مقدمة ثانية
نقطة بدء لحركة إحياء لفولكلورنا العربي
وإذا كنا في بعض الأحيان يجنح بنا الطموح إلى حدِّ طرْحِ منطلق يحقق بمقتضاه حركة إحياء للفولكلور العربي على طول بلداننا العربية، قد تجيء — فرضًا — تحت مظلة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية، ومن مهامها بالدرجة الأولى إنجاز مشاريع قومية للتراث العربي، قد يتبلور في نهاية الأمر في تنشيط واستنبات حركة جمع للتراث الشفهي، تسمح في الإسهام كنقطةِ بدءٍ لأطلس للفولكلور العربي بمجالاته المختلفة الأدبية: من شعر وحكايات ومأثورات وبالاد وأساطير وسِيَر وملاحم، بالإضافة إلى بقية الأنشطة الأخرى؛ من تشكيلية وتعبيرية قوامها الفنون الزمنية من رقص وموسيقى ومسرح مرتجل.
وقد تنتهي آمالنا في متحفٍ للإنسان العربي وحضارته، على غرار المتاحف الإثنوجرافية للإنسان وثقافته، وأهمها هنا متحف الإنسان بباريس، أو متحف وليم كامدين في لندن؛ أحد الكُتَّاب الكلاسيكيين الإنجليز في القرون الوسطى، ١٥٥١–١٦٢٣، والذي كان أول مَنْ أشار بأن تسمية بريطانيا المتواترة من تعابير خرافية أمكن له تعقُّبها والعثور عليها في الأنتيكات التاريخية الأركيولوجية المندثرة، أيَّدَتْها الحكايات الخرافية الإنجليزية فيما بعدُ.
كذلك قد ينتهي بنا البحث عن طريق الجمع الميداني والتصنيف داخل المجتمعات والبيئات والحضارات العربية لجمع الحكاية الخرافية، وبما لا يمنع من مواصلة جهود النقل بالإقدام على ترجمة بعض المجموعات القومية الموسوعية المتفق عليها في حقلَي الفولكلور والإنسانيات بعامة، مثل موسوعة «الحكايات الخرافية في الأدب العالمي» التي وصلت في الآونة الأخيرة إلى أكثر من خمسين مجلدًا.
على أن لا يفوتنا الاستفادة من الأعمال الموسوعية في هذا الحقل، سواء التي أنجزتها هيئاتٌ أو أفرادٌ مثل وليام جراهام سمينر ١٨٤٠–١٩١٠، ومؤلَّفه الرائد «الأساليب الشعبية» الذي استغرقه أكثر من نصف قرن، رغم أنه لم يبدأ كتابته إلا في عام ١٨٩٩، وصدرت الطبعة الأولى ١٩٠٦؛ أيْ قبل وفاته في السبعين من عمره بأربعة أعوام لا غير.
على أن لا يغيب عن أنظارنا في كل الظروف أن منطلقنا — وليكن منهجنا — للتعامل مع تراثنا الفولكلوري العربي في إطاره أو منبته السامي، وحتى لا ننجرف إلى هوَّة الدوران في الحلقة المفرَغة للمناهج السلفية الغيبية المغلوطة، التي لا ترى في التعامُل مع التراث بعامة سوى مجرد إحيائه وبعثه من مدخل سلفي أكثر منه علميًّا، يضعنا في كل الأحيان عند محاولاتِ طبْعِ الماضي على الحاضر الماثل، بمتطلباته ومتناقضاته وما يفرضه من حتميات.
لذا يُفضَّل في مثل هذه الحالة الأخذ بشعار: إعادة الإحياء للتراث بعامة، وأخصه الموروث الشعبي؛ بما يسمح بالتدخل الإيجابي المستقيم مع احتياجات التنمية؛ أيْ مع عدم فقدان توجيه الفكرة في التعامل مع هذا التراث الفولكلوري بهدف تحقيق غايات التنمية لمجتمعاتنا العربية من مادية وعقلية.
على أن هذا كان على الدوام المنطلق الذي اتخذَتْه الدراسات الفولكلورية.
