علاقات قرابية وزواج
أجدني حريصًا في تناولي لتراثنا العربي السامي في كل مرة من مدخله الاتصالي الأُسَري القرابي القبلي.
وهو كما سبق إيضاحه منطلق صحيح طالما أن الخصيصة الاستراتيجية له — أيْ هذا التراث العربي السامي برمته — قبائلية في المحل الأول.
وطبيعي أن لا يقتصر بحثنا عن البنية القرابية أو القبلية على ميكانزم العلاقات بين الجماعات القرابية كالبدنات وفروعها العائلات الكبيرة، والبدنة — كما يعرِّفها الأستاذان إيفانز برتشارد وفورتس — وحدة دائمة تظل موجودة على مر الأجيال؛ نتيجةً لانضمام أفراد جدد إليها، أو تركهم لها بالموت أو أي سبب آخر، فالبدنة أو العمارة جماعة ترد انتسابها إلى جد واحد في خط واحد، ومنها بالضرورة يستمد الشخص مركزه السياسي والقانوني.
وتشكل العلاقات القرابية والزواج جانبًا ملحوظًا في تراثنا.
ولعلها فكرة أساسية مصاحِبة للإقدام على الزواج؛ فكرة أن يطرح والد العريس أو العروسة لغزًا أو حذرًا عويصًا يواجه به ابنه — الذي عادةً ما يكون وحيدًا — للامتحان العسير، كأنْ يطالبه في «شطارة العريس» بأن يعطيه ٢٠ جنيهًا، على أن يشتري منها الابن — العريس — ذبيحة، يحضر منها «رطلين لحم» ورطلين عضم، والذبيحة صاحية كما هي.
ويتزوَّج الابن بعد أن وُفِّق في شراء الذبيحة، وأخذ رطلين لحم من إليتها، واثنين من قرونها، والذبيحة كما هي.
وقد يلجأ الابن العريس ذاته إلى الدخول في امتحان، كما في حكاية بائع الكلام حيث اشترى البطل بالثلاثين جنيهًا مهر عروسته، ثلاث كلمات أو نصائح من بائع أو ناصح كلام، بما يذكرنا بالحكاية الطوطمية: نصائح الطائر الثلاث، مقحمًا نفسه في خارقة جان استطرادية مهاجرة الجزئيات، حين يقبل العمل عند صاحب طاحون مهجور مسكون ببنات الجان، اللاتي يظهرن له طارحات جزئية وقوع البطل في أحبولة تفضيل امرأة على أخرى، المصاحبة للحروب الطروادية، هنا يتذكَّر الشاطر النصيحة الأولى: «حبيبك اللي تحبه ولو كان عبد نوبي»، أما النصيحة الثانية: «من آمنك لا تخونه ولو كنت خاين.»
وتتسبَّب النصيحة الأخيرة الثالثة: «ساعة الحظ ما تتعوضش» في إفلاته من الموت.
وعادةً ما يتم لقاء البطل العريس بعروسه عند آبار وموارد المياه الموردة كما حدث لإسحق ويعقوب مع راحيل أم النبي يوسف، ثم موسى مع زوجته صفوة ابنة شعيب كاهن مَدْيَن.
فالزوجة المبروكة التي تثبت الحكاية حرصها على شرفها في الجزئية الاستطرادية للتاجر الخواجا المصري، أو اليهودي في المتنوعات السورية والعربية عامةً، الذي يراودها — أيْ أن تستولي على أملاكه — كما تكشف الحكاية عن ذكاء الزوجة الذي أعجز القاضي في جزئية قطع رطل اللحم من جسد البطل، التي استعارها شكسبير في مسرحيته تاجر البندقية، وتصادفنا كثيرًا في تراث الحكايات الشرقية، حين أشارت على القاضي: «اقطع رطل اللحم، وإذا ما قطعته زايد عن الرطل، قص الفائض من جسد الخواجا، أما إذا لم يزن رطلًا، استكمل الباقي أيضًا من جسد الخواجا.»
وهكذا أعجزت الفتاة كلًّا من القاضي والخواجا أو اليهودي، الذي تنازل فورًا عن قضيته وهرب بجلده.
فمن قسمات تراث الحكايات العربية، سواء في مصر أو الشام أو الشمال الأفريقي بعامة، هو أن سعد الرجل — الزوج — أو شقاءه وهبوطه يرجع إلى زوجته.
وفي حكاية «هذا من امرأته» تثبت الحكاية أن في مقدور الزوجة — ابنة الملك — أن تصعد بزوجها من هوَّة الفقر والعجز والغباء إلى أعلى مراتب العز والغنى «وكله من امرأته».
لكن يُلاحَظ ثبات وجوهرية الإدانة الأزلية للمرأة، من قِبَل الرجل طبعًا، منذ أساطير الخلق السامية الأولى، فحتى في التحولات الشعائرية السحرية المرأةُ دائمًا حية رقطاء. وفي حكاية فن النساء الذي غلب فن الرجال، تنتصر الفتاة بعد أن تسبَّبَتْ في أن يتزوَّج بطل الحكاية الفتاةَ الكسيحة.
أما كبيرة الكبائر المدانة البغيضة في تراث حكايات القرابة والزواج، فهي المرأة الفتانة، فالحرَّاث الفقير الذي استلفت نظر الملك المتنكر ووزيره حين كان يحرث حقله، «وفي بطن الحقل يرقص رقصة، وفي صدرها أخرى»؛ نظرًا لأن نساءه الثلاث يُرِحْنَ باله، حتى إن الملك أقدَمَ على أخذ نسائه الثلاث وإعطائه غيرهن؛ لكي يتعرَّف سرَّ حب النساء له، فكان أن أقدَمَ الفلاح الحراث على خنق المرأة التي خصالها الفتنة، بينما أبقى على الفتاتين: الزانية واللصة، مُطلِقًا لهما التعبير عن أنفسهما.
ويُلاحَظ أن الحكاية التي يتضمن موضوعها على تعدُّد الزوجات لا تقيم وزنًا لعلاقات الزواج، بقدر ما تشير إلى انحدارها من عصورٍ طابعُها السبْيُ والنخاسةُ.