منابع الحكايات العربية اللاسامية الأولى
فإذا ما بدأنا بالتتابُع التاريخي لمنابع هذا التراث منذ أقدم حضارة سابقة أو موازية للدولة القديمة في مصر، وهي المعروفة بالسومرية، والتي يتعاظم في السنوات القريبة الاهتمام بمحصلة مكتشفاتها الحفرية الأركيولوجية، والتي لا تبعد عناصرها ومأثوراتها عمَّا سادنا من معتقدات ومنتجات روحية تبدَّتْ بالتالي على فولكلورنا بعامةٍ، وتراث الحكايات الخرافية — ومنه الليالي — بخاصةٍ.
ويمكن طرح التساؤلات المتتابعة بالنسبة لتعريف الفولكلور السامي — الذي يشكِّل الفولكلور العربي جانبه الأعظم — ومدى حجمه وأصالته أو تفرُّده بالنسبة للتقسيمات القارية من جانب، ثم متاخمة أو مزاوَجة التراث الآري الهندي الفارسي من جانب أقرب.
وكما أوضحنا فطالما أن السامية والساميين تعبير لغوي يشتمل فيما يشتمل على لغات روافد الحضارات المبكرة للبابليين والكلدانيين والآشوريين والفينيقيين والعبريين والعرب وغيرهم، وطالما أن اللغة هي حاملة التراث والحضارة، فمن هنا يمكن القول بأن التراث السامي هو المصدر الأم الذي ارتقت روافده في المحصلة العربية والعبرية ثم الإسلامية الأخيرة.
فيُلاحَظ أنه في حالة الإحجام عن الاستطراد والغوص في الأصول المبكرة لتراث حكاياتنا العربية وبقية أفرع وأنشطة مأثوراتها المختلفة، والتي تعيش على شفاه شعوبنا العربية إلى أيامنا، تعلق بالأفرع والأثمار دون جذور ومنابت، بل ومنابع هذه الحكايات التي لا بد وأنها وُلِدَت يومًا مثلها مثل الكائن الحي؛ لذا يصبح مفيدًا تعرُّف تلك الجذور الضاربة، التي منها تساقت وأينعت تركتنا من الحكايات العربية التي يُنْظَر إليها على المستوى الكوني كخزان معدود مرموق بالنسبة لتراث العالَم أجمع؛ ومن هنا يُفضَّل التتابع الزمني التاريخي المصاحب للمكان الجغرافي، للبحث في مخزون حكاياتنا العربية السامية المتوارَثة بدورها من أصول آسيوية لا سامية.
ولقد جاءت الكشوف الحفرية الأركيولوجية السومرية اللاسامية في العراق، فأوضحت الكثير من الغموض بالنسبة للتراث السامي بشكل عام، والتراث العربي والعبري بشكل أخص، فلقد أوضحت هذه الكشوف السومرية — الألف الرابعة قبل الميلاد — عن حقيقة «أصل التوراة ذاتها ومنشئها، وأن هذه المجموعة من المآثر العظيمة لم تجئ إلى الوجود كالأزهار الصناعية وهي كاملة النمو»، بمعنى أنها تنتشر انتشارًا واسع المدى في تراث الأقوام المجاورة والمتاخمة لها من كنعانيين وأصحاب الأرض الفلسطينيين، وسوريين وبابليين، بالإضافة إلى مصر الفرعونية.
وليس بغريب أن تراث العبريين هو — على وجه التقريب — تراث وحضارة أولئك السومريين اللاساميين، وصل اليهود عن طريق الوساطة الكنعانية مثلهم في هذا مثل بقية الأقوام والجماعات السامية، وذلك عقب انتقال ذلك التراث السومري إلى الوَرَثة المباشِرين، وهم: الكلدانيون والبابليون والآشوريون والحيثيون والكنعانيون والفلسطينيون، وحتى الحيثيين الأناضوليين.