ولعلنا نذكر هنا أن كلمة «فولكلور» تردَّدت للمرة الأولى في أغسطس عام ١٨٤٦، حين نطق بها اسكتلندي متخصص في اللغتين الفرنسية والإسبانية، هو وليم جون توماس، وأعقب ذلك بفترة إنشاء الجمعية الفولكلورية الإنجليزية بلندن عام ١٨٧٨، وكان على رأس أغراضها القومية: «إرساء دعائم علمية هدفها إعادة بناء وجهة نظر لعالَم ما قبل التاريخ الثقافي البدائي، من خلال فولكلور ومعتقدات الفلاحين المعاصرين.»
ذلك على الرغم من أن جامعي الفولكلور الإنجليز الأوائل لم يُولُوا أدنى اهتمام يُذْكَر في تعقُّب جذور وأصول موادهم الميدانية التي توصَّلوا إلى جمعها من أفواه الفلاحين الإنجليز؛ للتعرف على منابعها وما طرأ عليها من تغيُّرات وهجرات ومزاوجات خلال الحضارات والأجناس والقبائل القديمة التي تعاقبت على إنجلترا، مثل ما قبل الكلت، ثم الكلت والرومان والساكسون والنورديين وغيرهم.
كما يجدر الاهتمام بجهود المدرسة الشرقية ورائدها المستشرق تيودور بنفي، ومَنْ تعاقبوا بعده من الدارسين الفنلنديين الذين أرسوا ملامح المدرسة الفنلندية لمنهج الدراسات الفولكلورية، الذي أسَّسه يوليوس كرون ومَنْ خلفوه من الدارسين، خاصةً ابنه كارل كرون ١٩٢٦.
واكتمال هذا المنهج واستقامته على يد إنتي أرني هلسنكي ١٩١٠، في الدليل الذي وضعه عن «أنماط الحكايات الخرافية وأنواع الحكايات الشعبية»، وهو التصنيف القيِّم الذي اكتمل في عدة مجلدات عن عباراتِ أو جزئياتِ الحكاية الشعبية في فولكلور العالَم، المعروف بفهرست الموتيفات الأساسية للحكايات الشعبية والأساطير والبالاد وخرافات وقصص ومأثورات القرون الوسطى، بالإضافة إلى الحكايات الطوطمية والهزلية والمحلية، وبالإضافة إلى أن هذا الجهد التصنيفي يهمنا هنا جيدًا؛ ذلك أن الجانب الأعظم الذي تضمَّنه هذا الدليل الفنلندي المرموق يخص تراثنا العربي باحتوائه على الآلاف المؤلَّفة من جزئيات الحكايات الفينيقية — وَلْنَقُل السامية العربية — لتراث الشرق الأدنى القديم المهاجر الذي حمله الفينيقيون من البحارة الشوام اللبنانيين والفلسطينيين، وطوَّفوا به منذ أقدم العصور — الألف الثالثة ق.م — في كل بقاع العالَم البحري، خاصةً البنية التراثية بل والسكانية التي استوطنت أقصى شبه الجزر الاسكندنافية وفنلندا.
ومن هنا يحق لنا رعاية هذا الدليل الفنلندي باهتمام خاص.
وبالطبع فهذه مجرد إلمامة لما حدث في العالَم من حولنا من جهودٍ في هذا الحقل، أو عجالة هدفها التوصُّل إلى تحديد نقطةِ بدءٍ أو منطلقٍ لخطةٍ طويلةِ المدى، أو استراتيجيةٍ قومية وبداية لجهد عربي آن أوان مجيئه، إنْ لم يكن قد انقضى جدًّا.
- (١)
القيام بعمل حصر ميداني لمراكز وهيئات جمع التراث والفولكلور بعامةٍ، الموجودة بالفعل في بعض العواصم العربية، والتي وصل بعضها إلى درجة ملحوظة من التمرُّس الميداني، نذكر منها: المركز العراقي (بغداد)، والكويتي، والمغربي، والتونسي، والمصري، والسوري الإثنوجرافي؛ للوقوف على ما توصَّلت إليه هذه المراكز من جمعٍ ورصدٍ على كلا المستويَيْن الكمي والنوعي للمواد الفولكلورية.
مع التعرُّف على أساليب الجمع والتصنيف المتَّبعة لدى كل قُطْر على حِدَة، بما يوقفنا على بعض الظواهر أو السمات المحددة، كأنْ تُولِي بعض المراكز اهتمامًا أكبر لبعض المجالات والحقول الفولكلورية والإثنوجرافية على حساب مجالات أخرى، كاهتمام المركز السوري مثلًا — كما لاحظت وتحادثت مع مديره د. الحمامي — بالأزياء والفنون والصناعات الشعبية، ومركز تجميع التكية ومدرسة العظم، على حساب النصوص الشفهية، والعكس بالنسبة للمركز العراقي، بينما تتفوَّق الأبحاث المتصلة باللغة والصوتيات وصناعتها في المغرب.
