موسى
وتتبدَّى شخصية النبي موسى في الفولكلور حاضرة على الدوام على عادة شخصيات أو آلهة الأساطير، مثل: أندرا، وزيوس، وبوذا، والخضر، والأقطاب الأربعة في الوجدان الطقوسي العربي.
سيدنا موسى، ماشي في يوم رايح يقابل ربنا، رجل فقير انتظره في الطريق وطلب منه أن يسأل له ربنا، فلان ابن فلانة، مالوش عندك رزق، أكثر مما هو فيه …
وتستمر الحكاية على هذا النحو في حوار بين الرجل الفقير والرب، والوسيط هنا هو موسى كليم الله.
وبرغم تواكل هذا النص الوعظي والآلاف غيره في الإشارة إلى أن الرزق لا يُعْطَى إلا للأتقياء، وربطه الأخير في أن الأوضاع الطبقية — من فقر لثراء — لا دخل فيها للإرادة وهكذا، إلا أن المُلفِت في هذا النص هو أنه أسطوريٌّ نادر ندرةَ الأساطير في التراث العربي الشفاهي المعاش.
فتتبدَّى شخصية موسى في هذه الحكايات كشاهد خفي أو قدري على ما يحدث، كما يتضح من حكاية «القاتل والمقتول وموسى».
وكيف أنه كان دائم التردد على جبل «الملاغاة» ليسأل: «يا رب جيت أسألك.» فظهر له ربنا وقاللو: «اسأل يا موسى.»
وهي عادةً ما تكون حكايات قاسمها المشترك هو القدر والقدرية كمَلْمَح جوهري لتراثنا العربي.
كما أن في مقدور موسى أن يتصل بعالم الموتى، ويقيم حوارًا مع الميت كما في حكاية «موسى والعبد».
وفي تصوري أنه نص عبري قد يرجع تاريخه إلى تواجد القبائل الرعوية العبرية في مصر حوالي منتصف الألف الثانية ق.م.
ذلك أن ملكًا أو فرعون قاسيًا كان ينكل بعبده الصالح المطيع؛ حيث ربطه في طاحون مهجور، أو كما يذكر راوي هذا النص: ربطه في هودية. وفي نص ثانٍ ينطقها الراوي أن الفرعون ربط عبده في «يهودية».
ويبدو أنها كانت بمثابة آلة تعذيب مرتبطة باليهود وأساليب تعذيبهم من قِبَل فراعين مصر، مع الأخذ في الاعتبار أن هؤلاء الفراعين كانوا في تلك الفترة دخلاء على حكم مصر.
المهم أن ذلك الملك مضى يعذِّب وينكِّل بعبده ليلَ نهارَ، إلى أن ظهر له سيدنا موسى ورثى لحاله، وطلب من الملك أو الفرعون الرحمةَ له فرفض، بينما أخبره العبد مستكينًا: «كله حايزول.»
ومرت الأيام إلى أن أصبح العبد ملكًا عن طريق حذر أو لغز تتردَّد تنويعاته كثيرًا في الحكايات المصرية، وإلى حد في نظائرها العربية، وهو حلول طائر في فمه خيوط من الزمرد، وحطه على رأس العبد الذي أصبح ملكًا حكَمَ قومَه إلى أن مات، وزار قبره موسى، وأخبره عن حاله فأخبره بأنه في نعيم دائم.
فمن سمات موسى في الشفاهيات السامية أنه دائم التواجد والحضور لإنصاف المظلوم والمقهور والمنكوب، كما أن له خاصية الخلود، مثله مثل مرافقه عبر الرحلات العبورية الخضر، إلا أن ما يميِّزه على الخضر وغيره من الشخصيات الطقسية هو خاصية ظهور الرب له وحواره معه، الذي قد ينمُّ في بعض النصوص عن تقريع الرب له، كما في «موسى والزانية» التي حملت في الحرام ووضعت طفلًا سفاحًا في خلاء الجبال، وحرقت المولود وذرَّته في الهواء.
وفي بكور اليوم الثاني خرجت لموسى في خلا الجبال وجلست له في طريقه وسألته: «رايح فين؟» قال موسى: «رايح أقابل ربنا، عندي ميعاد معاه.»
