لم يقتصِر الدور الوظيفي للأواني الحجرية على الناحية العملية فحسب، وإنما كان لتلك
الأواني أهميتها الدينية والجنائزية بل والفنية، إلى جانب دَورها العملي المُعتاد لها،
ومن ثَمَّ رأت الدارسة ضرورة إلقاء ضوءٍ بشيء من الإيجاز على الدور الوظيفي للأواني
الحجرية من شتَّى جوانبه، وذلك لمحاولة رسم صورةٍ واضحة عن الغرَض من مثل هذا الكم
الهائل الذي عُثر عليه من الأواني الحجرية.
(١) الدور الجنائزي للأواني الحجرية
فهِم المصريون القدماء الحياة أحسن الفهم، ودفعهم فناءُ الحياة الدنيا إلى
التفكير في الآخرة، وفي نفس الوقت التعلُّق بها، ومن أجل ذلك لم يكن ما أودعوه دُور
الآخرة من متاع الدنيا وزُخرفها، إلا نتيجة حُبِّهم لها، فكانت المقبرة بما فيها
بمثابة صورة صادقة لما يقوم في حياة الناس العامة والخاصة، فمُلئت جدران القبور
بالرسوم والصُّوَر الدنيوية، إلى جانب تصوير الحياة الأُخروية، وحرص المصري القديم
على أن يحفظ بها أدواته وأوانيه سواء الفخارية أو الحجرية، وما إلى ذلك من متاعٍ
حرص على استخدامه في عالمه الآخر.
١
ولم تكن أهمية الأواني الحجرية نابعةً من كونها أوعية فقط، ولم تُوضَع في المقابر
كجزءٍ من الأثاث الجنائزي نظرًا لِما تحويه بداخلها فقط، بل على العكس من ذلك، فإن
الأواني الحجرية كانت جزءًا من القُربان الذي يُقدَّم للمُتوفَّى، يطلُبه ويبغي منه
«ألف إناء» هكذا كانت تُذكَر صِيغ تقديم القُربان في الدولة القديمة.
٢
فلقد كانت الأواني الحجرية من الأهمية بحيث يحرِص المُتوفَّى على التزوُّد بها في
رحلته إلى العالَم الآخر، ولذلك نجد آلافًا من الأواني الحجرية كانت تُدفَن مع ملوك
عصر بداية الأُسرات كأحد أهم مُستلزمات الأثاث الجنائزي،
٣ وامتدَّ ذلك التقليد حتى عصر الدولة القديمة، وتؤكد ذلك مُختلف النصوص
التي جاءت على جدران مقابر ذلك العصر.
٤
وكانت الأواني الحجرية تُعدُّ من أهم النِّعَم والمنَح الملكية التي يُقدِّمها
الملك لرجال دولته ضِمن تجهيزات الدفن،
٥ وقد تجلَّت آية تلك الهِبات الجنزية منذ طلائع التاريخ المصري في مقبرة حماكا،
٦⋆
حيث كانت جمهرة الجِرار من آنية النبيذ في مقبرته تحمِل أختامًا باسم «أوديمو»
والقليل منها بخاتم «حماكا» ذاته، وفي ذلك دليل على مصدر هذا المتاع الجنزي الذي
أسهم فيه الملك هِبةً وفضلًا من عنده على وزيره الراحل.
٧
ومن خلال ما تُوضِّحه حصيلة ما عُثر عليه من أوانٍ حجرية في العديد من المقابر
يمكن لنا أن نتحقَّق من تلك الأهمية الجنائزية، ففي جبَّانة حلوان جاءت شواهد
الاهتمام بالأواني الحجرية، وضرورة تزويد المقابر بها، وتنوَّعت حصيلة تلك الأواني
ووضح بها دقَّة الصناعة،
٨ وكانت هذه الأواني الحجرية على اختلافها توضَع مع المتوفَّى في المقبرة
في مكانٍ مُخصَّص لها، وذلك كما في «شكل ٦١١» إلى «شكل ٦١٤» وأحيانًا كانت توضَع
بجوار المُتوفَّى في نفس مكان الدفن.