أما في تونس فتستحوذ الإلياذة العربية أو سيرة الهلالية على الاهتمام الأكبر من حيث الجمع والبحث الأدبي، وليس الإثنوجرافي الذي قد يصل بالسيرة إلى أبعاد تاريخية سابقة على القرن العاشر الميلادي بعشرات القرون السابقة على التاريخ المتفق عليه، كما قد يصل بها إلى الصمود لكُبْرَيات سِيَر الشِّعر الملحمي: الإلياذة، والمابهاراتا، وبيوولف، والكاليفالا الاسكندنافية.
بينما يغيب عن المركز المصري الاهتمام بالتراث الموسيقي والفنون التعبيرية عامةً، وافتقاده لقواه الدافعة التي صاحبَتْ مولده إلى حدٍّ.
- (٢)
يصبح مفيدًا إقامة اتصالات بهذه المراكز؛ لتقييم حجمها من جانبٍ، وتعرُّف ظواهرها، مع الأخذ في الاعتبار المعرفة أيضًا بالوسائل التقنية المستخدَمة من صوتية وبصرية، بالإضافة إلى المشاكل ومحاوَلة تذليلها بالقدر الممكن طبعًا.
- (٣)
عمل رصد للمجلات والدوريات والنشرات والجهود الفردية المختصة بالتراث، ومدى حجم جمع أشلائه في الأوطان العربية، مع الانتباه للمعوقات.
وستوقفنا المحصلة على جهدٍ لا بأسَ به، سواء في العراق أو السودان أو مصر أو الأردن أو المغرب، يُضاف إلى هذا عملُ إلمامةٍ للكُتَّاب الكلاسيكيين العرب الذين حظيت كتاباتهم باهتمام الروَّاد من الباحثين؛ بدءًا بفريزر، وروبرتسون سميث، وشتراوس، والشاعر الإنجليزي روبرت جريفز، وروفائيل بطي، والعشرات غيرهم.
مثل كتابات ابن إسحق، وابن الكلبي، وابن ديصان، وابن النديم، والميداني، واليعقوبي، والهمداني، والجاحظ، وغيرهم.
يُضاف إليهم الكُتَّاب العرب المتبحرون في كلا التراثين العربي والفارسي الآري؛ نظرًا لما بين التراثين المتتاخمين من علاقاتٍ، نذكرُ منهم: عبد الله بن المقفع، والدينوري مؤلِّف عيون الأخبار والأخبار الطوال، والبلعمي، والمسعودي مؤلِّف مروج الذهب وغرر أخبار ملوك الفرس، وابن الأثير، وابن قتيبة، والمقدسي، والأصفهاني، والبيروني، والثعالبي بخاصة.
وهو ما سنتناوله في الفصل الخاص ﺑ «العلاقة التاريخية بين العرب الساميين والفرس الآريين» من هذا الكتاب.
- (٤)
محاولة الاهتمام بفكرة د. محيي الدين صابر في تنشيط حركة جمع بين طلبة المدارس للمرحلة المتوسطة والجامعية للمواد الفولكلورية والعادات والممارسات والمأثورات وكافة الإبداعات الشعبية الجمعية، بما يسمح للمنظمة بحق أن تصل بأذرعها المتعددة إلى آخِر بقاع ونجوع البلدان العربية، مستنهضةً ومهيمنةً على حركة إحياء لهذا التراث المهمل المتجه بالضرورة إلى الطمس والاندثار، بإزاء اتساع رقعة الإعلام الإلكتروني من راديو وتليفزيون وصحف تغلب عليها الأمية، بل هي تستهدفها بما يخدم مصالحها.