فطلبت منه أن يسأل لها الإله كيف تتصرف بعد أن حملت حرامًا وولدت وحرقت ابنها، وعندما ينسى موسى — أو هو يتناسى — بدافع الحياء والخشية أن يسأل لها الرب ثلاث مرات، يبادره الرب ذاته في المرة الرابعة: «يا موسى، لمَّا بني آدم يحمِّلك أمانة توصلها لي، لِمَ لا توصلها؟» وعندما برَّر له موسى خشيته، قال له الرب: «إنت اختشيت من البنت الزانية دي، وهيه ذنبها أخف من ذنب أمك.»
وحكايات موسى بشكل عام مع الخطايا والزانيات تنتهي، خاصة النص الذي أورده بكثرة الكُتَّاب الكلاسيكيون العرب، مثل: الطبري والمقريزي والثعالبي عن الزانية الحامل التي استعان بها قريبه الغني صاحب الكنوز «التي تسد عين الشمس» قارون، لكي تواجه موسى يومًا وهو يخطب في الناس في الأسواق قائلًا: «لا تكذبْ، لا تَزْنِ.» وهنا تعترضه الزانية معرية بطنها وفرجها على رءوس الأشهاد ومواجِهَة بأنه «يخطب في الناس: لا تكذبْ، لا تَزْنِ، وابنك في بطني يا موسى.»
وتستمر الحكاية الشفاهية بعد ذلك دون اختلاف كبير عن نظيرتها المدونة في مواجهة الزانية له.
لكن ما يلفت النظر في نصوص الحكايات الاستطرادية التي تحكي عن صراع موسى مع فرعون الذي وُلِدَ في عصره، وكيف أن والد ذلك الفرعون كان اسمه «مصعب»، وأنه كان راعيًا للأبقار والأغنام إلى أن تنبَّأَتْ له بقرة بأن مولودًا من صلبه سيكون من أهل جنهم، وتحقَّقَتِ النبوءة حين ولدت زوجته ولدًا شقيًّا اسمه «عون»، عندما كبر أصبح قاطعًا للمقابر وفرض إتاوة على الموتى، إلى أن صارَعَ ملك مصر وقتله واستولى على العرش، وأصبح فرع: عون أو فرعونًا، ووصل به التكبر إلى حدِّ أنه طالب شعبه بالسجود له قائلًا: أنا ربكم الأعلى.
ويُلاحَظ هنا أن هذا النص يحفظ لوالد موسى عمران أنه كان يعمل وزيرًا لفرعون ملازمًا له، حتى إنه ليلة مولد موسى خبَّرت السَّحَرةُ فرعونَ وحدَّدت له أن الولد الذي وُلِدَ في تلك الليلة هو قاتله، حتى هاجمت جيوشه بيت الوزير، فألقت أم موسى — وكانت تخبز — بابنها في شروقة الفرن المشتعل، وحين أخرجته عقب التفتيش كان يضحك لها، إلى أن صنعت له صندوقًا «على قده»، وألقت به في النيل (وهي كما يُلاحَظ جزئية أوزيريسية).
بإزاء شخصية الأم، لقد حاول مرارًا انتزاع الطفل موسى من أحضانها ليقدِّمه لفرعون بنفسه لكي يقتله.
كذلك يلعب لبن ثدي الأم دوره السحري كأثر — أو أتر — سحر المشاركة كشيء مستمر الاتصال بحسب تفسير فريزر.
فقبل أن تضعه الأم في الصندوق، طلبت من الله ثاكلة أن يردَّ لها لبن الدفاتن إلى أن استقر الصندوق بالطفل داخل سراية فرعون المشادة على النيل، وكيف أنه أشفى ابنة فرعون من برصها.
كذلك يكشف لنا هذا النص، كيف أن زوجة فرعون السيدة آسيا كانت على نقيضه، وأنها كانت «مسلمة» وأنها كانت جميلة، وكانت بكرًا «لها ٣٦٠ ضفيرة يعجبوا العايقين» بعدد أيام السنة القمرية.
