حول قصص الخلق والخطيئة الأولى ودانة الأنثى
فعندما قرَّر الله أن يَهَبَ آدم أنيسًا أو أنثى، حتى لا يصبح وحيدًا في نوعه، جعله في نوم عميق، وحرَّكَ واحدًا من ضلوعه وشكَّلَه على هيئة امرأة، ثم سدَّ الجرح، وعندما استيقظ آدم تساءَلَ: «هذه عظم من عظمي، ولحم من لحمي، وسأدعوها امرأة.» ذلك لأنها أُخِذت من لحم رجل، فالرجل والمرأة سيكونان لحمًا واحدًا، وسمَّاها حواء؛ أيْ أم كل المخلوقات من إنسان وحيوان.
ويرى البعض أن الله خلق الرجل والمرأة على صورته في اليوم السادس، ووَهَبهما صيانةَ كل العالَم، إلا أن حواء لم تكن قد وُجِدَت بعدُ، وطلب الله من آدم أن يسمِّي كلَّ حيوان وطائر وكلَّ الأشياء الحية، وعندما مروا من أمامه في ازدواج الذكر والأنثى، بدأ آدم على الفور كرجلٍ في العشرين من عمره مختالًا من حبه لهم، واختبر نفسه مع كل أنثى على التوالي، لكن دون أن يكتفي؛ ولهذا صرخ شاكيًا: لكل مخلوق قرينةٌ إلَّاي.
ولم يجد آدم وليليث جنبًا إلى جنب سلامًا، فعندما أراد أن ينام إلى جانبها استاءَتْ من وضع المضاجَعة وغمغمت: «لِمَ يجب عليَّ الاضطجاع إلى جانبك؟»
وأضافت: فمثلك أنا أيضًا من تراب؛ لذا فأنا أساويك. وعندما حاوَلَ آدم إرغامَها على إطاعته بالقوة، انفجرت ليليث متفوِّهة باسم الله السحري المقدس، وتركَتْه منفلتةً طائرةً في الهواء.
واشتكى آدم إلى الله: «لقد هجرَتْني زوجتي لحمي.» فأرسل الله رسله الثلاثة ليُرْجِعوا الليليث، لكنهم وجدوها بجوار البحر الأحمر في إقليم تتكاثر فيه الشهوات الشيطانية، وهناك كانت تنجب المئات من الريمي، فقالوا لها: «عودي إلى آدم بدون إبطاء.» قالت الملائكة: «وإلا فسنجبرك.» فقالت ليليث: «كيف لي أن أعود إلى آدم وأحيا كزوجةِ بيتِه الوفِيَّة بعد أن عاشرتُ البحر الأحمر؟!» وعندما هدَّدها الملائكة بالموت قالت: «كيف لي أن أموت إذا ما كان الله قد أوصاني بأن أكون مُشرِفةً على كل طفلٍ ذَكَر جديد يُولَد في العالَم حتى يومه الثامن، أما البنات فإن عليَّ رعايتهن حتى يومهن العشرين؟!»
لكن الله عاقَبَ ليليث بأن جعل مائة طفل من أطفالها الشياطين تُقْتَل وتموت يوميًّا.
ويعتقد البعض أن ليليث متربعة كأميرة سمرقند، كما اعتقدوا في أنها ملكة سبأ، وأنها كانت الشيطانة التي حطَّمت أولاد يعقوب، وهي التي جاءت بالموت إلى العالَم من قبل السقوط.
فليليث وأختها نعمة لا تقومان فقط بخنق الأطفال الحديثي الولادة، لكنهما أيضًا تقتلان وتغويان الرجال النائمين، وأي شاب أعزب ينام وحده يصبح فريسة لهما، وهو المعتقَد الذي ما يزال ساريًا إلى أيامنا، وتكشف عنه الحكايات الخرافية المصرية والعربية بكثرة واضحة.
وسأتعرض لهذه السمة أو الظاهرة وما يشاع حولها من آلاف المأثورات الخرافية الشعائرية، أو المغلفة بالمنتج — بضم الميم — الروحي، ومئات القِطَع الشعرية التي انتهت أيضًا في مواويل ولوازم بدء الغناء المعروفة: «يا ليل يا عين.»