٩
ولقد كان لمقابر الأثرياء الغلبة في هذا الشأن،
١٠ وكثيرًا ما تميَّزت الأواني الأُخرى وكان منها ما ارتبط بالفعل بأغراضٍ
أو شعائر جنائزية مثل أواني حفظ الأحشاء وأواني حفظ الزيوت السبعة المُقدَّسة
والأواني المُستخدَمة في الطقوس المختلفة مثل طقسة فتح الفم.
١١
(٢) الدور الدِّيني للأواني الحجرية
كانت للأواني الحجرية أهميتها الدينية، فنظرًا لمُعتقداتٍ دينية خاصَّة، كثيرًا
ما كان يتمُّ تحطيم هذه الأدوات عمدًا قبل دفنها مع المُتوفَّى (شكل ٦١٥)، بل إنَّ
كثيرًا ما كان الإناء يُصنع من جزأين مُنفصلين من الحجر، وفي أحيانٍ أُخرى كان كل
جزءٍ من الإناء يُصنع من مادةٍ تختلف عن مادة صناعة الجزء الآخر، الأمر الذي يؤكِّد
أنَّ بعض أنواع الأواني الحجرية لعِبت دورًا طقسيًّا في الإعداد للعالَم الآخر
للمُتوفَّى، فتحطيمها إنما يعني خروج كاوات (أرواح) هذه الأواني، فيُصبح من اليسير
استفادة «روح» أو «كا» المُتوفَّى من كاوات أو أرواح هذه الأواني.
١٢
وفي صناعتها من جزأين مُنفصلين من الحجر لا سيما «الحجر الأبيض والأسود»، رأى بعض
الباحثين ربْط ذلك برمزية اللَّونَين الأبيض والأسود وهما لَونا الحجر المُستخدَم
في صناعة بعض ما عُثر عليه من أوانٍ حجرية، فللألوان بعض الدلالات الرمزية المُتصلة
بالوظيفة لا سيما الوظيفة الشعائرية أو الطقسية للإناء، فعلى سبيل المثال، ارتبط
اللَّون الأسود بخصوبة الأرض والعالَم السُّفلي وإعادة البعْث، فكلُّ عام يفيض فيه
النِّيل يأتي بالطَّمي الأسود تتجدَّد الحياة، ورمز اللون الأبيض للنور والضياء
والصفاء، وارتبط اللون الأحمر بالغموض والصحراء والموت، وكان لكلِّ تلك الرمزيَّات
دلالتها ومَغزاها السِّحري، في العقيدة المصرية القديمة،
١٣ وكان من أمثلة ما عُثر عليه من أوانٍ حجرية مصنوعة من جزأين مُختلفَين
من الحجر،
١٤⋆
ثلاثة من الأواني عُثر عليها بمنشأة أبو عمر، تؤرَّخ بنهاية عصر ما قبل الأسرات
(شكل ٦١٧ وشكل ٦١٨)، صُنعت هذه الأواني من حجر الشست والحجر الجيري معًا، بحيث كان
الجزء العلوي من حجر الشست والسُّفلي من الحجر الجيري، وقد تم لصقهما مع بعضهما
البعض عند أوسع جزءٍ من جسم الإناء،
١٥ ولقد أنكر بعض الباحثين وجود مغزًى ديني لهذه الأواني، وأرجع ذلك إلى
مغزًى عملي يتعلَّق بطريقة التصنيع.