لذا يرى البعض أن كلا التراثين العقائديين: العبري اليهودي والفارسي المجوسي، بالإضافة إلى التراثين الهليني والمسيحي، جاء جميعه تحت التأثير المباشر الكنعاني السوري أو الآشوري فيما بعدُ، المستمَد بدوره من سابقه السومري.
ويرى توينبي — بالنسبة لليهود — أن شعب مملكتَيْ «إسرائيل ويهوذا قد رفع نفسه مكانًا ساميًا إبَّان فترة من تاريخه الذي بدأ في طفولة الحضارة السورية وبلغ الأوج في عصر الأنبياء».
ويرجع السبب في تركيزي على الحضارات أو المنابع الأم أو حضارات الجيل الأول — في دلتا العراق حيث الحضارة السومرية الأكادية، وفي دلتا وادي النيل حيث الحضارة المصرية الفرعونية — إلى محاولة تعرُّف النبتة الأولى لكل جزئية أو موتيف أسطوري أو فولكلوري، وإمكانية تتبُّعه؛ وذلك نظرًا لتعدُّد المصادر وتنوعها بالنسبة للفكرة أو الموتيف الواحد؛ مما قد يُوقِع الباحث في الخطأ وفقدان الطريق، وإعادة هدم ما أوشك في بدئه، وهو ما أصبح تقليدًا ساريًا بالنسبة لدارس تراث قلب العالم القديم.
فما من إضافة كشفية أثرية أركيولوجية أو نصية أو شفاهية، لم تسهم في إعادة تكامل جزئيات هذا التراث الهائل؛ مما يترتَّب عليه دوام الهدم المستهدف أصلًا لتوالي البناء واستقامته، واستجلاء أقصى طاقات الغموض.
فيمكن اعتبار الدراسات الفولكلورية — محتوية أو متضمنة الأساطير — أحدَ المركبات المهمة اليوم في إعادة بناء تاريخ الجسد الحضاري لأيِّ شعب أو مجموعة من الشعوب، وأخصها شعوبنا العربية، من المنظور القومي.
مع الأخذ في الاعتبار مدى الجدوى التي حقَّقتها المناهج البنائية في مثل هذه العلوم الحضارية الإثنوجرافية التي تستلزم «القيام بدراسة شاملة لحالة واحدة»، فيشير ليفي شتراوس ﺑ «إلغاء الحواجز التقليدية والمفتعلة بين مختلف النظم، وتكوين منهج يعتمد على كل العلوم والدراسات».
فالإثنوجرافيا — متضمنة للفولكلور — من مهامها جمع المعلومات والمأثورات المتوارثة، بما يمكن تزامنه مع الدراسات التاريخية في جدلية تواجُد العلاقة الحميمة بين البناء الاجتماعي وعلم ما قبل التاريخ والآثار، بالإضافة إلى بقية الميادين والأبنية، ومنها أبنية الاتصال من قرابة وتنظيم عشائري، وأنماط الزواج والتربية واللغة والمعتقدات والمنتجات الطقسية والروحية الدينية.
وكما سبق أن أوضحنا، فإن مثل هذه الدراسات قطعت شوطًا كبيرًا خاصة فيما يتصل بالتصنيف؛ أيْ تجميع وتراكم عينات الفكرة أو المقولة الواحدة، ثم بعد ذلك إعادة تعرف تاريخ حياة كل فكرة على حِدَة، والأخذ بمبدأ أن أي فكرة أو مقولة أو شعيرة تصبح بلا قيمة ما لم يتحدد أصلها وفصلها، وما طرأ عليها من تغيرات وإضافات من عصر لعصر، ومن موطنٍ أمٍّ لآخَر.
وبمعنى آخَر: فإن فكرة خلق حواء من ضلع الرجل مثلًا تَرِدُ منحدرةً من التراث السومري اللاسامي، متبدية في التراث السامي عند الورثة البابليين والحيثيين، منتقلة إلى الكنعانيين الفينيقيين، متبدية في أسطورة الإله «موت» السورية الكنعانية.