ولعلها أقصر الطرق وأنجعها فائدةً وأقلها تكلفةً في تحقيق درجة قصوى من درجات الجمع الميداني، لن تستلزم من جانب المنظمة بأكثر من تحقيق اتصالات وتوعية، وبعض الدورات التدريبية والسمنارات القومية، إلى جانب اللجوء في حالة التنفيذ إلى الجهاز الإعلامي بالمنظمة، والاستعانة بالراديو لتوصيل مثل هذه التوصيات المصحوبة بإرشادات مبسطة للمشرفين التربويين — خاصةً مدرِّسِي المواد الاجتماعية والإنسانية بعامة — تتصل بإعطاء الاهتمام لأدق الممارسات والمأثورات، بدءًا بالحكاية الخرافية، وانتهاءً بالتعاويذ، وأغاني التخمير، وكيفية الوصول إلى الندابات والقابلات والنائحات المحترفات ومنشدي دلائل الخيرات، وشعائر الانتقال عبر شهور الحمل، والأزياء وأغطية الرأس، والرسوم الحائطية للحج والطهور، ووحدات الوشم، وكيفية التعامل مع شعر العانة أو الشعر السري، وأنماط الطهور؛ مرورًا بالطب الشعبي وما أُضِيف١ حول السِّيَر والبالاد والملاحم ذات الملمح العربي العام.وما أسهلَ، في مثل هذه الحالةِ، اضطلاعَ المنظمة بإعداد المحاضرات والدراسات والأبحاث، وترويجها بالنشر — خاصةً الراديو — في كل ربوع البلدان العربية!
وقد يصل بنا اكتمال مثل هذا التصور إلى حدِّ عَقْدِ حلقات وسيمنارات محلية وقُطْرِية قد تُرْصَدُ لها تقديرات معنوية وجوائز منها الكاميرات والمسجلات الصوتية، قد تصل مستقبلًا إلى حد المهرجانات وإحياء سوق عكاظ القديمة.
ويصل بنا مثل هذا الاستطراد إلى إعطاء اهتمامٍ خاصٍّ للاحتفالات الشعبية والموالد، التي فيها يطلُّ الاحتفاء بمثل هذه الفنون والثقافات المتبقية إلى أقصى النشاطات، مع البحث في ظاهرة الموالد ذاتها التي قد تصل بنا إلى بقايا طوطمية وتقويمية وتقديس للمحاصيل والأشجار المحلية كما هو معروف.
- (٥)
فمن منطلق البحث في أُطُر أكثر تميُّزًا لفولكلورنا العربي، ومن مدخل أنه أصبح في مقدور علم الفولكلور إعادةُ إنارةِ وتوضيحِ المدونات التاريخية، وإعادة ضبطها وتحريكها من أقدم مواقعها.
الخرافة المحلية
لذا من المفيد إعطاء اهتمام خاص للخرافة المحلية وظواهرها على طول البلدان العربية؛ نظرًا لعلاقتها الشديدة بالأصول والمنابع الأولى للميثولوجيا العربية السامية، وجانبها الشعائري الأنيزمي إلى اليوم.
فما من شك في أن التوصُّل إلى إضافاتٍ مُلفِتةٍ وهامةٍ في حالة الاهتمام بالفولكلور العربي الأفريقي، في الحبشة والسودان والصومال والنوبة ومصر العليا، وبقية الكيانات الأفريقية التي سيشملها الاهتمام، وبالطبع يجيء هذا من المنطلق القومي اللغوي العربي.
ولقد أورد زكريا القزويني حكايةً غريبة بسهل عكا في أطراف لبنان، فقال: إن «بها عين البقر»، وهي بالقرب من عكا، يزورها المسلمون واليهود والنصارى، ويعتقدون أن البقر الذي ظهر لآدم فحرث عليه — لأول مرة — أُخْرِجَ من هذه العين.» وهي نفس العين التي سمَّاها الفرنسيون بعد ذلك في القرن السابع عشر ﺑ «عين العذراء مريم».
ونهر القاسمية كان يُسمَّى نهر الليطاني أو الممنوع أو الملعون أو الحرام، وكذلك نهر قديشا أو المقدس الذي سموه «ليطا» وفسروه بالشرير، أما نهر الأولى أيْ نهر المدينة الأولى، فقد سمَّاه العرب قديمًا بنهر الفراديس، وكذلك فقد استبدل العربُ اسمَ نهر أدونيس باسم إبراهيم، ويشير «رينان» إلى وجود علاقة بين إبراهيم وإيل إله جبيل، بل إن العرب خلطوا بين إبراهيم وبين الإله بِل إله الكنعانيين.
