نوح وزوجته والشيطان
ليس من السهل إغفال إحدى السمات الجوهرية للتراث السامي لأساطير وحكايات وفابيولات الطوفان المتوارَث بدوره، منذ أن جاء بالعديد من جزئياته وموضوعاته النصُّ السومري لملحمة جلجاميش.
وإذا ما تتبعنا تفاصيل الطوفان كعقاب منذ بذرته السومرية الأولى وفي التراث البابلي، وما انتهى إليه في المدونات العبرية: التوراة والتلمود «البابلي» والمدراش، ثم التنويعات المسيحية والإسلامية، وانعكاسها في تراث الحكايات الشفاهية المعاش على طول بلداننا العربية؛ لَوجدنا أنه — الطوفان ومأثوراته — يستحق وقفةً خاصة.
ولا بد هنا من تأكيد حقيقة مهمة، هي أن موضوع الطوفان واحد أو أيتم من أساسيات أساطير الخلق المبكرة جدًّا عند مختلف الشعوب، فالطوفان بداية لخلق أرض موعودة جديدة، كما أن من المفيد التذكير بأن موضوع الطوفان ليس بقاصر على تراث الآداب والأساطير السامية، وهو ما كشفت عنه بوضوح التسجيلات الفولكلورية عند مختلف الشعوب.
فمنذ عام ١٩١٤ سجَّل جامع الحكايات الباحث بول رادن نصًّا لخرافة طوطمية من أوتاريو، يقول النص: «إن الإله المهذب نيبوجو — الذي جاء بالأصداف الجميلة الباهرة وزيَّن بها الأسماك — غضب عندما أفشى إليه طائرٌ عملاق بنبأ أن سباع البحر افترست أخيه.
فانتقم منهم نيبوجو بأنْ كَمَنَ لهم وقطع أشلاءهن، وألقى بها في مجاري المياه، حتى فاضَتْ وأغرقت الأرض، فصنع نيبوجو مركبًا، وأخذ من كل نوع أو زوج اثنين، وبعد فترة قال لنفسه: «أعتقد أن طوفان الماء لن يتوقَّف، ومن الأفضل أن أصنع أرضًا جديدة».»
وتتداخل هذه الجزئية الفولكلورية عن الطوفان كانتقال حضاري لأرض جديدة، مع جزئيةِ خلقٍ تتصل بأساطير خلق الإنسان الأول، حين يرسل الإله حيواناته — حشراته — البحرية الثلاثة؛ لتحضر له الطمي، وكالعادة يفشل الرسولان الأولان وينجح الثالث حين يحضر الطمي من أعماق الماء الفطري، وهو ما تناولناه في مدخل سابق.
وفي القصة عديد من الجزئيات والعناصر — المعارف — البدائية الأولى، وتأثير القصة الأم مثل الطوفان كعقاب، وأزواج الحيوانات والطيور وسقوط الغراب، ثم الحيوان غواص الأرض الذي أعاد خلقها.
وهناك بعض التشابه مع حكايات الطوفان والخلق الهندية المُغرِقة في القِدَم مع نصوصنا العربية السامية.
فقد طلب إله الطوفان — عقب الوصول — من الراكبين من نزولهم سد الطريق على الشيطان الذي تسلَّل نازلًا، وواجَهَ الإله بأنه عدوُّه اللدود رغم أنه أخيه الأصغر، وطلب منه الإله الغوص في أعماق الماء وإحضار حفنة من ترابها ليخلق الله العالم الجديد بعد الطوفان، وأطاع الشيطان وحاوَلَ مرات ثلاثًا إحضارَ التراب، لكنه عندما فشل في المرة الرابعة أمره الإله بأن ينطق هذه الكلمات ليحقِّق عمله: «يا إلهي السيد المسيح.» وأخيرًا ينجح الشيطان في إحضار التراب ويخلق الإلهُ العالَمَ.
هذه القصة بحسها المسيحي وثنائيتها الإيرانية تُحْكَى في سيبريا ومختلف البلدان المسيحية، بل إنها تُرْوَى بين بعض الشعوب، على أن يأخذ المسيح مكان الخالق، ويطلب من الشيطان إحضار التراب، وعندما يحزن الشيطان رافضًا يضربه المسيح على مؤخرة عنقه، فيندفع الطين من أحشائه إلى فمه مشكِّلًا الجبالَ المحيطة بالأرض منذ الأزل. أما في النصوص العربية السورية والفلسطينية، فتأخذ الحية — فتن — مكانَ الشيطان في تشكيل السهول والجبال.