فكان أن نقلها العبريون إلى أسطورة الخلق أو سِفْر التكوين، وكذلك طوَّف بها الكنعانيون وطليعتهم البحارة الفينيقيون إلى الحضارة الإيجية، ومنها دخلت هذه الجزئية إلى التراث الهيليني اليوناني، ثم الروماني — فيما بعد — ثم اللاتيني في العهد المتأخر.
وبشكل مجمل يمكن القول بأن أسفار التكوين الأحد عشر الأولى تنتمي بكاملها إلى الميثولوجيا الكنعانية المتوارثة مباشَرةً من الحيثيين والبابليين.
ومن هذه الأفكار: خلق العالَم، وتوحُّد الخالق بالماء، وإقدامه على خلق العالم عن طريق رسله الثلاثة، ثم فكرة خلق الإنسان الأول «يوم خلق الله الإنسان، على شبه الله عمله»، وهو ما تتميز به أساطير الخلق السامية على تراث العالم أجمع، ومنها خلق المرأة من ضلع الرجل وتوحُّدها بالحية التي توحَّدت بدورها بالشيطان، ثم الخطيئة الأولى، وكذلك تمشي الإله في الجنة عند هبوب الريح كقرين للريح، وعري آدم عقب الخطيئة، وعقاب الإله للخطاة الثلاثة: آدم وحواء والحية الذين حسدهم إبليس أو الشر وأضلهم، فكان أن طُرِدُوا من الجنة إلى الجحيم — الأرض — وكان أنْ دخل الموت إلى العالم «فإن الله خلق الإنسان خالدًا، وصنعه على صورة ذاته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم»، وما توالى بعد هذا من عقاب للمرأة، مثل إدماء حواء الشهري (الحيض) وتسوُّد الرجل عليها، «تكثيرًا أكثر أتعاب حملك وبالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك».
وكان أن قُهِرَت المرأة وسُلِبَ سلطانها خلال توالي هذا التراث الأبوي البطرقي، الذي سوَّد أول ما سوَّد الرجلَ الذكرَ على المرأة الأنثى، وألحق بها وزر الخطيئة الأولى، «فمن المرأة ابتدأت الخطيئة وبسببها نموت جميعًا»، ثم يعقب هذا سلسلة الأنساب المفقودة أو المفتقدة لحين مولد الجبابرة أو العماليق أو النماردة ملوك بابل والشام، فمن المعتقد أن أولئك الجبابرة البائدين أو المندثرين هم بذاتهم الذين حارَبَهم العرب والعبريون على السواء.
ومن المفيد التعرُّض بتفصيل قليل لهذا التراث.
فلقد أصبحَتْ أفكار القسمة والنصيب — وما يستتبعهما من قدرية ودهرية ووعيدية — بمثابة الملمح الأول لتراثنا العربي، ويعني هذا أنه أصبح في مقدور أي باحث أو جامع في أي منطقة من العالَم الرجوعُ بأي فكرة أو عبارة تعترضه عن النصيب والقدرية إلى موطنها الأصلي الأم، وهذا الموطن الأم هو التراث العربي، الذي أصبحت مثل هذه الأفكار حقيقته الأولى، والملمح الجوهري لتراثه.
بل إن أغلب تصوراتنا عن الحية والعفاريت وأم الشعور والنداهات والهواتف والرؤى؛ منحدرة عن أصول سومرية، منها سكنى العفاريت الخرائب التي كشف عنها النص السومري المعروف ﺑ «جلجاميش وأنكيدو وشجرة الصفصافة»، ومنها أغلب الطلاسم والرُّقَى والتعاويذ والمنفرات التي تُستعمَل لطرد الأوبئة، مثل: الحمى ولدغ العقارب والحيات، كما أن من هذه المنفرات ما كان الغرضُ منه اتقاء الحسد وشرور العين والنفس؛ أيِ النفس الخالق، ذلك المحيي المميت الذي وهب الإله به الإنسانَ فأحسن تكوينه، حين نفخ من حلقه فخرج من دبره، وهو ذاته النفس القاتل المميت، ويُوصَف المريض والمعلول بأنه «منفوس». كما قد يقولون: عائن وعيون، وهو ما تبدَّى عن السومريين في أحد النصوص التي تدور حول عشتروت وابنها الإله الممزق تموزي، الذي أَرْدَتْه قتيلًا حين «أسلطت عليه نظرة الموت»، وهو ما تبدَّى في التلمود الأورشليمي في عين الإلهة الحاسدة العقيم سارة، حين سلَّطَتْها على إسماعيل «أبو العرب» العدنانيين، فكادت أن تُرْدِيه قتيلًا.