هذا وقد عُثر على مئات الأجزاء من الأواني الحجرية، جاء الكثير منها حاملًا
كتاباتٍ هيراطيقية بالحبر الأسود والأحمر،
١٦⋆
وذلك في الهرم المدرَّج بسقارة، وأجزاء أخرى من أوانٍ حجرية حملَت نقوشًا هيروغليفية،
١٧ هذا بخلاف آلاف الأجزاء من الأواني الحجرية من مختلف أنواع الأحجار،
كان قد عُثر عليها أيضًا في سقارة،
١٨ وأبيدوس وجبَّانات أخرى عديدة. ففي إحدى مقابر جبانة الكاب، عُثر على
آلاف الأجزاء من الأواني الحجرية المختلفة، كانت قد جمعت معًا في حجرةٍ صغيرة
بالقُرب من مقبرةٍ اشتملت على دفنة لاثنين من الموتى تؤرَّخ بعصر الأسرة الثالثة،
١٩ ويبدو أنَّ تلك الأواني قد حُطِّمَت ودُفنت عمدًا في هذه
المقبرة.
وقد عُثر على مئات بل آلاف الأجزاء من أوانٍ حجرية في مقابر عدَّة بجبَّاناتٍ
تؤرَّخ بعصر بداية الأُسرات، كانت قد كُوِّمت أعلى بعضها البعض، وكانت بوجهٍ عام
مكسورة أو مُحطَّمة عن عمد، وربما كان هذا جزءًا مُتمِّمًا للعادات أو التقاليد
والشعائر الجنائزية المُتَّبعة وقتها بالجبانة.
٢٠
وتكرَّر الأمر نفسه في جبَّانة أبيدوس، إذ عَثر بتري على آلاف الأجزاء من الأواني
الحجرية من مختلف الأحجار، وذلك في المقابر الملكية المؤرَّخة بعصر بداية الأُسرات،
وقد بلغت حصيلة هذه الأجزاء حوالي ٢٠٠٠٠ جزء من أوانٍ حجرية مختلفة.
٢١
وكان ما عُثر عليه ببعض المعابد المصرية القديمة من أوانٍ حجرية، يدلُّ على
صِلتها الدينية أو استخدامها الطقسي أو الشعائري آنذاك، ففي معبد «نخن» عُثر على
العديد من الأواني الحجرية الضخمة الحجم في أماكن مختلفة من المعبد، بعضها كان
يحمِل نقشًا بأسماء ملوك عصر بداية الأُسرات، وبعضها الآخَر قد جاء بهيئاتٍ زخرفية
رائعة لمعبوداتٍ بعينِها، وقد نُحِتت أغلب هذه الأواني من أحجارٍ صلدة لا سيما
الصخر البورفيري والجرانيت،
٢٢ وكانت لها دلالتها الطقسية.
وكان أيضًا من دلائل الأهمية الدينية للأواني بوجهٍ عام، أن اتَّخذت بعض الآلهة
المصرية القديمة مُسمَّياتٍ أو مُخصَّصاتٍ باسم أو هيئة الإناء، وذلك مثل الإله «خنوم»،
٢٣⋆
الذي كان يُصوَّر عادة بهيئةٍ بشرية ورأس كبشٍ وكان يصوَّر أحيانًا حاملًا على رأسه
إناء الماء
hmm
وهو عبارة عن علامةٍ صوتية تُعبِّر عن اسم المعبود خنوم.
وربما كان ذلك إشارةً إلى بقاء النيل دائمًا فوق قرونه،
٢٤ ويُعبَّر عن ذلك بشكل الإناء كجزءٍ يُعبِّر عن كل.
ولقد فسَّر
Otto وجود مُخصَّص الإناء في اسم
المعبود «خنوم» بأنَّ هذا الإناء هو الإناء الذي كان يقوم خنوم بتشكيل الناس فيه،
باعتبار أنَّ خنوم عند المصري القديم هو المعبود الخالق للبشر.
٢٥
وكذلك كانت المعبودة «نوت» ربَّة السماء، تُصوَّر كسيدةٍ عارية وعلى رأسها إناء
اﻟ «نو»
nw
، الذي اتَّخذت منه
مُخصصًا في كتابة اسمها، وذلك لاعتباره إناءً لحفظ السوائل بما فيها الماء.
٢٦
وقد كتب اسم المعبودة «باستت» أيضًا بمُخصص إناء أسطواني في هيئة قدَح «إناء
العطر» أو الزيت العطري
، وكُتِب إمَّا بمُفرده أو مع الحروف الأخيرة من اسمها.
