الحكايات العربية الشفهية … والليالي١
إذا ما تعرَّضنا لتراث الحكايات العربية، فمن المرجَّح أن تكون ألف ليلة وليلة نقطة بدء طبيعية.
ذلك أن الليالي تُعَدُّ مخزنًا لا يَنْضُب معينُهُ لأي دارس في حقل الحكايات الخرافية والفولكلور بعامة، ومدى تأثيرها على أوروبا والعالم الجديد بخاصة، منذ أن اضطلع المستشرق الفرنسي أنطوان جالان منذ عام ١٧٠٤ بنقل النص العربي — الذي سبَقَ أنِ اكتشفه ليتمان — إلى الفرنسية، فاستحوذَتْ وأخذَتِ اهتمامًا كبيرًا في حقل الحكايات الخرافية، وحكايات الأصيل والخسيس، أو الأخيار والأشرار الثنائية، وتلك الرحلات العبورية والبطولية للأسفار والمخاطر، وحكايات المساخر والمرح والنوادر والفوازير والألغاز، بالإضافة إلى خرافات الجان والعفاريت وذلك العالَم السحري العربي الذي لا يختلف كثيرًا عن ملامح وخصائص نظيره الشفاهي لبلداننا العربية.
وإنْ كان التراث الشفهي للبلدان العربية يحتفظ أكثر فأكثر بالملامح المحلية — وَلْنَقُل: التاريخية والبيئية — لما وصلنا من تراث روافد الحضارات السابقة والمكونة في ذات الآن للتراث العربي السامي.
وبتبسيط أكثر فإن تراث الشفاهيات المصرية اليوم أقرب إلى خصائص وملامح الحكايات الخرافية والسحرية لمصر الفرعونية منه إلى ألف ليلة، وإنْ تبدَّى للجامع مدى تأثير الليالي وما أُشِيعَ وتسرَّبَ منها من ملامح وخصائص إلى الشفاهيات المتواترة على طول البلدان العربية.
كما أن ألف ليلة وليلة ذاتها ما هي سوى محصِّلة نهائية للحكايات العربية في الجزيرة العربية ودلتا مصر والشام والرافدين، بالإضافة إلى أن معظم المستشرقين الذين تعرَّضوا بالنقل والترجمة لألف ليلة وغيرها، قد استعانوا برُوَاةِ الحكايات العربية ذاتهم وحَفَظة نصوصها، حتى جالان نفسه الذي كان يجمع حكاياته من راوٍ سوري ماروني يُدْعَى حنا الماروني، وضمنها المخطوط الرابع المفتقد من نص الليالي، الذي اعتمد عليه ويرجع تدوينه إلى القرن الرابع عشر.
ويمكن القول بأن ألف ليلة وليلة لا يُعتبَر عملًا أو مؤلَّفًا عربيًّا خالصًا، بقدر ما هو مزيج بين التراثين الآري والسامي، فهو محصلة نهائية للتزاوج بين هذين التراثين، خاصةً إذا ما أخذنا في الاعتبار أن التراث الآري يشتمل لغويًّا على كلتا المنطقتين: الهندية والفارسية، ناهيك عن مدى التداخل بين التراثين العربي الإسلامي والفارسي.
ومن هنا أجدني أقرب إلى ترجيح أن النص العربي لألف ليلة وليلة — ويقع في أربعة أجزاء فُقِدَ جزؤه الرابع — ما هو سوى كتاب «هزار أفسان» الفارسي الذي تُرْجِمَ إلى العربية في القرن الثامن في بغداد، وهو ما انتقل إلى مصر وعُرِفَ بألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر الميلادي.
والأمر لا يبعد كثيرًا عمَّا ذكره ابن النديم — الفهرست — حول هذه الواقعة.
ولعل من الطريف هنا أن معظم الكُتَّاب الكلاسيكيين العرب أصبحت كتاباتهم منهلًا خصبًا للدراسات الفولكلورية يُسْتَشْهَد بها في مختلف حقوله، سواء الأسطورية أو تقسيمات الحكاية من خرافية لطوطمية، بدءًا بوهب بن منبه، وابن الكلبي، وابن حجر، وابن ماجه، والطبري، والمقريزي، وابن إسحق، والثعالبي، والقزويني، ناهيك عن حكايات الحيوان والطير عند الجاحظ والدميري وابن المقفع والعشرات غيرهم.
وقد يكون مفيدًا الاستطراد فيما ذكره ابن النديم في أول وأهم قاموس عربي: الفهرست، استنادًا إلى الموسوعي العربي محمد بن إسحق، مع ملاحظة ذكره لبداية رصد الأصول الأولى لألف ليلة وليلة، والتداخلات بين التراثين العربي والفارسي الآري.