وهنا يُرْسِي النص ملامح موسى كتاجر سامي، مثله مثل سالفه يعقوب مع خاله لابان بن ناحور، الذي اعتبره فريزر مثالًا للتاجر السامي الحريص على الكسب.
فلا يغفل هذا النص الشفهي الذي جمعته من رواة الفيوم، كيف أن اختيار موسى لإناث الغنم ملأ الدنيا عليه بالغنم والثراء.
كذلك لا يُغْفِل النصَّ الشارة السلفية لموسى، وهي عصاه التي أهداها له شعيب قائلًا: «دي عصا آدم اللي جبرين نزلو بها من الجنة، حافظ عليها يا موسى دي بالليل تغنيلك وتسليك وتنور لك طريقك وتنصرك على أعداءك.»
ويمتاز هذا النص باحتفاظه بأحداث وجزئيات مضافة على ما ورد، سواء في المدونات العبرية أو الإسلامية — فيما بعدُ — من ذلك ولادة زوجة موسى، حين أخذها عائدًا إلى مصر بجوار جبل الطور، وحين تركها ليبحث لها عن ماء أو نار، إلى أن ظهر له الرب على هيئة نار، وحادَثَه وطلب منه الذهاب لهداية فرعون، وكيف أنَّ عَجْزَ لسان موسى يرجع إلى جزئية الجمرة والتمرة التي جعلته يلثغ «بل أنا ثقيل الفم واللسان»، حين طلب من الرب اصطحاب أخيه هارون، الذي كان ما يزال يعمل في قصر فرعون ليلًا؛ حيث كان فرعون نائمًا، وهارون يسهر على حراسته.
وحين احتجت السيدة آسيا وماشطتها على صلب السَّحَرة والكَهَنة؛ ألقى بها داخل «صندوق مليء بالزيت المغلي ومعها أولادها وماشطتها».
بل إن الاختلاف والإضافات التي يجيء بها هذا النص، عما سبقه من مدونات عبرية وعربية، تصل إلى اللعنات العشر، ومغزاها خيانة فرعون وخبثه لوعده وكذبه، وجزئية الكذب أكثر صدقًا واتساقًا وانتماءً لملامح التراث المصري الفرعوني منه بالنسبة للسامي.
فكما هو متفق عليه، فإن حكايات الصدق والكذب الخرافية والمحلية — على السواء — تشكِّل ملمحًا تراثيًّا مصريًّا رئيسيًّا، مع الأخذ في الاعتبار أن تراث الحكايات المصرية في عمومه يُعتبَر واحدًا من أكبر الخزانات أو المخزون العالمي، جنبًا إلى جنب مع الآري الهندي والسامي العربي.
وأشهر هذه الحكايات الفابيولا البردية التي اكتُشِفَت عام ١٩٣٠ عن الصدق والكذب، وكيف أنهما كانا أخوين تنازعا فيما بينهما، على عادة نظائرها من الحكايات الخرافية.
ويمكن القول بأني جمعت مجموعةً لا بأس بها من تنويعات النماذج الأم — للبردية المصرية — التي ما تزال تعيش على الشفاه.
كما يُلاحَظ بوضوح تام أن الصراع بين موسى وفرعون صراع عقائدي أضفى عليه الراوي المسلم طبعًا أنه صراع بين الكفر والإيمان أو الإسلام.
يُضاف إلى كل هذا تأكيد شخصية موسى كبطل شعبي محوري يناصر الضعفاء، ويجمع — حين ينادي على الرحيل أو الخروج — ٧٠ أو ٨٠ ألفًا من مناصريه؛ أي اليهود المضطهدين.
كما يُلاحَظ أن للأرقام — التي تَرِد في هذا النص — دلالتها الأسطورية والتقويمية القمرية وليست الشمسية مثل الرقم ٣٦٠.
وفي النهاية يرجِّح هذا النص الاحتمال الشائع القائل بأن الفرعون الذي كان يحكم مصر في تلك الفترة منتصف الألف الثانية ق.م؛ كان ساميًّا، وَلْنَقُل: آسيويًّا دخيلًا بعامة.