بل إن أغلب مفاهيمنا الجماعية عن أبواب جهنم السبعة، وكذا السموات السبع، ومنه تعبير السماء السابعة المتواترة إلى اليوم، ثم فكرة خلق الإنسان من طين أو صلصال لازب، وارتباط المصير الإنساني بالولادة كما جاءت به أسطورة خلق الإنسان الأول.
فالإرث السومري هو بذاته الذي توارَثَه الساميون خاصةً، ويتضمَّن أول آراءٍ للإنسان في أصل الكون وفلسفة الكائنات ومعظم ما سيصادفنا في دراستنا هذه عن الحكايات العربية المنشورة.
لذا فلا بأس من تقديم إلمامة موجزة عن ذلك التراث، بما ييسر ما قد يعترضنا عبر هذه الدراسة عن الحكايات العربية.
ويتخلَّل «الجو» السماء والأرض، وتولد من الجو الأجرام النيِّرة: القمر، الشمس، الكواكب والنجوم، وأعقَبَ انفصالَ السماء عن الأرض وخلق الأجرام النيِّرة أنْ جاءت إلى الوجود الحياةُ النباتية والحيوانية والبشرية.
وافترض اللاهوت السومري — منذ أقدم ما وصلَتْ إليه السجلاتُ المدوَّنة — مجموعةَ آلهة قوامُها كائنات حية شبيهة في هيئاتها بالإنسان، لا تُرَى بالعين المجردة، تسيِّر الوجود وتسيطر عليه بموجب خطط مضبوطة، فكل إله مسئول عن جزء من مسار الكون: السماء، والبحر، والهواء، والنجوم، وقوى «الجو» وعناصره: الرياح والزوابع والعواصف، ثم السدود، والزرع، والمحراث.
ومجمع الآلهة يقوم على رأسه ملك، وأهم أفراده سبعة يقدِّرون المصائر، ثم مجموعة مؤلَّفة من ١٥٠ يُسمَّون الآلهة العظام، ثم هناك آلهة خالقة وغير خالقة.
وأساليب الخلق للآلهة الخالقة أصبح عقيدةً في كل الشرق الأدنى، وهو مبدأ القوة الخالقة ﻟ «الكلمة» الإلهية، فالإله الخالق يصمِّم ويخطِّط ويقول «الكلمة» وينطق بالاسم «اسم الشيء المراد خلقه». وهو ما لا يزال إلى أيامنا يعيش لغويًّا على الشفاه: «كن … يكون.»
وعن ولادة إله القمر «سين»، فيطلب الإله «إنليل» من الإلهة العذراء «ننليل» الراعي الذي يقدر المصائر الاتصال بها، لكنها صدَّتْ عنه:
ويغتصبها في مركب في النهر، فتحمل هذه الإلهة بإله القمر «سين»، وعندما فزع الآلهة وغضبوا لتلك الفعلة الشنيعة، أمسكوا به ونفوه من المدينة إلى العالَم السفلي، على الرغم من أنه كان كبير الآلهة.