وليس هذا بالتحديد غرضنا من استعارة هذا الجزء عن فهرست ابن النديم، بقدر ما أن غرضنا هو مدى خصوبة المدونات العربية التي ضاع معظمها وافتُقِدَ من المواد الفولكلورية، بينما يمكن في ذات الآن افتراض أن معظم هذه المواد انتقل مخزونه إلى الذاكرة الجمعية الفولكلورية لبلداننا العربية الآنية، وسيوقفنا دأْبُ البحث على الكثير.
وسأورد فيما يلي شذرةً بسيطةً اقتطفتُها من فهرست ابن النديم حول أسماء المؤلَّفات من شعبية وفولكلورية، ما ضاع واندثر منها، وما لا يزال في عداد نصف المليون مخطوطة عربية التي لم ترها المطبعة إلى أيامنا منذ المعرفة بها في القرن ١٦.
قال ابن إسحق: أول مَنْ صنَّف الخرافات وجعل لها كتبًا وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان: الفُرْس الأُوَل، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفُرْس، ثم زاد بعد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقله العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء فهذَّبوه ونمَّقوه وصنَّفوا في معناه ما يشبهه.
وأول كتاب عُمِلَ في هذا المعنى هو كتاب هزار أفسان، ومعناه ألف خرافة، وكان السبب في ذلك أن ملكًا من ملوكهم كان إذا تزوَّج امرأة وبات معها ليلةً قتلها من الغد، وتزوَّج بجارية من أولاد الملوك ممَّن لها عقل ودراية يقال عنها: شهر زاد، ابتدأت تخرفه وتصل الحديث بما يحمله على استبقائها إلى أن أتى عليها ألف ليلة وهو مع ذلك يَطَؤها إلى أنْ رُزِقَت منه ولدًا. وقد قيل إن هذا الكتاب أُلِّفَ لحماني ابنة بهمن، ويرى ابن إسحق أن أول مَنْ سمر الليل الإسكندر، واستعمل الملوك من بعده كتاب «هزان أفسان» ويحتوي على ألف ليلة. يقول ابن النديم: «وقد رأيته بتمامة دفعات، وهو في الحقيقة كتاب غث بارد الحديث.» قال ابن إسحق: ابتدأ أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري — صاحب كتاب الوزراء — بتأليف كتابٍ اختار فيه ألفَ سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره، وأحضر السامريون فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويُحسِنون، واجتمع له ٤٨٠ ليلة، كل ليلة سمر تام يحتوي على ٥٠ ورقة، ثم عاجلته المنية قبل أن يتمَّ تتمة ألف سمر، ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي.
وكان قبل ذلك ممَّن يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم جماعةٌ منهم: عبد الله بن المقفع، وسهل بن هارون، وعلي بن داود كاتب زبيدة وغيرهم، وقد استقصينا أخبار هؤلاء وما صنَّفوه في مواضعه من الكتاب.
فأما كتاب كليلة ودمنة فقد اختُلِفَ في أمره، فقيل: عملته الهند، وخبر ذلك في صدر الكتاب. وقيل: عملته ملوك الأشكانية ونَحَلَتْهُ الهند. وقيل: عملته الفرس ونحلته الفرس. وقال قوم: إن الذي عمله بزرجمهر الحكيم.
ولا بأس بالطبع من مجرد رصد عينات لا غير مما أورد ابن النديم في موسوعته الفهرست من مواد فولكلورية مدوَّنة.
ومن كتب الفرس: خرافة ونزهة، الدب والثعلب، روزيه اليتيم، مسك زنانة وشاه زنان، نمرود ملك بابل، خليل ودعد. وفي السِّيَر كتاب: رستم وأسفنديار ترجمة جبلا بن سالم، بهرام شوس (جبلة) شهريزاد مع أبرويز، الكارنامج في سيرة أنوشروان، كتاب التاج، دارا والصنم الذهب، كتاب اثنين نامة، خداي نامة، بهرام ونرسي، أنوشروان.