من ذلك اسمه الذي يَرِد في المصادر العربية، على أنه كان يُدْعَى «الوليد بن مصعب»، يضاف إلى هذا جزئية ذقنه الطويلة، وفكرة أو مهانة «نتف الذقن»، وأكل لحم الجمل، وصلب أعدائه من سَحَرة وكَهَنة، إلى آخِر ما يضفيه عليه النص من ملامح سامية أكثر منها مصرية حامية.
أما فيما يتصل بجزئية طرح الطفل موسى في الماء — النيل — التي تَرِدُ بكثرة في الأساطير السامية وغير السامية، مثل: سرجون ملك بابل القرن الثالث ق.م، وتراخان ملك جيلجيت في الهملايا، ثم المسيح.
وهنا تتخذ السيدة آسيا مكان الأم بالنسبة لموسى منذ أن انتُزِعَ من صدر أمه، وأحيل بينه وبين لبنها.
وهي جزئية تَرِد بكثرة وصاحبت مولد الآلهة والأبطال: روميلوس، وزيوس الكريتي، وليولياو، وإبراهيم الخليل، وسميراميس.
ففي كل الحالات يُنْتَزَع الطفل من أمه، وغالبًا ما تأخذ مكان الأم عيلة أو سرب من الحمام أو راع، ثم حالتنا مع السيدة الإلهة آسيا، فهي المرحلة التي يجتازها الطفل البطل القدري بادئًا بالتخلي عن الأم، والتي يفسِّرها فريزر بقتل الأم، مرورًا إلى القدسية أو البطركية، تبعًا لشعائر الانتقال الأخرى المصاحِبَة لنمو الطفل، وهو الاصطلاح الذي أرساه للمرة الأولى أرنولد فان جنب، مشيرًا إلى «الشعائر المصاحبة لكل تغيير مصاحب للبطل في المكان أو المكانة أو الوضع الاجتماعي أو العمر»، مثل ما صاحَبَ موسى من أطوار، بدءًا ببطن أمه وكيف كان يختبئ من وضع لآخَر، تبعًا لتفتيش أيدي جند فرعون — ونمرود في حالة سالفه إبراهيم — ثم انتزاعه من صدرها والحيلولة بينه وبين لبنها، إلى التعميد بالماء، وقصر فرعون، وقواه النامية كبطل مدهش في صراعه مع فرعون، لحين هروبه إلى سيناء للحصول على الشارة أو الطوطم السلفي وهي العصا، ومخاطبة الرب، والعودة لفرعون، ثم اللعنات أو الضربات العشر التي ألحقها موسى وأخوه الكاهن هارون بفرعون وطبقته من الكَفَرة وجنوده، وليس المصريين كما تشير وتُجْمِع المصادر الدينية من عبرية وعربية، بالإضافة طبعًا إلى الإسلامية.
وعبر شعائر انتقالاته يعود موسى إلى مكالَمة الرب طالبًا عونه من فرعون، ذلك الذي:
ويقال إن موسى لم يحكم القبائل الإسرائيلية — منذ الخروج إلى سيناء — كملك أو أمير أكثر من كونه قاضيًا أو كاهنًا — أيْ بطرق — أو شيخ قبيلته، إذ إن طالوت كان أول ملوكهم.
ولا بأس هنا من الخروج قليلًا عن موضوعنا للتعرُّض السريع لهذا التراث العبري السامي، خاصةً وموضوعاته وجزئياته ستطالعنا كثيرًا من النصوص التالية:
فيقال إن موسى كان قد استخرج جثمان يوسف (من نيل مصر) وأخذه معه إلى التيه، فبقي معهم أربعين سنة التيه، إلى أن تسلمه يشوع عقب موت موسى.
وتقليد حصر الكهانة والاشتغال بالأمور اللاهوتية في قبيلةٍ أو سبطٍ، تقليدٌ موجود بكثرة عند كافة الأمم السامية وغير السامية، مثل كهنة آمون في مصر، والكلدانيين — أقدم سكان بابل — في العراق، كذلك قبيلة أو سبط الماجي عند الفرس الآريين المجوس.
فكان فنحاس بن هارون هو الكاهن المقدَّم على الحاكم الذي وقع اختياره من تحالف هذه القبائل ومعظمهم من الكلبيين.