ومن أماكن اليمن المشئومة: جبال ختا أو خياف، والجبل الأشيب سيد جبال النار وقطب اليمن، فيقال إن ذلك الجبل يظهر عليه أهل النار والخراب، وتعوي فيه الذئاب، كما أن من بين الأماكن الملعونة: نجران وصعدة وبكلي، ويُروَى عنها الكثير من الخرافات، وأما جبالها المقدسة فهي جبال: حضور وحنين ورأس جبل علي ورأس صبر وتعكر … إلخ، وباليمن وادٍ يُعْرَف بوادي عشار «كثير الإخصاب» نسبةً إلى الإلهة إيشار أو عشتروت، كما أن اليمنيين نسبوا أقدم قصور اليمن — وهو قصر «غمدان» — إلى سام بن نوح الذي «ابتدأ بناءه واحتفر بئره»، وتُنْسَب حوله الخرافات: أن طائرًا اختطف المقرانة وطار بها، وتبعه سام لينظر أين أوقعها الطائر، ثم أقام البناء.
«ويقال إن هذا التقليد كان منتشرًا بكثرة في أيام الحروب الصليبية»، كما يقال إن باني دمشق هو «إليعازر» خادم النبي إبراهيم في نفس الحقل الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل.
فيبدو أن أدوم كانت تشمل أيضًا جزءًا من الأردن، ويؤكد هذا الكشوف الحفرية التي توصَّلت إليها البعثة النمساوية التي أعلنت بعض نتائج اكتشافها في يوليو ١٩٧٤.
وينتشر بين سكان جبل قاسيون شمال دمشق اعتقادٌ بأن جريمة «القتل الأولى وقعت في أعلى قمم الجبل»، وينسب القزويني لإحدى صخور دمشق الكبيرة أنها كانت المكان الذي قدَّما عليه قربانهما «حين تُقُبِّلَ من صاحب الزرع، ولم يُتَقَبَّل من صاحب الرعي»، وهناك حَجَر عليه مثل آثار الدم، اعتقد الدمشقيون القدماء في أنه الحَجَر الذي هشم عليه الأخ أخاه؛ لذا سُمِّيت المغارة المجاورة لهذا الحَجَر «مغارة الدم».
يرى اليهود أن الجريمة وقعت في إحدى قرى جبل قاسيون، وهي قرية بسيمة.
ولقد وحَّد الأقدمون بين قابيل والشيطان «أشمودي»، الذي يُنْسَب له تشييد مدينة بعلبك التي اعتبروها أول مدينة في العالَم؛ إذ إن قابيل ابن آدم عندما اعتراه الارتعاش أمَرَ ببنائها، ولقَّبها باسم ابنه أخنوخ — النبي إدريس — وأسكن فيها الجبابرة والمهترجية، ولكثرة فواحشهم أرسَلَ الله عليهم طوفان الماء «أو طوفان نوح».
ويُسمَّى وادي البقاع بلبنان بسهل نوح، وبه قبر نوح بالقرب من زحلة، وإن ملكًا، هو الملك الظاهر — عام ١٢٥٨م — أعاد بناء القبر فجعله «واحدًا وثلاثين مترًا».
كما أن في الجولان بقايا قبائل الفضل والنعيم، وما عُرِفَ عنهم من أخصاب ملحمي شعري قد يقودنا إلى أصل ملحمة «سعد اليتيم» المعروفة.
ويعتقد سكان قرية كفر ناحور بلبنان أن قبر كنعان موجود على إحدى الصخور الموجودة هناك، كما يقال إن النمرود بن كنعان هو باني قلعة بعلبك، وفي بعلبك بقايا آثار قصر سليمان ودير إلياس، وجبل سعيد الذي على قمته أقدَمَ إبراهيم على ذَبْح ابنه وبِكْره إسماعيل.
وفي مدينة عكا توجد قبور «عك» — باني المدينة — وعيش، وشمعون، وذي الكفل، وهود، وعزير، وشعيب وابنته زوجة النبي موسى، وفي قرية أربل أربعة قبور لأربعة من أبناء يعقوب، وكذلك غار وُجِدَ به قبر أم موسى، ويوشع بن نون، بالإضافة إلى سبعين نبيًّا.
•••
موجز القول أن الأقوام السامية قد خلَّفت أساطيرها ومعتقداتها الخرافية في عصور الظلمات أو عصور ما قبل العالَم على آثارها ومنشآتها ومعالمها الطبيعية بشكل غاية في الإفراط.