وفي أسطورة «أفاناسييف» — التي سجَّلها في القرن التاسع عشر — لحكاية أم ترجع لثلاثة قرون سابقة في مصدرها، فإن نوح يأخذ مكان آدم في اقتحام تابو التفاحة المحرمة بإيعازٍ من زوجته «إيفجا»، فقرَّر الله على الفور أنْ يرسل الطوفان، وطلب من نوح أن يبني الفلك على أن يبقى هذا سرًّا، فبناه نوح في سنوات طويلة في الغابة المهجورة، وعندما سأله الشيطان: ماذا يفعل؟ رفض نوح إبلاغه، فتعقَّب الشيطان زوجتَه إيفجا ليعرف منها حقيقة ما يفعله نوح في الغابة، وعندما أتمَّ نوح صنع الفلك وأخبر كل الناس، فكان أن دمَّرَ الشيطان الفلك بمساعدة الزوجة، لكن بعد ستة شهور بناه من جديد ودُمِّر، وفي المرة الثالثة نجح، وعندما دخلته أزواج الحيوانات، تسلَّلَ الشيطان في هيئة فأر إلى داخل الفلك مستعينًا بمساعدة الزوجة في تخدير نوح بالشراب ومعرفة السر؛ مما ألحَقَ النكبات به عن طريق المرأة التي يدعوها حواء، ويحدث خلط بينها وبين الحية على عادة النصوص الإسلامية والعبرية.
ثم دُمِّر المركب ثانيةً بعد أن كاد نوح أن يُفْشِي السر، فجاءه صوت يأمره بالتوجه إلى وادٍ معين مهجور ويبني الفلك، وحيث تنتشر أصوات الدق والصدى في كل الأرض.
ويفسر أصوات الدق والعمل هذه في عديد من النصوص الشرقية المتنوعة على أنها الأصل الأول لصدى الصوت، كما تفسر بعض النصوص تسلُّل الشيطان إلى الفلك بواسطة زواجه — أو عشقه — من الزوجة اللعينة.
يقول سميث تومبسون: «ومثلما تفعل طرق الأسفار الطبيعية نتبع الحكايات هذه الطرقات الطبيعية في عبورها للمخالطة الحضارية الأكثر أهميةً، وهي تفعل هذا ممتدة عبر المياه، حتى لو كانت هناك طرقات أكثر يسرًا يمكن أن تغزو عن طريقها الأقطار المجاورة لحضارات مجاورة.»
وكثير من الحكايات الألمانية اتخذت هذا الأسلوب في هجرتها إلى السويد مباشَرةً دون أن تلمس الدنمارك، «ونحن لا نحتاج هنا إلى إظهار أن هناك عديدًا من الطرق التجارية بين دول البلقان»، متضمنة ومحتوية روسيا وبعض الجزر الإنجليزية والأيرلندية التي يلتقي فولكلورها عند سمات وقسمات متقاربة.
فخلال الدراسات المضنية التي أُجْرِيت على جزئيات الحكايات النوحية؛ لُوحِظ من خلالها أن القفزات التي تُحْدِثها الرحلات والهجرات للحكاية مرةً واحدة، تضمن تغيُّرات بدرجة أقل لجزئيات الحكاية، منها في حالة الهجرات والانتقالات البطيئة الرتيبة عن طريق الأسفار البرية، كما أن نفس هذا القانون يجري سريانه في حالة الاحتفاظ بالأماكن والأسماء وما يُعْرَف بشعائر الانتقالات في حالة الأسفار البحرية، بينما تتعرَّض هذه السمات وتصبح عرضةً لتدخلات ومزواجات وتغييرات في حالة الأسفار البرية.
ولعل هذا ما كشفت عنه الدراسات التي تُولِي اهتمامًا أكبر لفولكلور الشرق الأوسط أو العالم العربي، التي كثيرًا ما يطلق عليها البعض بالمدرسة الشرقية، خاصةً ما صاحَبَ جزئيات وتيمات الطوفان.
فلقد جاءت التغيرات طفيفة، كأن يستبدل الحمار بالبعير، في حالة خداع زوجة نوح لنوح في مساعدة الشيطان على التسلُّل إلى داخل الفلك في النصوص العربية المهاجِرَة إلى ألمانيا.