بما لا يبعد عن استكمال فابيولتنا الأسطورية هذه: ومرةً ثانية قرَّر الإله أن يَهَب آدم زوجة ملائمة تجيء (تُصْنَع) من العظام والأوعية الدموية والدم والعضلات، ثم غطى — أو كَسَا — العظام لحمًا، ثم حدَّد أماكن الشَّعر، ثم جعل منظر حواء الأولى لآدم — وهي واقفة في كامل بهائها — يتسبَّب له في نفورٍ لا يُقْهَر تجاه حواء الثانية، فعرف الإله أنه أخطأ ثانيةً، ثم أخذ حواء الأولى هذه بعيدًا إلى حيث ذهبت واختفت دون أن يعرف أحد لها مكانًا.
ثم أراد الإله مرةً ثالثة — الثالثة ثابتة — بشكل أكثر إحكامًا «خلق المرأة» بأن أخذ ضلعًا من ضلوع آدم خلال نومه، وشكَّلَه إلى امرأة، ثم ضفر شعرها وزيَّنها مثل عروس في الرابعة والعشرين من عمرها، قبل أن يُوقِظه، وعندما صحا آدم أصابه الذهول.
والبعض يقول بأن الإله لم يخلق حواء من ضلع آدم، لكن من نهاية الذيل الذي كان قبلًا جزءًا من جسده، اقتطَعَه الله؛ وهو ما يُعْرَف ﺑ «العصعوصة» أو الذَّنَب التي ورثها أبناء آدم.
وتضيف بعض المصادر بأن المنبع الأصلي لتفكير الإله كان متَّجِهًا إلى خلق إنسانين ذكر وأنثى، وبدلًا من هذا فقد قرَّرَ أن يخلق واحدًا بوجه رجل من الأمام، ووجه امرأة من الخلف، ومرةً أخرى غيَّرَ رأيه محرِّكًا ظهر آدم، وبنى جسده كامرأة لهذا الغرض.
وما يزال البعض يتمسَّك بأن خلق آدم الأصلي كسلسال كوزموجولوجي لأجساد الرجل والمرأة مرتبطين ظهرًا لظهر، وعندما اتضحت مصاعب هذا الوضع؛ فصل الإله هذه الثنائية، وأعطى كل نصف مؤخرته الجديدة، وهذه المخلوقات (الثنائية) المنفصلة أسكَنَها جنة عدن محرِّمًا عليهما الاقتران.
أما عن جزئية أن أول استيقاظات جنسية لآدم كانت مع الحيوانات وليس مع النساء، وربما كانت منحدرة من الانتشار الواسع للبهيمية في الشرق الأوسط التي ما تزال بقاياها سارية بفعل العادة، والتي تمثلت ثلاث مرات في الأسفار الخمسة — البنشاتوك — كجرم رئيسي، كما في الملحمة الأكادية جليجاميش.
فقد قال أنكيدو إنه عاش مع الغزلان والظباء، وإنه قد اندفع مع بقية الحيوانات المتوحشة عند موارد الماء، إلى حين إحضاره وتحضره بواسطة كاهنة، أُتِيح له التمتُّع باحتضانها ومضاجعتها لمدة ستة أيام وسبع ليالٍ، وعندما رغب في العودة إلى الحيوانات ولدهشته الشديدة هربت جموع الحيوان من منظره، وعرف أنكيدو حينئذٍ أنه جنى سوء الفهم، وقالت الكهنة: «إنك حكيم يا أنكيدو مثل إله.»
فالإنسان القديم الفطري كان ممسوكًا بالتراث البابلي؛ ولهذا فإن ملحمة جليجاميش أعطت أنكيدو ملامح شَعْر رأسه مثل شَعْر امرأة، وله مظهر إلهة المحاصيل الأنثى نيسابا.
فالتراث العبري الذي حمل بوضوح من منابعه البابلية — والمتوارثة بدورها من السومرية — والذي استعمل التعاليم (التنائيم) المدراشية ليصف ازدواج آدم الجنسي.
فهناك اختلاف بين أساطير الخلق التي جاء بها التكوين الأول والثاني، بما يسمح لليليث بأن تكون أول مخلوق أنثوي للذكر آدم.
وأقدم نص سومري يحتوي على واقعة الضلع.
وصراع ليليث مع البحر الأحمر تفتَّق عنه إيمان الساميين القديم بأن الماء يجذب الشياطين، وأنها تجد مرفأها الذي يتستر عليها.
وهذا هو ما تسبَّب في خنق أزواج سارة الستة الأول، وهرب الشيطان بعدها «إلى أقصى بقاع مصر».