فاستنادًا إلى القدرات اللامتناهية التي يمكن للذاكرة الشعبية الجمعية تأديتها في استكشاف وإيضاح ما هو مغلق ومندثر لكلا الوجهين: التاريخي والتراثي لبلداننا العربية، يمكن القول بأن في الإمكان إعادة التعرُّف واستجلاء ذلك التاريخ الثقافي اليومي لبلداننا، منذ بدء تواجُد الإنسان العاقل على الأرض العربية.
فلعَلَّني لا أملُّ الإلحاحَ بالقول الدافع إلى الثقة في قدرة الذاكرة الجمعية — التي تجيء من المنطلق القومي لا التجزُّئِي الانعزالي — على إعادة إيصال واستقامة ما انقطع، وما يعتري أحقابَ تاريخنا، خاصةً الثقافي، من اندثار وغموض.
من ذلك ظاهرة تسمية أكثر من مدينة سورية — خاصة الشمالية بانياس — باسم ذلك الشاعر الأسطوري المتعاصر مع منشد الإلياذة هوميروس، وربما كان أسبق منه القرن السادس ق.م.
فبانياس كان أول مَنْ جمع أسطورة الإله الزراعي الممزَّق أدونيس، الذي هو أحد أوجه أو تنويعات أوزوريس في مصر، وتوفِّي في وادي الرافدين، وديونسيوس عند الهلينيين، وديونسيوس زاجريوس في كريت، ومسبوتاميا أو آسيا الصغرى بعامة.
فلقد كان الشاعر السوري بانياس هذا أول مَنْ جمع أسطورة أدونيس وأعاد نَظْمها شعرًا، الذي قد يصل بنا جمع مأثوراته المحلية اليوم، وأستطيع أن أجزم بأنها ما تزال تعيش على الشفاه في مدينته السورية التي زرتها متسرعًا بدعوة رقيقة من صديقي المفكر القصاص أحمد إسكندر — وزير الإعلام السوري — عام ١٩٧٦، بصحبة زوجتي الباحثة الاجتماعية فريدة إلهامي، بالقرب من اللاذقية ومكتشفاتها الحفرية في رأس الشمرا أو أوغاريت التي ترجع إلى القرن الرابع عشر ق.م، وأدت عشرات الألوف من نصوصها الأسطورية والفولكلورية — المكتشفة عام ١٩٢٩ — إلى إلقاء ضوء قوي على جذور التراث السامي العربي والعبري ومنابعه المبكرة، خاصةً الجانب الأعظم من التراث العبري، وبخاصة أكثر التلمود الأورشليمي الفلسطيني.
وخلاصة القول أن في تركيزنا على تنشيط استكمال جمع الخرافات المحلية لا لأقطارنا العربية فحسب، بل لمدنها ومعالمها البيئية والمحلية.
من ذلك ما تزدحم به الأقاليم والبيئات السودانية والنوبية والمصرية والفلسطينية والليبية واللبنانية، سواء في تراث المدن الفينيقية الدول: صور وصيدا وجبيل وبعلبك، أو بيبلوس الإغريقية وتراثها العريق.
وبالنسبة للعراق فما تزال آثار وتجمعات وموروثات بقايا أهم وأعرق ملاحم العالم القديم: جلجاميش، أو قلقاميش كما يسميها العرب، في مديريته التي ما تزال تحمل اسمه جلجاميش إلى اليوم، وكذا بقايا موروثات الكلدانيين والبابليين والآشوريين والفينيقيين والقرطاجنيين والحورانيين.
فالمفجع والملفت أنه حتى أيامنا هذه ما تزال تعيش بقايا الحضارات والكيانات السامية بروافدها المختلفة، مثل الكلدانيين — الألف الثاني ق.م — المعروفين اليومَ بالحرانيين — بحران بالعراق — وقصصهم عن كيف التقى بهم الخليفة العباسي المستنير المأمون، وكان في طريقه إلى الحرب وسألهم: هل أنتم أهل كتاب؟ ثم خيَّرهم بين الدخول في دين أو قتلهم وسافر ومات.
وكانوا عقب الموت ينزعون الرأس بعد ذلك عن الجسد.