وصاحبت معظم هذه التغييرات النصوص الشفهية خلال هجرة حكاياتنا من الشرق إلى الغرب، كاختلاف الحيوانات الشارحة على ظهر الفلك، ثم وهي تواصل هجراتها من الغرب إلى أوروبا بعامة، عن كيف أن الفيل عطس خنزيرًا، والأسد قطة، وهكذا.
كذلك عُثِرَ على نص ألماني يشير مفسرًا الأسباب التي جعلت جِلْد الحاميين والشعوب السوداء بعامة أسودَ.
وهو على عكس التمجيد الذي أضفاه هذا التراث القبلي على الساميين أصحاب الوبر من عرب وعبريين.
وفي عديد من النصوص يأخذ نوح مكان آدم ويتطابق معه، ويروح إبليس يُغْرِي الزوجة ويدفعها إلى أن تدفع نوحًا بدورها للأكل من الشجرة المحرمة، بما يدفع الله لأن يسلِّط عليهم الطوفان كعقاب.
وتتوالى جزئية أو فكرة غواية الشيطان للزوجة بشكل متوالٍ في أغلب الأساطير السامية، فالشيطان هو الذي وسوس لامرأة لوط حين هجر لوط قومه وفرَّ مهاجرًا ومعه أهل بيته، فأرسل العذاب على مدينة «سادوم وقراها الخمس»: «عمرة وأدماء وصبويم وبالع»، حين سمعت المرأة أصوات خراب المدينة، فصرخت: «وا قوماه!» وكان أن تحوَّلت إلى عمود ملح.
وفي أحد النصوص التي تتعرَّض لغواية الشيطان لرحمة — أو ناعسة — امرأة أيوب، يقول النص: «إنه كان ﻟ «أيوب بن زارع بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل» زوجة اسمها «رحمة»، وكان أيوب صاحب أموال عظيمة، وكان له ملك البثينة جميعها وهي من أعمال دمشق، فابتلاه الله بأن أذهب أمواله حتى صار فقيرًا، وهو مع ذلك صابر على عبادته وشكره، ثم ابتلاه الله في جسده حتى تجذَّم ودوَّد، فبقي مرميًّا على مزبلة لا يطيق أحدٌ أن يشمَّ رائحته، فكانت زوجته تخدمه وهي صابرة على حاله، فتراءى لها إبليس وأراها ما ذهب لهم، وقال لها: اسجدي لي لأردَّ مالكم إليكم. فاستأذنت أيوب فغضب وحلف ليضربها مائة، ثم إن الله تعالى عافى أيوب ورزقه وردَّ إلى امرأته شبابها وحسنها، وولدت لأيوب ستة وعشرين ذكرًا، ولما عُوفِي أيوب أمره الله بأن يأخذ عرجونًا من النخل به مائة شمراخ فيضرب به زوجته؛ ليبرَّ في يمينه.»
وما يمكن ملاحظته في ذلك النص، هو أن إبليس أرى الزوجة «رحمة» ما ذهب لهم؛ بمعنى أنه هو الذي كان قد سلب عنهم أموالَهم وعزَّهم.
وأصاب أيوب بالداء، وفي مقدوره ردُّ ما أخذ لو أن المرأة سجدت له.
فالعلاقة بين المرأة والشيطان تتواتر بكثرة شديدة — خاصةً في نصوص وأساطير الخلق والطوفان الأولى — عند عديد من مِلَل ونِحَل الشعوب والقبائل السامية العربية.
وما يهمنا هنا هو هذه الفكرة السومرية، وهي فكرة توحُّد الشيطانة ليليت بالحية، وليليت هي ما عُرِفَت عند الساميين بحواء الأولى، والتي عادت بدورها فتوحَّدت بالحية، خاصةً عند القبائل العبرية، ففي التوراة أن أصل الإنسان من الحية، والحية من الجن. وتردَّدت هذه التضمينة في عديد من أسفار الخلق والبدء عند أغلب مِلَل ونِحَل الشرق الأدنى، خاصةً بالنسبة لنوح وزوجته والشيطان؛ لتحقيق مقولة المنتجات الروحية، وانسلاباتها المتوالية المتكافئة البنية، بدءًا بالانسلاب الذكري للمرأة أسطوريًّا طبعًا، وبالضرورة ماديًّا طبقيًّا اجتماعيًّا؛ حيث تُعامَل المرأة كنصفٍ، سواء بالنسبة للإرث أو الشهادة.