٢٧
وكان أيضًا من دلائل الأهمية العقائدية للأواني الحجرية في الفكر المصري القديم،
أنه كثيرًا ما كان المصري القديم يُوجِّه لها التحية والترحيب في نصوصه قائلًا:
«التحية لك (السلام لك) أيها الإناء.»
٢٨ بل وكان هناك طقسة تؤدَّى بنوعٍ مُعيَّن من الأواني الخاصة بسكب الماء
ألا وهو أواني النمست التي كانت تُستخدَم كأوانٍ للتحية فيما يُسمَّى «التحية
بأواني النمست» التي انتشرت في الطقوس والشعائر، فيلاحظ أنَّ الملك كان يَسكُب ما
في الإناء أمام الآلهة، وكان ذلك يُعبِّر عن التحية وكانت هذه الطقسة تُستخدَم في
تحية بداية العام الجديد.
٢٩
(٣) الدور الدنيوي للأواني الحجرية
كانت الأواني الحجرية شائعة الاستخدام في مصر القديمة، سواءً في الحياة الدنيا،
أو كمتاعٍ ضِمن الأثاث الجنائزي بالمقابر، وكانت تُصنع من مختلف أنواع الأحجار
بمهارةٍ فائقة، وكان المصري القديم يَستخدم الأواني الحجرية البسيطة التي تفتقِر
إلى الزخرفة في الحياة اليومية، بينما كان يَستخدِم الأواني ذات الزخرفة الصريحة
لاحتواء الدهون والعطور والزيوت المقدَّسة أي لأغراضٍ جنائزية، وعُثر بالفعل على
نماذج منها اشتملت على بقايا الدهون الطبيعية والزيوت التي كانت مُستخدَمة.
٣٠
ولا يمكن لنا التعرُّف على الأهمية الدنيوية للأواني الحجرية إلَّا من خلال دراسة
ما عُثر عليه بالمقابر، إذ اعتقد المصري القديم أنَّ الحياة الآخرة هي صورة مُطابقة
للحياة الدنيا، وأنَّ ما كان يَستعمله في دُنياه، يمكن أن يَستعمله في آخرته، ومن
ثَم نجد كثيرًا من الأدوات والأواني المنزلية المُستعملة قد وُضِعت في القبر مع
المُتوفَّى ليستمرَّ استعمالها في الآخرة، لذلك إذا تكلَّمنا عن أثاث المُتوفَّى في
قبره، فإنما نتكلَّم عن أثاثه في بيته، إذ كان الأول صورة من الثاني.
٣١
فما من شكٍّ أنَّ مُعظم هذا الأثاث قد صُنع على غرار ما كانت تحتويه القصور
والبيوت من أثاث، فضلًا عن أنَّ ما صُوِّر من قِطَع الأثاث هذه على جُدران القبور،
إنما يُمثِّل كذلك ما استخدمَه المصريُّون في سكنِهم من فراشٍ وأثاث.
٣٢
ولقد تنوَّعت أواني الاستخدام اليومي ما بين الفخارية والحجرية وتنوَّعت أشكالها
وأحجامها ما بين الكبيرة والصغيرة،
٣٣ وكذلك تعدَّدت استخداماتها ما بين قدورٍ وأواني للتخزين وأخرى لحفظ
مواد الزينة أو ما إلى ذلك من أوجه الاستخدام اليومي،
٣٤ وكانت هذه الأواني تُشكِّل في أساسها جزءًا من أثاث البيوت
٣٥ (شكل ٦١٩).