أما مساومات ليليث مع الملائكة فلها متنوعاتها الشعائرية لحماية الوليد الجديد ضد ليليث، وخصوصًا المولود الذكر، حتى يمكن أن يكون له حارسه الدائم بشعائر وتابو الطهور.
وكانت تُرسَم دائرة بفحم الخشب على حائط حجرة العرس ويُكْتَب داخلها: «آدم وحواء، اغربي يا ليليث.» أما إذا ما تمكَّنت ليليث من الاقتراب من الطفل الوليد وشغفت به عشقًا، فلا بد من أن يضحك في نومه، ولتجنُّب الخطر ينبه الطفل بأن يوضع إصبعه بين شفتيه، وعلى الفور تختفي ليليث أو الشيطانة.
ويُدْعَى أبناء الليليث: ليلم، في التارجوم الأورشليمي.
وفي القرن الرابع عشر وحَّدَ هورنيموس بين الليليث واللاميا اليونانية، واللاميا أميرة ليبية هجرت من زيوس بعد أنْ سرقت من زوجته هيرا أولادها.
ووُجِد في الرسوم الحائطية (رليف) الهلينية اللاميا تفترس أحد المسافرين وهو مضطجع على ظهره، وربما كان في هذا تشخيص للحضارات التي فيها تُعامَل المرأة كأثاثٍ أو كمُمْتَلك للرجل «وشروات ماله» كما هو الحال بالنسبة للعرب الساميين؛ حيث يَرِد المئات من الأمثال والمأثورات التي تحطُّ من قدر المرأة.
فخلق الله لحواء من ضلع الرجل أسطورةً مستقرة منتشرة تكشف عن سيادة الرجل الذَّكَر، مُنكِرةً قدسيةَ حواء، مُنقِصةً من موازاتها للرجل على طول البحر الأبيض أو أساطير الشرق الأوسط (المبكرة)، وربما كانت القصة مأخوذة من رسوم أناثا، متوازنة في الهواء، لامِسة عشيقها الإله «موت» وهو يقتل عمدًا توءمَه «إليان»، بينما الإله موت يحفر كهفًا تحت ضلع إليان الخامس دون أن يحرك الضلع السادس.
وترجع هذه الأسطورة المصوَّرة إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ولعلها ما تزال محفوظة في المقولات الشعبية: «اكسر للبنت ضلع …»
•••
- (١)
أن العلوم الطبيعية لم تحرز تقدُّمها المحقَّق إلا بعد جهود محققة في مجال التصنيف المنهجي للأشياء وعناصرها، ونفس الشيء يجري سريانه بالنسبة لتراثنا ومأثوراتنا وحكاياتنا الخرافية هذه، سواء فيما يختص بالتركة الحفرية الأركيولوجية للحضارات المكونة والمتعاقبة على شرقنا الأدنى القديم منذ السومريين ووَرَثتهم العرب البابليين، أو ما يخص الجانب الشفهي والمدوَّن والمتواتر المعاش اليومَ والآن، والذي ما يزال إلى أيامنا ضنينًا جنينًا يواصل تواتره وكذا ممارسته.
- (٢)
في حالة ربط عجلة هذا التراث بالتربية أو أنماط تربية الأطفال وتنشئتهم، يمكن القول بأن تجبر هذا التراث المحاط بكل شعائر التحريم والتابو والأنيمزم، والمسميات السلفية للتراث الخالد بما يستلزمه من حفظ وتجويد، وبما يحفظ ويجبر كل جيل على الخضوع للجيل السابق له، في حين يسيطر على الجيل الذي يليه، كما أشارت مارجريت ميد.
- (٣)
تجميع محاولات التصدِّي لإقامة علم حقيقي يمكن إشهاره كسلاح عقلي في مواجهة الخرافة وانسلاب العقل العربي، دون يأس وحسرة من وعورة مُواصَلة التقدُّم واقتحام المحرمات والتحديات التي تفرضها الطبقات السلطوية صاحبة المصلحة العليا في الإبقاء على الخرافات كمنزلات، بدلًا من كونها حفائر حجرية.
أخيرًا … إذا كنا قد بدأنا هذه الدراسة حول المنابع والجذور الأولى لتراثنا من تاريخية زمانية، فمن الأجدى لنا استكمال الجانب المكاني، وَلْنَقُل: المؤثر الأقرب، والمكون لسمات هذا التراث المترامي، وفي إطار البحث المضني عن منهج أو عن مفهومات للإلمام الاستراتيجي العام بالقدر المتاح.