ولهم كتاب يُسمَّى بالكتاب الحاتفي، وكانوا أول مَنْ سمى أيام الأسبوع باسم الكواكب السبعة السيارة، وهي التسمية السارية إلى أيامنا.
ويقولون بأن يوم الأحد للشمس واسمها إيليوس، يوم الإثنين للقمر واسمه سين، يوم الثلاثاء للمريخ واسمه آريس، يوم الأربعاء لعطارد واسمه نابق، يوم الخميس للمشتري واسمه بال، يوم الجمعة لِلَّات واسمها بلثى، يوم السبت لزحل واسمه قرنس (كرونس).
ويصلُّون ثلاث مرات في اليوم «ولا صلاة عندهم إلا على طهور»، ويصومون ٣٠ يومًا يعقبه عيد الفطر، ويذبحون للكواكب، ومَنْ مسَّ المرأة الطامث يتنجَّس، وحرَّموا لحم الخنزير والكلب والحمار، ومن الطير غير الحمام، ويفرطون في كراهية الجَمَل، ولا طلاقَ إلا بحجَّة بينة عن فاحشة ظاهرة، ولا يرجع المطلقة، ولا يجمع بين امرأتين، ولا يطأهنَّ إلا لطلب الولد.
وعندهم أن الثواب والعقاب إنما يلحق الأرواح.
والنبي عندهم هو البريء من الذمومات، وينزل الغيث ويدفع الآفات عن النبات والحيوان.
وقولهم في الهيولى والعنصر والصورة والعدم والزمان والمكان والحركة كما قال أرسطاطاليس، وقولهم في السماء: أنها طبيعة خامسة ليست مركبة من العناصر الأربعة لا تضمحل، وقولهم في النفس: أنها دراكة لا تبيد وأنها جوهر وليست بجسم (كما في كتاب النفس).
وبالعراق أيضًا بمدينة الموصل الحافلة بأماكن الخرافة المحلية مثل قبر الست ملكة والنبي جرجيس بجوار سوق الشعارين، ومزارات السبعة الحدادين قريبًا من باب سنحار خارج السور في محل يُسمَّى السبعة الحدادين، يقول الناس إن فيه قبورهم، وكانوا إخوة يشتغلون بالحدادة.
وخرافات الشيخ الوسواس: «مَن ابتُلِيَ بالوساوس الشيطانية والعِلَل السودائية وزاره يبرأ.»
ومقام الخضر بجوار منبر الجامع النوري، ويقال: إن مَنْ صلى الصبح أربعين صباحًا يجتمع به.
والنبي شيت جنوب الموصل، وفي عام ١٢٣١ أعاد بناءه الوزير أحمد باشا عبد الجليل زاده.
عن ابن عباس قال: نودي الحوت: «إنَّا لم نجعل يونس لك قوتًا، إنما جعلنا بطنك له حرزًا ومسجدًا.»
قيل للنبي: إنك تحب القرع. قال: هي شجرة أخي يونس … فجعل يستظل تحتها.
كذلك يقال إن نبيًّا اسمه جرجيس قبره في الموصل، وإن تيمورلنك استخرجه وبنى عليه مسجدًا، ويقال إنه كان من أهل فلسطين. وعن ابن إسحق يقال: إنه كان ملكًا على الموصل. وعن الهمداني: ملك الشام كلها. وكانوا يعبدون صنمًا يقال له «أفلون».
موجز القول أن في إعطاء اهتمام ملحوظ أكبر للخرافة المحلية على طول بلداننا العربية، ودون مخاوف أو مخاطر الإغراق المفضي إلى النعرات من شوفينية وعنصرية، وانقسامات رأسية بعامة، بل من مدخل الإلمام وجمع الأشلاء الهادف إلى المعرفة بحقيقة واقعنا، وفي اتجاه المزيد من تجميع الروافد والقنوات الداعية إلى التجدد القومي العربي.
(بإزاء إعادة تمحيص مخلفات الماضي المندثر وموروثاته الموغلة من تكامُلها البنائي الطوطمي القرابي القبلي.
وفي اتساق محكم متسلط إلى أيامنا الماثلة، يقف مشهرًا كل أسلحة دفاعاته عن البنية الاجتماعية الطبقية اليوم والآن، بنفس ما كانه هذا التراث بالأمس المنقضي الذي قد يصل إلى عشراتٍ من قرون الهوان أو الوهم.)