ونظرًا لتعرُّض المساكن والمدن المصرية القديمة للتدمير والاندثار، فإنَّ ما
عثرْنا عليه من أوانٍ حجرية، قد جاء أغلبه بالمقابر التي زوَّدتْنا بمادةٍ طيبة،
عرفْنا منها الكثير، ففي حوزتِنا الآن كنزٌ طيبٌ من الآثار الجميلة المختلفة
والمُتبايِنة، فمن أوانٍ فخارية كبيرة الحجم إلى أطباقٍ وموائد وأوانٍ حجرية مختلفة
كان التنوُّع في الاستخدام، والرَّوعة في الصناعة والإتقان لحدٍّ يتضاءل أمامه ما
نراه اليوم من أوانٍ من نفس المادة، إلَّا أنها أقلُّ في الجودة رغم التقدُّم في
تقنية الصُّنع والآلات الحديثة المُستخدَمة.
ولقد وضح ذلك التنوُّع في العديد من المقابر، ففي المقبرة رقم «٦» بجبَّانة طرة،
عُثر على حفرةٍ مُبطَّنة مُقسَّمة إلى قِسمَين، كانت تلك الحفرة بمثابة مخزنٍ
مُزدَوَج اشتمل على ستةٍ من الأطباق المصنوعة من الألباستر، وستٍّ من جِرار النبيذ
واثنَتين من جِرار حفظ الطعام، كانت جميعًا قد وُضِعت برفقة صاحب المقبرة كي ينتفِع
بها في عالَمِه الآخر تمامًا كما كان ينتفع بها في دُنياه، تؤرَّخ المقبرة بنهاية
عصر الأسرة الأولى أو ما بعدها تقريبًا.
٣٦
ولعلَّ كنز حتب حرس، والدة الملك خوفو، ومتاعها وأثاثها الجنزي ليُعدُّ صورة
ناطقة لأهمية الأواني الحجرية ليست الجنائزية فحسْب بل والدنيوية، إذ إنَّ مُعظم
أوانيها وأدواتها التي عُثر عليها بمقبرتها كانت قد نُقلت من قصرِها الخاص لتكون
معها في قبرِها، مقرِّها الأخير، وقد تنوَّعت مُقتنيات مقبرتها ما بين أوانٍ مرمرية
وأباريق وقنانٍ وأوانٍ لحفظ الدهون وما إلى ذلك من أوانٍ استخدمتها في حياتها الدنيا.
٣٧
(٤) الدور التأريخي للأواني الحجرية
لم تتوقَّف الأهمية الدنيوية للأواني الحجرية عند حدِّ الانتفاع بها كوسيلةٍ
لتناول الطعام والشراب والاحتفاظ به، وإنما كان لها استخدامات أخرى يصعُب حصرها في
تلك الصفحات القلائل، فكثيرًا ما حملت الأواني الحجرية نقوشًا تأريخية جعلتها أشبهَ
بكتابٍ مفتوح، وجعلت منها مادة هامة لسرْد أحداثٍ بعينها، أو تحديد سنوات حكم ملك
أو آخر، أو كانت بمثابة أوانٍ تذكارية لأحداثٍ تاريخية هامة، كالاحتفال بعيد السد
أو بترقِّي العرش، أو حملت أسماء وألقاب الملوك المصريين لتُبيِّن ملكيَّتها بل
وأحيانًا قيمتها والغرض منها.
ولقد تضمَّنت النقوش
٣٨⋆
التي سجَّلها المصري القديم، لا سيما في عصر بداية الأسرات، على بعض أوانيه الحجرية
عناصر ورموزًا كثيرةً أصبح لها شأنها في التقاليد السياسية والدينية للعصور التي
تلتْ عصرهم رغم الإيجاز الشديد الذي كانت عليه.
٣٩
(٥) الدور الفنِّي للأواني الحجرية
تُعد الأواني الحجرية واحدة من أهم الصناعات الحجرية التي كانت مجالًا للإبداع
الفني للمصريين القدماء، خاصة في عصر ما قبل وبداية الأُسرات، واستمرَّت صناعة
الأواني الحجرية طوال العصور التاريخية، إلا أنها ركَّزت على الجانب النفعي في أغلب
الأحيان.
