرة الخامسة، عصر الملك ني وسررع، وهي تُوجَد بمتحف برلين، تتميَّز هذه الأواني
بسُمك جدرانها،
١١ وربما كانت هذه الأواني الحجرية الصغيرة بدائلَ للأواني الحجرية الكبيرة
الحجم التي كان المصري القديم يهتمُّ بوَضْعها معه داخل مقبرته، وبالسِّحر تتحوَّل إلى
أوانٍ حقيقية ينتفع بها المُتوفَّى في عالَمه الآخر، فهذا هو منطق المصري القديم الذي
آمَن بالسحر إلى آفاقٍ بعيدة.
وكان من أجمل ما عُثر عليه من أنماط الأواني الوهمية، نموذج لمائدة قرابين كاملة
اشتملت على نماذج مُصغَّرة لأوانٍ حجرية مختلفة الأنماط (شكل ٥٦٢) من الحجر الجيري،
تنوَّعت ما بين أطباق، سُلطانيَّات، طست وإبريق لغسل الأيدي، أوانٍ مُقرفصة وأخرى
اتَّخذت شكل إناء الحس كأوانٍ للماء وللنبيذ، وقد عُثر على هذه المجموعة بإحدى مقابر
جبَّانة منف، وهي تؤرَّخ بعصر الأسرة السادسة.
١٢
ولقد كثُر العثور على بدائل الأواني الحجرية، «الأواني الوهمية» في نهاية عصر الدولة
القديمة، إذ عُثر على نماذج صغيرة لأوانٍ حجرية مختلفة تنوَّعت ما بين رءوس موائد
التقدِمة والسلطانيات ذات الصنابير والأواني الأسطوانية والأباريق والأوعية المختلفة
(شكل ٥٦٣) وذلك في العديد من مقابر جبَّانة الجيزة، في الفترة من عصر الأسرة الرابعة
وحتى السادسة.
١٣
وكان عصر الدولة القديمة هو عصر ازدهار هذا النوع من الأواني الحجرية الصغيرة الحجم،
وتنوَّعت أماكن العثور عليه ما بين مقابر الأفراد، ومقابر عِلية القوم، والمقابر
الملكية أحيانًا، وفي أساسات المعابد، واعتُبِرت بمثابة أوانٍ نذرية أجاد الصانع نحتَها
وصقلَها رغم صغر حجمها وقلَّد فيها أنماط الأواني الحجرية الحقيقية من أطباقٍ
وسلطانيات، أكواب وكئوس، أباريق وأوعية بل وموائد تقدِمة أيضًا من النمط المستدير. وكان
حجر الألباستر هو أكثر الأحجار المُستخدَمة في صناعة هذه الأواني الوهمية.
ويُبين «شكل ٥٦٤» مجموعةً مختلفة من نماذج الأواني الحجرية، عُثر عليها بمصطبة حم
إيونو بالجيزة، تؤرَّخ بعصر الأسرة الرابعة، وهي من حجر الألباستر، تنوَّعت ما بين
الأطباق والسلطانيات والأكواب وأنماطٍ مختلفة من الأباريق منها ما يُشبه إناء الحس،
ومنها ما يُشبه إناء القبحو، ومنها ما تميَّز بالزخارف الخطيَّة البسيطة على غِرار ما
عُرف من أوانٍ حقيقية في تلك الفترة، ورغم صِغَر حجم هذه الأواني فإن صانعها أجاد نحتها
وإظهار تفاصيلها.
١٤
ويوضِّح لنا «شكل ٥٦٥» نموذجًا لمائدةٍ مستديرة تُحيط بها مجموعة مختلفة من الأواني
الحجرية المختلفة الأنماط، ورغم أنها أوانٍ وهمية إلا أنها جيدة النحت والصقل، وهي من
الألباستر، عُثر عليها أيضًا بمصطبة حم إيونو بالجيزة.
١٥
وعن قُرب يُبين «شكل ٥٦٦» اثنين من هذه الأواني الوهمية الجيدة النحت والصقل وهُما
من
الألباستر، نرى بأحدهما زخرفةً خطيَّةً ربما تُقلِّد زخرفة الحبال، وهما من المقبرة
G.4250 بالجيزة، عصر الدولة القديمة.
١٦
ويُخيَّل للمرء عند النظَر إلى «شكل ٥٦٧» أنها أوانٍ حجرية حقيقية ذات استخدامٍ
فِعلي، إلَّا أن صغر الحجم أو ضحالة التفريغ يُشير إلى عكس ذلك، فهي أوانٍ وهمية من
الألباستر، متنوِّعة الأنماط والأشكال، وهي تضمُّ بخلاف ذلك مائدةً مستديرة للتقدِمة،
وهي تُذكِّر بما عُرف من أنماط الأواني الحجرية في عصر الدولة القديمة وقد عُثر على هذه
الأواني في مصطبة كا-بو-بتاح بالجيزة.
١٧
وبخلاف حجر الألباستر، كان الحجر الجيري أيضًا من الأحجار التي استُخدمت في تصنيع
الأواني الوهمية في عصر الدولة القديمة، ففي «شكل ٥٦٨» نرى مجموعةً مُتنوِّعة ومختلفة
من الأواني الصغيرة، تنوَّعت ما بين الأسطوانية والتي تُشبه إناء الحس، والأواني
المزدوَجة العنق وأطباقٍ وسُلطانياتٍ مختلفة، عُثر على هذه الأواني في مقبرةٍ تقع إلى
الشمال من مصطبة نب إم أخت بالجيزة.