ويرضخ إنليل ويرحل إلى جحيم سومر، ولكن ننليل وهي حبلى تتبعه إلى منفاه في العالَم السفلي، ويُحزِن قرارُها هذا إنليل؛ إذْ إن ابنه «سين» الذي ستلده، والذي قدَّر له أن يكون موكلًا بأعظم جرم سماوي وهو القمر، سيسكن العالَم السفلي المظلم بدلًا من السماء، إلى أن يدبِّر خطةً يضلِّلها بها. وفي الطريق يلتقي بثلاثة أشخاص، يُرجَّح أن يكونوا من الآلهة الصغار، وهم: البواب الموكل بمداخل الجحيم، والموكل بنهر العالَم السفلي، والموكل بالمعبر (مثيل كارون؛ ملَّاح المعدية عند اليونان الذي ينقل مدنًا بقاربه إلى الجحيم)، ويتخذ إنليل هيئة كلٍّ من الآلهة الثلاثة بالتوالي (أيْ يتقمص أشكالهم)، وهذا أول مثال معروف عن التحوُّل، كما سنشير بوضوح في باب «تحوُّلات الأبطال الخرافيين»، أو التحولات التي تُعَدُّ مَلْمَحًا مميزًا للحكايات الخرافية العربية، بما لا ينفي أنه مَلْمَح عالمي بالطبع.
فلعل أول أفكارٍ عن خلق الإنسان من طين العمق، وبقية الأفكار اليوتوبية الإسلامية لها جذورها السومرية.
وفي عام ١٩٥١ وُجِدَت ترتيلةٌ قوامُها «٢٥٠ سطرًا» من بين ١٩ لوحًا وكسرة من لوح، عُثِرَ عليها في تنقيبات مدينة «نو»، تصف الإلهة «نانشة»:
لقد وُجِد النص الذي يروي قصةَ خلق الإنسان منقوشًا على لوحين مكرَّرين لنص واحد، جاء أحدهما من مدينة نفر، وهو محفوظ بمتحف جامعة بنسلفانيا، والآخَر بمتحف اللوفر، ونشر «ستيفن لنجدون» قطعتين منهما عام ١٩١٩، ونشر «إدوارد القطعة الثالثة عام ١٩٣٤، ثم نشر كريمر الأسطورة كاملة في كتابه «الميثولوجيا السومرية» ص٦٨–٧٢.
وتبدأ الأسطورة بتذمُّر الآلهة في الحصول على قوتهم بعد أن جاءوا إلى الوجود، لكن «إنكي» — إله الماء الذي كان من المتوقَّع أن يخفَّ لنجدتهم بصفته إله الحكماء — ظلَّ مضطجعًا في مياه «العمق» غير مكترث لشكاتهم، ثم نجد أن أمه الإلهة التي تمثل «البحر الأول» (وهي الأم الأولى التي ولدَتْ جميع الآلهة) تأتي بدموع الإلهة إلى «إنكي» وتخاطبه قائلةً:
ومن هنا تجيء أهمية التبصُّر بالمنبع المبكر للتراث السومري الآسيوي الذي تواتَرَ عبر تراثنا العربي، متمثِّلًا في حكاياته.
فبعد الانتهاء من خلق الإنسان الكامل، تنتقل القصيدة إلى ذِكْر خلق أنواع ناقصة التكوين من البشر؛ لتفسِّر وجود مثل هذه المخلوقات الشاذة في الحياة، فتقصَّ علينا كيف أن الإله إنكي أولَمَ وليمةً، وجمع الآلهة للاحتفاظ بخلق الإنسان (على ما يرجح)، وسكر إنكي وننماخ، ثم أخذت ننماخ شيئًا من الطين الموجود في مياه العمق، وصنعَتْ منه ستة أنواع من البشر الشاذين، عُرِفَ منهما نوعان: المرأة العقيم، والإنسان الذي لا يُعْرَف إنْ كان ذكرًا أو أنثى:
وهي جزئيات ما تزال تعيش بدورها في فولكلورنا العربي، وخاصةً الحكايات التي ستعترضنا نصوصُها في هذا المؤلَّف.
وفي أسطورة «الماشية والغلة» التي تشير إلى نزول آلهة «الأنوناكي» أبناء إله السماء «آن»، إلى الأرض بعد أنْ خُلِقُوا في «حجرة الخلق»:
وكما يتضح فالأمر لا يبعد كثيرًا عن إقدام آدم — أبو البشر — بتحريضٍ من حواء الأولى على الأكل من الشجرة أو الفاكهة المحرَّمة، وما أعقب هذا من طرده من الفردوس إلى جحيم الأرض، وإدماء حواء والإنقاص من قَدْرها، وتوحُّدها بالحية والشيطان.