وقد تجلَّت أعظم آيات قدرة المصريين القدماء الفنية في صناعة الأواني الحجرية
فيما عُثر عليه من كميَّات ضخمة من الأواني الحجرية المتنوعة الأشكال والأحجام،
حقَّق بها المصري القديم انتصارًا في جمال الذوق والتصميم، وروعة في التنفيذ تُثير
الدهشة والإعجاب لا سيما في عصر بداية الأُسرات
٤٠ (شكل ٦٢٠).
فكثيرًا ما عُثر على أطباق وطاساتٍ من الصخر البلُّوري ومن أحجارٍ صلبة، انثنتْ
أطرافها إلى الداخل أو إلى الخارج كما تنثني أو تنطوي أوراق الرَّسم في سهولةٍ
ويُسر، وعُثر على أوانٍ أخرى تكاد تكشف سطوحها الخارجية عن دواخلها من شدَّة جودة
الصقل والنحت، ورأينا كيف أبدع المصري القديم في إخراج وتصميم أوانٍ حجرية بهيئاتٍ
زخرفية متنوعة،
٤١⋆
دلَّت على حُسن الذوق وترَف أصحابها
٤٢ (شكل ٦٢١).
وتؤكد تلك الحصيلة الضخمة على ما كان عليه المصري القديم من دقَّة، وما كان
يتمتَّع به من هباتٍ فنية عظيمة ونشاطٍ جمٍّ وخيال واسع يخدُم به في الوقت نفسه
الجانب العملي للحياة. ومع أنَّ مصر غنية بما كان المصريُّون القدماء يحتاجون إليه
من موادَّ طبيعية، إلا أن طبيعة الحياة فيها كانت تضطرُّهم إلى الكفاح والعمل
المتواصِل، وقد تعوَّدوا العمل الشاق منذ العصر الحجري الحديث،
٤٣ ومن ثم فلا غرابة أن نعثُر على هذا الكم الهائل من الأواني الحجرية
التي قام المصري القديم بتصنيعها من أصلد أنواع الأحجار والتي برؤيتها ترتسِم
الدهشة على الوجوه، فكيف له أن وصل إلى هذا الحدِّ من الدقة في الصناعة والجودة في
الفن والروعة في الاتقان؟ ولكنها كانت طبيعة المصري القديم الذي استطاع بعبقريته أن
يُشعل شرارة الإبداع، ويصِل ببساطة أدواته إلى مرحلةٍ فنية متقدمة.
فقد تكون الأواني الحجرية بوجهة النظر العامة مجرَّد صناعة حجرية ولكنها تكشف في
داخلها على حدَثٍ طواه الماضي، ولكن لا تزال انعكاساته تُثير التساؤلات لدى عقول
الدارسين.
ففي دراسةٍ عملية حديثة لمحاولة تقييم أو تحديد الفترة الزمنية التي تستغرقها
عملية نحْت وتصنيع إناءٍ حجري من الألباستر، مثلا، بارتفاع ٢٩سم واتِّساع ١٦سم
تبيَّن أنه يحتاج لتصنيعه حوالي سبعة أيام. هذا بالنسبة لإناءٍ من الألباستر وهو
حجر سهْل التشكيل، فما بال إناءٍ من البازلت الصلد؟! لا بدَّ أنه سيحتاج إلى عامٍ
على الأقل لتصنيعه! لا سيما أن نحت الإناء الحجري متوسِّط الحجم من الحجر الجيري
يحتاج على الأقل إلى أسبوع.
٤٤
فكيف إذًا تسنَّى للمصري القديم ببداءة أدواته أن يصنع آلافًا من الأواني الحجرية
على اختلاف أنواعها وأحجامها وأشكالها بل واختلاف مادة الصنع؟!