وموضوع القصيدة حول ذلك النصر الذي أحرزوه على الكنعانيين الشوام، إذ إن امرأة عبرية تُدْعَى «ياعيل» تمكَّنت من قتل «سيسرا» ملك الكنعانيين، وفيها قالت دبورة: «تبارك على النساء في الخيام ياعيل، طلب ماءً فأعطته لبنًا في قصعة العظماء، قدمت زبدة أمدت يدها إلى الوتد، وضربت سيسرا وسحقت رأسه، شدخت وخرقت صدغه، وبين رجليها انطرح سقط اضطجع.»
كما أن جدعون أخَّرَ انتقالَهم إلى الملكية، ورفض تقلُّدَ التاج إلى أن مات، وخلفه ابنه «أبيمالك»، ثم انتقل الحكم إلى سبط «يشوخر» لمدة ٢٢ عامًا، أغرقوا بعدها في ارتكاب المعاصي مما دفع بهم إلى أيدي العمونيين من بني لوط لمدة ١٨ سنة، إلى أن خلصهم أحد رجالهم ويُقال له «الجرمي»، فطرد اللوطيين «وقتل من بني عمون خلقًا كثيرًا» وحكمهم ست سنين.
وتجيء بعد ذلك دولة ملوكهم، فملكهم «شاول» وهو طالوت بن قيس من سبط بنيامين — ولم يكن طالوت من أعيانهم، وقيل إنه كان راعيًا، وقيل سقَّاءً، وقيل دبَّاغًا — فملك طالوت سنتين، قاتَلَ خلالها جالوت أحد جبابرة الكنعانيين، وكان متملِّكًا على بعض جهات فلسطين، «وكان من الشدة وطول القامة بمكان عظيم، فلما برز للقتال لم يقدر على مبارزته أحد». وتجيء بعد ذلك فكرة أو تضمينة الإله أو البطل المحجب، ذلك الذي لا يمكن اختراق جسده وقتله إلا بمواصفات معينة، كأنْ يُضْرَب مرة واحدة لا غير — «ضربة الرجال ما تتناش» — مثلما يحدث بكثرة شديدة في خرافات الجان والخوارق، أو كأنْ يكمن مقتله في موضع معين من جسده مثل كعب أخيل، أو كأنْ يعلو رأسه موسى وقص الخصلات السبع من شعر شمشون، أو أنْ يصاب البطل بين عينَيْه، أو يُضْرَب بالعصا «التي في آخِرها رأس الثور» كما في الأساطير الفارسية، كما قد يكمن قتل البطل في تابو معين.
وأشار فريزر إلى وجود هذه الجزئية في ملحمة الملوك للشاعر الفارسي الفردوسي، خلال الصراع بين رستم بطل الفرس وخصمه أسفنديار، فكانت سهام أسفنديار لا تؤذي خصمه رستم؛ ذلك لأن زرادشت كان قد حجب جسده ضد كل أخطار أعدائه، إلى أن دلَّ طائر الرب أسفنديار على مقتل عدوه، وذلك بنشر النباتات في عينَيْه وإصابته.
وفي هذه الملحمة العبرية عن صراع طالوت وجالوت، والتي مهَّدت لظهور النبي الملك داود إلى الوجود كقاتل قدري محدد، كذلك البطل الأسطوري المحجب جالوت جبار الكنعانيين الفلسطينيين، فيقال إن النبي صموئيل «ذكر علامةَ الشخص الذي يقتل جالوت، فاختبر طالوت جميع عسكره فلم يكن فيهم تلك العلامة سوى داود».
فكان صراع تلك القبائل العبرية الهابطة إلى أرض الميعاد — حوالي أوائل القرن العشرين قبل الميلاد — تحدوها أسطورة أبوية، تخطِّط لهم وترسم أرض «اللبن والعسل» في فلسطين المغتصبة مجالًا لصراعهم الدموي المتواصل مع جيرانهم من السكان الأصليين أو الوطنيين، وهم ما عُرِفُوا ﺑ «الأقوام السبعة» في ربع الشام وفلسطين والأردن، وهي ما كانت تُعْرَف قبلًا بأرض الكنعانية أو كنعان الأم، وطليعتها فينقيا أو بلاد الأموريين، وبقية جيرانهم من آراميين وأدوميين نسبةً إلى الرجل الأحمر: العيس بن إسحق، واللوطيين وأشقائهم العموينين والموابيين من رهط لوط، وهم الذين خلَّفوا اسمهم على العاصمة الأردنية عمان.