وبدأت صحة «إنكي» تتردَّى، ومرضَتْ ثمانية من جوارحه (أعضائه)، واغتمَّ الآلهة العظام لمرضه وحزنوا عليه وجلسوا في الرغام، حتى إنليل نفسه إله الهواء — كبير الآلهة السومرية — لم يتمكَّن من إنقاذه، فانبرى الثعلب وقال للإله «إنليل» إنه إذا أحسَنَ مكافأته فسيأتي بالإلهة «ننخرساج» من مخبئها، ونجح الثعلب بحيلةٍ ما في إرجاع الإلهة الأم، وشُفِي إنكي المشرِف على الموت — المقارنة مع التوراة.
فالفردوس الإلهي فكرة سومرية المنشأ والأصل في أرض دلمون، وهو نفس الموضع الذي عيَّنته الأساطير البابلية للساميين الذين غزوا السومريين وأخضعوهم، وسموا هذا المكان «أرض الأحياء» التي يعيش فيها الخالدون، ثم فردوس التوراة، وهو «بستان» غُرِس شرق «عدن»، المكان الذي تنبع من مياهه أنهارُ العالَم الأربعة ومنها: دجلة والفرات.
والجزئية الخاصة برواء دلمون من جانب إله الشمس بالماء العذب الذي ينبع من الأرض، لها نظيرتها في التوراة: «ثم خرج من الأرض ضباب، فسَقَى وجْهَ اليابسة جميعه» (ت٢–٦)، وولادة الإلهات التي تمَّت بلا مخاض وألم، ثم لعنة حواء، وإشراكها أسطوريًّا في دم الإله الذَّكَر الذبيح.
وكذا أكل الإله إنكي من النباتات الثمانية، ولعنة آدم بعد أكله من شجرة المعرفة.
ثم فكرة خلق حواء «أم جميع المخلوقات» من ضلع آدم، وحواء كما وصفتها التوراة بأنها «تلك التي تحيي؛ أيْ تسبِّب الحياة»، ففي الأسطورة السومرية كان أحد أعضاء إنكي الذي أصابه المرض هو «الضلع»، والكلمة السومرية للضلع هي «تي» وسُمِّيت الإلهة التي خُلِقَت من أجل أن تشفي ضلع إنكي باسم «نن-تي» أيْ «سيدة الضلع».
وأول مَنْ سبق أن اهتدى إلى تفسير فكرة الضلع التوراتية — في أساسها السومري — الباحثُ السومري الأب شايل:
أما العبارات التي تصف ولادة الإلهات بلا ألم، والتي تمَّت بعد حمل ٩ أيام بدلًا من ٩ أشهر:
أما أكل النباتات الثمانية فقد وُصِفَ في عبارات تظهر لنا الإعادة والتكرار الذي يتميَّز به الأدب السومري:
«أجلست» ننخرساج إنكي في حضنها «عند عورتها»:
•••
ولا بأس في الاستطراد حول بعض مدوَّنات ونصوص هذا التراث الأسطوري فيما بين النهرين، الذي تواتر إلى تراثنا العربي منذ حوالي ٥ آلاف عام، وما تزال تعيش معظم جزئياته على الشفاه تحت جلد تَرِكَتنا — خاصةً — من الحكايات الخرافية ومنتجاتنا الروحية.
فالكلمة السومرية المناظِرة لكلمة «هادس» الإغريقية و«شيئول» العبرانية هي «كور» التي تعني في أصلها «جيلا»، ثم صارت تعني بعدئذٍ «البلاد الأجنبية»؛ لأن الأقطار الجبلية المتاخمة لبلاد «سومر» كانت خطرًا مستديمًا على أهلها، خاصةً من أخطار وصراعات الميديين الإيرانيين والحيثيين الأتراك.