وكما قال توينبي إنَّ السهولة عدو الحضارة والتقدُّم،
٤٥ هكذا كان شعار المصري القديم، الذي لم يكتفِ فقط بصناعة الأواني
الحجرية، بل والوصول بها إلى جعلِها لوحاتٍ فنية، طوَّع فيها أصلد أنواع الأحجار
لرغبته وذلك منذ عصور ما قبل التاريخ،
٤٦ مُستوحيًا من الطبيعة عناصر أعماله الفنية، فجاءت بعض الأواني بهيئاتٍ
تقليدية مُعتادة سبق ظهورها في تصنيع الأواني الفخارية، وجاءت بعض الأواني الأخرى
بهيئاتٍ وأنماط مختلفة سواء زخرفية أو غير معتادة، بل وتفنَّن في إخراجها صابغًا
عليها خبراته الذاتية وأثرَه الشخصي.
وبوضوح يُمكن للمرء أن يرى مدى تعدُّد الأشكال وغرابة التفكير في الإخراج، وتساوي
النِّسَب بين أجزاء هذه الأواني الحجرية التي يتبيَّن في مُراعاتها علمٌ هندسيٌّ
رائعٌ، وليس هذا فحسب، ولكنَّنا نجد أن الصانع المصري القديم لم يكن يقوم بعمله كما
يقوم العامل المُسخَّر، بل كان له ولَع بعمله يُحفِّزُه على إتقانه، وتنفيذ الرسم
والتصميم الذي أعطاه له المُصمِّم النابغة الذي ما كان ليستطيع أن يرسُم هذه
الأشكال الجميلة إلا إذا كانت له روح فنَّان مُبدع.
٤٧
هذا ولقد دفعت عقائد الديانة المصرية فنون أهلها دفعًا حثيثًا متصلًا وكانت
أوضحها أثرًا في هذا الدفع عقيدة البعث والخلود، فقد اندفع المصريون تحت تأثيرها
إلى الاهتمام البالغ سواء بعمارة مقابرهم باعتبارها من بيوت الأبدية، أو بحرصهم على
تزويد مقابرهم بأفخر أدوات الترَف والزينة والأواني المختلفة حتى لا ينقصهم شيء
منها في سفرهم الآخِري الطويل.
٤٨
ومن ثم كان التنوُّع في إخراج بعض الأواني الحجرية بهيئاتٍ ودلالات رمزية معروفة
مثل علامة العنخ
أو علامة «الكا»
أو بهيئاتٍ أخرى نباتية أو حيوانية أو بهيئاتٍ تُشبِهُ
السِّلال المجدولة أو القوارب،
٤٩ يتخيَّل المرء عند رؤيتها أنها نُسجت من الحجر!
فلا يمكن الفصل إذًا بين الأهمية الفنية للأواني الحجرية، وبين دورها الجنزي أو
الديني، إذ إن وضع الأواني بالمقبرة كجزءٍ من الأثاث الجنائزي يتوقَّف على الاعتقاد
الديني لصاحب المقبرة بفائدتها بالنسبة له في العالم الآخر، وضرورة أن تكون على
أكمل ما يرام، فحرص على إخراجها في أجمل صورة، ولا غرابة أن عُثر على العديد من
القطع الفنية لأدوات مأتمية في مختلف المقابر، منها ما كان المصري القديم قد
استعملَه بالفعل في حياته الدُّنيا ومنها ما صُنع خصوصًا كي يأخُذه معه في عالمه
الآخر، وقد حرص فيه الفنان على دقة الصُّنع وروعة الزخرف.
فكأنَّ العلاقة إذًا ثلاثية بين الدين والدنيا والفن، وقد وضحت تلك العلاقة
الثلاثية من خلال ما عُثر عليه بمختلف المقابر، وما أودعه المصري القديم فيها من
أوانٍ حجرية رائعة الصُّنع وفائقة الجودة؛ إذ كان وضع الأثاث الجنائزي يتوقَّف على
الاعتقادات الدينية لصاحب المقبرة، وقد استطاع الفنان المصري القديم أن يُحقِّق
أهدافه الفنية والدينية جنبًا إلى جنبٍ مع معاني العظمة والخلود والسموِّ فيما
أودَعَه دور الآخرة من أثاثٍ جنائزي اشتمل على العديد من الأدوات والأواني الحجرية
الرائعة.