وكان لمصر بالذات اليد الطولى كمؤثر حضاري راسخ على طول شواطئ البحر المتوسط منذ أقدم العصور، إلى جانب لجوء العبريين إلى مصر والإقامة فيها أكثر من قرنين من الزمن قبل نزولهم واغتصابهم فلسطين الذي نحن بصدده.
ويلعب تابوت العهد بالنسبة لهذه القبائل السلفية دورًا يُفْضِي به إلى أنه كان بمثابة الطوطم السلف الأب حافظ عهد الآباء، ومفتقد ذنوب الآباء في الأبناء كشعار القبيلة المقدس، يتقدَّم القبيلة إلى ساحة القتال، ينتصر ويهزم ويَأْسِر، ويوقع الشر بأعدائه: «لنأخذ لأنفسنا من شيلوه تابوت عهد الرب، فيدخل في وسطنا ويخلصنا من يد أعدائنا.» وعندما سمع الفلسطينيون هتاف الإسرائيليين حول تابوت العهد، خافوا وقالوا: «ويل لنا.»
وذات مرة أُسِرَ ذلك الطوطم — أو تابوت العهد — ووقع في أيدي الفلسطينيين، حتى إن الإسرائيليين قالوا: «قد زال المجد من إسرائيل.» أما الفلسطينيون فأخذوه إلى بيت إلههم داجون، والمتوارث منذ السومريين اللاساميين، الألف الثالثة ق.م. وداجون كان إلهًا زراعيًّا عُرِفَ بإله الحبوب، أخذه الفينيقيون عن البابليين، وكانوا يرسمونه على نقودهم «ملتحيًا خصلات طويلة من الشعر، مُمْسِكًا بسمكة، وينتهي نصف جسمه الأسفل على هيئة ذيل سمكة مغطاة بالفلوس أو القروش، كما يبدو أن داجون في الميثولوجيا الفينيقية كان إلهًا بحريًّا، روى عنه عالِم الأساطير «فيلو الدمشقي» أنه كان أول مَنْ عُرِفَ بخواص الحبوب الغذائية واخترع المحراث».
وخلَّفت هذه الحادثة تضمينة متواترة وموجودة بكثرة لدى ميثولوجيا العرب الجاهليين، بل هي ما تزال تتواتر في تراثنا الشفاهي حتى اليوم، وتتصل هذه التضمينة بتقديس عتبات البيوت أو مداخلها.
فذات مرة بكَّر الفلسطينيون فوجدوا إلههم داجون «ساقط على وجهه على الأرض أمام تابوت الرب، ورأس داجون ويداه مقطوعة على العتبة؛ لذلك لا يدوس كهنة داجون وجميع الداخلين إلى بيت داجون على عتبة داجون في أشدود إلى هذا اليوم».
خلاصة القول أن بقايا الحكايات والأساطير الموسوية والعبرية بعامة، يمكن الحصول على تنويعاتها ومتناثرات مأثوراتها وجزئياتها على طول رقعة بلداننا العربية، سواء أكانت مدوَّنة أو شفاهية، ما تزال إلى أيامنا تواصل تواترها على الشفاه، خاصة مجموعة الحكايات أو بقايا الأساطير المتصلة بشخصية موسى.
ومن هنا فمثل هذه التَّرِكة المغلفة بشعائر الأنيمزم أو الروحانيات مجالي المستقبلي الوحيد هو الفولكلور بحكاياته ومأثوراته لا غير، ومعظمها سيطالعنا فيما يلي من نصوص مختارة ما بين حكايات خرافية، وبقايا أساطير، وحكايات فرفشة، وأخرى تعليمية وشعائرية.
حافظت قدر جهدي خلال سنوات جمعي الميداني لها على مجمل أبنيتها الخام أو التلقائية.