أما كتب هؤلاء الذين نذكرهم ألَّف أخبارهم جماعة مثل: عيسى بن دأب، والشرق بن القطامي، وهشام الكلبي، والهيثم بن عدي وغيرهم، وكتاب مرقس وأسماء، وكتاب عمرو بن عجلان وهند، وكتاب عروة وعفراء، وكتاب جميل وبثينة، كتاب كثير عزة، كتاب قيس ولبنى، كتاب مجنون ليلى، كتاب توبة وليلى، وكتاب الضمة بن عبد الله وريا، كتاب ابن الطثرية وحوشية، كتاب ملهى وتعلق، كتاب يزيد وحبابة، كتاب قابوس ومنية، كتاب أسعد وليلى، كتاب وضاح اليمن وأم البنين، كتاب أميم بن عمران وهند، وكتاب محمد بن الصلت وجنة الخلد، كتاب العمر بن ضرار وجمل، كتاب باكر ولحظة، كتاب مليكة ونعم وابن الوزير، كتاب أحمد وداحة، كتاب الفتى الكوفي مولى مسلمة وصاحبته، كتاب عمار وجمل وصواب، كتاب المعمر بن ملك وقبول، كتاب عمرو بن يزيد الطائي وليلى، كتاب علي ابن إسحق وسمنة، كتاب الأحوص وعبده، كتاب بشر وهند، كتاب عاشق الكف، كتاب عاشق الصورة، كتاب عبقر وسحام، كتاب إياس وصفوة، كتاب ابن مطعون ورتيلة وسعادة، كتاب المخزومي والهذلية، كتاب عمرو بن العنقير ونهد بن زيد مناة، كتاب مسرة وليلى، كتاب ذي الرُّمَّة ومي، كتاب طرب وعجب، كتاب المعذب والغواء والطيرة، كتاب سحر اللهو وسكر، كتاب أحمد ومسنا، كتاب عباد الفاتك وفنك، كتاب أحمد وزين العصور، كتاب ذوب ورحيم، كتاب سهل وسليمة، كتاب الكاتب ومنى، كتاب عسى وسراب، كتاب عاشق البقرة، ريحانة وقرنفل، رقيقة وخديجة، مؤيس وذكيا، سكينة والرباب، العطريفة والدلفاء، هند وابنة النعمان، عبدة العاقلة وعبدة الغدارة، لؤلؤ وشاطرة، نجدة وزعوم، سلمى وسعاد، صواب وسرورا، الدهمة ونعمة، المصري والمكية، عبد الله بن جعفر والشجرة المكتوب عليها، الوجيهة والأعرابي، الفتى والمرأة التي رمت بالحصاة، سليمان وشيبان، المرأة وإخوتها والرجل الذي هواها، كتاب الكردوجية وابنة الكاهن، الأخوَيْن العراقة والمدني، المتجرد في النساء، حسن واللص الإسرائيلي، حافية ابنة هاشم الكندي، كتاب المخنث والفتاة التي عشقته.
وقال لي مَنْ رأى السَّحَرة بأرض مصر وبها بقايا ساحرِين وساحرات: وزعم الجميع من المغرمين والسَّحَرة أن لهم خواتيم وعزائم ورُقًى وصنادل وحزابًا ودخنًا وغير ذلك مما يستعملونه في علومهم.
ويقال: إن سليمان بن داود أول مَن استعبد الجن.
وكان يكتب لسليمان بن داود آصف بن برخيا وهو ابن خالة سليمان عبراني، ويوسف ابن عيصو عبراني، والهرمزان بن الكردول فارسي وعبراني.
- (١)
لوهق بن عرفج، قديم وله من الكتب كتاب طبائع الجن ومواليدهم.
- (٢)
آريوس بن أصطفانوس بن بطلينس الرومي، ويُلقَّب برشيد قومه، وكان من علماء الروم بالعزائم، وله من الكتب كتاب يذكر فيه أولاد إبليس وتفرُّقهم في البلاد، وما يختص به كل جنس منهم في العلل والأرواح.
- (٣)
ابن هلال، وهو الذي فتح هذا الأمر في الإسلام، وله من الكتب: كتاب الروح المتلاشية وكتاب المفاخر في الأعمال.
وابن الإمام، وأبو خالد الخراساني، وابن أبي رصاصة، وابن وحشية الكلداني وهو من ولد سنحاريب، وله من الكتب: كتاب السحر الكبير، وكتاب دورا على مذهب النبط وكتاب مذاهب الكلدانيين.
ويُلاحَظ مدى الاتصال بين أشلاء الحضارات العريقة السابقة على الإسلام بعشرات القرون، من كلدانيين وآشوريين وعرب نبطيين، وهذه الشرائح الشعبية الجمعية الإسلامية، ومنها عيون تراثه ومخزونه في حقل الحكايات، بدءًا بألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، وانتهاءً بالآلاف المؤلَّفة من المدونات التي آثرنا عدم الاستطراد في إيرادها والاكتفاء بما ذكرناه، وإلا لَاحتجنا إلى أضعاف هذا الكتاب؛ نظرًا لضخامة هذه التركة الخرافية الفولكلورية للأقوام والحضارات والكيانات المنصهرة على رقعة بلداننا العربية بتراثها المتوارَث المتواتر منذ عصور ما قبل العلم.