١٨
ويُبين «شكل ٥٦٩» إناءً مصغَّرًا من حجر الألباستر، ارتفاعه ٣٫٢سم واتِّساع قُطره
يتراوَح ما بين ٣ : ٣٫٢سم عُثر عليه بمقبرة أوناس عنخ بطيبة، يؤرَّخ بعصر الدولة القديمة.
١٩
أما «شكل ٥٧٠» فيُبيِّن اثنَين من الأواني الوهمية من الحجر الجيري الأبيض والأصفر
تُمثل إبريقًا وإناء ماء ليُشبِهَ إناء الحس، وهما يؤرَّخان بعصر الدولة القديمة،
ويُوجَدان ضِمن مجموعة أخرى من الأواني الحجرية بالمتحف المصري.
٢٠
وكان استخدام الأواني الوهمية أو نماذج الأواني الحجرية له دَوره في العادات
الشعائرية والمُعتقدات السِّحرية في مصر القديمة، فلقد ارتبطت هذه الأواني بالخلود في
ذهن المصري القديم، مِثلها مثل العديد من المتاع والأثاث الجنائزي الآخر، والعديد من
المناظر والنصوص والكتابات الهيروغليفية التي اشتملت على صِيَغٍ تفيد المُتوفَّى في
عالمه الآخر.
٢١
فلقد حرص المصري القديم على اصطحاب مثل هذه الأواني معه تمامًا مثلما حرص على اصطحاب
أنواعٍ من الطعام أو نماذج مُصغَّرة لأنواعٍ من الطعام كقُربان كان يُعتقَد أنها ستفيده
بالسِّحر في عالمه الآخر وذلك بوظيفتها السِّحرية؛ فاستخدام الأواني المُصغَّرة
والماكتات كانت بمثابة أشياء نَذرية شاعت في معتقدات المصري القديم منذ أقدم العصور.
٢٢
وكانت هذه الأواني الوهمية في الواقع تُمثِّل أنماطًا لأوانٍ حقيقية عُرفت بدءًا
من
عصر ما قبل الأسرات وأصبح لها دلالاتها الرمزية والعقائدية؛ إذ استُخدِمت في أداء بعض
الممارسات أكواب الطقوس الشعائرية.
٢٣ وذلك مِثل أواني طقسة فتح الفم
٢٤ التي كانت تتضمَّن طاقمًا من أكوابٍ وأوعيةٍ صغيرة كان لها دَورها الوظيفي
الهام في إتمام الشعائر الجنائزية الخاصة بالمُتوفَّى.
٢٥
ويمكن أن نستشفَّ العديد من النتائج من خلال العثور على هذا الكمِّ الهائل من الأواني
الوهمية ومنها:
وكان استخدام الأواني الوهمية لخدمة الأغراض الشعائرية قد انتعش في عصر الأسرة
الرابعة، واستمرَّ حتى نهاية عصر الدولة القديمة.
٢٩
ورغم صِغَر حجم هذه الأواني إلا أنها احتفظت بجودة النحت والصقل وكان أغلبها من
الألباستر والحجر الجيري لسهولة الصنع والتشكيل أكثر من غيره من الأحجار الأخرى.
٣٠
ويُزخْرَف المتحف المصري بالعديد من نماذج تلك الأواني الوهمية التي تؤرَّخ بعصر
الدولة القديمة وما بعدَها، جاء بعضها تقليدًا للطست والإبريق (شكل ٥٧١) أو لإناء الحس
(شكل ٥٧٢)، أو غيره من الأواني الحجرية الأخرى.
٣١
وفي عصر الدولة الوسطى استمرَّ العثور على نماذج تلك الأواني الحجرية صغيرة الحجم
وقد
كان هذا العصر أكثر العصور استخدامًا للنماذج المُصغَّرة التي لم تقتصِر على تمثيل
أشياء مفردة كالأواني بل امتدَّ إلى تصوير أنشطة الحياة اليومية وأحداثها مثل صناعة
الخبز والجعة وزراعة الحقول وتخزين الحبوب وغيرها من الصناعات المختلفة إلى مُثِّلت في
نماذج تُصنَع من الخشب وتُغطَّى بطبقةٍ من الجص وتُلوَّن. ولقد عُثر على أفضل هذه
النماذج في مقبرة الأمير «مكت رع» الذي عاش في عصر الأُسرة الحادية عشرة.
٣٢
أما عن الأواني الوهمية في ذلك العصر فكان أغلبها من الألباستر، واتَّخذت نفس شكل
ما
ساد من أنماط الأواني الحجرية التي عُرفت آنذاك، ففي «شكل ٥٧٣» نرى اثنَين من الأواني
الحجرية، الأول من الألباستر والثاني من الكريستال الصخري، عُثر عليهما بدير البرشا،
يؤرَّخان بعصر الدولة الوسطى
٣٣ وفي هذا العصر كثُر العثور على أنماطٍ من الأواني الوهمية كان أغلبها من
الفخار لسهولة تصنيعه وكان أغلب أماكن العثور عليها في المقابر والجبَّانات المختلفة،
ومن ثَمَّ فربَّما كان استخدامها في الأغراض الجنائزية، إذ كانت تُقدَّم كقربانٍ جنزي.
ومن ذلك ما عُثر عليه في دفناتٍ عدَّة تؤرَّخ بعصر الدولة الوسطى. هذا بخلاف ما عُثر
عليه في المجموعات الهرمية لسنوسرت الأول باللشت، وسنوسرت الثالث وأمنمحات الثالث بدهشور.
٣٤