وفي العقائد السومرية فإن «كور» هو المكان الفارغ بين «سطح الأرض» و«البحر الأول»، وإليه تذهب أشباح الموتى جميعًا، وكان الوصول إليه يستلزم عبور «نهر يبتلع الإنسان» بواسطة قارب يسيِّره ملَّاحٌ خاص هو «الموكل بالقارب»، مثل نهر «ستايكس» والملَّاح «كارون» عند الإغريق، ومثل بحر الظلمات في الحكايات العربية.
وفي الأساطير اليونانية نهر «ستايكس» هو نهر «هادس»؛ أيِ «العالَم الأسفل أو الجحيم جهنم»: «ورغم أن العالَم السفلي موطن الأموات، إلا أن به نوعًا من الحياة» (أشعيا ١٤: ٩-٨).
وكان من الممكن لأشباح الموتى في أحوال معينة أن «تقوم» وتصعد إلى الأرض لأَجَل محدود (صموئيل الأول ٢٨)، كما في القصيدة السومرية عن «جلمجامش وأنكيدو والعالَم السفلي».
كان يعيش في قديم الزمان بستاني اسمه شو كليتودا، ورغم عمله المتواصل لم يكن يجد سوى إبليس والموت، وكانت الرياح السامة — ريح السموم — تلطم وجهه (بغبار الجبال)، فاتجه إلى السماء ذات النجوم، ولما نال الحكمة غرب شجرة اﻟ «سربتو» (شجرة الغرب المنتشرة في العراق) وازدهَرَ بستانه.
- (١)
ملأت جميع آبار البلاد بالدم.
- (٢)
سلَّطت رياحًا وعواصف على البلاد.
- (٣)
وأما البلاء الثالث فطبيعته غير معروفة؛ لأن الأَسْطُر محطَّمة.
ورغم تسليط هذه الأوبئة والبلايا، فإن أنانا لم تستطع أن تعثر على مَن انتهكها؛ إذ إن شو كان يذهب إلى بيت أبيه ويبلِّغ بالخطر المحدق، فكان الرب ينصحه بملازمة المراكز والمواطن الحضرية، وهناك لن تعثر عليه أنانا؛ ولذلك عزمت الآلهة على استشارة الإله «إنكي»، إله الحكمة السومري … (وهنا يضيع النص أيضًا.)
كذلك تجدر الإشارة إلى أول جزئيات شهدها العالَم القديم عن مطاردة الأنثى للذكر، حين عشق دموز الإلهة البغي أنانا فأهلكَتْه، «فلقد فاته أن يأخذ حذره من طموح المرأة الذي ملك عليه مشاعره»، وهذا ما ترويه لنا أسطورة «نزول أنانا إلى العالَم السفلي»، وأهمية هذه الأسطورة في تضمُّنها لفكرة البعث (القيامة).
فبالرغم من أن أنانا كانت سيدة السماء — أيِ العالَم العلوي كما يدل على هذا اسمها — إلا أنها رغبَتْ في توسيع سلطانها وأنْ تحكم العالَم السفلي — أيْ جهنم — فصمَّمَتْ على الهبوط إليه، وجمعت كل ما لديها من «نواميس» إلهية وحلي، وأصبحت على أُهْبَة الدخول إلى تلك «الأرض التي لا رجعةَ منها».
وتهبط أنانا إلى العالَم السفلي بأبوابه السبعة، وعند كل باب تفقد ملابسها وحليها، إلى أن تصبح عاريةً أمام إيرشكيجال «وقضاتها السبعة المخيفون، فصوَّبوا إليها نظرات الموت وتحوَّلت على الفور إلى جثة هامدة».
لكن في منتصف عبارات الضراعة فسد اللوح ولم يُعرَف ما به، إلا أنه عُرِف من مصادر أخرى أن دموزي كان من آلهة العالَم السفلي؛ لذا لم تفلح ضراعته لإله الشمس «أوتو» ونُقِلَ إلى العالَم السفلي.
•••
ففي التركيز على دراسة الظاهرة أو المأثور الواحد ما يكفي كبرهان لصياغة حكمٍ أعمَّ لتراثنا.